شرح سنن أبي داود [401]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الرهن.

حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة) ].

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الرهن، والرهن هو: أن يأخذ البائع من المشتري سلعة إلى أجل، فهي عين يستوثق بها في حقه حتى إذا لم يحصل الوفاء عند حلول الأجل تباع العين المرهونة ويأخذ حقه منها، وإذا بقي شيء فإنه يكون لصاحب العين.

فالرهن هو توثقة دين بعين، أي: أن العين تؤخذ من أجل الاطمئنان على حصول الدين ممن كان عليه ذلك الدين، فهو دين في ذمة يستوثق منه بعين مرهونة، والرهن جاء ذكره في القرآن في السفر، وجاء في السنة في الحضر، قال الله عز وجل: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، يعني: أن الشيء الذي يكون في الذمة يقبض عليه رهن إذا احتاج الأمر إلى ذلك.

وفي السنة جاء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أورده أبو داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)، يعني: إذا كانت الدابة مرهونة بيد المرتهن، فهو يحلبها في مقابل نفقته عليها؛ لأنها تحتاج إلى نفقة، فإذا أنفق عليها فإنه يأخذ الحليب في مقابل النفقة.

قوله: (والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً)، مثلاً البعير أو الحمار التي يركب عليها فإنه يركب المرتهن عليها في مقابل ما ينفقه عليها من النفقة.

وهذا الحديث يدل على أن المرتهن يستفيد من الرهن في مقابل ما يحتاج إليه من العلف والحلب والركوب، فإن ذلك الركوب والحليب يكون في مقابل الانتفاع به، فكما أنه ينفق على الشاة ذات اللبن فإن ذلك إنفاق في مقابل الحليب، والمرهون إذا كان دابة مركوبة فذلك الركوب في مقابل الإنفاق، والمقصود بالذي يركب ويحلب هو المرتهن، أي: الذي أخذ العين ليستوثق بها عن الدين في مقابل النفقة، وهو يدل على أن الرهن ممكن أن يكون بيد المرتهن إذا لم يقبل إلا أن يكون في يده.

وقوله: (يحلب ويركب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة)، هذا إنما يكون في حق المرتهن، وأما الراهن فلا حاجة إلى أن يقال له: إنه بنفقته إذا كان مرهوناً؛ لأن الراهن هو المالك، فكونه ينفق عليه فإنما ينفق على ملكه، وأما المرتهن فلا ينفق على ملكه وإنما ينفق على ملك غيره، وهذا الإنفاق الذي ينفقه يأخذ مقابله فيستفيد في الركوب أو الحلب.

وقد يكون الذي يركب ويحلب شخص ثالث جعلت وديعة عنده، يعني: فلا هي عند الراهن ولا عند المرتهن ولكنها جعلت وديعة عند شخص، فهذا الذي استودعت عنده أيضاً له أن يحلب ويركب في مقابل النفقة التي ينفقها.

قوله: (وعلى الذي يركب ويحلب النفقة) سواءً كان هو المرتهن أو طرف ثالث اتفقا على أن يكون الرهن وديعة عنده، فإذا كان مما يحلب ويركب فحلب ما يُحلب وركب ما يُركب فإنه يكون ذلك في مقابل الإنفاق عليه، وهو يدل على أن الرهن يمكن أن يكون بيد المرتهن، ويمكن أن يكون بيد الراهن إذا اتفاقا على ذلك، ولكن لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه بالبيع، وأما أن يتصرف فيه بالركوب أو بالإجارة أو غير ذلك فهذا لا بأس به.

وله أن يؤجره إذا كان بيد المالك له؛ لأن الرهن على العين وليس على المنفعة، فالمنفعة ملك للراهن الذي هو مالكها، فله أن يؤجرها ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن الحق متعلق بالعين وليس بالمنفعة، فالمنفعة يمكن أن تؤجر والعين لا تباع.

والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: إن الرهن يكون بيد الراهن، ومنهم من يقول: إن الرهن يكون بيد المرتهن، ولكن الحديث فيه أن على الذي يحلب النفقة، ومعلوم أن هذا إنما يكون في حق غير المالك، وأما المالك فهذا الأصل في حقه.

تراجم رجال إسناد حديث (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً...)

قوله: [ حدثنا هناد ].

هو هناد بن السري ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن ابن المبارك ].

هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن زكريا ].

هو زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الشعبي ].

هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.

