شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 443-445


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فهذا الدرس رقم (159) من أمالي شرح بلوغ المرام، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين، الرابع والعشرين من شهر الله المحرم لسنة ألف وأربعمائة وخمس وعشرين للهجرة.

أما اليوم فعندنا ثلاثة أحاديث نحاول أن نأتي عليها:

والحديث الأول منها: هو حديث أبي بكرة رضي الله عنه: ( أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد ) هذا الحديث نسبه المصنف للبخاري، وقال: وزاد فيه أبو داود : ( فركع دون الصف ثم مشى إلى الصف ). ‏

تخريج الحديث

وقد رواه البخاري رحمه الله في أبواب صفة الصلاة، باب إذا ركع دون الصف. وكأنه رواه في هذا الموضع فحسب.

ورواه أيضاً أبو داود -كما أشار المصنف- في كتاب الصلاة, باب الرجل يركع دون الصف.

ورواه النسائي في سننه أيضاً في أبواب الإمامة، باب الركوع دون الصف.

هذه مواضعه في الكتب الستة.

وقد رواه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، وأحمد، والطيالسي، والبيهقي .. وغيرهم.

وإن كان الحديث في البخاري إلا أن في إسناده إشكالين ذكرهما أهل العلم:

الأول: الوصل والإرسال، هل الحديث موصول، بمعنى: أن الحسن -وهو راوي الحديث عن أبي بكرة هنا- أخذه عن أبي بكرة - الحسن البصري - أم هو مرسل، بمعنى: أن الحسن البصري ذكر أن أبا بكرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن لم يدرك هذه القصة، فيكون الحديث على هذا مرسلاً؟

إذاً: يجب أن نلاحظ أنه لو قال الحسن هنا -الراوي عن أبي بكرة - لما يقول الحسن : عن أبي بكرة، أو بالأولى لو صرح بالتحديد، وقال: حدثني أبو بكرة فهو موصول، لكن لو قال الحسن : (إن) مجرد حرف واحد يقلب المعنى، لو قال الحسن : (إن أبا بكرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم..) لكان الحديث مرسلاً؛ لأن الحسن لم يشهد القصة فهو من التابعين، وذلك أن زياداً الأعلم وهشاماً رويا الحديث عن الحسن عن أبي بكرة على أنه متصل، وهكذا جاء في سنن أبي داود عن الحسن : (أن أبا بكرة حدثه) وفي بعض النسخ: (أن أبا بكرة حدث) و(حدث) فيها بعض الإشكال، لكن لما يقول: (حدثه) معناه: أنه روى عنه مباشرة.

وهناك آخرون رووا الحديث عن الحسن مرسلاً، وهذا كثير في السنن والمسند، عن الحسن : ( أن أبا بكرة

جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فعلى هذا يكون الحديث مرسلاً؛ ولذلك يمكن أن ننفصل عن هذا الإشكال؛ بأن نرجح قول من يقولون: بأن الحديث موصول، وأن الحسن أخذه عن أبي بكرة رضي الله عنه، وهذا هو مذهب البخاري كما هو واضح.

المسألة الثانية وهي أعمق من الأولى: هل الحسن أخذ عن أبي بكرة أم لا؟ وهذا فيه اختلاف بين أهل الحديث، فإن منهم من يقول: إن الحسن لم يسمع من أبي بكرة، وهذا مذهب يحيى بن معين، والدارقطني كما في كتاب التتبع والإلزامات له، فإنهم يزعمون أو يرون أن الحسن البصري لم يرو عن أبي بكرة، وبناءً عليه يكون الحديث مرسلاً.

بينما مذهب علي بن المديني شيخ البخاري والبخاري نفسه رحمهم الله جميعاً: أن الحسن سمع من أبي بكرة، وأن مما سمع منه هذا الحديث .. وغيره.

ومما يقوي ذلك: أن الحسن قال: (إن أبا بكرة حدثه)، وكذلك هشام بن حسان روى عن الحسن، قال: (دخلت أنا وأنس بن مالك على أبي بكرة وهو مريض)، فهذا يدل على أنه قد لقيه وأخذ منه، وهذا هو الأقرب والله أعلم.

وبناءً عليه نقول: إن الحديث موصول وليس بمرسل، وأن اجتهاد البخاري رحمه الله في اعتبار الحديث متصلاً، وسياقه في صحيحه أنه رأي صحيح.

ولذلك قال الشافعي رحمه الله عن هذا الحديث، قال: إسناده حسن.

