شرح كتاب التوحيد [34]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وعن ابن مسعود مرفوعاً: ( الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل ). رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود .

ولـأحمد من حديث ابن عمرو : ( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: يا رسول الله! ما كفارة ذلك؟ قال: أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك ).

وله من حديث الفضل بن العباس : ( إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ).

باب ما جاء في التنجيم:

قال البخاري في صحيحه: قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. انتهى.

وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص فيه ابن عيينة ، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق .

وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر ). رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ].

وعن ابن مسعود مرفوعاً: ( الطيرة شرك، الطيرة شرك ) تقدم لنا تعريف الطيرة، وتعريف الشرك، وذكرنا أن الطيرة هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم، وأن هذا التشاؤم قد يكون شركاً أكبر، وقد يكون شركاً أصغر، وقد يكون نقصاً في التوحيد، فإذا تشاءم وترك العمل، وهو يعتقد أن هذا المتشاءم به يؤثر بذاته فهذا شرك أكبر.

القسم الثاني: إذا اعتقد أنه مجرد سبب وأن الضر والنفع بيد الله عز وجل، فهذا شرك أصغر.

والقسم الثالث: أن يمضي وفي قلبه شيء من القلق، فهذا نقص.

والقسم الرابع: أن يمضي وقلبه سالم، فهذا هو تمام التوحيد.

قال: ( ولكن الله يذهبه بالتوكل ) التوكل هو الاعتماد على الله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر.

( وما منا ) يعني: فيه إضمار، تقديره: وما منا إلا وقع في قلبه شيء منها.

( ولكن الله يذهبه بالتوكل ) يعني: بالاعتماد على الله عز وجل في جلب النفع ودفع الضر.

رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود . يعني: (وما منا)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك.

مناسبة هذا الحديث للباب: فيه دليل على أن الطيرة شرك، وتقدم لنا هل هي شرك أكبر أو أصغر.

قال رحمه الله: (ولـأحمد من حديث ابن عمرو : ( من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ) ) ما نوع هذا الشرك، يعني: ترك العمل من أجل هذا التشاؤم؟ فيه تفصيل:

إن اعتقد أن هذا المتشاءم فيه يضر وينفع من دون الله فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه مجرد سبب وأن الضر والنفع بيد الله فهو شرك أصغر؛ لأنه أثبت سبباً لم يرد في الشرع أنه سبب، ولم تشهد له التجربة الظاهرة المباشرة؛ ولأنه لم يخلص توكله على الله عز وجل، حيث التفت قلبه إلى هذا الموهوم.

(قالوا: يا رسول الله! ما كفارة ذلك؟) يعني: ما يقع من الطيرة.

قال: ( أن يقول: اللهم ) معناها يا الله.

( اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك ). لا: هذه نافية للجنس.

وقوله: ( لا خير إلا خيرك ) يعني: الذي يأتي بالخير هو الله سبحانه وتعالى.

( ولا طير إلا طيرك ) الطير كلها مخلوقة لله عز وجل، وتحت تصرفه وقدرته، وينفذ فيها قضاؤه الكوني القدري.

( ولا إله غيرك ) لا معبود بحق إلا أنت يا الله!

وله من حديث الفضل بن العباس : ( إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ) يعني: في هذا بيان الطيرة المنهي عنها، والطيرة التي ينهى عنها هي التي تمضي أو ترد، كما كانوا يتطيرون الجاهلية في الطيور إذا سنحت يميناً ذهب، وإن سنحت شمالاً ترك الذهاب.. إلى آخره، هذا هو التطير -التشاؤم-.

تقدم لنا أن الفأل هي الكلمة الطيبة يسمعها المسلم فيحصل له شيء من السرور والنشاط، بخلاف الطيرة، فالطيرة إما تمضيك أو تردك، أما كونه يتفاءل إذا سمع شيئاً حسناً... إلى آخره، ومع تعليق القلب بالله عز وجل فهذا يستحسنه النبي صلى الله عليه وسلم، فالفأل يكون في ما يسر، بخلاف الطيرة، والفأل فيه حسن الظن بالله عز وجل، بخلاف الطيرة، ففيها سوء ظن بالله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى: (باب ما جاء في التنجيم).

