شرح عمدة الأحكام [25]


الحلقة مفرغة

معنى الكسوف وأسباب حدوثه

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب صلاة الكسوف.

عن عائشة رضي الله عنها: (أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث منادياً ينادي: الصلاة جامعة. فاجتمعوا، وتقدم فكبر، وصلى أربع ركعات في ركعتين، وأربع سجدات) .

وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولا لحياته، فإذا رأيتم منهما شيئاً فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم). والله أعلم].

هذا باب صلاة الكسوف، ويطلق الكسوف والخسوف على انمحاء النيرين، المحو الذي يكون في النيرين -الشمس والقمر- يسمى كسوفاً وخسوفاً، وقد ذكر في القرآن باسم الخسوف في قوله تعالى: وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة:8] ، وهذا الخسوف من الحوادث التي تحدث في هذه الكواكب التي سيرها الله تعالى وجعلها آية لعباده، يقول الله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5] يعني أنهما سائران بحساب محدد. ويقول في آية أخرى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38] أي: تجري إلى مستقر لها. ثم يقول: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، فهذه الكواكب التي يسيرها الله في هذا السماء هي مسيرة ومذللة بأمر الله تعالى، يشاهدها العباد تطلع وتغرب، ويشاهدون الشمس والقمر تارة مجتمعين ببعضهما كأول الشهر أو آخره، وتارة يكون بينهما بعد ما بين المشرقين، فتكون الشمس في المشرق والقمر في المغرب، أو بالعكس، وذلك دليل على أنهما يسيران بحسبان، فالقمر له منازل، كما في قوله: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ [يس:39] يعني: جعلنا له كل ليلة منزلة ينزلها. فهذا دليل على أن الله هو الذي يسيرها ويسخرها كما شاء، قال تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الرعد:2] أي: كل منهما جار إلى أجل مسمى محدد بأمر الله تعالى.

وأجرى الله تعالى العادة بأنه يحصل اضمحلال في هذين النيرين - الشمس والقمر-، يحصل هذا الاضمحلال والمحو الذي يسمى كسوفاً وخسوفاً، ولا شك أن حصوله تغير ظاهر مشاهد معروف، هذا التغير الظاهر لابد أنه آية من آيات الله.

وبين أيدينا هذا الحديث الذي ذكر فيه أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وآيات الله بمعنى الدلالات التي نصبها لعباده ليستدلوا بها على كمال قدرته، وعلى وحدانيته، وعلى أنه المتصرف في الكون وحده دون غيره، فإذا عرف العباد ذلك استدلوا على عظمته وجلاله بهذه الأشياء، فهذا تسميتها آيات، فهما آيتان من آيات الله، أعني الآيات الكونية التي يشهدها العباد ويرونها.

وهذه الآيات التي جعلها الله علامات ودلالات على كمال قدرته وكمال تصرفه يعتريها هذا التغير الذي أجراه الله وجعل له أسباباً خفية أو جلية، وأمرهم إذا شاهدوا هذه الأسباب أن يحدثوا عبادة، وأن يحدث لهم شيء من الخوف وشيء من الوجل، وذلك لأن هذا التغير يحدث تغييراً في النفوس، فيكون ذلك سبباً للخوف، ودليل ذلك قول الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] أي: ما نحدث من الآيات الكونية في النيرين وفي السماء وفي الأفلاك وفي النجوم إلا لأجل أن يخاف العباد، فإذا رأوا هذه الأمور متجددة يتجدد لهم الخوف من الله تعالى وتوقيره وتعظيم حدوده.

ولا شك أن الخوف يسبب انزعاجاً في النفوس، هذا الانزعاج لابد أن يفزع العباد فيه إلى عبادة ربهم، ومعلوم أن العبادة تتمثل في الصلاة، والصلاة هي أمثل العبادات وأشهرها وآكدها، فلذلك شرعت في الكسوف صلاة تسمى باسمه (صلاة الكسوف)، وهذه الصلاة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبتت عن صحابته ثبوتاً قطعياً كثبوت كسوف الشمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لما مات ابنه إبراهيم ، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم . فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى بهم صلاة الكسوف، وأخبرهم بأن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، إنما هما آيتان مما يخوف الله به عباده، فلا يجعلوا سببهما موت فلان أو ولادة فلان أو غير ذلك، بل عليهم أن يعتبروهما من الآيات والدلالات، ويعتبروهما من أسباب التخويف.

قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة) ، وفي بعض الروايات أنه حث على الذكر وعلى الصلاة والصدقة والعتق والأعمال الصالحة التي تكون سبباً للنجاة؛ مخافة أن يكون ذلك قرب الساعة أو قرب عذاب، أو مقدمة بين يدي عذاب شديد أثاره غضب الله تعالى على العباد بسبب معاص اقترفوها، فعليهم أن يفزعوا إلى الصلاة.

نقول بعد ذلك: هذا الكسوف الذي يحدث للشمس ويحدث للقمر له أسباب، وأسبابه قد تعرف بواسطة السير وتسيير الشمس والقمر، ولكن معرفتها ومعرفة تحديد أوقاتها لا يدل على أنها ليست آية من آيات الله، ولا يدل على أنها ليست مما يخوف الله به العباد، بل هي آيات الله، وآيات كونية، وهي مما يحصل به التخويف، ولكن مع ذلك كله قد تعرف أسبابها بالحساب وبالمقدمات وبسير الشمس والقمر.

وقد ذكروا أن سبب كسوف الشمس أن القمر في آخر الشهر قد يحول بيننا وبينها، وذلك لأن سير الشمس أسرع من سير القمر، فتدركه وهو سائر؛ لأن القمر في أول الشهر قد يكون أمامها -مثلاً- أو في آخر الشهر فتدركه، فإذا أدركته حال بينها وبيننا، فإذا حال بينها وبيننا عند ذلك اختفت الشمس أو اختفى جزء منها، فاختفى ضوؤها ونورها، فذلك هو الكسوف.

ولا شك أن هذا -أي: الحيلولة دونها- آية من آيات الله، فكيف بقمر هذه علاماته وهذه آثاره، ومع ذلك يغطي ضوء الشمس أو جزءاً من ضوئها، وذلك يسبب لنا الخوف، ويسبب لنا الانزعاج ونحو ذلك.

أما كسوف القمر فذكروا أن الشمس تنير القمر وتضيئه، وأن ضوءه يأخذه من الشمس، فيستمد ضوءه ونوره من الشمس، ففي وسط الشهر تحول الأرض بينه وبينها، فلا تحصل مقابلته لها حتى يشع فيه نورها، فيحصل بذلك هذا الانمحاء الذي في القمر أو في جزء منه.

ولا شك -أيضاً- أن هذا آية من آيات الله، كيف أن هذا الجرم الكبير يحال بينه وبين هذه الشمس البعيدة التي هي بعيدة عنه، أجرى الله ذلك بقضاء وقدر، فما دام كذلك فإنه مما يخاف من حدوثه، ومما يوجب على المسلمين أن يحدثوا عبادة تدل على تعظيمهم لما عظم الله، وخوفهم من آيات الله التي تتجدد، والتي يخشى أن يكون وراءها غيرها، كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53] يعني: نطلعهم على آيات وبراهين ودلالات وحوادث جديدة في الآفاق التي هي الأفق الغربي والشرقي ونحوهما، ونريهم -أيضاً- آيات في أنفسهم، فليعتبروا بذلك.

كيفية صلاة الكسوف

إذا حصل الكسوف شرعت هذه الصلاة التي تسمى صلاة الكسوف، وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفة في أغلب الصحيحين أنه صلاها ركعتين، كرر الركوع في كل واحدة مرتين كما هو معروف، فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ قراءة طويلة دون الأولى، ثم ركع ركوعاً ثانياً، ثم رفع رفعاً عادياً، ثم سجد سجدتين سجوداً عادياً إلا أنه يطوله، ثم قام للركعة الثانية، ثم ركع، ثم رفع فقرأ قراءة طويلة دون الثانية، ثم ركع، ثم رفع فقرأ قراءة طويلة دون الثالثة، ثم ركع، ثم رفع رفعاً عادياً، ثم سجد سجدتين. فهذه صفة من صفاتها، وهي أشهرها.

وهناك روايات في صحيح مسلم وفي السنن أنه ركع في كل ركعة ثلاثاً، أي أنه قرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم رفع فقرأ ثم ركع، ثم سجد، ثم قام للركعة الثانية فقرأ ثم ركع، ثم قرأ وركع، ثم قرأ وركع، ثم رفع وسجد، فيكون قد كرر الركوع ثلاث مرات، وهذا -أيضاً- ثابت في الصحيح.

وفي رواية أخرى أنه كرر الركوع أربعاً، فقرأ وركع، ثم قرأ وركع، ثم رفع وقرأ وركع، ثم رفع وقرأ وركع، أربع مرات في كل ركعة، وكل ذلك ثابت.

