شرح سنن أبي داود [548]


الحلقة مفرغة

شرح حديث أبي سعيد الخدري في حق الطريق على من جلس فيه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الجلوس في الطرقات.

حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن زيد يعني ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) ].

قوله: [ باب في الجلوس في الطرقات ].

أي: أن ذلك لا يسوغ إلا بشرطه، وهو ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن هناك بد من الجلوس في الطريق فعلى من يجلس أن يعطي الطريق حقه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حق الطريق لما سأله الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم عن ذلك، فينبغي البعد عن الجلوس في الطرقات، وإذا كان دعا الأمر إلى ذلك، ولم يكن هناك بد، فلا بد من إعطاء الطريق حقه، وهو الذي بينه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد هذا.

قوله: [ (غض البصر، وكف الأذى) ].

أي: فلا ينظر إلى ما لا يجوز له النظر إليه، كالنظر إلى النساء، وكذلك كف الأذى عن الناس فلا يؤذيهم بقول ولا فعل.

قوله: [ (ورد السلام) ].

أي: عندما يسلم أحد يرد عليه؛ لأنهم جالسون، فالذي يأتي ماشياً ويبدأ بالسلام فيرد عليه الجالس؛ ولهذا قال: (ورد السلام) ولم يقل: ابتداء السلام؛ لأن الجالس هو الذي يسلَّم عليه، ولا يسلم هو على الناس، فإذا جاء أحد يمشي فلا يقول الجالس: السلام عليكم، وإنما الذي يمشي يقول: السلام عليكم، والجالس يرد السلام؛ ولهذا قال: (ورد السلام).

قوله: [ (والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) ].

فإذا حصل أمر يقتضي أن يوجه إلى خير، وأن يبصر بحق، فإنه يأمر بالمعروف، وكذلك إذا رئي أمر منكر، فإنه ينبه الذي حصل منه المنكر على ذلك، ويحذر من ذلك، ويخوف منه، فيكون هذا الجلوس فيه جلب مصلحة، ودفع مضرة، فغض البصر وكف الأذى فيه دفع للمضرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد السلام من المنفعة والمصلحة التي أمر بها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس في الطرقات) فدل هذا على أن الأصل هو ألا يجلس في الطرقات، ولكن إذا كان هناك حاجة إلى الجلوس كما في قولهم: (ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها) فعليهم أن يعطوا الطريق حقه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأعطوا الطريق حقه) ليلفت أنظارهم إلى أن يعرفوا حق الطريق، فهو لم يقل: افعلوا كذا وكذا، وإنما قال: (فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟)؛ لأنهم حينما سألوا عنه فإن هذا يكون أدعى إلى ثبوته وفهمه؛ لأن الشيء الذي يحصل له أمر يقتضيه، ويحصل له سبب كأن يكون مجملاً ثم يستفسر عن تفصيله، فإن ذلك التفصيل عندما يذكر للسائل ينتبه له، ويتهيأ له، ويكون على استعداد وتشوق لاستيعابه، وعدم فوات شيء منه.

فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.

تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد الخدري في حق الطريق على من جلس فيه

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة ].

هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد ].

هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن زيد يعني ابن أسلم ].

زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عطاء بن يسار ].

عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سعيد الخدري ].

هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، وهو مشهور بكنيته أبي سعيد ، وبنسبته الخدري ، وهو صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث أبي هريرة في حق الطريق على من جلس فيه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا بشر يعني ابن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (وإرشاد السبيل) ].

أورد المصنف حديث أبي هريرة وهو مثل الذي قبله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس في الطرقات، وأنهم قالوا: ما لنا بد من مجالسنا فقال لهم: (إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه)، ومما جاء عند أبي هريرة : (وإرشاد السبيل) أي: إذا احتاج أحد إلى معرفة الطريق فإنه يرشده، ويبصره بالطريق الذي يحتاج إلى سلوكه وإلى معرفته، فإذا كانوا جالسين وجاء أحد يريد أن يسلك طريقاً يوصله إلى بغيته، والطرق متعددة، ولا يدري الطريق الذي يوصله إلى بغيته، فإنه إذا سئل الجالس فعليه أن يرشده إلى الطريق، ويبين له السبيل، وهذا من حق الطريق.