نماء الرهن

للرهن نماءان: منفصل ومتصل، فأما النماء المتصل فهو تابع للرهن، وأما النماء المنفصل فلا يتبع الرهن. فالمتصل يأخذه الراهن تبعاً للرهن؛ لأنه لا ينفصل مثل الصوف أو شيء من ذلك، وأما ولد الدابة فلا يدخل في الرهن، ولا ينتفع منه إلا إذا كانت هناك حاجة إلى الإنفاق، وأما ما لا حاجة فيه فلا؛ فمثلاً إذا أخذ السيارة فإنه يوقفها ولا يستخدمها، وإذا أوقفها فإنها لا تتلف؛ إذ ليست مثل الدابة التي إن لم يعلفها فإنها تتلف.

فالنماء المنفصل ليس تابعاً للمرتَهَن؛ لأن الراهن رهن العين فقط، وأما نماؤها يرجع إلى الراهن المالك، فله أن يبيع النتاج؛ لأن الرهن ليس عليه وإنما هو على العين وحدها.

وأما بالنسبة للسيارة فهل تقاس على الظهر فيركبها مقابل ما يصرفه عليها من البنزين؟ لا، ليس له أن يستخدمها؛ لأن الظهر يحتاج إلى نفقة وإلا مات، فهو ينفق عليه ويركبه، وأما السيارة فلا يترتب على إيقافها شيء.

ويقاس على السيارة البيت؛ فلو رهنه فإنه لم ينتفع به؛ لأنه إذا انتفع به صارت عليه أجرة، وتسقط من الدين إذا اتفقا على أنه يسكنه ويستفيد منه، فيصير له قيمة وتسقط بحسابها.

وإذا تلف الرهن فهو على حساب الراهن إلا إذا فرط فيه الذي هو بيده، وحينئذ يضمن؛ لأن يده يد أمينة.

الاستفادة من الرهن للمرتهن

جرت العادة في بعض البلدان أن الشخص إذا رهن أرضاً للبائع فإن البائع يستفيد منها بالزرع، والواجب أنه لا يستفيد منها إلا إذا كان محتاجاً إلى إحيائها مثل الدواب، وأما إذا لم تكن كذلك فليس له ذلك.

وأما الراهن فإنه يستفيد منها؛ لأنها ملكه، ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن حق المرتهن متعلق بالعين، فإذا جاء الأجل ولم يوفه فله حق المطالبة في بيعها وأخذ نصيبه منها، وأما أن يستفيد منها صاحبها بأن يزرعها أو يؤجرها فله ذلك؛ لأن هذا حقه وملكه، والمنفعة لا دخل للمرتهن فيها فهي لمالك العين، وإنما ربط الحق بالعين بحيث لا يتصرف فيها مالكها بالبيع، وأما أن يتصرف فيها بالإجارة أو بالانتفاع بأن يزرعها إذا كانت أرضاً زراعية أو بيتاً يسكنه فلا بأس بذلك لكنه لا يبيعه.

وأما بالنسبة للسيارة فإذا توقفت لمدة طويلة فقد تتلف الكفرات، فإن كان بقاؤها يفسدها فلا بأس أن يحركها شيئاً يسيراً يحصل به المقصود، وهذه الحركة لا تكلفه الكثير من البنزين، ويمكن فعل هذا داخل المستودع.

وإذا كان الرهن أمة فلا يجوز للمرتهن أن يطأها، فلا يطؤها إلا مالكها، ولا يجوز للمرتهن أن يرهن الرهن لشخص آخر، وهذه شبيهة بمسألة ذكرها الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة أحد النحويين لما قيل له: لو سهى رجل في صلاته فماذا عليه؟ قال: عليه سجود سهو، فقيل: ولو سها في سجود السهو فماذا يصنع؟ قال: عندنا أن المصغر لا يصغر، يعني: ليس في سجود السهو سجود سهو، فالرهن كذلك، فلا يحق للمرتهن أن يرهنه.

[ قال أبو داود : وهو عندنا صحيح ] يعني: الحديث صحيح.

شرح حديث (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ بمكانهم من الله تعالى، قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]) ].

أورد أبو داود هذا الحديث وهو لا علاقة له بباب الرهن، وإنما هو في المحبة في الله وفضلها، فقال بعض أهل العلم: لعله أورده للإشارة إلى أنه ينبغي على المسلمين أن يتعاونوا ويتساعدوا فيما بينهم، وأن ييسر بعضهم على بعض، ويحسن بعضهم إلى بعض، فيقرض المسلم أخاه إذا احتاج، ويمهله في السداد، ولا يحوجه إلى أن يشتري شيئاً ثم يقوم برهن عين يملكها في مقابل ذلك الدين الذي عليه.