وحمل ذلك على أنها تعددت الوقعات، أي أن الكسوف وقع متعدداً ولو لم ينقل، ولو أنكر ذلك بعض العلماء الأجلاء كشيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإن الروايات الصحيحة الثابتة التي رويت من طرق واضحة لا يمكن أن ترد بتلك الاحتمالات، فالصحيح أننا نقول: إنه تعدد الكسوف، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بالمدينة عشر سنين، وخلال هذه العشر لابد أن يقع كسوف للشمس وكسوف للقمر في كل سنة كما هو واقع، أو في كل سنة مرتين، أو في كل سنتين مرة، وفي كل مرة لابد أن يصلي، فتلك الصلاة تارة يطيل فيها ويكرر الركعات ونحوها، وتارة لا يفعل ذلك، بحسب ما يقتضيه الحال.

مميزات صلاة الكسوف

وهذه الصلاة التي شرعت تميزت بميزات خاصة، منها إطالة الأركان، حيث إن القيام يكون طويلاً -أعني القيام الأول-، حتى قال بعضهم: إنه بقدر سورة البقرة. وسورة البقرة طويلة، والقيام الثاني أقل منه، أي: بقدر سورة آل عمران، وسورة البقرة جزءان وقريب من النصف، وسورة آل عمران نحو جزء وربع أو جزء وثلث، وبكل حال فهي أقل من سورة البقرة بكثير، فجزء وربع أقل من جزئين وزيادة.

فالقيام الأول في الركعة الثانية لو أطاله -مثلاً- بقدر سورة المائدة فهي أقل بكثير من سورة آل عمران، وبعد ذلك إذا قرأ سورة الأنفال في القيام الأخير فلا شك أن هذه القراءة تستدعي ساعتين أو أكثر من ساعتين، سيما مع الترتيل، وكان عليه الصلاة والسلام يرتل القراءة، وسيما مع إطالة الأركان، فيذكرون أنه إذا ركع أطال الركوع، فيمكن أن يكون الركوع في ربع ساعة أو قريباً من ذلك، والسجود كذلك، ففي كل سجدة من أربع سجدات قد يمكث فيها ربع ساعة، أو على الأقل عشر دقائق ونحو ذلك، وهكذا الرفع الذي قبل السجود، وهكذا الجلسة بين السجدتين قد يجلس فيها -أيضاً- هذا المقدار، فلا شك أن ذلك يستدعي مدة طويلة، فيدل على أنه أطالها، ولأجل ذلك ذكروا أن الشمس قد انخسفت ولم يبق لها ضوء لما حصل الكسوف، ثم لما انتهى من الصلاة كانت الشمس قد تجلت، قد تجلى ذلك الانكساف الذي بها.

ولا شك أنها عادة إذا خسفت -والقمر كذلك- قد تمكث ثلاث ساعات، وربما أربع ساعات أو ثلاثاً ونصفاً، فيدل على أنه أطال أركان هذه الصلاة، وأنه مدها مداً طويلاً، وهذا في الروايات التي فيها أنه لما حصل الكسوف كرر الركوع، أي: ركع ثلاث مرات، أو ركع أربع مرات، ولعل ذلك لمعرفته أن ذلك الكسوف يمتد ساعات، فأراد أن يصلي إلى أن يزول الكرب، ولأجل ذلك ورد في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال: (إذا رأيتم ذلك فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم).

فاستمر على هذا حتى تجلت الشمس وانكشف الكسوف، فلما انكشف سلم، أو علم أنه قد انكشف أو قارب الانكشاف وانقضت صلاته، وبعد صلاته عليه الصلاة والسلام حدثهم ببعض ما جرى له، وذلك لأنه في تلك الصلاة رأوا منه أشياء أنكروها، رأوا منه أنه تقدم وهو في الصلاة، ولما تقدم مشوا وراءه إلى أن وصل إلى قرب الجدار، ثم رأوه بعد ذلك تقهقر-أي: مشى وراءه- فتقهقروا وراءهم حتى ردهم الجدار الخلفي، فأخبر بأنه رأى الجنة، وأنه أراد أن يتناول منها، وذلك هو الذي حمله على أن تقدم، وأنه رأى النار، ثم لما رآها تقهقر خوفاً من لهبها، وذلك لما رأوه مشى وراءه.

