شرح عمدة الأحكام [39]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وأسامة بن زيد ، وبلال ، وعثمان بن طلحة فأغلقوا عليهم الباب، فلما فتحوا الباب كنت أول داخل، فلقيت بلالاً فسألته: هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. بين العمودين اليمانيين) .

وعن عمر رضي الله عنه: (أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا ما بين الركنين، ولم يمنعهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم) .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -حين يقدم مكة- إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف. يخب ثلاثة أشواط) .

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن) .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين)].

هذه الأحاديث تتعلق بالطواف بالبيت وما يتصل به، ومعلوم أن البيت الحرام هو الذي شرفت به مكة، فهو أشرف بقعة على وجه الأرض، هذا البيت هو الذي فرض الله حجه، فرض الله السفر إليه، وفرض التعبد حوله، وجعل قصده عبادة من العبادات، وجعل التوجه نحوه في الصلاة فرضاً على كل مسلم في شرق الأرض وفي غربها، أن يستقبلوه لشرفه، وأخبر تعالى بأنه بيته، وأضافه إلى نفسه فقال تعالى: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [الحج:26] ، أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ [البقرة:125] ، وأمر بعبادته لأنه ربه فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ [قريش:3] فهذا البيت الذي هو البيت الحرام الكعبة المشرفة له هذه الميزة.

وفي هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت في غزوة الفتح، لما فتح مكة في سنة ثمان واستولى عليها، أراد أن يدخل البيت الحرام، وكانت السدانة ومفتاحه عند بني عبد الدار، وكان الذي عنده المفتاح في ذلك الوقت هو أحد بني عبد الدار، ويقال له: عثمان الحجبي .

فسدنة الكعبة يقال لهم (الحجبة)؛ لأنهم يحجبون الناس عنها، فطلب المفتاح من عثمان هذا، ولما أخذ المفتاح خاف بنو عبد الدار أن لا يرده عليهم، وقالوا: إنه أمانة. فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] فرده إليهم، وأصبحوا هم سدنة الكعبة.

ودخل الكعبة لأجل أن يطهرها مما كان قد أدخله المشركون فيها، فوجد فيها صورة إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بالأزلام، فدعا بماء فمحا تلك الصور، ولو كانت صورة الخليل وإسماعيل، ومحا الأزلام التي صورا على أنهما يستقسمان بها، وقال: (قاتلهم الله! والله ما استقسما بها قط) ، والاستقسام بالأزلام عادة جاهلية، جعلها الله من العادات السيئة، وقرنها بالخمر في قوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] وقال: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ [المائدة:3] .

ثم لما دخلها صلى ركعتين بين العمودين؛ لأنها كانت على ستة أعمدة في ذلك الوقت، ولما خرجوا منها كان ابن عمر أحرص على أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسأل بلالاً : أين صلى؟ فذكر له أنه صلى بين العمودين المتقدمين، حرصاً منه على أن يصلي في موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ونسيت أن أسأله كم صلى الله عليه وسلم. وفي بعض الروايات أنه صلى ركعتين.

وعلى كل حال فإنه لا يلزم كل أحد أن يدخل داخل الكعبة، ومن تيسر له فدخلها فله أن يصلي فيها ركعتين، ولا يلزم الدخول، وروي: (أن عائشة طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن تدخل البيت، فقال لها: صلي في الحجر؛ فإن الحجر من البيت) والحجر: هو حجر إسماعيل الذي في شمال البيت، فهذا بعضه من البيت، ومن صلى فيه فكأنه صلى داخل الكعبة.

وقد روي -أيضاً- أنه لما دخلها تأسف على دخولها، وقال: (أخشى أن أشق على أمتي) يعني: أن يعتقدوا أن دخولها سنة فيزدحموا عليها، فبين أنه لا يلزم دخولها، وإنما دخلها ليطهرها.

وقد ذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يجوز أن يصلي الفرض في داخلها، وأن من صلى الفرض في داخل البيت أو داخل الحجر لا تصح صلاته، وذلك لأنه لم يستقبل البيت كله، بل جعل بعضه خلف ظهره، والمصلي لا بد أن يستقبله كله، أما النافلة فيتسامح فيها، فيجوز استقبال جزء من الكعبة.

