شرح سنن أبي داود [417]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب النهي عن المسكر.

حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين قالوا: حدثنا حماد -يعني: ابن زيد - عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة) ].

أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في النهي عن المسكر، وهنا النهي مقيد بوصف وهو الإسكار، فيدل على أن كل ما أسكر فهو حرام، والتحريم إنما هو لما يسكر كثيره، فيكون قليله تابعاً له من حيث الحرمة، بمعنى: أنه يحرم سداً للذريعة.

إذاً: الحكم معلق ومنوط بالإسكار، والوصف الذي من أجله حرمت الخمر هو الإسكار، فالخمر إنما حرمت لحصول الإسكار فيها.

ثم إن أبا داود رحمه الله عقد هذه الترجمة ليبين أن الحكم منوط بالإسكار، وأن المسكر حرام مطلقاً من أي شيء كان؛ لأن الحكم الذي هو التحريم أنيط بعلة الإسكار.

وقد أورد أبو داود حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام)، وقوله: (كل مسكر خمر) فيه أن الخمر ليست مقصورة على العنب، وإنما هي متعلقة بكل مسكر، فكل مسكر يقال له: خمر، لأن الإسكار يحصل به تغطية العقل، والخمر تغطي العقل، فيكون الإسكار نتيجة لاستعمال هذا الشراب، أو المادة التي يكون فيها تخمير العقل وتغطيته.

وقوله: (وكل مسكر حرام) يعني: ليس التحريم مقصوراً على نوع معين، بل كل مسكر فهو خمر، وكل مسكر فإن حكمه التحريم، أي: أنه لا يجوز لإنسان أن يتعاطاه لا قليله ولا كثيره، ولو لم يسكر القليل؛ لأن العبرة بالنهاية وبالغاية، فما أسكر كثيره فقليله حرام كما جاءت بذلك الأحاديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

وقوله: (ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها) يعني: أنه يكثر من شربها ومستمر على شربها، هذا هو المقصود بالإدمان.

وقوله: (لم يشربها في الآخرة) الأظهر في معناه: أنه لا يدخل الجنة دخولاً أولياً، فلا يتمتع بما فيها من النعيم، ومن ذلك الخمر التي تكون في الجنة، والتي هي سالمة من كل آفات الدنيا، فإنه لما تعاطاها في الدنيا حرمها في الآخرة، لكن هذا الحرمان له في الآخرة لا يعني أنه يستمر وأنه لا يدخل الجنة أبداً، وأنه سيبقى في النار أبد الآباد، وإنما المقصود من ذلك أنه وإن دخل لا يكون مع أول من يدخل الجنة، وإن كان سيدخلها بعد ذلك إن لم يشأ الله عز وجل له قبل دخولها المغفرة؛ لأن كل ذنب دون الشرك فأمره إلى الله عز وجل، إن شاء عفا عن صاحبه وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن لم يشأ العفو عنه وشاء أن يعذبه، فإنه يعذب على مقدار جرمه ثم بعد ذلك يخرج من النار ويدخل الجنة،فمآله إلى الجنة ولا بد.

ومن العلماء من قال: إنه يدخل الجنة، ولكنه لا يشرب الخمر، يعني: أن هذا النعيم الذي في الجنة المتعلق بالخمر لا يحصل له، والذي يظهر هو الأول، وهو من جنس النصوص التي فيها تحريم الجنة أو عدم دخول الجنة لمن فعل فعلاً من المعاصي ومن الكبائر التي ليست كفراً وليست شركاً بالله عز وجل، فإن الأمر في ذلك أنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وإن دخلها بعد ذلك، فمن شاء الله تعالى أن يدخل النار ويعذب فيها فإن مآله إلى الجنة ولا بد.

فقوله: (لم يشربها في الآخرة) يعني: في الجنة.

تراجم رجال إسناد حديث (كل مسكر خمر وكل مسكر حرام...)

قوله: [ حدثنا سليمان بن داود ].

سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني ثقة، أخرج حديثه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي .

[ ومحمد بن عيسى ].

محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج حديثه البخاري تعليقاً وأبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي وابن ماجة .

[ في آخرين ].

يعني: أن هذين الراويين معهما آناس آخرون أشار إليهم أبو داود دون أن يذكرهم واكتفى بذكر هذين الاثنين.

[ قالوا: حدثنا حماد يعني: ابن زيد ].