وأخبرهم في تلك الخطبة أنه رأى أشياء في النار، رأى فيها المرأة التي عذبت في هرة ربطتها حتى ماتت جوعاً، لم تطعمها ولم تتركها تأكل من خشاش الأرض، فرآها تعذب بها، ورأى سارق الحاج الذي هو صاحب المحجن الذي يعلق فيه الأمتعة ويجرها، فإذا فطنوا له قال: تعلق به المحجن دون قصد. وإذا لم يفطن له أخذه، ورآها فيها عمرو بن لحي بن خندف الذي غير دين إبراهيم عليه السلام، رآه يجر قصبه في النار، وهذا دليل -أيضاً- على أنه عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة خطبهم أو ذكرهم تذكيراً يفيدهم ما يعملون وما يفعلون في هذه الصلاة، وكذلك ما يجعلهم يخافون.

وهذه المكاشفات التي حصلت له، والتي فيها هذا التخويف لا تحصل لغيره؛ لأنها من خصائصه، كونه كشف له عن الجنة، وكشف له عن النار، لا يحصل هذا إلا له عليه الصلاة والسلام، لذلك أخبر بما رآه، وعلى كل حال فهذه الصلاة التي هي صلاة الكسوف من ذوات الأسباب، تفعل عند وجود سببها، ولا تفعل إلا عند كسوف الشمس أو كسوف القمر.

حكم صلاة الكسوف عند الزلازل ونحوها

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الكسوف عند حدوث زلزال وقع في بعض البلاد، فلما حصلت زلزلة في بلد من بلاد المسلمين صلى، أو أمر بصلاة كصلاة الكسوف، فأجاز ذلك بعضهم، أما بقية الحوادث فلا تصلى صلاة الكسوف، فلو حصلت عواصف ورياح شديدة، ولو كانت تقلع الدور، أو تحمل الأمتعة لا يشرع لها صلاة كسوف، وإنما يشرع الدعاء والذكر والصلاة التي هي صلاة عادية مفردة، أو ما أشبه ذلك.

كذلك لو حصل غرق، أو حصلت صواعق مغرقة أو ما أشبه ذلك لا يشرع -أيضاً- أن تصلى صلاة الكسوف، إنما صلاة الكسوف وردت في خسوف أحد النيرين، وصلاة ابن عباس عند حصول الزلزلة اجتهاد منه، وإن صلي فلا بأس بذلك عند الزلازل ونحوها.

إطالة صلاة الكسوف

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الأخرى مثلما فعل في الركعة الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تنخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله سبحانه من أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)، وفي لفظ: (فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات) .

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (خسفت الشمس على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة حتى أتى المسجد، فقام فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته يفعله في صلاة قط، ثم قال: إن هذه الآيات التي يرسلها الله تعالى لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئاً فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)].

هذه الأحاديث من تمام الأحاديث التي تتعلق بصلاة الكسوف، وقد ذكرنا أن الكسوف هو انخساف أحد النيرين الشمس والقمر، وفي هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين في كل ركعة ركوعان وسجودان، ولكن ذكر فيه أنه أطال القيام وأطال الركوع إطالة لم تكن معهودة، كان من آثارها أنه لما انصرف كانت الشمس قد تجلت، مع أنها لما كسفت أظلمت الدنيا، مما يدل على أنها اضمحلت، بمعنى أن الكسوف قد عم الشمس حتى لم يبق لها ضوء ولا نور، ولا شك أنها إذا كانت كذلك تستمر نحو ثلاث ساعات أو أكثر لا تتجلى، فدل على أنه أقام في هذه الصلاة ما لا يقل عن ثلاث ساعات أو قريباً منها، وذلك يستدعي إطالة القيام، وقد ذكرنا أن بعضهم قدره بسورة البقرة -أي: في الركعة الأولى-، وأنه في القيام الثاني في الركعة الأولى أطال القيام أيضاً، ولكن دون القيام الأول، وكذلك القيام الأول من الركعة الثانية دون القيام الثاني من الأولى، وأقلها القيام الرابع الذي هو في الركعة الثانية، وعلى كل حال فلا شك أنه أطال القراءة في هذا القيام، وهكذا -أيضاً- أطال الركوع في كل الركعات الأربع، أطاله بما لا يقل عن ربع ساعة أو ثلث ساعة في كل ركوع، وكذلك السجود، ففي السجدات الأربع لا يقل السجود -أيضاً- عن ربع ساعة أو نحو ذلك، وبذلك تكون هاتان الركعتان أو الأربعة الركوعات تستغرق نحو ثلاث ساعات أو أربع ساعات، وهذا بالنسبة إلى نفس الصلاة ما بين التحريم والتسليم.

تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعض الأحكام المتعلقة بالكسوف

وبعدما انقضى من هذه الصلاة ابتدأ يعلم أمته عليه الصلاة والسلام بعض الأحكام، فعلمهم شيئاً مما يقولونه أو يفعلونه عندما يرون مثل هذه الآيات، وكذلك أخبرهم بأنها من آيات الله عز وجل، فالشمس والقمر آيتان من آيات الله، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37] أي: من الآيات التي جعلها علامة يعرف بها كمال قدرته وكمال تصرفه، فهي من أعظم الآيات، والآيات يراد بها الدلالات والبراهين التي يعرف ما وراءها، فأنت تستدل بهذه الشمس وطلوعها وغروبها وسيرها سيراً معتدلاً لا تختلف فيه بوقت من الأوقات على أن لها مدبراً، وأن لها مصرفاً، ولها آمراً، ولها خالقاً، لا تتأخر ولا تتقدم عن موعدها، فلا شك أن هذا تقدير العزيز العليم، وهذا كونها آية من آيات الله، وهكذا سير القمر في فلكه، وكونه على حد محدود، وكونه لا يتقدم ولا يتأخر، بل سيره منتظم، ففي كل يوم له سير، وفي كل ليلة له منزلة ينزلها تتأخر عن المنزلة التي في اليوم الذي قبله، وهكذا يسير سيراً منتظماً، كما في قول الله تعالى: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ [يس:40] يعني: أن تستولي على القمر وتذهب آياته. وعلى كال حال فهي آية من آيات الله، وقد ذكر الله عز وجل أنها من آياته في قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن:5] يعني: كل منهما يمشي بحساب محدد مقدر لا يتقدم ولا يتأخر، فذلك آية من آيات الله.

وذكرنا فيما سبق أن الكسوف الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم -كسوف الشمس- وافق يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعتقدون أن الشمس تكسف لموت عظيم أو نحوه، فقالوا: كسفت لموت إبراهيم . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا اعتقاد خاطئ، وأنها لا تكسف لموت أحد ولا لحياته، ولكنها من آيات الله التي يخوف الله بها عباده كالآيات التي تحدث في هذا الكون، فيحدث في هذا الكون آيات كزلازل وصواعق وقحط وجدب وغرق أحياناً وفيضانات، ويحصل -أيضاً- في الأفلاك العلوية تغيرات ورياح شديدة وخفيفة، ونحو ذلك، وكل هذه من آيات الله التي يتعرف بها إلى عباده، ويعرفهم كمال قدرته وكمال تصرفه.

فهكذا -أيضاً- سير الشمس وسير هذا القمر، وما يجري عليهما من انمحاء وكسوف وخسوف، كل ذلك من آيات الله التي يخوف بها عباده، يقول الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، فإذا رأى عباد الله هذه الآيات فعليهم أن يحدثوا لله عبادة، وعليهم أن يظهروا أثر الخوف، وأن يظهروا المخافة الشديدة من الله، وأن يأتوا بما يستطيعونه من العبادات، ومن جملة ذلك هذه الصلاة الخاصة التي تصلى في هذه المناسبة، ومن ذلك -أيضاً- كثرة الأذكار، أن يكثروا من ذكر الله سبحانه، وكثرة الصدقات التي تدفع العذاب، والتي تكون سبباً لنزول رحمة الله تعالى واندفاع أسباب سخطه، وعليهم -أيضاً- أن يكثروا من ذكر الله ومن دعائه حتى ينكشف ما بهم، وذلك لأن هذه الآيات تسبب لهم مخافة، فتسبب لهم أنهم يخافون من هذه الأشياء التي نزلت بهم، فيحدث لهم هذا الخوف عبادة جديدة يكون من آثارها صلاة وصدقات ونحو ذلك رجاء أن يدفع الله عنهم ذلك العذاب.

