شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة العيدين - حديث 524-526


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

رقم هذا الدرس: (185) من سلسلة شرح بلوغ المرام، وهذا اليوم الأحد (12) من شهر جمادي الثانية من سنة (1426هـ)، وعندنا في هذا اليوم -إن شاء الله- نهاية باب صلاة العيدين، ثلاثة أحاديث.

الحديث رقم: (499) هو حديث أنس رضي الله عنه قال: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما: عيد الأضحى وعيد الفطر )، وهذا الحديث قال المصنف رحمه الله: رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.

تخريج الحديث

أولاً: ما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة، باب العيدين، ورواه أيضاً النسائي -كما أشار- في الصلاة، باب بدء العيدين.

وقد رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأحمد في مسنده والبيهقي في سننه، وأبو يعلى، وعبد بن حميد .. وغيرهم.

وسند هذا الحديث صحيح كما قال المصنف -رحمه الله- هنا: إسناده صحيح.

شواهد الحديث

وفي الباب أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وقد غطى رأسه، وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث وما تقاولت به الأوس والخزرج )، يعني: من الشعر الذي كانوا يترادون فيما بينهم، والمفاخرات التي كانت في ذلك اليوم الذي عُرف في التاريخ أنه يوم وقعة بين الأوس والخزرج، وهو يوم بعاث.

( قالت: فدخل أبو بكر الصديق

رضي الله عنه وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وهمَّ بهما، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الغطاء عن وجهه، وقال له: يا أبا بكر

! دعهما فإن اليوم يوم عيد
).

والحديث الثاني: هو أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: ( أن الحبشة كانوا يلعبون في المسجد بالدرق والحراب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم، فجاء عمر

رضي الله عنه، فأخذ كفاً من الحصباء ليحصبهم به -هذا في المسجد أيضاً- فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعهم يا عمر

! ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة: دونكم يا بني أرفِدة
)، وبني أرفِدة هذا لقب أو اسم يسمون به الحبشة، فيقول: (دونكم): افعلوا كما كنتم تفعلون من قبل.

معاني ألفاظ الحديث

ثانياً: ألفاظ الحديث ومفرداته:

قوله: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة )، المقصود به: الهجرة لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة واستقر بها في الهجرة، فوجد للأنصار يومين.

قال: ( ولهم يومان يلعبون فيهما )، وهذان اليومان أحدهما كان يسمى: يوم النيروز أو النوروز، وهو معروف في الأدب العربي، وهو في الأصل عيد فارسي عند الفرس، ومعنى كلمة (النيروز) اليوم الجديد، وهو أول يوم تنتقل الشمس إلى برج الحمل، هذا يسمى النيروز.

اليوم الثاني يسمى: يوم المهرجان أو المهركان، وهو أيضاً معرب وأصله فارسي، وهذا اليوم أيضاً هو أول يوم تنتقل فيه الشمس إلى برج الميزان، إذاً: فالعرب كان لهم عيدان، النيروز والمهرجان، هذا على الأقل في المدينة، وإلا فيبدو أن هذه الأيام لم تكن معروفة بنفس الصورة في مكة، وإلا لما قال: ( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة )، فهذا يدل:

أولاً: يدل على تفرق القبائل العربية؛ بحيث أن عادات وأعياد وتقاليد أهل المدينة غير عادات أهل مكة غير عادات بقية مناطق الجزيرة العربية.

وثانياً: يدل على أن هذه الأمة لم يكن عندها حضارة، حتى أعيادهم، والعيد هو من أهم ميزات وعلامات الأمة، حتى أعيادهم مأخوذة من الفرس، فأعيادهم أعياد فارسية.

كذلك قوله: (يومان يلعبون فيهما) المقصود باللعب هاهنا: ألوان المتعة واللهو، مثل اللعب بالسهام، والقسي والرمي، والنبل، والسيوف، والاستعراضات، فيبدو أن لعبهم بالنسبة للرجال كان أشبه بالاستعراضات العسكرية، مثلما كان الحبشة يلعبون في المسجد ويزفنون، وقد يكون فيه نوع من الرقصات الرجالية.

