شرح عمدة الأحكام [78]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[كتاب اللباس:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تلبسوا الحرير، فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة).

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)].

هذا كتاب اللباس، وهذا الكتاب جعله في عمدة الأحكام من أحاديث خير الأنام بعد كتاب الأطعمة؛ وذلك لأن الجميع مما يحتاج إليه، ولأن اللباس من جملة ما أنعم الله به ومنّ به على المسلمين، بل على الأمة جميعاً، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً [الأعراف:26] ، فقسم اللباس إلى قسمين: قسم يستر به الإنسان العورة والسوءة، وقسم يكون رياشاً، يعني: جمالاً وزينة، وكلها مما أنعم الله به وامتن به على العباد، وإن كان ذلك من جملة ما ينسجونه ويعملونه، ولكن هو الذي أخرج لهم الأصل الذي هو مادة هذه الأكسية وهذه الألبسة، فهو الذي امتن عليهم بهذا الشجر الذي يخرج منه هذا القطن ونحوه، وامتن عليهم أيضاً بهذه الأنعام التي ينسجون منها هذه الأصواف وهذه الأكسية ونحوها، وامتن عليهم بالمواد التي يصنعون وينسجون منها هذه الأكسية.

الأصل في اللباس أنه على الإباحة، وأن الإنسان يلبس ما تيسر له، لكن وردت الشريعة بمنع اللباس لبعض الأنسجة ولبعض الأكسية، وأنها لا يجوز لبسها، وعلل ذلك بعلل، ومن جملتها لبس الحرير للرجال، وفي هذا الحديث النهي الصريح من النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبس الرجال الحرير، ويخبر بأن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة.

الحرير معروف أنه لباس يؤخذ من نسيج دود القز، هذا الدود دود صغير يتوالد ويكون مما يتولد منه هذا النسيج الذي ينسجه حتى يجعل له أماكن يكتن بها ويختفي فيها ويخفي فيها نفسه وبيضه وبذره، ومن المعروف أن العنكبوت له أيضاً نسج، وإن كان نسيج العنكبوت ليس مثل دود القز، بل أوهى لقوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، فكما أن العنكبوت تنسج ولها نسيج، فكذلك دود القز، فيؤخذ من نسيج دود القز هذا النسيج ويعمل منه هذا الحرير، وإذا نسج هذا الحرير فإنه لرقته ولنعومته وملوسته يكون ملبساً منعماً يفتخر به من يلبسه، وينعم به، فلذلك جاءت الأحاديث بالنهي عنه للرجال لما فيه من النعومة، وأبيح للنساء لحاجة النساء إلى الجمال، وإلى الزينة، فهذا هو السر في النهي عنه.

تكاثرت الأحاديث في نهي الرجال عن لبس الحرير، وورد الإذن فيه في بعض الأماكن والأحوال، ففي حديث آخر أن بعض الصحابة اشتكوا حكة في أجسادهم، ولم يناسبهم إلا الحرير، فرخص لهم في لبس الحرير؛ لأجل تلك الحكة، فأخذوا من ذلك أنه يجوز للعذر، كحكة وجرب ونحوه، وورد أيضاً الرخصة في الشيء اليسير منه، ومثلوا بسجف الفراء، الفرو المعروف قد تحتاج حافاته إلى أن تخاط بقطع من الحرير، وكذلك إذا كانت الرقعة التي يرقع بها الثوب يسيرة من الحرير قدر أربع أصابع أو أقل، وكذلك إذا كان الحرير ليس ظاهراً وإنما هو أسلاك خفية وهو ما يسمى بالسداء، إذا لم يكن ظاهراً.

في هذه الأزمنة يوجد بعض الأكسية تسمى حريراً، ولكنها ليست حريراً أصلياً، وإنما هي حرير صناعي كسائر الصناعات التي قلدت بها الأكسية الأصلية، فإذا وجدت هذه الأكسية ولم تكن حريراً أصلاً، وإنما هي صناعة مقلدة لذلك الحرير الأصلي؛ فالأصل فيها الإباحة، لأن النهي إنما ورد في الحرير الذي هو من نسج دود القز ونحوه.

أما بقية الحديث فذكر فيه أن من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، الله تعالى قد ذكر ثواب أهل الجنة في قوله تعالى: وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [الحج:23]، فجعل هذا اللباس الرقيق الناعم هو لباس وكسوة أهل الجنة، ومن تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، فمن تعجل هذا اللباس الذي هو الحرير، وأخذه في الدنيا كان من عقوبته أن يحرمه في الآخرة، وفي ذلك وعيد شديد: فقيل: إن المراد أنه يحرم دخول الجنة، وذلك لأن من دخل الجنة فإنه يتنعم بنعيمها، ولا يحرم شيء من لذاتها التي يتمتع بها أهلها، فإذا لم يلبسه دل على أنه ليس من أهل الجنة.

