شرح سنن أبي داود [507]


الحلقة مفرغة

شرح حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج في القسامة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب القتل بالقسامة.

حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي الله عنهما: (أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الكبر الكبر، أو قال: ليبدأ الأكبر، فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! قوم كفار، قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبله. قال: قال سهل : دخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) قال حماد هذا أو نحوه.

قال أبو داود : رواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى بن سعيد قال فيه: (أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟) ولم يذكر بشر دماً، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد ، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون) ولم يذكر الاستحقاق.

قال أبو داود : وهذا وهم من ابن عيينة ].

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ باب القتل بالقسامة ].

القسامة: هي أن يقتل قتيل بين جماعة يتهمون فيه ولا يعرف قاتله؛ هذه يقال لها: قسامة؛ لأن المدعين أو أصحاب الدم يطلب منهم أن يحلف منهم خمسون رجلاً على شخص أنه قتله فيدفع لهم ليقتلوه، فإذا لم يحلف المدعون جعلت اليمين على المدعى عليهم بأن يحلف منهم خمسون بأنهم بريئون من ذلك، فإذا حلف أولئك المدعون على شخص معين فإنه يقتل ذلك الشخص أو يدفع لهم ذلك الشخص ليقتلوه، وإذا لم يفعلوا فإنه توجه اليمين لخمسين من المدعى عليهم فتبرأ ساحتهم بذلك، ولهذا قيل لها: قسامة؛ لأن فيها أيماناً كثيرة.

وقد أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج: أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود -وهما أبناء عم- ذهبا إلى خيبر فتفرقا، ثم وجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فجاء أولياؤه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا: إن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل ، وكان الذي تكلم هو عبد الرحمن وهو أخو القتيل وكان أصغر القوم، فقال عليه السلام: [ (الكبر الكبر) ] أو قال: [ (ليبدأ الأكبر) ] وهذا فيه تنبيه إلى أدب وهو أن الجماعة إذا جاءوا لحاجة وكانت مهمتهم واحدة فإن الكلام يكون للأكبر، إلا إذا اتفقوا على أن يتكلم واحد منهم؛ لأنه قد يكون الأكبر لا يجيد الكلام، أو لا يتمكن من أن يتكلم بالشيء الذي يريدونه، فإذا اختاروا واحداً منهم وهو أصغرهم فإنه لا بأس بذلك، وإلا فإن السنة أن يبدأ الكبير كما أرشد إلى ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.

فتكلم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه فقال: [ (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته) ] يعني: أنه يسلم لهم ليتولوا قتله إذا حلفوا على أن هذا هو القاتل.

قوله: [ (فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟) ] يعني: ما شاهدنا ولا رأينا.

قوله: [ (قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! قوم كفار)] أي: كيف نقبل أيمانهم وهم كفار يكذبون.

[ (فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله) ] يعني: لم يضيع دمه، بل وداه من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

فدل هذا على ثبوت القسامة، وأنه يبدأ فيها بأيمان المدعين؛ لأن المدعي إذا كان معه شيء يقوي جانبه فإنه يحلف، كما لو كان معه شاهد واحد والمطلوب شاهدان، فيقوى جانبه لوجود شاهد عنده، فيضاف إلى ذلك يمين المدعي، ولهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين؛ لأنه وجد قوة مع المدعي فيضاف إليها شيئاً آخر وهو اليمين، فيحكم له حيث لا يوجد عنده شاهدان.

وهنا لما وجد ما يسمى باللوث وهو محل التهمة، وهو أنه كان موجوداً بينهم وأنه قتل بينهم وفي أرضهم وليس فيها مسلمون وإنما الذين فيها هم كفار، فالتهمة قوية في أنهم هم الذين قتلوه أو قتله واحد منهم، فهذا هو اللوث الذي يقوي جانب المدعين فيبدأ بهم في الأيمان لا بالمدعى عليهم، ولا تحال اليمين إلى المدعى عليهم؛ لأنه وجد مع المدعين شيء يقوي جانبهم وهو اللوث، فيبدأ بالأيمان على المدعين.

والله تعالى أعلم ما حكمة اختيار خمسين شخصاً لليمين، لكن إذا وجد فيهم من يكذب أو يستسهل الكذب، فإنه قد يوجد فيهم أحد يمتنع ويخاف من العواقب، وقد يوجد فيهم من عنده صدق.

قوله: [ (قال سهل: دخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) ].