وبالنسبة للنساء كان أيضاً لهن حظهن من اللعب مثلما في حديث عائشة، وكان هناك: (جاريتان تدففان) تدففان يعني: تضربان بالدف، وتغنيان بشعر الأنصار قبل الإسلام، فهذا معنى اللعب.

قوله صلى الله عليه وسلم: ( أبدلكم الله بهما )، في الحديث هكذا لفظه: ( قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما )، هنا الباء دخلت على الأمر المتروك، وهذا هو الأفصح: أن الباء تدخل على المتروك، إذا قلت: استبدل، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، الباء هنا دخلت على المتروك، خلافاً لما يعمله كثير من الناس: أنهم يدخلون الباء على الأمر الجديد وليس على الأمر المتروك -مثلاً- إذا واحد انتقل من كلية الاقتصاد إلى كلية الإدارة، قال: استبدلت كلية الاقتصاد بكلية الإدارة، يعني: الكلية الجديدة التي انتقل إليها، وهذا غير فصيح، وإنما الفصيح أن يقول: استبدلت كلية الإدارة -التي هي الجديدة- بكلية الاقتصاد، فتدخل الباء على الشيء المتروك، واضح هذا؟

أيضاً هنا قوله: ( أبدلكم الله بهما خيراً منهما )، التفضيل هنا ليس على وجهه؛ لأن الواقع أن أيام الجاهلية ليس فيها خير أصلاً، والتفضيل يكون بين أمرين كلاهما حسن، فتقول: هذا أفضل من هذا، هذا خير من هذا، والواقع أن أعياد الجاهلية ليس فيها خير، وإنما يعني: أبدلكم الله تعالى بهما أياماً لها فضل وخيرية، وليس المقصود: أنها أفضل من أيام الجاهلية فحسب.

قوله: ( يوم الأضحى ويوم الفطر )، هذا بدل أو عطف بيان من الضمير، وقدَّم يوم الأضحى على يوم الفطر لأن يوم الأضحى -والله أعلم- أفضل من الفطر، يعني: لو سألنا سؤالاً: أيهما أفضل: عيد الفطر أو عيد الأضحى؟

الجواب: عيد الأضحى أفضل؛ لأنه عيد مرتبط بالحج، وقبله يوم عرفة، وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، ثم يوم العيد هو بالنسبة للحجاج يوم الحج الأكبر، وفيه مناسك الحج من الرمي والنحر والحلق والطواف ..وغيرها من الأعمال؛ فضلاً عن كونه عيداً للمسلمين في كل مكان؛ ولذلك يوم الأضحى كما يسمى يوم الحج الأكبر يسمى يوم العيد الأكبر، فيوم الأضحى -والله أعلم- أفضل من يوم الفطر؛ ولهذا ناسب أن يقدم في الحديث.

فوائد الحديث

ما يتعلق بفوائد الحديث:

مشروعية العيدين وإظهار السرور فيهما

أولاً: فيه مشروعية العيد بيوم الفطر ويوم الأضحى، وأنها أعياد أهل الإسلام، وهذا الحديث.. وما شابهه أيضاً كحديث عائشة وحديث أبي هريرة .. وغيرها نص في أن أعياد أهل الإسلام هي عيد الفطر وعيد الأضحى.

عيدان عند أولي النهى لا ثالث لهما لمن يبغي السلامة في غد

الفطر والأضحى وكل زيادة فيها خروج عن سبيل محمد

ثانياً: أن إظهار السرور مندوب إليه خصوصاً في مناسباته، إظهار السرور في أيام العيد بالنظافة.. بالاغتسال .. بحسن الملابس، بالتواصل بين الناس، بإظهار نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده، بالتواصل بينهم، بإصلاح ذات البين، كل هذه من المعاني التي يحبها الله تعالى خصوصاً في مثل هذه المناسبات.