وقيل: إنه وإن دخل الجنة فإنه يكون في موضع لا يلبس أهله -أي: أو أهل ذلك المكان- من لباس أهل الجنة الذي أعد لهم، بل يلبسون غيره مما يتنعمون به أو يتجملون به.

يحرم استعمال أواني الذهب والفضة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صحافهما، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة)، وأراد بذلك النهي الأكيد عن استعمال هذه الأواني التي صنعت من الذهب أو من الفضة؛ استعمالها في الطبخ فيها أو الأكل فيها.

والصحاف هي التي توضع فيها الأطعمة، الأكل فيها كصحفة أو الاستعمال لها في شرب أو طهارة أو نحو ذلك، سواء كانت مما صنع من الذهب أو مما صنع من الفضة، وذلك لأن في ذلك كسر لقلوب الفقراء، إذا رأوا هؤلاء الأثرياء يشربون ويأكلون في أوان من ذهب أو من فضة، وهم يعوزهم لقمة العيش، ويعوزهم ستر العورة، ولا يجدون ذلك إلا قليلاً، وهؤلاء قد زادوا إلى هذا الحد؛ كان في ذلك كسر لقلوب الفقراء، والمسلم مأمور بأن يساوي إخوته، ولا يستعمل ما يضرهم، ولا ما يسيء إليهم، فهذا من الأسباب.

أو أن في ذلك إسرافاً، فإنه ما دام أن هناك ما يقوم مقامها من أواني النحاس والصفر، وأواني الحديد، وأواني المعادن الأخرى، فلا حاجة إلى أن تستعمل هذه الأواني بأي نوع من أنواع الاستعمال.

ولا شك أن هذا هو الأقرب، أن العلة في ذلك ما فيها من الإسراف، والبذخ، والغرور، والمباهاة، والفخر والافتخار بأنه يتمتع بكذا وكذا، ويعم كذلك أيضاً كل إسراف في استعمال شيء من الآلات التي فيها أو في ثمنها ارتفاع زائد، وإفساد للمال؛ وذلك لأنه يوجد من هو بحاجة إلى هذا المال الزائد.

وعلى كل حال علل في هذا الحديث بقوله: (فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) أي: أن استعمال هذه الأواني لأهل فارس والروم واليهود والنصارى والمشركين ومن شابههم، يتمتعون بها في الدنيا ويحرمون منها في الآخرة، وأنتم أيها المؤمنون الذين ستدخلون الجنة، وتتنعمون بها، وتلبسون ما تشاءون من الثياب والنعيم، وتأكلون فيما تشاءون من هذه الصحاف ونحوها.

ورد في بعض الأحاديث: أن الله تعالى خلق الجنة مائة درجة، يعني: مائة دور من الأدوار، درجة منها من ذهب آنيتها وأوانيها، وأبنيتها، وبلاطها، وكل ما فيها، ودرجة أخرى من فضة آنيتها، وفرشها، وبلاطها، وأبنيتها، ودرجة ثالثة من اللؤلؤ آنيتها وكل ما فيها، وبقية الدرجات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالمؤمن يطلب ذلك الثواب، ويترك ما يكون سبباً في حرمانه من هذا الثواب.

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، له شعر يضرب إلى منكبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالقصير ولا بالطويل).

وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام؛ ونهانا عن تختم بالذهب، وعن الشرب بالفضة، وعن المياثر، وعن القسّي، وعن لبس الحرير، والإستبرق، والديباج).

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اصطنع خاتماً من ذهب، فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه، فصنع الناس كذلك، ثم إنه جلس على المنبر، فنزعه فقال: إني كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه من داخل، فرمى به ثم قال: والله لا ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم)، وفي لفظ: (جعله في يده اليمنى)].

هذه أحاديث تتعلق باللباس، واللباس منه ما هو كسوة تعم البدن؛ كالثياب والقمص والأردية والأكسية، ويعم ما يكون على جزء من البدن كالعمائم والقلانس، ويعم أيضاً الأحذية والخواتيم والحلي، وذلك لأن الجميع يسمى لباساً، فيقال: لبس الخاتم، وخلع الخاتم أو نزعه، ويقال: لبس النعل أو الخف أو الجورب، وخلعه، فالجميع من اللباس، فيحتاج المسلم إلى أن يعرف ما يكون منه جائزاً وما ليس بجائز.