هذه المسألة الأولى، وهي ما يتعلق بسند الحديث.

ترجمة أبي بكرة راوي الحديث

المسألة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

أبو بكرة رضي الله عنه ما اسمه؟

نفيع بالتخفيف والتصغير، تصغير نافع، نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي , وهو من أهل الطائف، ولكنه عاش أكثر حياته بـالبصرة، ومات بـالبصرة أيضاً سنة اثنين وخمسين للهجرة, وله أخبار وقصص موجودة تبحث في مظانها في كتب التراجم، كـأسد الغابة، والإصابة، والاستيعاب.. وغيرها.

معاني ألفاظ الحديث

قول أبي بكرة رضي الله عنه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع. ما إعراب (وهو راكع)؟

حال، (وهو راكع) جملة حالية، يعني: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال ركوعه، حال كونه راكعاً في الصلاة.

قول النبي صلى الله عليه وسلم له: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) هذا النهي في قوله: (ولا تعد) اختلف الشراح في معناه، فالأقرب: أنه من العود وهو الرجوع، نهاه أن يعود إلى شيء ما، وهذا الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يعود إليه الفعل: هو الإسراع في المشي إلى الصلاة، والسعي إليها، كما جاء في أحديث كثيرة: ( لا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ).

وكذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر آخر وهو الركوع دون الصف؛ لأنه ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فنقول: إنه نهاه عن الإسراع في المشي؛ لأنه حفزه النفس، وارتفع نفسه وبان عليه، وكذلك نهاه عن الركوع دون الصف, ثم المشي إلى الصف, وقيل: نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى يركع الإمام، وهذا ضعيف؛ لأنه لا دليل عليه ولا مناسبة له.

وقيل: إنه قال له: (ولا تعدُ) من العدو بضم الدال، يعني: لا تعدُ لا تسرع، لا تركض.

وقيل: إنها: ولا تُعِد، يعني: ليس عليك أن تعيد الصلاة، بل صلاتك صحيحة.

والراجح المختار هو الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن الإسراع بحيث حفزه النفس، ويحتمل أن يدخل في ذلك أنه نهاه عن الركوع دون الصف.

أقوال العلماء في مسألة إدراك الركعة بإدراك الركوع

المسائل الموجودة في الحديث:

فيه مسألتان:

المسألة الأولى: وقد أشرنا إليها في الأسبوع الماضي: مسألة صلاة المنفرد خلف الصف، صلاة الإنسان المنفرد خلف الصف، وهذه المسألة أؤجلها قليلاً؛ لأنه سوف تأتي أحاديث تتعلق بها.

وننتقل بعدها إلى المسألة الثانية التي لا تحتمل التأجيل في حديث أبي بكرة وهي مسألة إدراك الركعة بإدراك الركوع. يعني: لو جاء المأموم والإمام راكع فركع معه هنا يكون فاته من الركعة قراءة الفاتحة، وأيضاً فاته القيام، وأما التكبيرة فيكبِّر، التكبيرة يكبر بالإجماع، وإنما فاته القيام مع الإمام قبل الركوع، وفاتته أيضاً قراءة الفاتحة، فهل يدرك الركعة بإدراك الركوع أو لا يدركها؟

هذه هي المسألة التي سوف نبحثها، وهي مسألة سهلة يسيرة من حيث الوضوح، وسهولة المأخذ والتصور.

فإن جماهير أهل العلم رأوا: أن الركعة تدرك بإدراك الركوع، وأن المأموم إذا جاء والإمام راكع ركع معه، واعتد بتلك الركعة، عدَّها من صلاته، وهذا المذهب المشهور عن الصحابة رضي الله عنهم، كـأبي بكر، وابن مسعود، وزيد، والزبير، وعبد الله بن عمر .. وغيرهم من الصحابة، وهو المشهور عن التابعين أيضاً، ومذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، بل حكاه إسحاق بن راهويه إجماعاً للعلماء: أنهم أجمعوا على أنه إذا أدرك الركوع فقد أدرك الركعة.

وأحمد رحمه الله قال: ( لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام )، وهذه كلمة كبيرة جداً, لما تفكر في صدورها من الإمام أحمد، وهو صاحب الورع والتقوى والعلم والاطلاع على المقالات والمسائل والآراء الفقهية, ومع ذلك يقول: (لم يخالف في ذلك أحد من أهل الإسلام) وروي -كما قلت- عن جمع من الصحابة.