ثالثاً: أن الأعياد من الشريعة، وأنها من الشعائر الظاهرة، فالشعائر الظاهرة فيها حفظ للأمة وتحقيق لوحدتها وربط لماضيها بحاضرها، ولهذا تكون الأعياد غالباً ذكريات ومناسبات جميلة وذكريات جميلة، أو نهاية عبادة كما يتعلق الأمر برمضان، فهي مرتبطة بدين هذه الأمة وتاريخها؛ ولذلك فهي من الشريعة وهي من الشعائر الظاهرة.

ومما يدل على ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما ذكر للأنصار أن الله تعالى أبدلهما بهما خيراً منهما ذكر فقط تبديل الأيام، يعني: تغيير الأيام، ولم يتعرض للعادات الموجودة في العيد.

وهذه ممكن نقول: فائدة ثالثة أو رابعة: أن الأيام التي كانت في الجاهلية ألغاها الإسلام، فلا يجوز الاحتفال بها، ولكن العادات التي كانوا يفعلونها في الجاهلية في هذه الأيام لم تلغَ كلها، بل لم يلغَ منها إلا ما كان مخالفاً للشريعة، مثل المحرمات، مثل: التبرج والسفور والاختلاط وغير ذلك، أما إظهار الفرح والسرور فقد بقي مشروعاً، ولهذا الحبشة زفنوا في المسجد ولعبوا بالدرق والحراب كما في صحيح البخاري، وهكذا الجاريتان عند عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

موقف الإسلام من أفعال الجاهلية وأعيادها

وفي ذلك فائدة أخرى وهي: أن الإسلام أقرَّ من أفعال الجاهلية ما لا يعارض الدين، وهذه فائدة جليلة، يعني: مثلاً الأسماء، أسماء أهل الجاهلية هل غيرها الإسلام كلها؟ لا.. الصحابة رضي الله عنهم أسلموا على أسمائهم، أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد ومصعب .. وغيرهم، هذه أسماؤهم في الجاهلية، بقيت كما هي، فلم يغير الإسلام -مثلاً- من الأسماء إلا ما كان مرذولاً أو مشئوماً، أو فيه تعبيد لغير الله، أو فيه مخالفة للشريعة.

وهكذا أيضاً اللباس وهو نوع من العادات: هل كان الرجل إذا أسلم يقال له: غير ملابسك؟ أبداً..

هل المسلمون في مكة تميزوا بلباس خاص؟ وأن الرجل إذا أسلم لبس لباساً مختلفاً عن الناس، وصار إذا مشى في الشارع يقال له: هذا لباسه لأنه أسلم، أو كانوا على لباس قومهم؟ هذا هو الواقع أنهم كانوا على لباس قومهم، لكنهم تجنبوا منها فقط ما يخالف الدين، مثل لبس الحرير: ( إنما يلبس هذا من لا خلاق له في الآخرة )، ومثل الإسبال إذا كان الثوب فيه طول وإسبال، فهذا يكون منهياً عنه لذات الأمر، وإلا فالأصل بقاؤه على ما هو عليه.

وهذا باب واسع، وهو من أبواب العلم، فليس كل ما كان في الجاهلية فهو مرذول ومردود، بل مما كان عندهم ما بقي من آثار الأنبياء السابقين وتوارثوه وهذا أقره الإسلام، ومما كان عندهم ما كان من الأخلاق الفطرية المقبولة، التي أقرها الدين وبعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتممها، فهذا أيضاً ظل وبقي، ومما كان عندهم كثير مما هو داخل في باب المباح وهو باب واسع جداً، فهذا أيضاً بقي، وإنما خالف الإسلام أهل الجاهلية فيما فيه منابذة للتوحيد، أو فيما فيه نقض للأخلاق، أو مخالفة لأصول جاء بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

التوسعة في العيد الشرعي والنهي عن أعياد الجاهلية

ومن الفوائد أيضاً: هذه يمكن تكون رقم ستة، مشروعية التوسعة على الأهل والعيال في يوم العيد باللباس والأكل والشرب والمتعة .. وغير ذلك.