يعني: أن هذه الإبل التي وداه الرسول صلى الله عليه وسلم بها جعلوها في مكان معين يقال له: المربد، فدخل سهل رضي الله عنه فركضته ناقه من تلك الإبل ركضة، فهو يتذكر الذي حصل في هذه الحادثة، حيث إنه رأى تلك الإبل التي دفعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية لـعبد الله بن سهل .

تراجم رجال إسناد حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج في القسامة

قوله: [ حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ].

عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ ومحمد بن عبيد ].

هو محمد بن عبيد بن حساب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا حماد بن زيد ].

حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يحيى بن سعيد ].

هو يحيى بن سعيد الأنصاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن بشير بن يسار ].

بشير بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سهل بن أبي حثمة ].

سهل بن أبي حثمة صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ورافع بن خديج ].

رافع بن خديج صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال أبو داود : رواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى بن سعيد ].

بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومالك ].

مالك ثقة فقيه، أحد أئمة المذاهب الأربعة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قوله: [ عن يحيى بن سعيد قال فيه: [ (أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟) ولم يذكر بشر دماً، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد ، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون) ولم يذكر الاستحقاق ].

أي أنه رواه ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: [ (تبرئكم يهود بخمسين) ] فبدأ باليهود، وهذا وهم من ابن عيينة كما قال أبو داود ؛ لأن الذين رووه كلهم ذكروا أنه يبدأ بالمدعين وليس بالمدعى عليهم.

شرح حديث سهل بن أبي حثمة في القسامة من طريق أخرى

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه (أنه أخبره هو ورجال من كبراء قومه أن عبد الله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، فأتى محيصة فأخبر أن عبد الله بن سهل قد قتل وطرح في فقير أو عين، فأتى يهود، فقال: أنتم والله قتلتموه، قالوا: والله ما قتلناه، فأقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم ذلك، ثم أقبل هو وأخوه حويصة وهو أكبر منه وعبد الرحمن بن سهل فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كبر كبر يريد السن، فتكلم حويصة ثم تكلم محيصة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إما أن يدوا صاحبكم، وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فكتبوا: إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لـحويصة ومحيصة وعبد الرحمن : أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: لا، قال: فتحلف لكم يهود؟ قالوا: ليسوا مسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عنده، فبعث إليهم مائة ناقة حتى أدخلت عليهم الدار، قال سهل : لقد ركضتني منها ناقة حمراء) ].

أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة من طريق أخرى، وفيه أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود ذهبا إلى خيبر من فقر، يريدان أن يحصلا شيئاً في تلك البلاد من الحرث والزرع والنخل ليقتاتا به، فتفرقا، فعند ذلك أُخبر محيصة بأن عبد الله بن سهل قتل، فقال: إنكم قتلتموه يا معشر اليهود. فقالوا: إنا ما قتلناه، ثم وصل الخبر إلى المدينة، فقام أصحابه وأولياؤه وجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكتب إلى اليهود: إما أن تدوه وإما أن تؤذنوا بحرب، هذا على اعتبار أنهم هم الذين قتلوه، وأن القتل حاصل منهم، فكتبوا أنهم ما قتلوه ولا حصل منهم شيء من ذلك، فطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من أولياء القتيل أن يحلف خمسون منهم فامتنعوا وقالوا: كيف نحلف؟ ثم قال: تبرئكم يهود، فقالوا كما قالوا فيما مضى، فوداه الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة من الإبل، كما تقدم فـسهل يخبر عن الذي حصل له من واحدة من تلك الإبل، وهنا يقول: إنها ناقة حمراء ركضته برجلها، فهو يذكر تلك الحادثة والواقعة التي قد حصلت له، والحديث بمعنى الحديث الذي قبله إلا أن فيه زيادة: [ (إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب) ] ولعل هذا كان قبل أن يعلم إنكارهم.

تراجم رجال إسناد الطريق الأخرى لحديث سهل بن أبي حثمة في القسامة

قوله: [ حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح ].

أحمد بن عمرو بن السرح ثقة، أخرج حديثه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ أخبرنا ابن وهب ].

هو عبد الله بن وهب وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ أخبرني مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سهل ].

مالك مر ذكره، وأبو ليلى ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي.

[ عن سهل بن أبي حثمة ].

سهل بن أبي حثمة مر ذكره.

