الزلازل والبراكين آيات ونذر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

عباد الله! اتقوا الله الذي له مقاليد السموات والأرض، واذكروا أنكم موقوفون بين يديه في يوم تشخص فيه الأبصار، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52]، فأعدوا رحمكم الله لهذا اليوم عدته، ولا تغرنكم زهرة الحياة الدنيا وزينتها، ولا يغرنكم بالله الغرور.

عباد الله! إن مما اختص الله عز وجل به وجعله من غيبه الذي لم يظهر عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ما يتعلق بعلم الساعة، كما قال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187].

غير أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بما جاءه من ربه، أخبر عن أماراتها وأشراطها، وهي العلامات الدالة على قرب وقوعها ودنو زمانها، فكان وقوع هذه الأخبار دليلاً من دلائل نبوته، وعلماً من أعلامها، وآية بينة على صدقه صلى الله عليه وسلم.

ولقد كان مما أخبر به من أشراط الساعة: كثرة الزلازل التي تكون في آخر الزمان، كما جاء في صحيح البخاري وابن ماجه .

ولا ريب أن هذه الزلازل من الرزايا والبلايا التي ينتج عنها نقص الأموال والأنفس والثمرات وخراب العمران، غير أنها لا تخلو مع ذلك من آثار رحمة الله بعباده، وكريم عنايته بهم وعظيم إحسانه إليهم، وقد جاء ذلك موضحاً فيما رواه الإمام أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل).

وهذا الحديث وارد في الثناء على هذه الأمة، ومدحها باختصاصها بهذه الفضيلة الدالة على عنايته سبحانه ورحمته وإتمام نعمته برفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلها، من قتل النفس بالتوبة، وقرض النجاسة من الثياب، وتحريم الأكل من الغنائم.

ومعنى الحديث في قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس عليها عذاب في الآخرة)، معناه: أن كثيراً من الناس في هذه الأمة مجزي بأعماله في الدنيا بالمحن والأمراض والرزايا، التي منها الزلازل فتكفر وتطهر ما قد عمله من ذنب، كما جاء في حدث أبي هريرة وأبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)، خرجاه في الصحيحين، والنصب: هو التعب، والوصب: هو المرض.

وفي صحيح البخاري -أيضاً- من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يصب منه)، أي: ينزل به من ألوان المصائب ما يكون كفارة لذنوبه إذا صبر واحتسب.

أما أهل الكبائر من أهل التوحيد الذين ماتوا على غير توبة، فهم تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

ألا وإن المسلم اللبيب لا يقف أمام هذه النوازل موقف التفكر والاعتبار، بل يتذكر بهذه الكوارث قوة الرب سبحانه وتعالى وقدرته، تلك القوة والقدرة التي لا تماثلها أي قوة أخرى مهما بلغت من السطوة، ومهما حازت من أسباب التمكين، وقد سمى الله عز وجل نفسه بالقوي، ووصف نفسه بالقوة، قال الله عز وجل: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74]، وقال: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58]، فإذا استقر هذا المعنى في قلب العبد أورثه خوفاً من ربه وتعظيماً وإجلالاً، وخضوعاً وإنابة ومحبة ورجاء لما عنده، وطاعة ونفرة عن معصيته.

ثم إن افتقار العبد إلى كمال اللجوء إلى الله تعالى في دعائه والتضرع إليه، وكثرة ذكره واستغفاره، والإحسان إلى عباده بالصدقات، وبسائر أنوع البر الأخرى التي يعم نفعها، كل هذا دائم متأكد في كل الأوقات، لكنه في أوقات الشدائد أعظم تأكداً، مع لزوم المحافظة على الصحيح الثابت من أذكار الصباح والمساء؛ لما فيها من تحصن واستعاذة بالله عز وجل، واحتماء بسلطانه القوي الأعلى من جميع الشرور والآفات، ومن طوارق الليل والنهار، ولا ريب أن قيام المسلم بإغاثة إخوانه المنكوبين، ومسح البؤس عن جبين البائسين ممن نزلة بهم هذه النوازل، وحلت بديارهم هذه الزلازل، من أفضل الأعمال وأزكاها عند الله عز وجل.