من الفوائد: منع الفرح والاحتفال بأعياد أهل الشرك، سواءً كانت أعياداً وثنية أو أعياداً مجوسية أو أعياداً مسيحية أو يهودية.

المسيحيون -مثلاً- عندهم عيد الشكر، عندهم ما يسمى بالكريسمس -عيد الميلاد- عندهم أشياء كثيرة.

اليهود أيضاً عندهم عيد الفصح، الفرس كما قلت عندهم النيروز والمهرجان .. وغيرها، وكل أمة من الأمم عندها أعياد، فلا يُشرع ولا يُباح للمسلمين إظهار الفرح والسرور بمثل هذه الأعياد.

من الفوائد: أن العيد توقيف -يعني: يأتي به نص- وليس أمراً اختيارياً؛ ولهذا كان من أفضل الأيام بل لعله أسعد الأيام عند المسلمين في المدينة قدوم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة بالهجرة، ومع ذلك لم يحتفلوا بهذا اليوم ولم يعدوه يوم عيد، وإن كانوا اعتبروا أن الهجرة بداية للتاريخ الهجري لكنهم لم يحتفلوا بذلك اليوم.

أهمية ضبط الرسالة الإعلامية التي نريد أن تصل الكفار

ومن فوائد الحديث -وهي فائدة عزيزة-: أهمية ضبط الرسالة الإعلامية التي يريد المسلمون إيصالها لغيرهم من الأمم، وهذه الفائدة من أين نأخذها؟

من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة ).

الآن نحن اليوم مع أننا في وضع أمة مهزومة متخلفة لو قال قائل منا: نريد أن نعمل هكذا حتى نظهر لليهود أو للنصارى أن ديننا دين إنصاف أو رحمة أو عدالة، ماذا يقول الآخرون؟

يقولون: هذه هزيمة، ما علينا منهم، هؤلاء أعداؤنا، دعهم وما يعتقدون! هذا الغالب، بينما التعليم النبوي أمر بالتوسعة، وترك الحبشة يلعبون في المسجد، وعلل ذلك بعلل من ضمنها: ( حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة ).

إذاً: يهمنا أن الرسالة الإعلامية التي نوصلها للآخرين تكون رسالة صحيحة، وأن لا نسمح لأن يكون عدونا هو الذي يشوه صورتنا عند العوام؛ لأن كل أمة من الأمم يوجد فيها عوام، هؤلاء العوام قابلون للخير والهدى، ويمكن أن يسلموا، وقد أسلم من اليهود قوم ومن النصارى أقوام، ومن الوثنيين وغيرهم ممن أعجبهم أمر الإسلام.

فالرسالة الإعلامية ذات أهمية كبيرة جداً، الآن في الإعلام الغربي وفي أمريكا على وجه الخصوص -وأوروبا أيضاً- تجد أن وسائل الإعلام وأن الأفلام والمسلسلات والإنتاج الإعلامي -غالباً- يعطي رسالة عن المسلم؛ بحيث إن الطفل الصغير والجاهل والمرأة وكل أحد عندهم انطباع عن المسلم، عن العربي بهذه الثياب العربية المعروفة، بشكل عام المسلم أنه إنسان -مثلاً- مغفل، جاهل، جبري، يعتمد على القضاء والقدر، ولا يقوم بالأسباب، إنسان شهواني يركض وراء الشهوات، إنسان دموي ليس عنده عاطفة ولا إنسانية ولا شفقة ولا رحمة، هذه المعاني هم يكرسونها، لماذا؟

حتى لا يفكر أحد في أن يدخل في الإسلام؛ ولذلك تجد الذين يبحثون عن الإسلام ربما يمر الواحد منهم بديانات الأرض كلها، وأخيراً يهتدي إلى الإسلام، فيتعجب من هذا التشويه الهائل الذي يحول بين الناس وبين الدخول في الدين.