شرح حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء ...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمود بن خالد وكثير بن عبيد قالا: حدثنا (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا الوليد عن أبي عمرو عن عمرو بن شعيب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية البحرة، قال: القاتل والمقتول منهم) وهذا لفظ محمود : ببحرة أقامه محمود وحده على شط لية ].

أورد أبو داود هذا الحديث المعضل الذي قال فيه عمرو بن شعيب [ (عن رسول صلى الله عليه وسلم أنه قتل بالقسامة رجلاً) ].

وهذا معضل؛ لأنه سقط منه واسطتان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعضل هو الذي يسقط منه اثنان على التوالي، فإذا كانا بدون توالٍ فيقال له: منقطع .

قوله: [ (أنه قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء) ].

البحرة قيل: هي القرية والمدينة، ويقال: بحيرة تصغير بحرة، والمدينة يقال لها: بحيرة أو بحرة، وفي الحديث: (اعمل من وراء البحار فلن يترك الله من عملك شيئاً) والمقصود: من وراء المدن، وليس المقصود البحار الزاخرة بالماء.

قوله: [ (قال: القاتل والمقتول منهم) ].

أي: أنهما من تلك القبيلة.

والحديث ضعيف؛ لأنه معضل، وليس فيه ذكر الواسطة بين عمرو بن شعيب وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.

تراجم رجال إسناد حديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلاً من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء ...)

قوله: [ حدثنا محمود بن خالد ].

هو محمود بن خالد الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ وكثير بن عبيد ].

كثير بن عبيد ثقة، أخرج له أبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ قالا: حدثنا (ح) وحدثنا محمد بن الصباح بن سفيان أخبرنا ].

هذا التحويل لأجل الاختلاف في الصيغة؛ لأن الأولين قالا: حدثنا، وأما الآخر فقال: أخبرنا؛ فالتحويل من أجل الاختلاف في الصيغة.

ومحمد بن الصباح بن سفيان صدوق، أخرج له أبو داود وابن ماجة .

[ أخبرنا الوليد ].

هو الوليد بن مسلم الدمشقي وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي عمرو ].

هو الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمرو بن شعيب ].

عمرو بن شعيب مر ذكره.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب القتل بالقسامة.

حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ومحمد بن عبيد المعنى قالا: حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج رضي الله عنهما: (أن محيصة بن مسعود وعبد الله بن سهل انطلقا قبل خيبر فتفرقا في النخل، فقتل عبد الله بن سهل، فاتهموا اليهود، فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه حويصة ومحيصة، فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الكبر الكبر، أو قال: ليبدأ الأكبر، فتكلما في أمر صاحبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، فقالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف؟ قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! قوم كفار، قال: فوداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبله. قال: قال سهل : دخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) قال حماد هذا أو نحوه.

قال أبو داود : رواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى بن سعيد قال فيه: (أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟) ولم يذكر بشر دماً، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد ، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون) ولم يذكر الاستحقاق.

قال أبو داود : وهذا وهم من ابن عيينة ].

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ باب القتل بالقسامة ].

القسامة: هي أن يقتل قتيل بين جماعة يتهمون فيه ولا يعرف قاتله؛ هذه يقال لها: قسامة؛ لأن المدعين أو أصحاب الدم يطلب منهم أن يحلف منهم خمسون رجلاً على شخص أنه قتله فيدفع لهم ليقتلوه، فإذا لم يحلف المدعون جعلت اليمين على المدعى عليهم بأن يحلف منهم خمسون بأنهم بريئون من ذلك، فإذا حلف أولئك المدعون على شخص معين فإنه يقتل ذلك الشخص أو يدفع لهم ذلك الشخص ليقتلوه، وإذا لم يفعلوا فإنه توجه اليمين لخمسين من المدعى عليهم فتبرأ ساحتهم بذلك، ولهذا قيل لها: قسامة؛ لأن فيها أيماناً كثيرة.

وقد أورد أبو داود حديث سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج: أن عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود -وهما أبناء عم- ذهبا إلى خيبر فتفرقا، ثم وجد عبد الله بن سهل قتيلاً، فجاء أولياؤه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقالوا: إن اليهود قتلوا عبد الله بن سهل ، وكان الذي تكلم هو عبد الرحمن وهو أخو القتيل وكان أصغر القوم، فقال عليه السلام: [ (الكبر الكبر) ] أو قال: [ (ليبدأ الأكبر) ] وهذا فيه تنبيه إلى أدب وهو أن الجماعة إذا جاءوا لحاجة وكانت مهمتهم واحدة فإن الكلام يكون للأكبر، إلا إذا اتفقوا على أن يتكلم واحد منهم؛ لأنه قد يكون الأكبر لا يجيد الكلام، أو لا يتمكن من أن يتكلم بالشيء الذي يريدونه، فإذا اختاروا واحداً منهم وهو أصغرهم فإنه لا بأس بذلك، وإلا فإن السنة أن يبدأ الكبير كما أرشد إلى ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.