الحديث يتعلق باستلام الحجر الأسود الذي هو في أحد أركان البيت، وهو في الركن الجنوبي الشرقي، هذا الحجر قد روي أنه من حجارة الجنة، وأنه لما نزل من الجنة كان أبيض من الثلج فسودته خطايا بني آدم، ولعل ذلك من باب المبالغة، فالصحيح أنه هكذا كان منذ أن وضع.

وقد شرف بأنه يستلم أو يقبل أو يشار إليه، وليس على وجه الأرض شيء يسن تقبيله إلا هذا الحجر الأسود، وتقبيله ليس لذاته، وإنما هو للاتباع، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قبله أخبر بأن تقبيله إنما هو اتباع لا لاعتقاد، فقال: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)، فجعل تقبيله من باب الاتباع لا من باب التعظيم له وذلك لأن عمر أدرك الجاهلية، وعرف أنهم يعظمون الأشجار والأحجار ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع، فبين أن هذا كسائر الحجارة، وتقبيله لا لذاته.

مشروعية تقبيل الحجر الأسود وكيفيته

ما ذكره عمر يبين أنه يسن تقبيله، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عنده فقبله بأن وضع شفتيه عليه دون أن يظهر تصويتاً بالتقبيل، ولما رآه عمر ، قال: (يا عمر ! هاهنا تسكب العبرات)، فلأجل ذلك كان بعض الصحابة يحرص على تقبيله، ومنهم عبد الله بن عمر ، وكان يزاحم عليه حتى يقبله، ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحجر الأسود والركن اليماني: (إن مسحهما يحط الخطايا)، ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : (إني أراك رجلاً قوياً، فلا تزاحم على الحجر، إن وجدت سعة فقبل أو فاستلم، وإلا فأشر وامضِ) ، فإذاً إن وجدت سعة وتيسر لك أن تقبله فقبله، فإن كان هناك زحام وقدرت على أن تستلمه بيدك -أي: تمسه بيدك- اليمنى وتقبلها كفى ذلك، وإن كان عليك مشقة وقدرت أن تستلمه بمحجن أو بعصا اكتفيت بذلك وقبلت العصا، فإذا لم يتيسر لك ذلك اكتفيت بالإشارة إليه مع التكبير دون أن تقبل شيئاً.

ما ذكره عمر يبين أنه يسن تقبيله، وثبت أنه صلى الله عليه وسلم وقف عنده فقبله بأن وضع شفتيه عليه دون أن يظهر تصويتاً بالتقبيل، ولما رآه عمر ، قال: (يا عمر ! هاهنا تسكب العبرات)، فلأجل ذلك كان بعض الصحابة يحرص على تقبيله، ومنهم عبد الله بن عمر ، وكان يزاحم عليه حتى يقبله، ويروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحجر الأسود والركن اليماني: (إن مسحهما يحط الخطايا)، ولكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : (إني أراك رجلاً قوياً، فلا تزاحم على الحجر، إن وجدت سعة فقبل أو فاستلم، وإلا فأشر وامضِ) ، فإذاً إن وجدت سعة وتيسر لك أن تقبله فقبله، فإن كان هناك زحام وقدرت على أن تستلمه بيدك -أي: تمسه بيدك- اليمنى وتقبلها كفى ذلك، وإن كان عليك مشقة وقدرت أن تستلمه بمحجن أو بعصا اكتفيت بذلك وقبلت العصا، فإذا لم يتيسر لك ذلك اكتفيت بالإشارة إليه مع التكبير دون أن تقبل شيئاً.

في هذا الحديث أن الصحابة لما قدموا سنة سبع لعمرة القضية، وكانوا قد جاءوا إلى مكة سنة ست معتمرين صدهم المشركون، واصطلحوا على أن يأتوا في سنة سبع ويعتمروا، وتسمى عمرة القضية.

