شرح سنن أبي داود [103]


الحلقة مفرغة

شرح حديث (يا معاذ أفتان أنت)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في تخفيف الصلاة.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمعه من جابر رضي الله عنه قال: (كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيؤمنا -قال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه- فأخر النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً الصلاة -وقال مرة: العشاء-، فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يؤم قومه، فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى، فقيل: نافقت يا فلان! فقال: ما نافقت. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن معاذاً يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله، وإنا نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة. فقال: يا معاذ ! أفتان أنت؟! أفتان أنت؟! اقرأ بكذا، اقرأ بكذا) قال أبو الزبير بـ(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)، فذكرنا لـعمر فقال: أراه ذكره].

أورد أبو داود رحمه الله [ باب في تخفيف الصلاة ] يعني أن الإنسان الذي هو إمام للناس يخفف الصلاة، ومن المعلوم أن الإنسان يراعي أحوال المأمومين، فإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء، وإذا صلى بالناس فليخفف. لكن الصلوات -كما هو معلوم- جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان التفاوت بينها في القراءة، وأن صلاة الفجر تطول فيها القراءة، وصلاة العشاء تخفف فيها القراءة، والحديث إنما جاء في صلاة العشاء، وأورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله : كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا ] أي أنه يصلي مفترضاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي بهم متنفلاً وهم مفترضون، وهو دال على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل وواضح الدلالة في ذلك، وهذا قول جمهور العلماء.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يقتدي المفترض بالمتنفل، وأجابوا عن هذا الحديث بأن معاذاً رضي الله عنه إنما كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة، ثم يذهب إلى قومه ويصلي بهم تلك الفريضة، فهو مفترض وهم مفترضون.

لكن هذا بعيد جداً؛ لأنه لا يليق بـمعاذ بن جبل رضي الله عنه أن يترك صلاة الفرض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده صلى الله عليه وسلم، ثم يؤخر ذلك إلى أن يصلي مع الناس في مسجد آخر مفترضاً وقد تمكن من أن يأتي بالفريضة في مسجد هو خير المساجد بعد المسجد الحرام والصلاة فيه بألف صلاة، الفريضة بألف فريضة، والنافلة بألف نافلة، فكيف يترك معاذ بن جبل رضي الله عنه صلاة الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والفريضة فيه بألف فريضة ويؤخر ذلك إلى أن يصلي بقومه؟!

ثم إن الحديث ورد فيه أنه صلى معه العشاء، ومعلوم أن العشاء إنما هي الفرض، ومعنى هذا أنه كان يصلي معه الفرض ولا يصلي معه النفل.

ثم إنه ليس للإنسان أن ينشغل بالنافلة مع الجماعة وقد دخل وقت الفريضة ويؤجل ذلك؛ لأن المبادرة إلى إبراء الذمة والمبادرة إلى أداء الواجب الفرض المتحتم مطلوب، سيما وقد دخل الوقت وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مسجده عليه الصلاة والسلام، فكل هذا يبين عدم صحة القول بأن معاذاً رضي الله عنه إنما كان متنفلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفترضاً مع قومه، وعلى هذا فإن صلاة المفترض خلف المتنفل صحيحة وثابتة، وهذا الحديث يدل عليها.

ومما يدل عليها -أيضاً- فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فإنه جعل الناس مجموعتين في إحدى صور صلاة الخوف، فصلى بالمجموعة الأولى منهم ركعتين وسلم، ثم صلى بالمجموعة الثانية ركعتين وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم متنفل في الصلاة الثانية وفي الأولى مفترضاً.

فالذي جاء في حديث معاذ رضي الله عنه هذا هو مثل الذي جاء في حديث صلاة الخوف من إمامته عليه الصلاة والسلام للمجموعة الثانية وهو متنفل وهم مفترضون.

ويجوز العكس، بأن يصلي المتنفل خلف المفترض، والدليل على ذلك قصة الرجلين الذين كانا في مسجد الخيف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس الصبح، ولما انصرف من صلاته رآهما جالسين، فدعا بهما فجاءا ترتعد فرائصهما، فقال: (مالكما لم تصليا؟ قالا: إنا صلينا في رحالنا. قال: إذا صليتما في رحالكما وأتيتما والإمام لم يصل فصليا معه تكن نافلة) فهذا يدل على عكس ما جاء في حديث معاذ من صلاة المتنفل خلف المفترض.

وكذلك تجوز صلاة المفترض خلف المفترض مع اختلاف النيتين، كمن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر، فكل ذلك سائغ ولا بأس به.

فـمعاذ رضي الله عنه في مرة من المرات جاء رجل ودخل معه في الصلاة، وأطال معاذ صلاة العشاء، والرجل صاحب نواضح -وهي الإبل التي يستقى عليها الماء من الآبار- وكان يتعب في النهار، فـمعاذ قرأ بالبقرة، فانفصل عنه وأكمل صلاته وذهب إلى نواضحه، فقيل له: نافقت. أي: لكونك تركت الصلاة مع الإمام وخرجت قبل أن تكمل الصلاة مع الإمام، فوقعت في هذا الأمر الذي هو من صفات المنافقين؛ لأن المنافقين -كما هو معلوم- شأنهم في الصلاة أنهم لا يأتونها إلا وهم كسالى، فهم لا يأتون الصلاة، وإذا أتوا فعندهم كسل.