فتكلم الذين أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه فقال: [ (يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته) ] يعني: أنه يسلم لهم ليتولوا قتله إذا حلفوا على أن هذا هو القاتل.

قوله: [ (فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟) ] يعني: ما شاهدنا ولا رأينا.

قوله: [ (قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله! قوم كفار)] أي: كيف نقبل أيمانهم وهم كفار يكذبون.

[ (فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله) ] يعني: لم يضيع دمه، بل وداه من عنده صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

فدل هذا على ثبوت القسامة، وأنه يبدأ فيها بأيمان المدعين؛ لأن المدعي إذا كان معه شيء يقوي جانبه فإنه يحلف، كما لو كان معه شاهد واحد والمطلوب شاهدان، فيقوى جانبه لوجود شاهد عنده، فيضاف إلى ذلك يمين المدعي، ولهذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاهد ويمين؛ لأنه وجد قوة مع المدعي فيضاف إليها شيئاً آخر وهو اليمين، فيحكم له حيث لا يوجد عنده شاهدان.

وهنا لما وجد ما يسمى باللوث وهو محل التهمة، وهو أنه كان موجوداً بينهم وأنه قتل بينهم وفي أرضهم وليس فيها مسلمون وإنما الذين فيها هم كفار، فالتهمة قوية في أنهم هم الذين قتلوه أو قتله واحد منهم، فهذا هو اللوث الذي يقوي جانب المدعين فيبدأ بهم في الأيمان لا بالمدعى عليهم، ولا تحال اليمين إلى المدعى عليهم؛ لأنه وجد مع المدعين شيء يقوي جانبهم وهو اللوث، فيبدأ بالأيمان على المدعين.

والله تعالى أعلم ما حكمة اختيار خمسين شخصاً لليمين، لكن إذا وجد فيهم من يكذب أو يستسهل الكذب، فإنه قد يوجد فيهم أحد يمتنع ويخاف من العواقب، وقد يوجد فيهم من عنده صدق.

قوله: [ (قال سهل: دخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) ].

يعني: أن هذه الإبل التي وداه الرسول صلى الله عليه وسلم بها جعلوها في مكان معين يقال له: المربد، فدخل سهل رضي الله عنه فركضته ناقه من تلك الإبل ركضة، فهو يتذكر الذي حصل في هذه الحادثة، حيث إنه رأى تلك الإبل التي دفعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دية لـعبد الله بن سهل .

قوله: [ حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ].

عبيد الله بن عمر بن ميسرة ثقة، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ ومحمد بن عبيد ].

هو محمد بن عبيد بن حساب وهو ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي .

[ حدثنا حماد بن زيد ].

حماد بن زيد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن يحيى بن سعيد ].

هو يحيى بن سعيد الأنصاري وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن بشير بن يسار ].

بشير بن يسار ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سهل بن أبي حثمة ].

سهل بن أبي حثمة صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ورافع بن خديج ].

رافع بن خديج صحابي، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ قال أبو داود : رواه بشر بن المفضل ومالك عن يحيى بن سعيد ].

بشر بن المفضل ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ ومالك ].

مالك ثقة فقيه، أحد أئمة المذاهب الأربعة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

قوله: [ عن يحيى بن سعيد قال فيه: [ (أتحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم؟) ولم يذكر بشر دماً، وقال عبدة عن يحيى كما قال حماد ، ورواه ابن عيينة عن يحيى فبدأ بقوله: (تبرئكم يهود بخمسين يميناً يحلفون) ولم يذكر الاستحقاق ].

أي أنه رواه ابن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري فقال: [ (تبرئكم يهود بخمسين) ] فبدأ باليهود، وهذا وهم من ابن عيينة كما قال أبو داود ؛ لأن الذين رووه كلهم ذكروا أنه يبدأ بالمدعين وليس بالمدعى عليهم.


استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2890 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2842 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2731 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2702 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2693 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2686 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2679 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2654 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2650 استماع