شرح عمدة الأحكام [69]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب حد السرقة:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته -وفي لفظ: ثمنه- ثلاثة دراهم).

وعن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً)].

هذا الباب يتعلق بحد السرقة، والسرقة هي: أخذ المال من حرزه على وجه الاختفاء، ويُسمى الآخذ له لصاً، والمتلصص هو: الذي يسرق الأموال.

أنواع أخذ المال بغير حق

أخذ المال له عدة مسميات:

الأول: الغصب، فالذي يغتصب المال ويأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر يُسمى غاصباً، كأن يقول الإنسان: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك، أو يقهره فيأخذ ما معه من نقود أو من أي مال، هذا هو الغاصب، وحده: التعزير، فإذا قُدر عليه فإنه يُعزر، فيرد المال الذي أخذه، ويُعاقب عقوبة تردعه وتردع أمثاله، سواء بجلد أو بحبس أو بتنكيل أو بأخذ مال أو نحو ذلك؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بأن يقتل، زجراً له ولأمثاله.

الثاني: الاختطاف والنهب، وهو أن يهتبل الخاطف غفلة آخر فيختطف ما معه، فإذا كان إنسان عنده مال قد نشره في الأرض ليبيعه مثلاً، فجاء آخر إنسان واختطف منه شيئاً وهرب به، فمثل هذا يُسمى: مختطفاً ومنتهباً، وهذا النهب لا شك أنه ذنب كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب بما يرتدع به، فيرد المال الذي انتهبه ويُجلد أو يُحبس أو يُعزر أو يغرم مالاً، أو نحو ذلك.

الثالث: المختلس، وهو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ويأخذه وهو لا يدري، كأن يدخل إلى دكان -مثلاً- فإذا رأى صاحبه قد صد أخذ منه ثوباً أو نعلاً أو قدحاً أو نقداً أو نحو ذلك بخفية ويخرج كأنه لم يأخذ شيئاً، ولم يتفطن له صاحب المال، فهذا يُسمى: مختلساً، فإذا عُرف أو اعترف أو شُهد عليه أو رآه من شهد عليه فلابد من عقوبته، بأن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله، ويرد المال الذي اختلسه.

الرابع: السارق، وهو الذي تقطع يده، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وذكر في سورة يوسف في قوله تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [يوسف:75]، وكانت عقوبة أولاد يعقوب أنهم يسترقّون السارق، فإذا سرق السارق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقاً يتصرف فيه كبقية المال.

الحكمة في قطع يد السارق

جاء الشرع بقطع يد السارق حفظاً للمال أي: لأجل المحافظة على أموال المسلمين شرع قطع يد من سرق، ومعلوم أن قطعها يشين صاحبها، فإذا قطعت يده فإنه يبقى مشلولاً، ويبقى معيباً ليس له إلا يد واحدة، ولذلك لما رفع بعض السراق إلى بعض الولاة وعزم على قطع يده أنشد يقول:

يدي يا أمير المؤمنين أعيذها بعدلك أن تلقى عقاباً يشينها

فلا خير في الدنيا ولا في حياتها إذا ما شمال فارقتها يمينها

يمثل أنه إذا عاش بلا يمين فإن في عيشته وحياته تعب وبؤس، ولكن الله تعالى شرع العقوبة هذه حفظاً للأموال؛ وذلك لأنه إذا عرف أنه مقابل هذا المال القليل ستقطع يده الثمينة انزجر وارتدع، وخاف على يده، فترك السرقة ولم يتعد، فأمن الناس عند ذلك على أموالهم، فهذا هو السبب وإلا فإن من شرف اليد أن ديتها نصف دية الإنسان، فاليد الواحدة ديتها الآن خمسون ألفاً، ومع ذلك تقطع في ثلاثة دراهم أو نحوها، وما ذاك إلا أنها لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت وصغرت وذلت.