ففكرة إيصال الرسالة هذه فكرة مهمة جداً، من خلال أعمال وأساليب وأشياء، ربما لأن كثيراً من المسلمين ليس عندهم هم الدعوة والتأثير على غيرهم، فإنهم لا يهتمون كثيراً بأن يكون لديهم رسالة جيدة يريدون إيصالها للآخرين.

أقول: يا إخوة! ليس فقط للكفار، حتى في داخل المجتمعات الإسلامية هناك رسائل خاطئة، فالكثير -مثلاً- من عوام المسلمين أخذوا رسالة خاطئة عما يسمى بالسلفية، وفهموا أن السلفية أو الدعوة السلفية هي دعوة الصراع والضجيج والاختلافات فيما بينهم، واتهام الآخرين بالجهل والشرك والكفر.. وغير ذلك من المعاني.

فهذا معناه أن هذا الدين قعد به قومه، وهذه المناهج السليمة التي تعتمد على التوحيد والصفاء، أيضاً تسبب بعض أتباعها في تشويه صورتها وتحذير الناس منها، وهذا جزء مما قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران:99]، أنه قد يكون فيه نوع من الصد عن سبيل الله: بأن يحجب الدين بمساوئ أهله، أو يحجب المنهج الصحيح بتصرفات أهله التي تحفز الناس على البعد عنه، فهذه فائدة مهمة.

اللعب الجائز للرجال والنساء وعدم أخذ الناس بعزائم غير واجبة

ومن الفوائد أيضاً: بيان اللعب الجائز للرجال والنساء في العيد، وأن الشرع رخص ووسع في أيام العيد ما لا يرخص ويوسع في غيرها، وقد رأينا رقص الحبشة ولعبهم بالحراب والسيوف والدرق والاستعراض، وكانت عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم كما في صحيح البخاري، ورأينا في الحديث الآخر أيضاً أن الحبشة يلعبون في بيت الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( دعهم فإن اليوم يوم عيد )، الثاني في بيت رسول الله، أكيد هذا؟ جاريتان تغنيان، والغناء أيش هو؟ من غناء الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم مضطجع مغط رأسه.

يقول بعض الشراح: إن تغطية النبي صلى الله عليه وسلم رأسه لعدم الاكتراث، يعني: قد يكون هذا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم ليس أمراً ذا بال، لكنه لم يحمل الناس على عزائمه صلى الله عليه وسلم، ولذلك عائشة قالت: [ اقدروا قدر الجارية حديثة السن ]، علم أن الناس فيهم الرجل والمرأة والجاد والهازل والعالم والجاهل؛ ولذلك لا تحمل الناس على عزائمك، يمكن أنت لا يعجبك، لكن اترك الناس وما يعجبهم ما دام في دائرة الشرع.

أقول لك: اليوم في كثير من مجتمعاتنا وبيئاتنا مستحيل أن يحصل هذا الذي وقع.

ومرة إحدى الأخوات اتصلت بي وشكت إليَّ بعض ما يوجد في قناة المجد، فقلت لها: يا أختي! بعض ما نستنكره، وبعض الغيرة التي عندنا هي غيرة اعتيادية ليست غيرة شرعية، وقلت: أنا أريد أسألكِ سؤالاً وأطلب منكِ جواباً صريحاً، قالت: نعم، قلت لها: لو كان يوم عيد، وبناتكِ جاءوا بالدف وجلسوا يضربون في البيت بالدف، فهل تقبلين أو لا تقبلين؟ قالت: هاه، والله ما أقبل، صراحة أنا ما أقبل!