حماد بن زيد بن درهم البصري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وكلمة (يعني: ابن زيد ) هذه قالها أبو داود أو من دون أبي داود ، وأما تلميذه سليمان بن داود أبو الربيع الزهراني أو محمد بن عيسى الطباع فلا يحتاج إلى أن يقول: (يعني)، بل ينسب شيخه كما يريد، ويذكر شيخه كما يريد، لكنهما ذكراه بالاقتصار على لفظ حماد دون أن ينسباه، فمن دون التلاميذ لما أراد أن يضيف شيئاً أتى بكلمة (يعني) حتى يتبين بها أن هذا التوضيح والبيان ليس من التلاميذ، وإنما هو ممن دون التلاميذ.

[ عن أيوب ].

أيوب بن أبي تميمة السختياني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن نافع ].

نافع مولى ابن عمر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عمر ].

عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ، وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذين يقول فيهم السيوطي في الألفية:

والمكثرون في رواية الأثر

أبو هريرة يليه ابن عمر

وأنس والحبر كالخدري

وجابر وزوجة النبي

والبحر المراد به: ابن عباس ، وزوجة النبي المراد بها: أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عن الجميع.

بيان أن الإدمان لا يلزم منه الاستحلال

قوله: (لم يشربها في الآخرة) الأظهر: أنه لا يدخل الجنة دخولاً أولياً، وهذا لا يفهم منه أن إدمانه على الخمر يدل على استحلاله لها، فإن كان مستحلاً لها فهو لا يدخلها أبداً؛ لأنه يكون كافراً بالاستحلال، ولكن الكلام في غير المستحل.

ولا تلازم بين الإدمان والاستحلال، بل قد يكون الإنسان مدمناً وهو عاصٍ، ويعتبر مذنباً، ولا يقول: إنها حلال، ولكنه مبتلى بهذه الخبيثة أم الخبائث.

فلا تلازم بين الإدمان وبين الاستحلال، فيمكن أن يكون مع الإدمان مستحلاً حيث يقول: الخمر حلال، وليست بحرام، ويمكن أن يكون مع إكثاره منها وإدمانه لها يعتبر نفسه مذنباً، وليس بالمستحل، ويقول: إنه مخطئ وإنه قد ابتلي، وهو يعترف بذنبه، فهذا لا يكون كافراً، لكن إن كان مستحلاً فإنه لا يشربها أبداً ولا يدخل الجنة، وأما مع كونه غير مستحل فإنه لا يدخلها مع أول من يدخلها، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) أي: نمام، يعني: لا يدخلها مع أول من يدخلها، وليس معنى ذلك أنها محرمة عليه أبداً، كما حرمت على الكفار، حيث لا سبيل للكفار إلى دخول الجنة.

بل كل صاحب كبيرة فأمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا وتجاوز عنه ودخل الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه ولكنه لا يخلده في النار، ولا يبقيه فيها أبد الآباد، بل يخرجه منها ويدخله الجنة ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين هم أهلها ولا سبيل لهم إلى الخروج منها.

شرح حديث (كل مخمر خمر وكل مسكر حرام...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن رافع النيسابوري حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني قال: سمعت النعمان بن أبي شيبة يقول: عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟! قال: صديد أهل النار، ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) ].

أورد أبو داود حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل مخمر خمر) يعني: كل مخمر للعقل، مغطٍ له ساتر له، يكون خمراً، والمقصود بالمخمر: كل مسكر، وهذا مثل قوله في الحديث الأول: (كل مسكر خمر).

فقوله: (كل مخمر خمر) يعني: كل مسكر مغطٍ للعقل ساتر له، فإنه يكون خمراً ويقال له: خمر، من أي شيء كان من العنب أو التمر أو الزبيب أو البسر أو الشعير أو البر أو العسل أو أي شيء يحصل به الإسكار، ويحصل به تخمير العقل وتغطيته، فما كان كذلك فإنه يقال له: خمر.

وقوله: (وكل مسكر حرام) هو من جنس الجملة الأولى التي وردت في الحديث الأول وهي قوله: (كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام) وهنا قال: (كل مخمر خمر) يعني: كل مسكر مغطٍ للعقل خمر.

وقوله: (وكل مسكر حرام). هذا فيه بيان التحريم، والفرق بين الجملة الأولى والثانية أن الأولى فيها تسمية الخمر، والثانية فيها بيان الحكم وأنها حرام.