تراجم رجال إسناد حديث أبي هريرة في حق الطريق على من جلس فيه

قوله: [ حدثنا مسدد حدثنا بشر يعني ابن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق ].

عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن سعيد المقبري ].

هو سعيد بن أبي سعيد المقبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.

شرح حديث عمر بن الخطاب في حق الطريق على من جلس فيه

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن عيسى النيسابوري أخبرنا ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم عن إسحاق بن سويد عن ابن حجير العدوي قال: سمعت عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال) ].

أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يتعلق بالقصة التي مرت عن أبي سعيد ثم عن أبي هريرة ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وتغيثوا الملهوف) أي: من حق الطريق أنه إذا كان هناك من يحتاج إلى إعانة ومساعدة فإنه يعينه ويساعده.

قوله: (وتهدوا الضال) أي: من ضل الطريق، وهو نظير الذي قبله في قوله: (وإرشاد السبيل) فإذا جاء الإنسان ليسأل عن طريق يوصله إلى مقصوده فيخبره، وأما الضال فهو الذي يكون الطريق الذي يريده وراءه، فيرشده إلى أنه قد تجاوزه، وهذا من إهداء السبيل، ولكنه على مفترق طرق ولا يدري أين يذهب فيخبرونه ويبصرونه، فقوله: (وإرشاد السبيل) وقوله: (وتهدوا الضال) معناهما متقارب.

فقوله: [ (وتغيثوا الملهوف) ].

الملهوف هو الذي وقعت له مصيبة، أو أراد التخلص من ظلم حصل له، أو اعتدى عليه أحد، فطلب منهم أن ويغيثوه.

وقوله: [ (وتهدوا الضال) ].

الضال: هو الذي ضل الطريق، ومعلوم أن الضلال يكون في الطريق، ويكون في الانحراف عن طريق الحق، فيكون عن الطريق الحسي، وعن الطريق المعنوي، كل هذا يقال له: ضلال، فمن ضل عن الحق والهدى يقال له: ضال، ومن ضل الطريق يقال له: ضال. وهداية الضال هنا من جنس: (إرشاد السبيل).

تراجم رجال إسناد حديث عمر بن الخطاب في حق الطريق على من جلس فيه

قوله: [ حدثنا الحسن بن عيسى النيسابوري ].

الحسن بن عيسى النيسابوري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ أخبرنا ابن المبارك ].

هو عبد الله بن المبارك المروزي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا جرير بن حازم ].

جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إسحاق بن سويد ].

إسحاق بن سويد صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ عن ابن حجير العدوي ].

ابن حجير العدوي مستور، أخرج له أبو داود .

[ سمعت عمر بن الخطاب ].

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

حقوق الطريق واجبة

قوله صلى الله عليه وسلم: (وتغيثوا الملهوف) داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي مر في حديث أبي سعيد ، فإغاثة الملهوف إذا اعتدي عليه من إنكار المنكر.

وهذه الحقوق على الوجوب؛ لأنهم منعوا من الجلوس، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه) فقد: رخص لهم في الجلوس عند الإتيان بهذه الأمور، وبدونها لا ترخيص لهم.

وإذا كان السائل عن الطريق الذي قد ضله من أهل البدع، وكان المكان الذي يقصده يقوده إلى بدعة فلا يبين له، وأما إذا كان يسأل عن بيت أو عن عمارة أو نحو ذلك، فلا بأس أن يبين له، أما إرشاده إلى مكان فيه بدعة ومعصية فهذا من التعاون على الإثم والعدوان.