أخرج الحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، فهي تقي مصارع السوء والآفات والهلكات، وأهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، كما أنها دليل على الاتصاف بصفة الرحمة التي أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لصاحبها عند ربه بقوله: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، رواه أحمد وأبو داود في سننه.

وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).

وفي حديث جابر (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)، خرجاه في الصحيحين، وأخرج أبو داود والترمذي في سننهما وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).

وصدق سبحانه إذ يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

إن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يدلان على أن هذه الزلازل وغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم، قال الله عز وجل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: إذا ظهر القينات والمعازف وشربت الخمور).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكون في آخر الأمة خسف ومسخ وقذف، قالت: قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا ظهر الخبث).

إن بلاداً من بلاد الله الواسعة كانت قائمة شاخصة، فظلم سكانها أنفسهم فحل بهم أمر الله وسنته، وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].

لقد عم قوم نوح الغرق، وأهلكت عاداً الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقلبت على أهل الفاحشة ديارهم، فجعل الله عاليها سافلها، وأمطر الله عليها حجارة من سجيل، فساء مطر المنذرين، فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].

فكلاً أخذنا بذنبه، تلكم الذنوب، وتلكم عواقبها وما هي من الظالمين ببعيد، ما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، ولا تخلخلت مجتمعاً إلا أسقطته، إنه ليس بينه وبين أحد نسب، ولا يعني أن أقواماً أو مجتمعات لم يصبها شيء وهم مذنبون أن الله راض عنهم، ولكن الله يمهل حتى يعتبر الناس ولا يهملون، والعقوبات الربانية تختلف، فقد تكون زلازل، وقد تكون حروباً، وقد تكون نقصاً في المال وسوءاً للأوضاع المالية، وقد تكون أمراضاً عامة أو خاصة، وغير ذلك.

لقد تساهل كثير من الناس في المحرمات، من أكل الحرام من رباً ورشوة، وأكل لأموال الناس، ولقد تبرج كثير من النساء واختلطن بالرجال، وكثير من الناس لا يحفظ بصره، ويعكف أمام آلات اللهو والمعازف طول ليله ونهاره، ضيعت الصلاة، ولم تخرج كثير من الزكاة، وتهاون كثير من الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يكون سبباً لعقوبة الله عز وجل، وسبباً لوقوع مثل هذه النوازل، والسنن الكونية.

وعلاج ذلك إنما هو بالتوبة والرجوع إلى الله عز وجل، وتحكيم كتابه وسنة نبيه.

عباد الله! بعض الناس ينسب مثل هذه الزلازل والبراكين للطبيعة، وهذا محرم ولا يجوز، بل هو نوع من الشرك، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، وفي الصحيحين لما كسفت الشمس خرج النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر رداءه، وقال: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده).

وفي الصحيحين: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب)، فيجب على المؤمن أن ينسب هذه السنن الكونية إلى الله عز وجل، ولا يجوز نسبتها إلى الطبيعة.

نسأل الله سبحانه وتعالى بمنه وكرمه أن يحفظ إخواننا المسلمين في كل مكان، وأن يؤمن روعتهم وفزعتهم، وأن يحفظ عليهم أموالهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، وأخص منهم الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبا بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية العشرة المبشرين، وعن بقية صحابة نبيك أجمعين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الدين، اللهم عليك باليهود الظالمين، والنصارى الحاقدين، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل اللهم الدائرة عليهم، اللهم انصر المسلمين عليهم في كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم فرج كرب المكروبين، ونفس عسرة المعسرين، واقض الدين عن المدينين، اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم عجل لهم بالشفاء العاجل يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل ما أصابهم كفارة لسيئاتهم، ورفعة لدرجاتهم، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.