والواقع وكما هو واضح أنه لا علاقة له بالرهن فهو في غير مظنته، وهذا من الأحاديث التي تأتي في غير مظنتها، إذ لا يبحث عن هذا الحديث في باب الرهن، ولا مجال لأن يوجد فيه.

قال: [ (إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة؛ بمكانهم من الله تعالى).

وهذا لا يعني أنهم فوق الأنبياء والشهداء، ولا يجوز أن يفهم هذا الفهم؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم أفضل الخلق وأفضل البشر، ولا يجوز أن يظن أو يتصور أن ولياً من أولياء الله يكون أفضل من نبي من أنبياء الله، أو أفضل من رسول من رسل الله، فإن الرسل بإجماع المسلمين أفضل وخير البشر.

وقوله: (يغبطهم) لا يدل على أنهم أفضل من الأنبياء، وإنما معنى ذلك أنهم يمدحونهم، ويثنون عليهم، ويعترفون بمنزلتهم، ويحصل لهم الاغتباط بما حصل لهم لا أنهم يغبطونهم لأنهم أعلى منهم أو فوقهم، فهذا لا يجوز أن يتصور، وإنما معناه ما أشرت إليه من ناحية أن الفاضل قد يغبط المفضول إذا رآه على حالة حسنة وطريقة طيبة، فيغبطه وإن كان أفضل منه، فليس بلازم أن الغابط يكون دون المغبوط، فالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم خير وأفضل البشر، ولا يجوز أن يفهم أن غيرهم قد يكون أفضل منهم، فالأولياء لم تحصل لهم الولاية إلا باتباع الرسل، والحق والهدى الذي حصل لهم إنما تلقوه عن طريق اتباع الرسل صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم.

ومن الكلام الذي قاله بعض الناس في هذا الزمان وهو من أسوأ وأقبح الكلام ما قاله الخميني زعيم الرافضة في هذا العصر في كتابه (الحكومة الإسلامية): وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا والعياذ بالله من أقبح وأسوأ الكلام، فكيف يكون علي والحسن والحسين وتسعة من أولاد الحسين -وهم الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة- كيف يكونون بهذه المنزلة التي لا يصل إليها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا من أبطل الباطل، والحديث الذي معنا ليس فيه دلالة على مثل هذا المعنى الباطل، وإنما فيه أن الرسل والشهداء يغبطونهم، وليس فيه أنهم يغبطونهم لأنهم دونهم وأنهم حصلوا على منازل أعلى من الأنبياء عند الله عز وجل، فلن يكون أحد أعلى منهم منزلة عند الله سبحانه وتعالى؛ لأن الأولياء والمتقين ما حصلوا عليه من الخير إنما حصلوه عن طريق اتباعهم للرسل، وعن طريق إيمانهم بالرسل، والرسل هم الذين تلقوا الوحي من الله عز وجل إما سماعاً لكلام الله من الله، أو جاء به الرسول الملكي إلى الرسول البشري.

أن يكون لبعض المشائخ تلميذ من التلاميذ في منزلة عالية وفهم وإدراك واستيعاب وحفظ وإتقان فيغبطه شيخه، ولا يقال: إن هذه الغبطة لا تكون إلا من الأدنى للأعلى فهو عنده ما عنده وزيادة، وقد يكون أيضاً دونه لكن لا يقال: إن كل غابط فهو دون المغبوط، فالغابط قد يكون أعلى من المغبوط كما في هذا الحديث: (إن من عباد الله لأناساً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء).

(قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور).

ذكر هنا صفات هؤلاء التي جعلتهم يصلون إلى هذه المنزلة: أنهم تحابوا في الله ومن أجل الله، فلم يتحابوا من أجل أرحام ومصالح دنيوية متبادلة، أي: قريب يعطف على قريبه ويحبه من أجل قرابته، أو من أجل مال أعطي إياه، أو إحسان حصل، فليست هذه المحبة من أجل هذه الأمور، وإنما من أجل الله، كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، فهو يحب الله ورسوله، ويحب ما يحبه الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله، فتكون محابه تابعة لما يحبه الله، فليست المحبة من أجل تبادل منافع، أو صلة وقرابة، وإنما جمع بينهما الحب في الله، وفاعل ذلك أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، قال: (ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه)، فالذي جمعهم هو الحب في الله، وتفرقا على الحب في الله، فليس هناك شيء جمعهم سواه، ولا تفرقوا عنه إلى شيء سواه، ولهذا: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله)، وهذه صفات المؤمنين أنهم يحبون من يحب الله ورسوله وما يحبه الله ورسوله، ويبغضون ما يبغضه الله ورسوله ومن يبغضه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (بروح الله) قيل: المقصود بالروح هنا القرآن، فالقرآن يقال له: روح، كما قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، يعني أنه بني على اتباع ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الذي يحب في الله ومن أجل الله هو الذي يكون متبعاً لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله: [ (فوالله! إن وجوههم لنور، وإنهم على نور).