شرح حديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة لقضاء حاجة امرأة من المسلمين

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع وكثير بن عبيد قالا: حدثنا مروان قال ابن عيسى قال: حدثنا حميد عن أنس قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة، فقال لها: يا أم فلان! اجلسي في أي نواحي السكك شئت حتى أجلس إليك، قال: فجلست فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى قضت حاجتها).

لم يذكر ابن عيسى : (حتى قضت حاجتها) وقال كثير : عن حميد عن أنس ].

أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اجلسي في أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك، فجلست، فجاء إليها وقضى حاجتها) صلى الله عليه وسلم، وهذا دال على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وعلى تواضعه، وعلى إحسانه عليه الصلاة والسلام، فقد طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم قضاء حاجتها، فقال: (اجلسي في أي الطرق) ثم جاء وجلس معها، وقد أورده المصنف في هذه الترجمة التي تتعلق بالطريق، لبيان أن الجلوس في الطريق سائغ، ولكن مع كونه سائغاً يعطى حقه، والرسول صلى الله عليه وسلم جلس وإياها في إحدى السكك، أي: في إحدى الطرق، وهي تقص عليه حاجتها، وتبين له ما تريد منه، فقضى حاجتها صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن مثل ذلك لا يعتبر خلوة، فعندما يكون الطريق سالكاً ثم ينحاز رجل وامرأة، فتكلمه ويكلمها فلا بأس بذلك، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا لم يكن هناك ريبة، كما أن الأمر ليس على إطلاقه في أن يقف أي رجل مع أي امرأة، ولكن إذا كان الرجل معروفاً بالأمانة والصلاح، واحتاجت المرأة أن تسأله عن حاجة، ثم وقف معها لا ينظر إليها، ولكن يسمع كلامها ويجيبها فيما تريد فإن ذلك سائغ؛ لهذا الحديث الذي جاء عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

تراجم رجال إسناد حديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة لقضاء حاجة امرأة من المسلمين

قوله: [ حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع ].

محمد بن عيسى بن الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة .

[ وكثير بن عبيد ].

كثير بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثنا مروان ].

هو مروان بن معاوية الفزاري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقالوا عنه: إنه يدلس تدليس الشيوخ، وتدليس الشيوخ من أنواع التدليس، وهو أن يذكر الشيخ بما لا يعرف به، وهو يختلف عن تدليس الإسناد والذي هو: أن يروي المدلس عن شيخه ما لم يسمع منه بلفظ موهم للسماع، وهو التدليس المشهور والذي يغلب عند الكلام في التدليس وذكر المدلسين، أما تدليس الشيوخ فيكون بذكر الشيخ بغير ما اشتهر به، فيكون في ذلك صعوبة في معرفته، والشخص المعروف يكون غير معروف بسبب هذا التدليس.

[ قال ابن عيسى : قال حدثنا حميد ].

يعني أن ابن عيسى يقول: إن مروان قال: حدثنا حميد ، يعني: أن بين مروان وبين حميد صيغة حدثنا من محمد بن عيسى ، وأما كثير بن عبيد ففي إسناده: عن حميد .

[ حدثنا حميد ].

هو حميد بن أبي حميد الطويل ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أنس ].

أنس رضي الله عنه وقد مر ذكره، وهذا من الرباعيات التي هي أعلى الأسانيد عند أبي داود .

وقوله: [ لم يذكر ابن عيسى : حتى قضت حاجتها، وقال كثير : عن حميد عن أنس ].

معناه: أن المتن عند كثير بن عبيد أتم وأكمل؛ لأنه قال: (حتى قضت حاجتها)، وأما محمد بن عيسى فإنه لم يذكر هذه الزيادة؛ لأنه ساق السند على ابن عيسى والمتن على كثير بن عبيد .

حكم خلوة الرجل بالمرأة لتعليمها وتدريسها

قد يستدل البعض بهذا الحديث على جواز تدريس الرجل للنساء من غير ستار بينه وبينهن كما يقع في بعض البلاد، ومثل هذا القول مردود، فالحديث لا يدل على ذلك؛ لأن هذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم حصل لأمر اقتضى ذلك، وكان في طريق سالك، والأمر قد يدعو إلى ذلك في حق من يحتاج إليه من ولي أمر أو مفت أو نحوهم، وأما كونه يجلس مع النساء وينظر إليهن وينظرن إليه، فهذا لا يسوغ.