قلت لها: طيب! أنت أغير أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ( تعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه والله أغير مني )، فهذا معلمنا عليه الصلاة والسلام عنده جاريتان تضربان بالدف على رأسه، والحديث الآخر أيضاً في البخاري لما قالت امرأة: ( يا رسول الله! إني نذرت إن ردك الله سالماً أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: إن كنتِ نذرتِ فأوفي بنذركِ )، وهذا لم يكن يوم عيد حتى، تخيَّل النبي صلى الله عليه وسلم وعنده امرأة تضرب على رأسه بالدف.

لو واحد منكم شاهد أحد الأئمة أو العلماء أو الدعاة -مثلاً- في مناسبة معينة، وعنده رجل أو امرأة من محارمه -مثلاً- أو حتى شريط وفيه دف، نريد فقط نقتصر على النص، مزاجكم يقبل هذا أم لا يا إخوان؟ لا يقبل. طيب هنا: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به )، مزاجك ما عليه، ممكن أنت لا تلام على ذلك، هذه أشياء ما تعوَّد عليها الإنسان، لكن لا تنكر أو تُغلظ، أو تحمل الناس على عزائم ربما ليست هي الأفضل، الأمر فيه سعة ينبغي أن يراعيها الإنسان.

وإنما يمنع -كما ذكرنا- في الأعياد وغيرها ما حرمه الله ورسوله، يمنع مثلاً تبرج النساء، يمنع ظهور النساء كاشفات الوجوه والشعور والأطراف، أصوات النساء، اختلاط الرجال بالنساء وما أشبه ذلك من المعاني.

أهمية البدائل الشرعية ومراعاة طباع الناس

كذلك من فوائد الحديث: أهمية إيجاد البدائل للناس، وأن النفوس لا تترك شيئاً إلا لشيء، ومن حكمة الله تعالى في التشريع أن الله تعالى أوجد للناس البدائل، فلما حرم الله تعالى الربا أحل البيع، ولما حرم الله السفاح وهو الزنا، أحل عز وجل النكاح، ولما ألغى الإسلام أعياد المهرجان والنيروز هل ترك الناس بلا أعياد؟ لا.. أبدلهم الله بهما عيدين: الأضحى والفطر، فهكذا النفوس لا تترك شيئاً إلا لشيء، وعلى الداعية أو المصلح أن يحرص على إيجاد البدائل للناس .

كذلك من الفوائد: مراعاة طبائع النفوس، وما جبلت عليه، وأهمية إشباع الغرائز فيما أحل الله عز وجل.

فهذا معنى مهم؛ ولذلك الذين يسعون -مثلاً- إلى العفاف لا يكفي فقط أن يقدموا مواعظ ونصائح في العفاف، وغض البصر -وهذا جيد- وإنما ينبغي أن يسعوا أيضاً إلى تسهيل سبيل الإشباع الحلال الذي به تجد النفس مستقرها.

أولاً: ما يتعلق بتخريج الحديث:

فقد رواه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة، باب العيدين، ورواه أيضاً النسائي -كما أشار- في الصلاة، باب بدء العيدين.

وقد رواه الحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وأحمد في مسنده والبيهقي في سننه، وأبو يعلى، وعبد بن حميد .. وغيرهم.

وسند هذا الحديث صحيح كما قال المصنف -رحمه الله- هنا: إسناده صحيح.

وفي الباب أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وقد غطى رأسه، وعندها جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث وما تقاولت به الأوس والخزرج )، يعني: من الشعر الذي كانوا يترادون فيما بينهم، والمفاخرات التي كانت في ذلك اليوم الذي عُرف في التاريخ أنه يوم وقعة بين الأوس والخزرج، وهو يوم بعاث.

( قالت: فدخل أبو بكر الصديق

رضي الله عنه وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وهمَّ بهما، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الغطاء عن وجهه، وقال له: يا أبا بكر

! دعهما فإن اليوم يوم عيد
).