وقوله: (ومن شرب مسكراً بخست -يعني: نقصت- صلاته أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه).

يعني: أن هذا النقصان الذي قد حصل وهذا البخس الذي قد حصل، إذا تاب تاب الله عليه.

وقوله: (فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) هنا قال: (فإن عاد الرابعة) وما ذكر إلا مرة واحدة، لكن جاء في سنن الترمذي من طريق أخرى عن عبد الله بن عمر أنه ذكر ذلك ثلاث مرات ثم قال: (فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال). فمعنى ذلك: أنه قال: إن شربها بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن عاد بخست صلاته أربعين صباحاً، فإن عاد الثالثة كذلك، ثم قال: (فإن عاد -يعني: للرابعة- كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال) ومعنى ذلك: أنه كلما شرب يحصل له المعاقبة بأن يحرم ثواب الصلوات هذه المدة، وإن كان يعتبر مؤدياً للصلاة، ولا يقال: إنه يعيدها لأنها ليس لها أجر، ولكنه فعلها وأداها وحرم ثوابها، وحيل بينه وبين ثوابها عقوبة له على ذلك.

وقوله: (بخست صلاته أربعين صباحاً) أي: أنه يحرم الثواب هذه المدة، فإن تاب تاب الله عليه، وإن عاد كذلك ثم الثالثة كذلك، وإن عاد الرابعة كان حقاً على الله عز وجل أن يسقيه من طينة الخبال.

وطينة الخبال هي عصارة أهل النار، وعصارة أهل النار هي ما يخرج منهم من الصديد والقيح، فإن هذا هو الذي يسقى إياه من كان على هذه الهيئة وعلى هذا الوصف، وهو كونه يشرب الخمر، ويكرر شربها، فيحرم الأجر في الصلوات التي يصليها، وإن عاد المرة الرابعة يكون هذا جزاؤه بأن يسقى من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار، نعوذ بالله من ذلك! ونسأل الله السلامة والعافية.

وقوله: (ومن سقاه صغيراً لا يعرف حلاله من حرامه، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال) يعني: من سقى صغيراً ليس عنده معرفة بالحلال والحرام خمراً، فإنه يعاقب بهذه العقوبة؛ لأنه فعل هذا الفعل الشنيع مع غيره ممن هو جاهل، وممن هو صغير غير مدرك وغير مميز.

تراجم رجال إسناد حديث (كل مخمر خمر وكل مسكر حرام...)

قوله: [ حدثنا محمد بن رافع النيسابوري ].

محمد بن رافع النيسابوري القشيري ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة ، وهو أحد شيوخ الإمام مسلم الذين أكثر عنهم، والإمام مسلم يوافقه في البلد وفي القبيلة؛ لأن مسلماً قشيري من حيث النسب والقبيلة، ونيسابوري من حيث البلد، وشيخه محمد بن رافع هو بلديه ومن قبيلته، فهو نيسابوري قشيري، وهذا الرجل الذي هو محمد بن رافع هو الذي يروي من طريقه الإمام مسلم صحيفة همام بن منبه ، فالأحاديث التي يوردها الإمام مسلم من صحيفة همام بن منبه كلها من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة ، فشيخه في أحاديث الصحيفة هو محمد بن رافع .

[ حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني ].

إبراهيم بن عمر الصنعاني مستور، أخرج له أبو داود ، والمستور: هو مجهول الحال، وهذا الحديث مذكور في ترجمته في تهذيب الكمال.

[ قال: سمعت النعمان بن أبي شيبة ].

النعمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أبو داود .

[ عن طاوس ].

طاوس بن كيسان ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن عباس ].

ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا المستور الذي في سند الحديث لا يؤثر؛ لأن قضية بخس الصلاة أو نقص الصلاة جاءت من طريق أخرى عن ابن عمر ، غير هذه الطريق التي جاءت عن ابن عباس ، وأما سقيه من طينة الخبال، فقد جاء ذلك من طرق، وعلى هذا فلا يؤثر وجود هذا الشخص المستور في هذا الإسناد.

حكم المخدرات

المخدرات هي أخطر من الخمر؛ لأن الخمر ضررها مؤقت، وأما هذه المخدرات فتهدم الجسم، ويكون مدمنها ميتاً وهو حي، بسبب إتلافها للجسم.