وكذلك قد يحصل من بعض النساء أن تستوقف العالم أو طالب العلم لتسأله، فإذا لم يكن في ذلك ريبة ولا محذور بحيث لا ينظر إليها، ولا يلقيها وجهه، وإنما يلقيها جانبه، ويسمع منها ثم يجيبها على سؤالها ثم يمضي دون أن يكون مستقبلاً لها ينظر إليها، فلا بأس بذلك.

خطأ القول باختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بالخلوة بالمرأة الأجنبية

واستدل بعضهم بهذا الحديث على أن من خصوصياته صلى الله عليه وسلم جواز الخلوة بالمرأة الأجنبية، إلا أن الحديث ليس فيه ما يدل على حصول الخلوة؛ لأن هذا الأمر كان في السكة حيث قال لها: (انظري أي السكك شئت) والسكك: هي الطرق، فلا خلوة في ذلك.

والنبي عليه الصلاة والسلام أبوته للعالمين مثل أمومة زوجاته للمؤمنين، وهذه الأبوة والأمومة دينية، ولا علاقة لها بالمحرمية ولا تجري أحكام المحارم عليها.

شرح حديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة.. من طريق أخرى

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس (أن امرأة كان في عقلها شيء..) بمعناه ].

أورد المصنف الحديث من طريق أخرى وفي أوله: (أن امرأة كان في عقلها شيء..) وهو بمعنى الحديث المتقدم، وفيه زيادة ذكر وصف هذه المرأة بأنه كان في عقلها شيء من الخلل والقصور، وقيل: إنما ذكر ذلك لكونها طلبت منه أن يجلس معها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم راعى شأنها وحقق لها ما تريد من أجل ضعفها.

تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث أنس في وقوف النبي في ناحية السكة..

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.

[ حدثنا يزيد بن هارون ].

هو يزيد بن هارون الواسطي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت ].

حماد بن سلمة مر ذكره، وثابت مر ذكره.

[ عن أنس ].

أنس رضي الله عنه مر ذكره.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الجلوس في الطرقات.

حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن زيد يعني ابن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس بالطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) ].

قوله: [ باب في الجلوس في الطرقات ].

أي: أن ذلك لا يسوغ إلا بشرطه، وهو ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يكن هناك بد من الجلوس في الطريق فعلى من يجلس أن يعطي الطريق حقه، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حق الطريق لما سأله الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم عن ذلك، فينبغي البعد عن الجلوس في الطرقات، وإذا كان دعا الأمر إلى ذلك، ولم يكن هناك بد، فلا بد من إعطاء الطريق حقه، وهو الذي بينه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد هذا.

قوله: [ (غض البصر، وكف الأذى) ].

أي: فلا ينظر إلى ما لا يجوز له النظر إليه، كالنظر إلى النساء، وكذلك كف الأذى عن الناس فلا يؤذيهم بقول ولا فعل.

قوله: [ (ورد السلام) ].

أي: عندما يسلم أحد يرد عليه؛ لأنهم جالسون، فالذي يأتي ماشياً ويبدأ بالسلام فيرد عليه الجالس؛ ولهذا قال: (ورد السلام) ولم يقل: ابتداء السلام؛ لأن الجالس هو الذي يسلَّم عليه، ولا يسلم هو على الناس، فإذا جاء أحد يمشي فلا يقول الجالس: السلام عليكم، وإنما الذي يمشي يقول: السلام عليكم، والجالس يرد السلام؛ ولهذا قال: (ورد السلام).

قوله: [ (والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر) ].