فلما جاءوا في سنة سبع وكان المشركون بمكة لا يزالون معادين للمسلمين ولا يزالون يحقرونهم ويمقتونهم ويبغضونهم، فأرادوا أن يصغروا شأنهم عند جهلة أهل مكة حتى لا يقع في قلوبهم لهم شيء من الهيبة، فقالوا لسفهائهم: يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب. أي: أن محمداً وأصحابه يأتونكم وهم ضعاف هزيلون، مرضى، قد أضعفتهم حمى المدينة، وقد أوهنتهم، وقد أنهكت قواهم، فهم ضعاف فلا تهابوهم، ولا تخشوا منهم، ولا يكن في قلوبكم شيء من الهيبة لهم، ولا تخافوا من سطوتهم عند القتال.

هكذا أرادوا أن يحقروا شأنهم عند سفهائهم، فسمع بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يظهر قوة المسلمين، وأراد أن يبطل ما يظنه المشركون من ضعفهم ومن هزالهم ومن مرضهم، فأمر الصحابة أن يرملوا في الأشواط الثلاثة.

فالطواف بالبيت سبعة أشواط، فأمرهم أن يرملوا في الثلاثة الأول، أي: يسرعون فالرمل هو إسراع المشي مع مقاربة الخطا، وهز المنكبين، وهو دليل على الجلد ودليل على القوة ودليل على النشاط، والمشركون كانوا ينظرون إليهم من عند جبل قعيقعان الذي هو في شمال البيت، وكان في المكان الذي يعرف الآن بالشامية أو ما جاورها، كانوا جلوساً في ذلك المكان المرتفع ينظرون إلى الصحابة وهم يطوفون، فكانوا في مكان مرتفع، والبيوت التي بينهم وبين الكعبة منخفضة لا تحول بينهم وبين النظر إليهم، فلما رأوهم يطوفون وهم يرملون ذلك الرمل، ويسرعون ذلك الإسراع هابوهم، وقالوا: كيف تقولون: إن الحمى قد وهنتهم؟! ما هم إلا كالغزلان. أي: في سرعتهم وفي قوتهم، فكان ذلك مضعفاً لما في قلوبهم من احتقار الصحابة واحتقار المسلمين، وموقعاً في قلوبهم هيبة الإسلام وهيبة المسلمين وتخوفيهم من سطوتهم.

وإذا كانوا بين الركنين مشوا؛ لأنهم في ذلك المكان يستخفون عن المشركين الذين هم في جهة الشمال، فيمشون بين الركنين اليمانيين، فإذا برزوا للمشركين بعدما يتجاوزون الحجر بدءوا في الرمل، وهكذا حتى تموا ثلاثة أشواط وهم يسرعون، ولم يمنعه أن يرملوا الأشواط السبعة إلا الإبقاء عليهم، أي: إلا الرفق بهم وترك المشقة؛ لأنهم لو استمروا السبعة الأشواط كلها في رمل لشق ذلك عليهم مع ما فيهم من كبر السن ومن جهد السفر ونحو ذلك.

وعلى كل حال فما قصد بذلك إلا غيض المشركين، وأصبحت هذه سنة، فأصبح كل من قدم إلى مكة أول ما يبدأ بالطواف يرمل الثلاثة الأشواط، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة في حجة الوداع وابتدأ في طواف القدوم خب ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، والخبب هو الرَمَل -أي: الإسراع-، وذلك ليعيد تلك الذكرى التي فعلها عندما قال أهل مكة ما قالوا، فنحن عندما نرمل نتذكر أولاً ما كان عليه المشركون من العداوة للمسلمين، ونتذكر -أيضاً- ما يظهره المسلمون من الجلد والقوة التي فيها إغاظة الكافرين، ونظهر -أيضاً- قوتنا ونشاطنا في هذه العبادة، لذلك أصبح كل من قدم مكة أول ما يطوف بالبيت يرمل ثلاثة أشواط.

وروي أن عمر رضي الله عنه لما كان في خلافته قال: ما لنا وللرمل! وما لنا بإبداء المناسك -يعني: الاضطباع- وقد أذهب الله المشركين وأذهب ما كنا نظهر لأجلهم! ثم قال: سنة فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لا نتركها.

إذاً أصبح هذا من السنة، أي: الرمل أصبح سنة وإن كان قد انقضى سببه.