يعني: ما جاء في التنجيم من الوعيد، ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، فإن من أقسام التنجيم كما سيأتينا ما هو شرك، فناسب أن يذكره المؤلف رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد.

ومناسبة هذا الباب لما قبله: ففي الذي قبله: التطير اعتماد على شيء موهوم، ومثله أيضاً التنجيم اعتماد على شيء موهوم، كما في علم التأثير.

والتنجيم: معنى التنجيم: تعلم علم النجوم، أو اعتقاد تأثير النجوم.

وأما في الاصطلاح: فهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية.

كأن يستدل بحركات النجوم على المغيبات وما سيحدث في الأرض ونحو ذلك.

وسيأتينا إن شاء الله أن التنجيم ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: علم التأثير، وعلم التأثير ينقسم إلى ثلاثة أقسام، والقسم الثاني: علم التسيير، وعلم التسيير سيأتينا أيضاً أنه ينقسم إلى قسمين.

(قال البخاري ) يعني: قاله البخاري تعليقاً.

(قال البخاري في صحيحه: قال قتادة : خلق الله هذه النجوم لثلاث).

وقوله: (خلق هذه النجوم لثلاث) مأخوذ من القرآن الكريم.

(زينة للسماء) كما في قول الله عز وجل: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5].

(ورجوماً للشياطين) كما في الآية السابقة: وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ [الملك:5].

وعلامات يهتدى بها إلى الجهات والبلدان، فالذين يعرفون النجوم يتمكنون من معرفة الجهات: الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكذلك يهتدون بها بإذن الله عز وجل إلى البلدان، كما قال الله عز وجل: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16].

وقوله: (رجوماً للشياطين) يعني: كانت الشياطين تسترق السمع، والذي تسترقه الشياطين من السمع ما يتعلق بأقضية الله الكونية القدرية، أما أقضيته الشرعية الدينية فلا تتمكن منه الشياطين؛ ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم لم تتمكن الشياطين من استراق السمع: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا [الجن:9]. فرمي الشياطين بالشهب، هذا في مرحلة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

وهل استراق السمع الآن موجود أو ليس موجوداً؟ أما في وقت البعثة فهذا ليس موجوداً؛ لئلا يلتبس الشرع بكلام الكهنة، وبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم هل الاستراق موجود أو ليس موجوداً؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، من أهل العلم من أثبته، ومنهم من منعه، والذي يظهر والله أعلم، أن المنع إنما هو كان في وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (فمن تأول فيها غير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به).

(من تأول): يعني: من زعم أن لهذه النجوم غير ما ذكر الله عز وجل -أنها زينة، وأنها رجومٌ للشياطين، وأنها علامات يهتدى بها- فقد أضاع نصيبه، -يعني: حظه- من عمره؛ لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه، وأخطأ؛ لأنه تكلم رجماً بالغيب.

(وتكلف ما لا علم له به) يعني: قال شيئاً عن جهل، وليس عن علم.

الشاهد من هذا الأثر الذي ذكره البخاري عن قتادة رحمه الله تعالى: أن هذه النجوم خلقت لهذه الحكم الثلاثة، وأن ما عدا ذلك من علم التأثير -كأن يستدل بها على المغيبات ونحو ذلك- باطل ولا يجوز، كما سيأتينا في أقسام علم التسيير.

قال رحمه الله: (وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص فيه ابن عيينة ، وذكره حرب ) كما سيأتينا في علم التأثير.

(وذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق ).