فإذا حصل أمر يقتضي أن يوجه إلى خير، وأن يبصر بحق، فإنه يأمر بالمعروف، وكذلك إذا رئي أمر منكر، فإنه ينبه الذي حصل منه المنكر على ذلك، ويحذر من ذلك، ويخوف منه، فيكون هذا الجلوس فيه جلب مصلحة، ودفع مضرة، فغض البصر وكف الأذى فيه دفع للمضرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورد السلام من المنفعة والمصلحة التي أمر بها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إياكم والجلوس في الطرقات) فدل هذا على أن الأصل هو ألا يجلس في الطرقات، ولكن إذا كان هناك حاجة إلى الجلوس كما في قولهم: (ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها) فعليهم أن يعطوا الطريق حقه، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (فأعطوا الطريق حقه) ليلفت أنظارهم إلى أن يعرفوا حق الطريق، فهو لم يقل: افعلوا كذا وكذا، وإنما قال: (فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟)؛ لأنهم حينما سألوا عنه فإن هذا يكون أدعى إلى ثبوته وفهمه؛ لأن الشيء الذي يحصل له أمر يقتضيه، ويحصل له سبب كأن يكون مجملاً ثم يستفسر عن تفصيله، فإن ذلك التفصيل عندما يذكر للسائل ينتبه له، ويتهيأ له، ويكون على استعداد وتشوق لاستيعابه، وعدم فوات شيء منه.

فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)، وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام.

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة ].

هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد ].

هو عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، وهو صدوق، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن زيد يعني ابن أسلم ].

زيد بن أسلم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عطاء بن يسار ].

عطاء بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سعيد الخدري ].

هو سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه، وهو مشهور بكنيته أبي سعيد ، وبنسبته الخدري ، وهو صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا بشر يعني ابن المفضل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (وإرشاد السبيل) ].

أورد المصنف حديث أبي هريرة وهو مثل الذي قبله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس في الطرقات، وأنهم قالوا: ما لنا بد من مجالسنا فقال لهم: (إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه)، ومما جاء عند أبي هريرة : (وإرشاد السبيل) أي: إذا احتاج أحد إلى معرفة الطريق فإنه يرشده، ويبصره بالطريق الذي يحتاج إلى سلوكه وإلى معرفته، فإذا كانوا جالسين وجاء أحد يريد أن يسلك طريقاً يوصله إلى بغيته، والطرق متعددة، ولا يدري الطريق الذي يوصله إلى بغيته، فإنه إذا سئل الجالس فعليه أن يرشده إلى الطريق، ويبين له السبيل، وهذا من حق الطريق.

قوله: [ حدثنا مسدد حدثنا بشر يعني ابن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق ].

عبد الرحمن بن إسحاق صدوق، أخرج له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن سعيد المقبري ].

هو سعيد بن أبي سعيد المقبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة رضي الله عنه مر ذكره.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن عيسى النيسابوري أخبرنا ابن المبارك أخبرنا جرير بن حازم عن إسحاق بن سويد عن ابن حجير العدوي قال: سمعت عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة قال: (وتغيثوا الملهوف وتهدوا الضال) ].

أورد أبو داود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو يتعلق بالقصة التي مرت عن أبي سعيد ثم عن أبي هريرة ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وتغيثوا الملهوف) أي: من حق الطريق أنه إذا كان هناك من يحتاج إلى إعانة ومساعدة فإنه يعينه ويساعده.

قوله: (وتهدوا الضال) أي: من ضل الطريق، وهو نظير الذي قبله في قوله: (وإرشاد السبيل) فإذا جاء الإنسان ليسأل عن طريق يوصله إلى مقصوده فيخبره، وأما الضال فهو الذي يكون الطريق الذي يريده وراءه، فيرشده إلى أنه قد تجاوزه، وهذا من إهداء السبيل، ولكنه على مفترق طرق ولا يدري أين يذهب فيخبرونه ويبصرونه، فقوله: (وإرشاد السبيل) وقوله: (وتهدوا الضال) معناهما متقارب.

فقوله: [ (وتغيثوا الملهوف) ].