ذكروا أن أبا العلاء المعري اعترض على الشرع فقال: كيف تقطع اليد بربع دينار، وديتها خمسمائة دينار من العسجد يعني: من الذهب؟! وأنشد قوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

فردوا عليه وقالوا:

عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

شروط قطع يد السارق

ذكروا للقطع شروطاً لابد منها حتى يلزم القطع:

الشرط الأول: تكليف ذلك السارق، والتكليف هو: أن يكون بالغاً عاقلاً ملتزماً، فإذا سرق الصبي فلا قطع عليه؛ لأنه لم يتكامل عقله الذي يزجره عن السرقة، وكذلك إذا سرق المجنون فلا قطع عليه، وأما إذا سرق من مال الحربي فإن المجاهد له أن يأخذ من مال المحاربين ما يقدر عليه، فلا يقطع إذا قدر عليه، وإذا كان السارق كافراً محارباً فإنه يقتل.

الشرط الثاني: أن يكون المال محترماً، فإذا كان غير محترم أو لم يكن له قيمة فلا قطع عليه، فإذا سرق خمراً فلا قطع عليه؛ لأنه لا قيمة لها، ومثلها سائر المحرمات كالدخان والقات والنرجيل وما أشبهها مما لا قيمة لها في الشرع، فلا قطع على من سرقها.

وكذلك لو سرق آلات الملاهي كالعود والطنبور والطبول وما أشبهها، وكذلك لو سرق ما يجب إتلافه كالصور والأفلام التي فيها صور خليعة، وكتب الزندقة والإلحاد، والمجلات التي فيها خلاعة ومجون، وفيها إلحاد وزندقة، فهذه إذا سرقت فلا قطع على من سرقها؛ لأنه لا قيمة لها شرعاً، ولو أنها مقرة وتباع.

الشرط الثالث: بلوغ النصاب، فلابد أن يكون المسروق نصاباً، وقدر النصاب بأنه مقدار ربع دينار أو ثلاثة دراهم، والدينار هو: أربعة أسباع الجنية، وربعه معروف، فربع الدينار هو نصاب السرقة، ومن الدراهم الفضة ثلاثة دراهم، والدرهم: قطعة من الفضة صغيرة، فإذا بلغ المسروق نصاباً أو كانت قيمته نصاباً فإنه يقطع فيه السارق.

والمجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه ثلاثة دراهم، وثلاثة درهم هي ربع دينار؛ لأن صرف الدينار في ذلك الوقت كان اثني عشر درهماً.

والمجن هو: الترس الذي يلبسه المقاتل فوق رأسه، يُسمى مجناً ويُسمى مغفراً ويُسمى ترساً؛ لأنه يستر الرأس، ويكون على الرأس وعلى الأذنين ونحوها، وهو من حديد، فله ثمن، وهذا الرجل الذي سرق هذا الترس أو هذا المجن قطع بهذه السرقة فدل على أن هذا نصاب.

ومعلوم أن آلات الملاهي ليس لها قيمة في الشرع لا ربع دينار ولا ثلاثة دراهم؛ فلأجل ذلك لا قطع في سرقتها، ولا يغرمها من أتلفها. هكذا الحكم شرعاً.

الشرط الرابع: الحرز، فالمسروق لابد أن يكون محرزاً، فإذا أخذه من الشوارع والطرق فلا يُسمى سارقاً، وكذلك إذا وجد الباب مفتوحاً فدخل وأخذ قدحاً أو ثوباً فلا يُسمى سارقاً، وهكذا لو دخل الدكان فأخذ إناءً أو أخذ نعلاً أو شيئاً من المال قيمته نصاب فلا قطع عليه، وما ذاك إلا أنه لا يُسمى سارقاً؛ لأنه لم يسرقه من حرز، ومعلوم أن الأبواب التي تغلق تحرز ما في داخل البيت، فإذا كسر الباب ودخل فهذا قد أخذ من الحرز.

ومعلوم أن الأسوار حروز، فإذا صعد مع السور وقفز ودخل الدار فهذا قد هتك الحرز.

ومعلوم مثلاً أن الصناديق الكبيرة حروز، فإذا كسر الصندوق وأخذ ما فيه فإنه قد أخذ من الحرز، فيعتبر قد انطبق عليه اسم السارق الذي أخذ من الحرز.

وإذا وجد الغنم في زريبة ففتح الباب عليها وأخذ منها فقد أخذ من الحرز، وإذا وجدها مع الراعي فإن الراعي أيضاً هو الحرز، فإذا اهتبل غفلته وأخذ فإنه قد أخذها من الحرز.