معلوم أن الأصل في الأكسية أنها مباحة، وأن الله تعالى أباح كل ما يستر العورة أو يلبس على البدن، سواء للزينة أو للستر والتغطية، أو للجمال، لكن ورد الشرع بالتنبيه على منع بعض الأشياء لعلة فيها محددة، وتحديد ذلك البعض الذي نهي عنه ليكون المسلم على بصيرة من دينه، فلا يتعاطى الشيء الذي ورد النهي عنه، مع العلم بأن الله لا يحرم إلا ما فيه ضرر، ولا يحرم الشيء الذي فيه منفعة، أو الذي يمكن أن يكون مفيداً، فإذا كان فيه مضرة راجحة على منفعته فإن الله يحرمه، وقد تكون العلة التي حرم لأجلها خفية، فالمسلم يرضى ويسلم.

حكم لبس اللباس الأحمر

الحديث الأول فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بالطويل ولا بالقصير، يعني: في صفة قامته، وأنه بعيد ما بين الكتفين، يعني: في صفة ذاته أو جسده، لكن الشاهد منه أنه رآه وقد ارتدى حلة حمراء، وهذا مما يستدل به على جواز اللباس الأحمر، ولكن قد وردت أدلة أخرى في النهي عن اللباس الأحمر، ففي حديث البراء الذي بعده أن من جملة المناهي السبع: المياثر، وهي أكسية وأردية حمر، فلعل تلك الحلة التي كان لبسها ليست حمراء فاقعة خالصة الحمرة، وإنما فيها خلط حمرة أو أسلاك حمراء، فالأصل أنها بيضاء أو أنها في الأصل ملونة أو حمرتها ليست خالصة، فلذلك لبسها، ولا يمكن أن ينهى عن الأردية أو الأكسية الحمر الخالصة ومع ذلك يلبس ما هو أحمر، فلا يمكن أن ينهى عن شيء ويفعله.

وبكل حال فإنه يجوز لباس الأحمر الذي ليس بخالص، ومثله في هذه الأزمنة هذه العمائم الحمر التي يرتديها الأغلب من الناس، فالأصل أنها بيضاء، ولكن فيها أخلاط مداخلة لها جعلت ظاهرها أو الغالب عليها اللون الأحمر، فيرتديها الرجال، ولا محذور في ذلك، فهي يمكن أن تكون مثل تلك الحلة التي ارتداها النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم لبس اللباس الأسود

ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء)، والعمامة ما يعم الرأس، أي: ما يجعل على الرأس، فاستدل بذلك على أنه يجوز لباس الأسود أحياناً، سواء كان على جزء من البدن أو على أكثر البدن إذا كان ذلك لمصلحة، وهذا دليل على جواز لباس ما هو أسود؛ سواء كان سواده خالصاً أو مخلوطاً.

الحديث الأول فيه صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه ليس بالطويل ولا بالقصير، يعني: في صفة قامته، وأنه بعيد ما بين الكتفين، يعني: في صفة ذاته أو جسده، لكن الشاهد منه أنه رآه وقد ارتدى حلة حمراء، وهذا مما يستدل به على جواز اللباس الأحمر، ولكن قد وردت أدلة أخرى في النهي عن اللباس الأحمر، ففي حديث البراء الذي بعده أن من جملة المناهي السبع: المياثر، وهي أكسية وأردية حمر، فلعل تلك الحلة التي كان لبسها ليست حمراء فاقعة خالصة الحمرة، وإنما فيها خلط حمرة أو أسلاك حمراء، فالأصل أنها بيضاء أو أنها في الأصل ملونة أو حمرتها ليست خالصة، فلذلك لبسها، ولا يمكن أن ينهى عن الأردية أو الأكسية الحمر الخالصة ومع ذلك يلبس ما هو أحمر، فلا يمكن أن ينهى عن شيء ويفعله.

وبكل حال فإنه يجوز لباس الأحمر الذي ليس بخالص، ومثله في هذه الأزمنة هذه العمائم الحمر التي يرتديها الأغلب من الناس، فالأصل أنها بيضاء، ولكن فيها أخلاط مداخلة لها جعلت ظاهرها أو الغالب عليها اللون الأحمر، فيرتديها الرجال، ولا محذور في ذلك، فهي يمكن أن تكون مثل تلك الحلة التي ارتداها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثبت: (أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء)، والعمامة ما يعم الرأس، أي: ما يجعل على الرأس، فاستدل بذلك على أنه يجوز لباس الأسود أحياناً، سواء كان على جزء من البدن أو على أكثر البدن إذا كان ذلك لمصلحة، وهذا دليل على جواز لباس ما هو أسود؛ سواء كان سواده خالصاً أو مخلوطاً.


استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2581 استماع
شرح عمدة الأحكام [29] 2579 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2517 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2499 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2439 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2368 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2354 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2338 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2329 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2328 استماع