أما أدلة هذا القول فمن أقوى أدلتهم: حديث الباب، فإن أبا بكرة أسرع لإدراك الركوع؛ من أجل ماذا؟ من أجل إدراك الركعة, وهذا أمر بدهي معروف، وكل الناس إنما يسرعون إلى الركوع من أجل إدراك الركعة، لمعرفة أنه إذا نهض من الركوع فقد فاتته الركعة، وكأن هذا كان متقرراً عند الصحابة كلهم رضي الله عنهم.

وقد جاء لهذا الحديث شواهد كثيرة، كما ذكرت من فعل الصحابة، واعتبروا أن إدراك الركعة إدراك للركوع، وهو ظاهر، فقد فعله ابن مسعود رضي الله عنه، وفعله زيد بن ثابت، وفعله جماعة من التابعين, يعني: نقل عنهم، كـعروة، وسعيد بن جبير، وأبي سلمة وعطاء .. وغيرهم كثير، كانوا يجدون الإمام راكعاً فيركعون دون الصف، ثم يلحقون الصف، كما فعل أبو بكرة في هذا الحديث.

وهذا القول بإدراك الركعة أنه يحصل بإدراك الركوع، هو القول الصحيح المعتمد الذائع, الذي يكاد أن يكون إجماعاً عند العلماء السابقين، وعند الأمة في عصورها المتأخرة إلى عصرها الحاضر.

القول الثاني في هذه المسألة: أنه لا يقع له إدراك الركعة بإدراك الركوع، ولا بد أن يقرأ الفاتحة قبل أن يركع، وهذا القول يعتمد على أنه فاته القيام، وفاته قراءة الفاتحة، وأكثر من انتصر لهذا القول وعززه وانتصر له هو الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإنه صنَّف فيه كتاباً خاصاً مطبوعاً سماه: القراءة خلف الإمام، وانتحل فيه هذا القول، وحاول أن ينصره ببعض الأقوال وبعض النصوص عن أبي هريرة، وعن عائشة رضي الله عنها، وهي أقوال ونصوص لا تعزز ما ذهب إليه؛ لأنها عمومات في وجوب قراءة الفاتحة، وأنه لا صلاة إلا بقراءتها، وهذا يحمل على من يستطيع أن يقرأها، ولم يرد عنهم نص صحيح صريح بأن من لم يدرك قراءة الفاتحة أنه لا يعتد بتلك الركعة.

وقد ذكر البخاري هذا القول عن شيخه علي بن المديني، وشيخه لم يكن من فقهاء أهل الحديث، وإنما كان ماهراً بالأسانيد والعلل .. وغيرها، أما الفقه في النصوص فشأن آخر.

وكذلك تابع الإمام البخاري بعد ذلك بعض المحدثين، كـابن خزيمة صاحب الصحيح وهو من الشافعية، وكذلك بعض أهل الظاهر، لكن البخاري هو أكثر من أشهر هذا الحديث؛ ولذلك قال ابن عبد البر رحمه الله: (لا أعلم أحداً قال به من فقهاء الأمصار)، وهكذا ابن رجب الحنبلي في شرحه لصحيح البخاري قال: (إنه قول محدث، لا سلف لهم فيه)، وحمل ابن رجب غفر الله له على البخاري حملة قوية شديدة على انتحاله هذا القول، حتى إن ابن رجب رحمه الله يقول: (هذا القول أو مثل هذا القول إنما يحمل عليه الشذوذ عن جماعة العلماء، والانفراد عنهم بالمقالات المنكرة عندهم) ولاشك أن القول غريب، وفيه شيء من الشذوذ عن قول الجماعة، ولكن أيضاً مثل البخاري رحمه الله في جلالته وإمامته، ممن يحتمل له تفرده بمثل هذه الأقوال والمسائل، وابن رجب رحمه الله أيضاً كما تعرفون شرح صحيح البخاري شرحاً عظيماً نافعاً، في كتاب طبع ما وجد منه، وهو اسمه فتح الباري، كاسم كتاب ابن حجر، وهو كتاب مليء بالعلم والتمييز والتحصيل والعلل، وعرض الأقوال .. وغيرها مما لا يوجد في غيره، وفضل البخاري عنده معروف، ولكنه اشتد عليه في هذا الموضع بالنظر إلى غرابة القول الذي ذهب إليه البخاري رحمه الله، وإلا فإن الطريقة التي كانت بين العلماء في الرد والمناقشة كانت فيها سعة وتحمل.