الملهوف هو الذي وقعت له مصيبة، أو أراد التخلص من ظلم حصل له، أو اعتدى عليه أحد، فطلب منهم أن ويغيثوه.

وقوله: [ (وتهدوا الضال) ].

الضال: هو الذي ضل الطريق، ومعلوم أن الضلال يكون في الطريق، ويكون في الانحراف عن طريق الحق، فيكون عن الطريق الحسي، وعن الطريق المعنوي، كل هذا يقال له: ضلال، فمن ضل عن الحق والهدى يقال له: ضال، ومن ضل الطريق يقال له: ضال. وهداية الضال هنا من جنس: (إرشاد السبيل).

قوله: [ حدثنا الحسن بن عيسى النيسابوري ].

الحسن بن عيسى النيسابوري ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ أخبرنا ابن المبارك ].

هو عبد الله بن المبارك المروزي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرنا جرير بن حازم ].

جرير بن حازم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن إسحاق بن سويد ].

إسحاق بن سويد صدوق، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ عن ابن حجير العدوي ].

ابن حجير العدوي مستور، أخرج له أبو داود .

[ سمعت عمر بن الخطاب ].

عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.

قوله صلى الله عليه وسلم: (وتغيثوا الملهوف) داخل تحت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي مر في حديث أبي سعيد ، فإغاثة الملهوف إذا اعتدي عليه من إنكار المنكر.

وهذه الحقوق على الوجوب؛ لأنهم منعوا من الجلوس، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه) فقد: رخص لهم في الجلوس عند الإتيان بهذه الأمور، وبدونها لا ترخيص لهم.

وإذا كان السائل عن الطريق الذي قد ضله من أهل البدع، وكان المكان الذي يقصده يقوده إلى بدعة فلا يبين له، وأما إذا كان يسأل عن بيت أو عن عمارة أو نحو ذلك، فلا بأس أن يبين له، أما إرشاده إلى مكان فيه بدعة ومعصية فهذا من التعاون على الإثم والعدوان.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع وكثير بن عبيد قالا: حدثنا مروان قال ابن عيسى قال: حدثنا حميد عن أنس قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجة، فقال لها: يا أم فلان! اجلسي في أي نواحي السكك شئت حتى أجلس إليك، قال: فجلست فجلس النبي صلى الله عليه وسلم إليها حتى قضت حاجتها).

لم يذكر ابن عيسى : (حتى قضت حاجتها) وقال كثير : عن حميد عن أنس ].

أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! لي إليك حاجة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: اجلسي في أي السكك شئت حتى أقضي حاجتك، فجلست، فجاء إليها وقضى حاجتها) صلى الله عليه وسلم، وهذا دال على كمال أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وعلى تواضعه، وعلى إحسانه عليه الصلاة والسلام، فقد طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم قضاء حاجتها، فقال: (اجلسي في أي الطرق) ثم جاء وجلس معها، وقد أورده المصنف في هذه الترجمة التي تتعلق بالطريق، لبيان أن الجلوس في الطريق سائغ، ولكن مع كونه سائغاً يعطى حقه، والرسول صلى الله عليه وسلم جلس وإياها في إحدى السكك، أي: في إحدى الطرق، وهي تقص عليه حاجتها، وتبين له ما تريد منه، فقضى حاجتها صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن مثل ذلك لا يعتبر خلوة، فعندما يكون الطريق سالكاً ثم ينحاز رجل وامرأة، فتكلمه ويكلمها فلا بأس بذلك، ومعلوم أن هذا لا يكون إلا إذا لم يكن هناك ريبة، كما أن الأمر ليس على إطلاقه في أن يقف أي رجل مع أي امرأة، ولكن إذا كان الرجل معروفاً بالأمانة والصلاح، واحتاجت المرأة أن تسأله عن حاجة، ثم وقف معها لا ينظر إليها، ولكن يسمع كلامها ويجيبها فيما تريد فإن ذلك سائغ؛ لهذا الحديث الذي جاء عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.