وإذا وجد مالاً محرزاً بما يحرز به عادة كحجرة أو دار مقفلة أو نحو ذلك، فهتك ذلك الحرز وأخذ فإنه يصدق عليه أنه قد أخذ من الحرز، فيجب قطعه.

الشرط الخامس: انتفاء الشبهة: فإذا كان له شبهة في هذا المال فلا قطع عليه، فإذا ادعى أن هذا المال وقف على المساكين، وأنا من المساكين، وكان قوله صحيحاً فلا قطع عليه، وإذا سرق من مال غنيمة وهو من جملة الغانمين قبل أن يقسم فلا قطع عليه؛ وذلك لأن له شبهة، وكذلك لو كان ولده من جملة المقاتلين، وكما إذا سرق من مال له فيه حق كبيت المال، لأن له فيه حقاً، وهو من جملة المستحقين، أو سرق من وقفٍ على فئة هو منهم، كالوقف على الفقراء أو على المساكين أو على هؤلاء المسمين وهو من جملتهم، فلا قطع في مال له فيه شبهة، بل لابد أن تنتفي الشبهة.

الشرط السادس: ثبوت السرقة، وتثبت بأحد أمرين: بالبينة، وبالاعتراف، فإذا أقر واعترف بأنه الذي سرق فإنه تقطع يده.

وإذا أنكر وجحد، ولكن شهد عليه شاهدان فإنه تقطع يده، ولابد في الشاهدين من العدالة، والعدالة هي: أن يكون الشاهد ذكراً عدلاً موثوقاً مقبولاً خبره، فلا تُقبل شهادة عدو له مثلاً؛ لأنه يطعن فيه ويقول: هذا يحب الإضرار بي، وكذلك لا يشهد عليه فاسق غير مقبول الشهادة عند المسلمين وغير مقبول الشهادة عند الحاكم.

موضع قطع اليد

إذا ثبتت السرقة وتمت الشروط فإنها تقطع يده اليمنى، وتقطع من مفصل الكف، أي: يقتصر على قطع الكف من المفصل، ولا يؤخذ شيء من الذراع.

وذكروا أيضاً أنها تعلق حتى ينتشر خبره، فقيل: تعلق في صدره مدة، وقيل: تعلق في خشبة أمام الناس حتى يشتهر أمره.

وإذا قطعت فبعد القطع تحسم، والحسم هو: أن تغمس في زيت مغلي حار حتى تنسد مجاري العروق، لئلا يجري دمه فيموت، فهذا الحسم يوقف الدم.

وإذا وجد في هذه الأزمنة علاج يوقف الدم غير الزيت المغلي استعمل لإيقاف الدم؛ لأن المطلوب قطع يده، وليس المطلوب إماتته؛ لأنه غالباً لو ترك فسال دمه ولم يتوقف لقضى على حياته، فإذا سال دمه إلى أن ينقضي فسيموت، بخلاف ما إذا حُسم فإنه يتوقف، هذا هو الأصل.

ولاشك أن القطع خاص بالسرقة التي ثبتت فيها هذه الشروط وهذه الصفات، أما بقية الأشياء التي ذكرنا فإنه لا قطع فيها، وإنما فيها عقوبة تزجر عن أمثال هذا، ولا شك أن القطع حد شرعي؛ ولأجل ذلك شرع لأجل حفظ الأموال، فإن السارق إذا عرف أن يده ستقطع هانت عليه هذه الأموال التي سيتحصل عليها، ولكن الكثير من الناس لا ينتبهون لعاقبة الأمور، فيقدم وهو يعتقد أنه سيسلم، فيفتضح وتقطع يده، ثم قد لا ينتبه فتراه مرة أخرى يعود ويسرق، فبعد ما قطعت يده الأولى يسرق بيده الأخرى.

حكم من سرق مرة أخرى بعد أن قطعت يده

إذا سرق السارق للمرة الثانية فإنها تقطع قدمه، فتقطع نصف القدم، ويترك العرقوب وما يحاذي الساق من القدم حتى يطأ عليه.