يعني: أن وجوههم فيها إشراق وإضاءة، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24]، وهم على نور يعني: على منابر من نور، (لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]).

وأولياء الله بينهم الله بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] أي: أن ولاية الله عز وجل ليست شيئاً خاصاً يحصل لبعض الناس دون بعض، ويؤدي ذلك الأمر إلى أن يصرف له شيء من حق الله عز وجل ويغالى فيه، فولاية الله عز وجل تكون بالإيمان والتقوى، فمن كان متقياً لله عز وجل مؤمناً به فإنه ولي من أولياء الله، وليست الولاية حكراً على أناس معينين لا تتجاوزهم إلى غيرهم، فكل من كان مؤمناً تقياً فهو ولي لله؛ لأن الله يقول: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فهؤلاء هم أولياء الله، وهذا هو تعريف أولياء الله لا تعريف بعض من يدعي الولاية وتدعى له الولاية ثم يكون فوق الناس، فيصرف له الناس شيئاً مما يستحقه الله تعالى، فيغلون فيه ويتجاوزون الحدود.

إن ولاية الله عز وجل بابها مفتوح، فمن يريد أن يكون من أولياء الله فما عليه إلا أن يكون مؤمناً تقياً، فيلتزم بطاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحذر من الوقوع في معصية الله ومعصية رسوله، وبذلك يكون من أولياء الله، وأما تلك الولاية التي تكون لشخص من الناس، والناس يقدسونه ويعظمونه ويصرفون له شيئاً لا يستحقه، ويبذلون له من الأموال بحجة أنه ولي من أولياء الله، وإذا مات ينذرون له النذور، ويتقربون إليه بأنواع من العبادات، حتى تجد بعض الناس لا يعلم لله طريقاً يوصل إليه إلا عن طريق ولي من الأولياء، والله عز وجل قريب من عباده: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].

ومما يدخل في حديث المحبة: محبة الحي لميت بينه وبينه قرون من الزمن كحب الصحابة والصالحين من السلف، وحب أولياء الله الحاضرين والمتقدمين، ولا شك أن هذا مطلوب، فيحب الإنسان ما يحبه الله ورسوله ومن يحبه الله ورسوله، وكل من كان مؤمناً تقياً ومعروفاً بالفضل والعلم والخير فإننا نحبه، سواء كان من المتقدمين أو من المتأخرين.

تراجم رجال إسناد حديث (هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم...)

قوله: [ حدثنا زهير بن حرب ].

زهير بن حرب أبو خيثمة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ وعثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة.

[ حدثنا جرير ].

هو جرير بن عبد الحميد الضبي الكوفي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمارة بن القعقاع ].

عمارة بن القعقاع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ].

أبو زرعة بن عمرو بن جرير ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمر ].

هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة، والفضائل الكثيرة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

و أبو زرعة لم يدرك عمر فهو منقطع، ولكن جاء الحديث عن أبي هريرة من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة ، وأبو زرعة يروي عن أبي هريرة كثيراً، وآخر حديث في صحيح البخاري هو من هذه الطريق: عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة : (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، فقد جاء الحديث عند ابن جرير من طريق عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة بألفاظ مقاربة إلا في أشياء يسيرة منه، وعلى ذلك فيكون هذا الذي جاء عن عمر يشهد له حديث أبي هريرة .

وقد ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله عند تفسير: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] الحديث عن أبي هريرة، ثم ذكر حديث عمر وقال: إنه منقطع؛ لأنه لم يدركه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الرهن.

حدثنا هناد عن ابن المبارك عن زكريا عن الشعبي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً، والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة) ].

قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: باب في الرهن، والرهن هو: أن يأخذ البائع من المشتري سلعة إلى أجل، فهي عين يستوثق بها في حقه حتى إذا لم يحصل الوفاء عند حلول الأجل تباع العين المرهونة ويأخذ حقه منها، وإذا بقي شيء فإنه يكون لصاحب العين.