وقد ذكر غير واحد أن الحامل للبخاري رحمه الله على هذا القول، قد يكون شدة مخالفته لأهل الكوفة، فـالبخاري رحمه الله يخالف الأحناف كثيراً، وفي صحيحه كثيراً ما يقول: (وقال بعض الناس) ويقصد به أبا حنيفة أو أصحابه، فيرد عليهم، وهذا كثير لمن تتبع كتاب صحيح البخاري، فـالبخاري كان مولعاً بمخالفتهم؛ ويرى أنهم قد خالفوا النصوص في مسائل, فهو ينتصر للنص.

فما زالت به مخالفته لهم حتى وقع هو في هذا القول لشدة المخالفة؛ لأنهم هم يتوسعون في إجزاء الصلاة من غير قراءة الفاتحة، كما هو معروف من مذهبهم؛ فاشتد هو حتى التزم بهذا القول الذي يبطل ركعة من لم يقرأ الفاتحة، حتى لو كان مأموماً، ولم يدرك موضعها.

إذاً: هذه المسألة، وهي كما ذكرت لك مسألة يسيرة، ونحن ذكرنا أن الكافة من أهل العلم إلا ما ندر يرون أنه إذا أدرك الركوع أدرك الركعة، لكن حتى هؤلاء بينهم اختلافات: بماذا يدرك الركوع؟ فغالبهم يرون أنه يعتد بالركعة, إذا كبر وركع ويمكن أن يختصر التكبيرين: تكبيرة الإحرام، وتكبيرة الركوع بتكبير واحد، فيكبِّر للإحرام ويركع؛ فإذا ركع أجزأته الركعة، حتى لو نهض الإمام قبل أن يسبح هو, أو نهض الإمام قبل أن يطمئن في ركعته فإن ذلك يجزئه. هذا مذهب الأكثرين.

بل منهم من قال: إذا كبر أجزأته الركعة حتى لو نهض الإمام قبل أن يستتم هو راكعاً؛ لأنه لحق الإمام فيكون حكمه حكم المأموم الذي أدرك الصلاة من أولها. لو فاته الركوع لسبب ثم لحق بالإمام بعدما نهض فركع, ثم نهض وتبع إمامه، فإن ذلك يجزئه، وهذه مسائل تفصيلية ليس فيها إشكال على كل حال.

فوائد الحديث

النقطة الرابعة: ما يتعلق بفوائد الحديث:

أولاً: حرص الصحابة على الجماعة, هذه أول فائدة كتبتها, حرص الصحابة على صلاة الجماعة، حتى إن أبا بكرة رضي الله عنه استعجل, وحفزه النفس من أجل أن يدرك الركوع مع الإمام، وقد ورد أن هذا كان في صلاة الفجر.

ثانياً: انتباه الإمام لما ينوب المصلين، وأن ذلك ليس شغلاً عن الصلاة.

ومنه تفطن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث لبكاء الصغير، قال: ( إني أدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأخففها شفقة على أمه ). ففيه: انتباه الإمام لما ينوب المصلين.

ثالثاً: حسن التعليم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء أولاً والثناء على حرصه، بقوله: ( زادك الله حرصاً )، يعني: أنت حريص. هذا أولاً.

ثانياً: ( زادك الله حرصاً ), والداعي من هو؟ هو الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: ( ولا تعد ). فما غفل النبي صلى الله عليه وسلم -وحاشاه- عن حرص الرجل, وأن الدافع له هو الخير، ولا عن التقدمة بالدعاء الطيب، ولا عن التوجيه والإرشاد لما هو خير وأفضل بقوله: ( ولا تعد ). فهذا فيه حسن التربية والتعليم.

رابعاً: أن الخشوع والأدب في الصلاة مقدم على إدراك الركعة؛ لأن أبا بكرة حفزه النفس وارتفع نفسه، ومثل هذا غالباً لا يكون عنده من الحضور في صلاته ما عند غيره؛ ولهذا في الحديث قال: ( ائتوها وعليكم السكينة ) في بعض الألفاظ، فهذا دليل على تقديم الخشوع في الصلاة على إدراك قدر أكبر منها.

خامساً: أن الحركة اليسيرة في الصلاة لا تبطلها، وهذا نأخذه من أن أبا بكرة رضي الله عنه مشى إلى الصف وهو راكع، ومع ذلك لم يبطل الرسول صلى الله عليه وسلم صلاته، ومشيه هنا لسبب؛ حتى يصاف الناس.