والحديث الثاني: هو أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: ( أن الحبشة كانوا يلعبون في المسجد بالدرق والحراب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليهم، فجاء عمر

رضي الله عنه، فأخذ كفاً من الحصباء ليحصبهم به -هذا في المسجد أيضاً- فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: دعهم يا عمر

! ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم للحبشة: دونكم يا بني أرفِدة
)، وبني أرفِدة هذا لقب أو اسم يسمون به الحبشة، فيقول: (دونكم): افعلوا كما كنتم تفعلون من قبل.

ثانياً: ألفاظ الحديث ومفرداته:

قوله: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة )، المقصود به: الهجرة لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة واستقر بها في الهجرة، فوجد للأنصار يومين.

قال: ( ولهم يومان يلعبون فيهما )، وهذان اليومان أحدهما كان يسمى: يوم النيروز أو النوروز، وهو معروف في الأدب العربي، وهو في الأصل عيد فارسي عند الفرس، ومعنى كلمة (النيروز) اليوم الجديد، وهو أول يوم تنتقل الشمس إلى برج الحمل، هذا يسمى النيروز.

اليوم الثاني يسمى: يوم المهرجان أو المهركان، وهو أيضاً معرب وأصله فارسي، وهذا اليوم أيضاً هو أول يوم تنتقل فيه الشمس إلى برج الميزان، إذاً: فالعرب كان لهم عيدان، النيروز والمهرجان، هذا على الأقل في المدينة، وإلا فيبدو أن هذه الأيام لم تكن معروفة بنفس الصورة في مكة، وإلا لما قال: ( لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة )، فهذا يدل:

أولاً: يدل على تفرق القبائل العربية؛ بحيث أن عادات وأعياد وتقاليد أهل المدينة غير عادات أهل مكة غير عادات بقية مناطق الجزيرة العربية.

وثانياً: يدل على أن هذه الأمة لم يكن عندها حضارة، حتى أعيادهم، والعيد هو من أهم ميزات وعلامات الأمة، حتى أعيادهم مأخوذة من الفرس، فأعيادهم أعياد فارسية.

كذلك قوله: (يومان يلعبون فيهما) المقصود باللعب هاهنا: ألوان المتعة واللهو، مثل اللعب بالسهام، والقسي والرمي، والنبل، والسيوف، والاستعراضات، فيبدو أن لعبهم بالنسبة للرجال كان أشبه بالاستعراضات العسكرية، مثلما كان الحبشة يلعبون في المسجد ويزفنون، وقد يكون فيه نوع من الرقصات الرجالية.

وبالنسبة للنساء كان أيضاً لهن حظهن من اللعب مثلما في حديث عائشة، وكان هناك: (جاريتان تدففان) تدففان يعني: تضربان بالدف، وتغنيان بشعر الأنصار قبل الإسلام، فهذا معنى اللعب.

قوله صلى الله عليه وسلم: ( أبدلكم الله بهما )، في الحديث هكذا لفظه: ( قد أبدلكم الله بهما خيراً منهما )، هنا الباء دخلت على الأمر المتروك، وهذا هو الأفصح: أن الباء تدخل على المتروك، إذا قلت: استبدل، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، الباء هنا دخلت على المتروك، خلافاً لما يعمله كثير من الناس: أنهم يدخلون الباء على الأمر الجديد وليس على الأمر المتروك -مثلاً- إذا واحد انتقل من كلية الاقتصاد إلى كلية الإدارة، قال: استبدلت كلية الاقتصاد بكلية الإدارة، يعني: الكلية الجديدة التي انتقل إليها، وهذا غير فصيح، وإنما الفصيح أن يقول: استبدلت كلية الإدارة -التي هي الجديدة- بكلية الاقتصاد، فتدخل الباء على الشيء المتروك، واضح هذا؟

أيضاً هنا قوله: ( أبدلكم الله بهما خيراً منهما )، التفضيل هنا ليس على وجهه؛ لأن الواقع أن أيام الجاهلية ليس فيها خير أصلاً، والتفضيل يكون بين أمرين كلاهما حسن، فتقول: هذا أفضل من هذا، هذا خير من هذا، والواقع أن أعياد الجاهلية ليس فيها خير، وإنما يعني: أبدلكم الله تعالى بهما أياماً لها فضل وخيرية، وليس المقصود: أنها أفضل من أيام الجاهلية فحسب.