وأما المسكرات فإنها مادامت مسكرة ففيها الضرر، وإذا ذهب السكر رجعت الأجسام إلى طبيعتها وإلى حالتها، وأما هذه المخدرات فتفتك بالجسم وتتلفه، وتميته، ويكون كأنه فقد حياته وهو حي؛ ولهذا فإن ضررها أكبر من ضرر المسكرات؛ لأن المسكرات ضررها يكون ما دام السكر موجوداً، وأما تلك فضررها مستمر ومتصل ودائم.

قيل: وذكر حرمانه الصلاة لأنها أفضل عبادات البدن، وذكرت الأربعين لأن الخمر تبقى في جوف الشارب وعروقه تلك المدة.

أما كون الصلاة أعظم أركان الإسلام فإن هذا ليس فيه إشكال، وأما كون الخمر تبقى في جوف شاربها أربعين فهذا لا أدري وجهه وصحته؟ فكونها تبقى أربعين بهذا التحديد لا أدري ما وجهه؟ وقد جاء ذكر الأربعين في غير الخمر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من أتى عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) وهذا ليس له دخل بقضية شيء يبقى في جسمه.

شرح حديث (ما أسكر كثيره فقليله حرام)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل -يعني: ابن جعفر - عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) ].

أورد أبو داود حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) وهذا يدلنا على أن كل مسكر محرم قليله وكثيره، أما كثيره فمن أجل الإسكار، وأما قليله فمن أجل أنه ذريعة إلى الكثير، ووسيلة إلى الوصول إلى الكثير، فلذا يقطع الطريق أمام الإنسان، حتى لا يعرض نفسه للوقوع في هذه الخبيثة أم الخبائث، فلو لم يسكر القليل فإنه لا يجوز تعاطيه وإن لم يسكر؛ لأن الأخذ منه والتساهل فيه يؤدي إلى الوصول إلى الكثير الذي يحصل به الإسكار، لكن إذا منع نفسه من ذلك، وحال بين نفسه وبين ذلك، وأبعد نفسه عن ذلك؛ كان في ذلك سلامته ونجاته.

إذاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) يدلنا على أن كل ما كان مسكراً من أي شيء كان فإنه حرام، وأن ما أسكر منه الكثير فإنه يحرم منه القليل، ولا يقال: إن الأمر متعلق بالإسكار فقط، وأنا أشرب حيث لا إسكار، بل الرسول صلى الله عليه وسلم منع ذلك؛ لأنه ذريعة ووسيلة إلى الوصول إلى الأمر المحرم، والشريعة جاءت بسد الذرائع.

والإمام ابن القيم رحمه الله ذكر في كتابه إعلام الموقعين تسعة وتسعين دليلاً على سد الذرائع التي توصل إلى الأمور المحرمة، فالوسائل حرمت من أجل الغايات؛ لأنها تؤدي إلى أمر محرم، فحرم ذلك الشيء الذي يؤدي إليه وإن كان هو نفسه لا يحصل منه الإسكار.

تراجم رجال إسناد حديث (ما أسكر كثيره فقليله حرام)

قوله: [ حدثنا قتيبة ].

قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف البغلاني ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا إسماعيل يعني: ابن جعفر ].

إسماعيل بن جعفر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن داود بن بكر بن أبي الفرات ].

داود بن بكر بن أبي الفرات صدوق، أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجة .

[ عن محمد بن المنكدر ].

محمد بن المنكدر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن جابر بن عبد الله ].

جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله تعالى عنهما صحابي ابن صحابي، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح حديث (سئل رسول الله صلى الله عليه سلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال: كل شراب أسكر فهو حرام) ].

أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البتع).

والبتع هو: الشراب الذي يتخذ من العسل، وهذا السؤال خاص معين، ولكنه صلى الله عليه وسلم أعطى جواباً عاماً؛ لأنه قد أعطي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم، فلم يكن جوابه أن قال: هو حرام، أو قال: هل يسكر أو لا يسكر؟ وإنما قال: (كل مسكر حرام).

إذاً: الحكم معلق بالإسكار سواء جاء من العسل, أو جاء من التمر، أو جاء من العنب، أو البسر، أو الشعير، أو الذرة أو الحنطة أو أي شيء، فكل مسكر حرام، فكان هذا من جوابه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه الذي يعطي الحكم عن المسئول عنه وزيادة، وأن الأمر منوط بالإسكار سواء كان من البتع المتخذ من العسل، أو أي نوع آخر.