ولو قدر أنه سرق للمرة الثالثة فالصحيح أنه لا تقطع يده؛ لأنه إذا قطعت يده بقي حسيراً لا يستطيع أن يأكل ولا أن يتناول حاجة، وهو بحاجة إلى إحدى يديه ليأكل بها، ويتنظف ويستنجي ويتطهر بها، فإذا قطعت تحسر، فإذا سرق للمرة الثالثة فإنه إما إن يُعزر وإما أن يُحبس إلى أن يتوب، وما روي من قطع يده اليسرى وقطع رجله اليمنى إذا تكرر منه فهذا لعلة عقوبة خاصة بذلك الشخص.

الحكمة من تشريع الحدود وإقامتها

قطع يد السارق من حماية الشريعة الإسلامية لمصالح المسلمين، فإنهم بحاجة إلى من يحمي لهم مصالحهم، وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أموالهم، فشرع القطع لحماية الأموال.

وهم بحاجة إلى من يحمي لهم دماءهم؛ فشرع القصاص حماية للدماء.

وهم بحاجة إلى من يحمي لهم أعراضهم وسمعتهم؛ فشرع الجلد الذي هو حد الفرية والقذف حماية للأعراض.

وهم بحاجة إلى من يحمي لهم الأنساب؛ فشرع رجم الزاني أو جلده حماية للأنساب؛ لأن الزنا يسبب أن تختلط الأنساب هذا بهذا، فإذا زنى هذا بامرأة هذا وحملت صار ينفق على غير ولده، فينتسب إليه غير ولده، فحماية الأنساب أمر يهتم به المسلمون.

كذلك أيضاً لحماية العقول شرع عقوبة تزجر من يتهاون بعقله، وهو حد الشرب؛ لأن الخمر تزيل العقل، فشرعت العقوبة التي تحفظ على المسلم عقله، بجلد من شرب حتى يتوب، وهذا ونحوه دليل على كمال هذه الشريعة.

أخذ المال له عدة مسميات:

الأول: الغصب، فالذي يغتصب المال ويأخذه بالقوة وبالغلبة وبالقهر يُسمى غاصباً، كأن يقول الإنسان: أعطني كذا من المال وإلا قتلتك، أو يقهره فيأخذ ما معه من نقود أو من أي مال، هذا هو الغاصب، وحده: التعزير، فإذا قُدر عليه فإنه يُعزر، فيرد المال الذي أخذه، ويُعاقب عقوبة تردعه وتردع أمثاله، سواء بجلد أو بحبس أو بتنكيل أو بأخذ مال أو نحو ذلك؛ حتى لا يجرأ أحد على أخذ المال بغير حق، وإذا تكرر ذلك منه جاز تعزيره ولو بأن يقتل، زجراً له ولأمثاله.

الثاني: الاختطاف والنهب، وهو أن يهتبل الخاطف غفلة آخر فيختطف ما معه، فإذا كان إنسان عنده مال قد نشره في الأرض ليبيعه مثلاً، فجاء آخر إنسان واختطف منه شيئاً وهرب به، فمثل هذا يُسمى: مختطفاً ومنتهباً، وهذا النهب لا شك أنه ذنب كبير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)، ومتى قدر على هذا المنتهب فإنه يعاقب بما يرتدع به، فيرد المال الذي انتهبه ويُجلد أو يُحبس أو يُعزر أو يغرم مالاً، أو نحو ذلك.

الثالث: المختلس، وهو الذي يهتبل غفلة الإنسان الذي عنده مال ويأخذه وهو لا يدري، كأن يدخل إلى دكان -مثلاً- فإذا رأى صاحبه قد صد أخذ منه ثوباً أو نعلاً أو قدحاً أو نقداً أو نحو ذلك بخفية ويخرج كأنه لم يأخذ شيئاً، ولم يتفطن له صاحب المال، فهذا يُسمى: مختلساً، فإذا عُرف أو اعترف أو شُهد عليه أو رآه من شهد عليه فلابد من عقوبته، بأن يعزر بما يرتدع به هو وأمثاله، ويرد المال الذي اختلسه.

الرابع: السارق، وهو الذي تقطع يده، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]، وذكر في سورة يوسف في قوله تعالى: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [يوسف:75]، وكانت عقوبة أولاد يعقوب أنهم يسترقّون السارق، فإذا سرق السارق فإن المسروق منه يؤخذ رقيقاً يتصرف فيه كبقية المال.