فالرهن هو توثقة دين بعين، أي: أن العين تؤخذ من أجل الاطمئنان على حصول الدين ممن كان عليه ذلك الدين، فهو دين في ذمة يستوثق منه بعين مرهونة، والرهن جاء ذكره في القرآن في السفر، وجاء في السنة في الحضر، قال الله عز وجل: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، يعني: أن الشيء الذي يكون في الذمة يقبض عليه رهن إذا احتاج الأمر إلى ذلك.

وفي السنة جاء حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أورده أبو داود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهوناً)، يعني: إذا كانت الدابة مرهونة بيد المرتهن، فهو يحلبها في مقابل نفقته عليها؛ لأنها تحتاج إلى نفقة، فإذا أنفق عليها فإنه يأخذ الحليب في مقابل النفقة.

قوله: (والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً)، مثلاً البعير أو الحمار التي يركب عليها فإنه يركب المرتهن عليها في مقابل ما ينفقه عليها من النفقة.

وهذا الحديث يدل على أن المرتهن يستفيد من الرهن في مقابل ما يحتاج إليه من العلف والحلب والركوب، فإن ذلك الركوب والحليب يكون في مقابل الانتفاع به، فكما أنه ينفق على الشاة ذات اللبن فإن ذلك إنفاق في مقابل الحليب، والمرهون إذا كان دابة مركوبة فذلك الركوب في مقابل الإنفاق، والمقصود بالذي يركب ويحلب هو المرتهن، أي: الذي أخذ العين ليستوثق بها عن الدين في مقابل النفقة، وهو يدل على أن الرهن ممكن أن يكون بيد المرتهن إذا لم يقبل إلا أن يكون في يده.

وقوله: (يحلب ويركب إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب ويحلب النفقة)، هذا إنما يكون في حق المرتهن، وأما الراهن فلا حاجة إلى أن يقال له: إنه بنفقته إذا كان مرهوناً؛ لأن الراهن هو المالك، فكونه ينفق عليه فإنما ينفق على ملكه، وأما المرتهن فلا ينفق على ملكه وإنما ينفق على ملك غيره، وهذا الإنفاق الذي ينفقه يأخذ مقابله فيستفيد في الركوب أو الحلب.

وقد يكون الذي يركب ويحلب شخص ثالث جعلت وديعة عنده، يعني: فلا هي عند الراهن ولا عند المرتهن ولكنها جعلت وديعة عند شخص، فهذا الذي استودعت عنده أيضاً له أن يحلب ويركب في مقابل النفقة التي ينفقها.

قوله: (وعلى الذي يركب ويحلب النفقة) سواءً كان هو المرتهن أو طرف ثالث اتفقا على أن يكون الرهن وديعة عنده، فإذا كان مما يحلب ويركب فحلب ما يُحلب وركب ما يُركب فإنه يكون ذلك في مقابل الإنفاق عليه، وهو يدل على أن الرهن يمكن أن يكون بيد المرتهن، ويمكن أن يكون بيد الراهن إذا اتفاقا على ذلك، ولكن لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه بالبيع، وأما أن يتصرف فيه بالركوب أو بالإجارة أو غير ذلك فهذا لا بأس به.

وله أن يؤجره إذا كان بيد المالك له؛ لأن الرهن على العين وليس على المنفعة، فالمنفعة ملك للراهن الذي هو مالكها، فله أن يؤجرها ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن الحق متعلق بالعين وليس بالمنفعة، فالمنفعة يمكن أن تؤجر والعين لا تباع.

والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم: فمنهم من قال: إن الرهن يكون بيد الراهن، ومنهم من يقول: إن الرهن يكون بيد المرتهن، ولكن الحديث فيه أن على الذي يحلب النفقة، ومعلوم أن هذا إنما يكون في حق غير المالك، وأما المالك فهذا الأصل في حقه.

قوله: [ حدثنا هناد ].

هو هناد بن السري ثقة، أخرج له البخاري في (خلق أفعال العباد) ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن ابن المبارك ].

هو عبد الله بن المبارك المروزي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن زكريا ].

هو زكريا بن أبي زائدة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن الشعبي ].

هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي هريرة ].

أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً.