وأما إقامة الحد هل يكون بتناول القليل أو بالإسكار؟ فذكر بعض العلماء أنه يعرف شرب الخمر بالتقيؤ، ومعلوم أن التقيؤ قد يكون بالقليل، وليس بلازم أن يكون بالشيء الذي يسكر، فمن شرب شيئاً وعرف أنه خمر، فيكون الحكم أنه شرب خمراً، وليس الحكم من أجل حصول الإسكار فقط، وإنما من أجل شرب الخمر، ومعلوم أن من شرب قليلاً فقد شرب خمراً، فمن جملة الأشياء التي يستدل بها على شرب الخمر التقيؤ، فالإنسان إذا تقيأ وعرف أنه خمر فمعناه أنه فعل أمراً يقتضي الحد.

تراجم رجال إسناد حديث (سئل رسول الله صلى الله عليه سلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام)

قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي ].

عبد الله بن مسلمة القعنبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

مالك بن أنس إمام دار الهجرة المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن ابن شهاب ].

ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي سلمة ].

أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف المدني ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عائشة ].

عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

طريق أخرى لحديث (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع فقال كل شراب أسكر فهو حرام) وتراجم رجال إسنادها

[ قال أبو داود : قرأت على يزيد بن عبد ربه الجرجسي : حدثكم محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري بهذا الحديث بإسناده زاد: (والبتع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه) ].

أورد أبو داود الحديث من طريق أخرى وفيه قوله: (والبتع: نبيذ العسل، كان أهل اليمن يشربونه) يعني: أن هذا تفسير للبتع الذي جاء في الحديث من الطريق الأولى، فإنه سأله عن البتع، فقال: (كل شراب أسكر فهو حرام)

.

والنبيذ هو شيء ينتبذ في أوعية، ويحصل منه التخمر، ويمكن أن يوضع معه شيء، وإلا فالعسل يمكن أنه يبقى بدون أن يتخمر.

قوله: [ قرأت على يزيد بن عبد ربه الجرجسي ].

يزيد بن عبد ربه الجرجسي ثقة، أخرج له مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

[ حدثكم محمد بن حرب ].

محمد بن حرب ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الزبيدي ].

الزبيدي هو محمد بن الوليد الزبيدي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ عن الزهري بهذا الحديث بإسناده ].

أي: بإسناده الذي فوق الزهري ، وهو عن أبي سلمة عن عائشة .

[ قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا إله إلا الله ما كان أثبته! ما كان فيهم مثله. يعني: في أهل حمص. يعني: الجرجسي ].

هذا نقل من أبي داود عن الإمام أحمد أنه كان يثني على الجرجسي شيخ أبي داود في هذا الحديث، وهو أنه ما كان في أهل حمص مثله، وهذه تزكية له وثناء عليه.

شرح حديث ديلم الحميري (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله! إنا بأرض باردة...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هناد بن السري حدثنا عبدة عن محمد -يعني: ابن إسحاق - عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن ديلم الحميري رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله! إنا بأرض باردة نعالج فيها عملاً شديداً، وإنا نتخذ شراباً من هذا القمح نتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا، قال: هل يسكر ؟ قلت: نعم، قال: فاجتنبوه، قال: قلت: فإن الناس غير تاركيه، قال: فإن لم يتركوه فقاتلوهم) ].

أورد أبو داود حديث ديلم الحميري رضي الله عنه: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نتخذ شراباً من القمح نتقوى به على أعمالنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيسكر؟ فقال: نعم, قال: اجتنبوه، قال: إنهم غير تاركيه -يعني: إنهم قد اعتادوه وألفوه- فقال: إن لم يتركوه فقاتلوهم).

سأله صلى الله عليه وسلم عن الإسكار لأن الحكم يتعلق به، أما إذا كان لا يسكر فلا بأس؛ لأن المحذور هو كونه يسكر، فقال: (إنه يسكر).

فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوه)، أي: مادام يسكر فإنه يجتنب؛ لأن الخمر يجب اجتنابها والابتعاد عنها.

فقال: (إنهم غير تاركيه) يعني: أنهم قد ألفوه فقال عليه الصلاة والسلام: (إن لم يتركوه فقاتلوهم) يعني: إن امتنعوا وأصروا على أنهم يشربونه فإنهم يقاتلون حتى يتركوه يعني: إذا حصل منهم مقاتلة قوتلوا، لكن إن لم تحصل منهم مقا