قوله: ( يوم الأضحى ويوم الفطر )، هذا بدل أو عطف بيان من الضمير، وقدَّم يوم الأضحى على يوم الفطر لأن يوم الأضحى -والله أعلم- أفضل من الفطر، يعني: لو سألنا سؤالاً: أيهما أفضل: عيد الفطر أو عيد الأضحى؟

الجواب: عيد الأضحى أفضل؛ لأنه عيد مرتبط بالحج، وقبله يوم عرفة، وهو خير يوم طلعت عليه الشمس، ثم يوم العيد هو بالنسبة للحجاج يوم الحج الأكبر، وفيه مناسك الحج من الرمي والنحر والحلق والطواف ..وغيرها من الأعمال؛ فضلاً عن كونه عيداً للمسلمين في كل مكان؛ ولذلك يوم الأضحى كما يسمى يوم الحج الأكبر يسمى يوم العيد الأكبر، فيوم الأضحى -والله أعلم- أفضل من يوم الفطر؛ ولهذا ناسب أن يقدم في الحديث.

ما يتعلق بفوائد الحديث:

أولاً: فيه مشروعية العيد بيوم الفطر ويوم الأضحى، وأنها أعياد أهل الإسلام، وهذا الحديث.. وما شابهه أيضاً كحديث عائشة وحديث أبي هريرة .. وغيرها نص في أن أعياد أهل الإسلام هي عيد الفطر وعيد الأضحى.

عيدان عند أولي النهى لا ثالث لهما لمن يبغي السلامة في غد

الفطر والأضحى وكل زيادة فيها خروج عن سبيل محمد

ثانياً: أن إظهار السرور مندوب إليه خصوصاً في مناسباته، إظهار السرور في أيام العيد بالنظافة.. بالاغتسال .. بحسن الملابس، بالتواصل بين الناس، بإظهار نعمة الله سبحانه وتعالى على عباده، بالتواصل بينهم، بإصلاح ذات البين، كل هذه من المعاني التي يحبها الله تعالى خصوصاً في مثل هذه المناسبات.

ثالثاً: أن الأعياد من الشريعة، وأنها من الشعائر الظاهرة، فالشعائر الظاهرة فيها حفظ للأمة وتحقيق لوحدتها وربط لماضيها بحاضرها، ولهذا تكون الأعياد غالباً ذكريات ومناسبات جميلة وذكريات جميلة، أو نهاية عبادة كما يتعلق الأمر برمضان، فهي مرتبطة بدين هذه الأمة وتاريخها؛ ولذلك فهي من الشريعة وهي من الشعائر الظاهرة.

ومما يدل على ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم: لما ذكر للأنصار أن الله تعالى أبدلهما بهما خيراً منهما ذكر فقط تبديل الأيام، يعني: تغيير الأيام، ولم يتعرض للعادات الموجودة في العيد.

وهذه ممكن نقول: فائدة ثالثة أو رابعة: أن الأيام التي كانت في الجاهلية ألغاها الإسلام، فلا يجوز الاحتفال بها، ولكن العادات التي كانوا يفعلونها في الجاهلية في هذه الأيام لم تلغَ كلها، بل لم يلغَ منها إلا ما كان مخالفاً للشريعة، مثل المحرمات، مثل: التبرج والسفور والاختلاط وغير ذلك، أما إظهار الفرح والسرور فقد بقي مشروعاً، ولهذا الحبشة زفنوا في المسجد ولعبوا بالدرق والحراب كما في صحيح البخاري، وهكذا الجاريتان عند عائشة رضي الله عنها وأرضاها.