سادساً: المبادرة في التصحيح في وقته المناسب؛ ولذلك يقول الأصوليون: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

فينبغي أن يكون البيان والتعليم في وقته المناسب، إلا أن توجد حاجة تدعو إلى تأخيره، مثل أن يكون الإنسان غير مهيأ لقبول الموعظة أو التعليم؛ فيؤجله الإنسان إذا تبين أن في ذلك مصلحة.

سابعاً: قد يستدل به على من يرى سقوط الفاتحة عن المأموم إذا تحملها الإمام، وهذا بحثناه في درس مستقل، ورجحنا فيه: أن قراءة الفاتحة لا تجب على المأموم في الصلاة الجهرية إذا جهر إمامه، نعم.

ثامناً: من فوائد الحديث: الدخول مع الإمام على الحال التي هو عليها، إن أدركه راكعاً ركع، أو ساجداً سجد، أو قاعداً قعد، أو قائماً قام، وهذا قد ورد فيه أحاديث عند أبي داود .. وغيره عن أبي هريرة، وعن معاذ بن جبل، وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتيتم وأنا على حال، فكونوا على الحال التي أنا عليها )، وإن كانت هذه الأحاديث ضعيفة، إلا أنها تعتضد بمجموعها، وبمثل حديث أبي بكرة .. وغيره، وبمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا )، فبعض الناس ينتظر إذا وجد الإمام راكعاً -مثلاً- حتى يقوم، فنقول: الأفضل أن ينضم معه على الحال التي هو عليها.

تاسعاً: من فوائد الحديث: إدراك الركعة بإدراك الركوع، كما ذكرناه مذهب الأئمة .. وغيرهم.

عاشراً: من فوائد الحديث: أنه لا إعادة على من فعل ذلك، ولا بطلان لصلاته، يعني: لو ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة على ما هو ظاهر.

الحادي عشر من فوائد الحديث: سؤال الإمام أو الشيخ أو الأستاذ عمن فعل كذا، يسأل طلابه .. وغيرهم، وأن هذا ليس فيه تثريب، وتعويد الناس على الأمانة والصدق، يعني: أبو بكرة لم يكن يدري لم السؤال، ربما كان لتوبيخ أو عتاب .. أو غير ذلك، وكثيراً ما يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: من قال كذا؟ من قال كذا؟

الثاني عشر من فوائد الحديث: أنه قد يؤخذ منه وإن كان ليس منصوصاً عليه: سقوط تكبيرة الانتقال إلى الركوع، وهذا مشهور عند الفقهاء، أنه يكفيه تكبيرة الإحرام، وتدخل تكبيرة الانتقال فيها؛ لأنهما واجبان متماثلان في وقت واحد.

هذا انتهينا منه الآن: حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقلت لكم: إن فيه مسألة كبيرة متعلقة بصلاة المنفرد خلف الصف، وتأتي.

وقد رواه البخاري رحمه الله في أبواب صفة الصلاة، باب إذا ركع دون الصف. وكأنه رواه في هذا الموضع فحسب.

ورواه أيضاً أبو داود -كما أشار المصنف- في كتاب الصلاة, باب الرجل يركع دون الصف.

ورواه النسائي في سننه أيضاً في أبواب الإمامة، باب الركوع دون الصف.

هذه مواضعه في الكتب الستة.

وقد رواه أيضاً ابن خزيمة، وابن حبان، وأحمد، والطيالسي، والبيهقي .. وغيرهم.

وإن كان الحديث في البخاري إلا أن في إسناده إشكالين ذكرهما أهل العلم:

الأول: الوصل والإرسال، هل الحديث موصول، بمعنى: أن الحسن -وهو راوي الحديث عن أبي بكرة هنا- أخذه عن أبي بكرة - الحسن البصري - أم هو مرسل، بمعنى: أن الحسن البصري ذكر أن أبا بكرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحسن لم يدرك هذه القصة، فيكون الحديث على هذا مرسلاً؟

إذاً: يجب أن نلاحظ أنه لو قال الحسن هنا -الراوي عن أبي بكرة - لما يقول الحسن : عن أبي بكرة، أو بالأولى لو صرح بالتحديد، وقال: حدثني أبو بكرة فهو موصول، لكن لو قال الحسن : (إن) مجرد حرف واحد يقلب المعنى، لو قال الحسن : (إن أبا بكرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم..) لكان الحديث مرسلاً؛ لأن الحسن لم يشهد القصة فهو من التابعين، وذلك أن زياداً الأعلم وهشاماً رويا الحديث عن الحسن عن أبي بكرة على أنه متصل، وهكذا جاء في سنن أبي داود عن الحسن : (أن أبا بكرة حدثه) وفي بعض النسخ: (أن أبا بكرة حدث) و(حدث) فيها بعض الإشكال، لكن لما يقول: (حدثه) معناه: أنه روى عنه مباشرة.