يقول: (كره قتادة تعلم منازل القمر) القمر له ثمانية وعشرون منزلة، أربع عشرة شمالية، وأربع عشرة يمانية، كل ليلة ينزل القمر منزلة من هذه المنازل، ثمانية وعشرون منزلة، وهذه المنازل يقطعها القمر في شهر، والشمس تقطعها في سنة، كل منزلة ثلاثة عشر يوماً إلا منزلة واحدة أربعة عشر يوماً، فهذه المنازل تسمى عند العلماء بعلم التسيير، يعني: تعلم هذه المنازل لكي يستدل بها على الجهات والبلدان ونحو ذلك، هل هذا مكروه أو ليس مكروهاً؟ كونه يتعلم منازل القمر لكي يستدل بهذه المنازل على معرفة الجهات، ومعرفة كذلك الأوقات، ودخول الفصول، وما يحتاج الناس إليه في الزراعات ونحو ذلك؛ لأن الناس يحتاجون لمثل هذه الأشياء.

ذكر المؤلف رحمه الله في ما يتعلق بتعلم منازل القمر، هل هو مكروه أو ليس مكروهاً أن للسلف رحمهم الله في ذلك رأيان:

قال: قتادة كره ذلك، وابن عيينة .

والرأي الثاني: رأي أحمد وإسحاق بن راهويه أن هذا جائز ولا بأس به.

فمن كره تعلم منازل القمر، بعداً عن ما يتعلق بعلم التأثير، كما سيأتينا إن شاء الله.

وأما من رخص في تعلم منازل القمر كـأحمد وإسحاق بن راهويه فلأن تعلم مثل هذه المنازل تترتب عليه مصالح، منها: معرفة الجهات، ومعرفة الأوقات، والناس يحتاجون إليها، بل يترتب عليه مصالح دينية ودنيوية، أما المصالح الدينية فمثل معرفة الجهات، معرفة القبلة، وأما المصالح الدنيوية فمعرفة أوقات الفصول، -أوقات الزراعة- ونحو ذلك، فما دام أنه تترتب عليه هذه المصالح الدينية والدنيوية فيظهر والله أعلم أن تعلم منازل القمر جائز ولا بأس به، كما هو رأي الإمام أحمد رحمه الله.

وأما ما ذهب إليه قتادة وابن عيينة فالعلة في ذلك كما تقدم لنا هو حماية التوحيد، والبعد عن الشرك؛ لأنه قد ينتقل من علم التسيير إلى علم التأثير، فكره السلف ذلك، وهكذا السلف رحمهم الله تعالى يتورعون.

قال رحمه الله: (وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا يدخلون الجنة: ) ) هذا الدخول ليس دخولاً مؤبداً، وإنما هو دخول مؤقت، يعني: لا يدخل الجنة ابتداءً وإن كانوا يدخلونها انتهاءً ما داموا أنهم ماتوا على التوحيد.

( مدمن خمر) يعني: الذي داوم على شرب الخمر حتى مات ولم يتب منها.

( وقاطع الرحم ) يعني: الذي لم يصل رحمه، ومن هو الرحم الذي يوصل؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم، وأرجح الأقوال في هذا قولان:

القول الأول: إن الرحم الذي يوصل هو الرحم المحرم، بمعنى: أنه لو كان الرحم أنثى ليس لك أن تنكحها.

وقيل بأن الرحم الذي يوصل والذي لا يوصل، هذا راجع إلى عرف الناس، فما تعارف الناس عليه أن يوصل فيجب صلته، مثل: الآباء والأمهات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، تعارف الناس على ذلك، قالوا بأنه راجع إلى العرف.

قال: ( وقاطع رحم، ومصدق بالسحر ) وتقدم لنا حكم إتيان السحرة، وأن إتيان السحرة والكهنة ينقسم إلى خمسة أقسام.

وأيضاً تقدم لنا أن السحر سحران: سحر بالمعنى الخاص، وسحر بالمعنى العام، ومن السحر بالمعنى العام التنجيم، كما تقدم في كلام المؤلف رحمه الله أنه من التنجيم.

في هذا الحديث الوعيد على المصدق بالسحر، ومن ذلك التنجيم.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.