وقد ذكرنا أن بعض العلماء استحبوا الصلاة كصلاة الكسوف عند حدوث الآيات، فروي أن ابن عباس لما حصل زلزال في بقعة من البقاع صلى بهم صلاة الكسوف لدفع أثر ذلك الزلزال الذي حصل في تلك الأرض، وذهب بعضهم إلى أنه لو حدث -مثلاً- صواعق تنزل من السماء محرقة أو عذاب أو نحو ذلك كان مما يستحب أن يصلى له، ولكن ليس على ذلك دليل، بل الدليل جاء على كسوف الشمس والقمر، وأما الصواعق وكذلك الزلازل وكذلك الرياح الشديدة والرعود والبرق وما هو كذلك كالغرق وما أشبهه فلم يعهد لذلك صلاة، إلا صلاة الكسوف كما سيأتي، إلا أنه يصلى لأجل طلب الله عز وجل الرزق، ودفع الألم والضرر، وبذلك يُعرف أن الشريعة مشتملة على ما يذكر الإنسان بعبادة الله عز وجل، وأن الله تعالى هو المعبود في كل وقت وفي كل حال، وأنه كلما حدثت آية فزع العباد إلى ربهم وخافوه، وعرفوا أنه هو الملجأ وحده، لا ملجأ ولا منجى من ألمه ومن عذابه ومن آياته ومن أسباب سخطه إلا بالفزع إليه.

والنبي صلى الله عليه وسلم لما صلى صلاة الكسوف ذكّر العباد بهذه التذكيرات، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يا عباد الله -ينادي المسلمين-! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً -وفي بعض الروايات: ولما تلذذتم بالنساء على الفرش-، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله)، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أطلعه الله على ما لم يطلع عليه أمته، أطلعه على أهوال الآخرة، وعلى أفزاعها وشدائدها، وعلى ما فيها من الآلام والعذاب، فالإنسان لو علم ذلك وتفاصيله، وعلم ما بعده لما تلذذ بهذه الحياة، ولما تنعم بالنعيم الذي فيها، ولما استقرت له الحياة على هذه الحال، بل لتكدر عليه صفو عيشه، وأفزعه ذلك الذي يعلمه، ولأسهر ليله بالدعاء والعبادة، ولأظمأ نهاره وأتعب جسمه وأنهكه خوفاً من العذاب، وقد ذكر مثل هذه الأحوال عن كثير من العبّاد الصالحين الذين لا يهنأ لهم المنام، كلما نام أحدهم ونعس قليلاً قام فزعاً يقول: لم أهنأ بالمنام وأنا أتذكر النار، منعني ذكر النار من أن أنام نومة كاملة أو نومة مستمرة، أو نحو ذلك، هؤلاء هم أهل المعرفة بالله الذين عرفوا أو أيقنوا، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً) أي: لكان بكاؤكم أكثر من ضحككم. ومعلوم أن البكاء لا يكون إلا من الخوف، يعني: إنكم ستخافون مما أمامكم خوفاً شديداً يحملكم على أن لا تهنئوا بالمقام، وأن يكثر بكاؤكم ونحيبكم خوفاً من سوء العاقبة، ولا تغركم زينة الدنيا، ولن تضحكوا من المضحكات ولا العجائب ولا غيرها.

وأما الغيرة التي ذكرها عن الله تعالى بقوله: (لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) فالغيرة هي الأنفة والحمية التي تكون من الولي إذا زنا أحد من أهل بيته، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يغار في قوله: (إن الله يغار، وإنني أغار)، وذلك لما ذكر له كلام سعد بن عبادة لما ذكر له أنه يقول: لو وجدت رجلاً على امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. فقال: (أتعجبون من غيرة سعد ؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني)، فالله تعالى يغار على عباده إذا زنا عبده أو زنت أمته، وغيرته لها آثار، هذه الغيرة يكون من آثارها أنه ينتقم من هذا العبد الزاني، ويعاقبه إما عقوبة عاجلة وإما عقوبة آجلة، ولم يذكر في هذا الحديث إلا الزنا، وذلك لأنه الذي تكون منه الغيرة، وذلك لأن الإنسان يغار إذا زنت ابنته، ويغار إذا زنت زوجته، ويغار إذا زنت أمه أو أخته، وتأخذه أنفة وحمية إلى أن يفعل بها ما يردعها، أو يفعل بذلك الزاني الذي اعتدى على حرماته، فهكذا الرب سبحانه وتعالى إذا زنا عبده أو زنت أمته فإنه -ولابد- سيعاقب هذا الزاني إما عاجلاً وإما آجلاً، وعلى كل حال فهذا مثال من الأمثال التي حذر بها النبي صلى الله عليه وسلم من أسباب العذاب، فالعذاب له أسباب كثيرة، عذاب الله تعالى في الآخرة له أسباب كثيرة، ومن أمثلتها وقوع هذه الفاحشة التي مثل بها، وهي فاحشة الزنا، وعلى المسلم أن يجتنب كل الأسباب التي تكون سبباً لنزول العذاب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.