وهناك آخرون رووا الحديث عن الحسن مرسلاً، وهذا كثير في السنن والمسند، عن الحسن : ( أن أبا بكرة

جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) فعلى هذا يكون الحديث مرسلاً؛ ولذلك يمكن أن ننفصل عن هذا الإشكال؛ بأن نرجح قول من يقولون: بأن الحديث موصول، وأن الحسن أخذه عن أبي بكرة رضي الله عنه، وهذا هو مذهب البخاري كما هو واضح.

المسألة الثانية وهي أعمق من الأولى: هل الحسن أخذ عن أبي بكرة أم لا؟ وهذا فيه اختلاف بين أهل الحديث، فإن منهم من يقول: إن الحسن لم يسمع من أبي بكرة، وهذا مذهب يحيى بن معين، والدارقطني كما في كتاب التتبع والإلزامات له، فإنهم يزعمون أو يرون أن الحسن البصري لم يرو عن أبي بكرة، وبناءً عليه يكون الحديث مرسلاً.

بينما مذهب علي بن المديني شيخ البخاري والبخاري نفسه رحمهم الله جميعاً: أن الحسن سمع من أبي بكرة، وأن مما سمع منه هذا الحديث .. وغيره.

ومما يقوي ذلك: أن الحسن قال: (إن أبا بكرة حدثه)، وكذلك هشام بن حسان روى عن الحسن، قال: (دخلت أنا وأنس بن مالك على أبي بكرة وهو مريض)، فهذا يدل على أنه قد لقيه وأخذ منه، وهذا هو الأقرب والله أعلم.

وبناءً عليه نقول: إن الحديث موصول وليس بمرسل، وأن اجتهاد البخاري رحمه الله في اعتبار الحديث متصلاً، وسياقه في صحيحه أنه رأي صحيح.

ولذلك قال الشافعي رحمه الله عن هذا الحديث، قال: إسناده حسن.

هذه المسألة الأولى، وهي ما يتعلق بسند الحديث.

المسألة الثانية: ما يتعلق بألفاظ الحديث:

أبو بكرة رضي الله عنه ما اسمه؟

نفيع بالتخفيف والتصغير، تصغير نافع، نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي , وهو من أهل الطائف، ولكنه عاش أكثر حياته بـالبصرة، ومات بـالبصرة أيضاً سنة اثنين وخمسين للهجرة, وله أخبار وقصص موجودة تبحث في مظانها في كتب التراجم، كـأسد الغابة، والإصابة، والاستيعاب.. وغيرها.

قول أبي بكرة رضي الله عنه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع. ما إعراب (وهو راكع)؟

حال، (وهو راكع) جملة حالية، يعني: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال ركوعه، حال كونه راكعاً في الصلاة.

قول النبي صلى الله عليه وسلم له: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ) هذا النهي في قوله: (ولا تعد) اختلف الشراح في معناه، فالأقرب: أنه من العود وهو الرجوع، نهاه أن يعود إلى شيء ما، وهذا الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يعود إليه الفعل: هو الإسراع في المشي إلى الصلاة، والسعي إليها، كما جاء في أحديث كثيرة: ( لا تأتوها وأنتم تسعون، وائتوها وأنتم تمشون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ).

وكذلك نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر آخر وهو الركوع دون الصف؛ لأنه ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؛ فنقول: إنه نهاه عن الإسراع في المشي؛ لأنه حفزه النفس، وارتفع نفسه وبان عليه، وكذلك نهاه عن الركوع دون الصف, ثم المشي إلى الصف, وقيل: نهاه عن التأخر عن الصلاة حتى يركع الإمام، وهذا ضعيف؛ لأنه لا دليل عليه ولا مناسبة له.

وقيل: إنه قال له: (ولا تعدُ) من العدو بضم الدال، يعني: لا تعدُ لا تسرع، لا تركض.

وقيل: إنها: ولا تُعِد، يعني: ليس عليك أن تعيد الصلاة، بل صلاتك صحيحة.

والراجح المختار هو الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن الإسراع بحيث حفزه النفس، ويحتمل أن يدخل في ذلك أنه نهاه عن الركوع دون الصف.