للرهن نماءان: منفصل ومتصل، فأما النماء المتصل فهو تابع للرهن، وأما النماء المنفصل فلا يتبع الرهن. فالمتصل يأخذه الراهن تبعاً للرهن؛ لأنه لا ينفصل مثل الصوف أو شيء من ذلك، وأما ولد الدابة فلا يدخل في الرهن، ولا ينتفع منه إلا إذا كانت هناك حاجة إلى الإنفاق، وأما ما لا حاجة فيه فلا؛ فمثلاً إذا أخذ السيارة فإنه يوقفها ولا يستخدمها، وإذا أوقفها فإنها لا تتلف؛ إذ ليست مثل الدابة التي إن لم يعلفها فإنها تتلف.

فالنماء المنفصل ليس تابعاً للمرتَهَن؛ لأن الراهن رهن العين فقط، وأما نماؤها يرجع إلى الراهن المالك، فله أن يبيع النتاج؛ لأن الرهن ليس عليه وإنما هو على العين وحدها.

وأما بالنسبة للسيارة فهل تقاس على الظهر فيركبها مقابل ما يصرفه عليها من البنزين؟ لا، ليس له أن يستخدمها؛ لأن الظهر يحتاج إلى نفقة وإلا مات، فهو ينفق عليه ويركبه، وأما السيارة فلا يترتب على إيقافها شيء.

ويقاس على السيارة البيت؛ فلو رهنه فإنه لم ينتفع به؛ لأنه إذا انتفع به صارت عليه أجرة، وتسقط من الدين إذا اتفقا على أنه يسكنه ويستفيد منه، فيصير له قيمة وتسقط بحسابها.

وإذا تلف الرهن فهو على حساب الراهن إلا إذا فرط فيه الذي هو بيده، وحينئذ يضمن؛ لأن يده يد أمينة.

جرت العادة في بعض البلدان أن الشخص إذا رهن أرضاً للبائع فإن البائع يستفيد منها بالزرع، والواجب أنه لا يستفيد منها إلا إذا كان محتاجاً إلى إحيائها مثل الدواب، وأما إذا لم تكن كذلك فليس له ذلك.

وأما الراهن فإنه يستفيد منها؛ لأنها ملكه، ولكن ليس له أن يبيعها؛ لأن حق المرتهن متعلق بالعين، فإذا جاء الأجل ولم يوفه فله حق المطالبة في بيعها وأخذ نصيبه منها، وأما أن يستفيد منها صاحبها بأن يزرعها أو يؤجرها فله ذلك؛ لأن هذا حقه وملكه، والمنفعة لا دخل للمرتهن فيها فهي لمالك العين، وإنما ربط الحق بالعين بحيث لا يتصرف فيها مالكها بالبيع، وأما أن يتصرف فيها بالإجارة أو بالانتفاع بأن يزرعها إذا كانت أرضاً زراعية أو بيتاً يسكنه فلا بأس بذلك لكنه لا يبيعه.

وأما بالنسبة للسيارة فإذا توقفت لمدة طويلة فقد تتلف الكفرات، فإن كان بقاؤها يفسدها فلا بأس أن يحركها شيئاً يسيراً يحصل به المقصود، وهذه الحركة لا تكلفه الكثير من البنزين، ويمكن فعل هذا داخل المستودع.

وإذا كان الرهن أمة فلا يجوز للمرتهن أن يطأها، فلا يطؤها إلا مالكها، ولا يجوز للمرتهن أن يرهن الرهن لشخص آخر، وهذه شبيهة بمسألة ذكرها الحافظ ابن حجر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة أحد النحويين لما قيل له: لو سهى رجل في صلاته فماذا عليه؟ قال: عليه سجود سهو، فقيل: ولو سها في سجود السهو فماذا يصنع؟ قال: عندنا أن المصغر لا يصغر، يعني: ليس في سجود السهو سجود سهو، فالرهن كذلك، فلا يحق للمرتهن أن يرهنه.

[ قال أبو داود : وهو عندنا صحيح ] يعني: الحديث صحيح.




استمع المزيد من الشيخ عبد المحسن العباد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن أبي داود [139] 2887 استماع
شرح سنن أبي داود [462] 2835 استماع
شرح سنن أبي داود [106] 2831 استماع
شرح سنن أبي داود [032] 2727 استماع
شرح سنن أبي داود [482] 2696 استماع
شرح سنن أبي داود [529] 2688 استماع
شرح سنن أبي داود [555] 2677 استماع
شرح سنن أبي داود [177] 2674 استماع
شرح سنن أبي داود [097] 2651 استماع
شرح سنن أبي داود [273] 2643 استماع