فهذا الرجل ترك الصلاة خلف معاذ وأكمل لنفسه، فقيل له: نافقت. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالذي حصل من معاذ ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : [(أفتان أنت يا معاذ ؟)] يعني: لا يحصل منك الشيء الذي يشق على الناس، فوراءك الصغير والكبير وذو الحاجة [(ولكن اقرأ بكذا اقرأ بكذا)].

وجاء في بعض الروايات تفسير المقروء الذي أبهم من بعض الرواة، وأن المقصود به (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) أي: يقرأ في صلاة العشاء بهاتين السورتين وأمثالهما مما ليس فيه مشقة أو ضرر على المصلين المأمومين.

فالحاصل أن الحديث فيه دلالة على الأمر بالتخفيف في الصلاة إذا كان هناك مشقة على الناس.

وإذا علم أن أهل المسجد عددهم محصور معروف ويرغبون بأن تطول القراءة فإنه لا بأس بذلك، ولكن حيث يكون المسجد على طريق، أو يدخله أناس غير أصحاب المكان، أو قد يأتيه صاحب حاجة فيحصل له مثل هذا الذي حصل للرجل الذي صلى خلف معاذ رضي الله تعالى عنه فإن التخفيف حينئذٍ يكون مطلوباً، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف صلاته وكانت مع ذلك تماماً، ومعناه أنه لا يحصل فيها شيء من النقص مع تخفيفه إياها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

قوله: [ (ثم يرجع فيؤمنا -قال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه-)].

لا تنافي بين قوله قوله: [فيؤمنا] وقوله: [فيصلي بقومه]؛ لأن معاذاً من قومه رضي الله عن الجميع.

قوله: [ (فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه، فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى) ].

الذي يظهر أنه تركهم وأتم صلاته ولم يستأنفها، ودخوله في الصلاة صحيح، لكن التطويل هو الذي منعه من البقاء معهم، فقطع الائتمام وأتم صلاته ثم ذهب إلى نواضحه.

وهذا يدل على أن الإنسان إذا حصل له أمر يقتضي خروجه من الصلاة ويضطره إلى ذلك فله أن ينفصل عن الإمام ويكمل الصلاة منفرداً، ويبني على ما سبق، فيكون صلى بعض صلاته مأموماً وصلى بعضها منفرداً، وكلمة اعتزل تفيد أنه تنحى عنهم ولم يبق في الصف.

ثم إن في الحديث عتاب من حصل منه خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب معاذاً رضي الله عنه وقال له: [(أفتان أنت يا معاذ ؟)] وقوله: [(أفتان)] يحتمل أن يكون المراد به الفتنة في الدين، وهو أنه يحصل بذلك أن الناس لا يقدمون على الجماعة ولا يأتون لصلاة الجماعة بسبب التطويل، ويحتمل أن يكون المقصود به التعذيب؛ لأن الفتنة تأتي بمعنى التعذيب، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] يعني: عذبوهم.

ولا شك في أن الإنسان إذا صلى مثل هذه الصلاة التي فيها طول مع أنه مشغول وذو حاجة أو تعب في النهار ثم وقف هذا الوقوف الطويل لا شك أن في ذلك مشقة عليه، ولا شك أن في ذلك مضرة عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم عاتب معاذاً على ما حصل منه، وأرشده إلى أن يقرأ بالشيء الذي لا مشقة فيه على غيره من الناس الذين يصلون وراءه.

تراجم رجال إسناد حديث (يا معاذ أفتان أنت)

قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ].

هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، الإمام المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، وهو آخر الأئمة الأربعة؛ لأن الأئمة الأربعة هم على حسب الزمان أبو حنيفة ثم مالك ثم الشافعي ثم أحمد ، وأحمد -رحمه الله- هو آخرهم، وهو تلميذ للشافعي ، والشافعي تلميذ لـمالك ، وقد جاء ذكر الثلاثة في إسناد حديث عن كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة)، فهذا الحديث في مسند الإمام أحمد يرويه عن الشافعي ، والشافعي يرويه عن الإمام مالك ، وقد ذكره ابن كثير في تفسيره عند قول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169] وقال: هذا إسناد عزيز فيه ثلاثة من الأئمة أصحاب المذاهب المتبوعة أو المشهورة؛ لأنهم اجتمعوا في هذا الإسناد يروي هذا عن هذا وهذا عن هذا.

وحديث أحمد أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا سفيان ].

سفيان هو ابن عيينة المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن عمرو ].

هو عمرو بن دينار المكي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ سمعه من جابر ].

هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الإسناد من الأسانيد العالية عند أبي داود ، وهو من أعلى الأسانيد عند أبي داود ؛ إذ هو رباعي، فإن بين أبي داود وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أشخاص، وهم الإمام أحمد وسفيان بن عيينة وعمرو بن دينار وجابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما.

شرح حديث (يا معاذ لا تكن فتاناً فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا طالب بن حبيب حدثنا عبد الرحمن بن جابر يحدث عن حزم بن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه أتى معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو يصلي بقوم صلاة المغرب -في هذا الخبر- قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا معاذ ! لا تكن فتاناً؛ فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمسافر) ].

أورد أبو داود رحمه الله الحديث من طريق أخرى، وقال فيه: [في هذا الخبر] أي: خبر قصة معاذ وصلاته مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذهابه إلى قومه والصلاة بهم.

وهنا قال: [ (صلاة المغرب) ] وفي الأول قال: [(صلاة العشاء)]، فيحتمل أن تكونا قصتين، فمرة صلى المغرب ومرة صلى العشاء، أو أنها قصة واحدة، ولكن الصواب فيها العشاء وليس المغرب.

قوله: [ (يا معاذ ! لا تكن فتاناً) ].

أي: لا تكن فتاناً بأن تطول وتشق على الناس فيترتب على ذلك حصول مثل هذا الذي حصل من ذلك الذي صلى وراءك.

قوله: [ (فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة والمسافر) ].

الكبير يعني به الشيخ الكبير الذي يشق عليه طول القيام، والضعيف هو ضعيف الجسد، سواءٌ أكان الضعف لأصل الخلقة، بأن يكون فيه ضعف في خلقته، أم كان بسبب مرض، وجاء في بعض الروايات (الضعيف والسقيم) فيكون الضعيف المراد به الضعف في أصل الخلقة، والسقيم يراد به من أصابه مرض، وضعفه يكون بسبب المرض، والمسافر المقصود به أنه يكون مشغولاً في سفره، أو مرتبطاً بموعد في سفره، فيشق عليه الصلاة مع هذا التطويل الذي يحصل.

والإسناد تُكلم فيه من جهة أن عبد الرحمن بن جابر قيل: إنه لم يدرك حزم بن أبي كعب . ولكن ما جاء في قوله: [(لا تكن فتاناً)] وكذلك ما جاء في شأن الكبير والضعيف وذي الحاجة كل ذلك جاء في أحاديث أخرى، وأما ذكر المسافر فإنه جاء في هذا الحديث الذي فيه ضعف، ولهذا قال الألباني : إنه منكر بذكر المسافر.

كما أن ذكر صلاة المغرب -أيضاً- فيه نكارة، لكن فيه احتمال أن ذلك -كما قاله بعض أهل العلم- حصل في قصة أخرى، ولكن يبدو أنه بعيد؛ لأن معاذاً رضي الله عنه إذا حصل له من رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء مثل هذا التنبيه فإنه لن يعود إلى أن يحصل منه ذلك مرة ثانية.

فالذي يبدو أن ذلك حصل -كما جاء في الحديث الصحيح- في صلاة العشاء، وأن لفظ (صلاة المغرب) إما أن يراد به العشاء أو أن الحديث فيه نكارة.

تراجم رجال إسناد حديث (يا معاذ لا تكن فتاناً فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة)

قوله: [ حدثنا موسى بن إسماعيل ].

هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا طالب بن حبيب ].

طالب بن حبيب صدوق يهم، أخرج له أبو داود وحده.

[ حدثنا عبد الرحمن بن جابر ].

عبد الرحمن بن جابر ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ يحدث عن حزم بن أبي بن كعب ].

حزم صحابي قليل الحديث، أخرج له أبو داود وحده.

وقد وقعت نسبته في الإسناد إلى أبي بن كعب ، وليس بصحيح، فكلمة (بن) هنا زائدة، والصواب أنه حزم بن أبي كعب .

ففي المنهل العذب المورود يقول: وحزم بن أبي كعب الأنصاري السلمي الصحابي روى عنه عبد الرحمن بن جابر ، روى له أبو داود هذا الحديث، وقال في التقريب: صحابي قليل الحديث، وذكره ابن حبان في الصحابة، ثم غفل عن قصة معاذ فذكره في التابعين، وفي بعض النسخ حزم بن أبي بن كعب بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد التحتانية، وهو تصحيف من الناس، والصواب حزم بن أبي كعب .

شرح حديث سؤاله صلى الله عليه وسلم رجلاً عما يقول في الصلاة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن سليمان عن أبي صالح عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: (كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولها ندندن)].

أورد أبو داود رحمه الله حديث بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مبهم غير معين، ومن المعلوم أن الجهالة في الصحابة لا تؤثر؛ لأنهم عدول، ويكفي الواحد منهم شرفاً وفضلاً أن يقال: إنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا إنما هو خاص بالصحابة، بخلاف غيرهم فإنه يحتاج إلى معرفتهم والجهالة تؤثر فيهم، وأما الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم فالمجهول فيهم في حكم المعلوم؛ لأنه حصل لهم هذا الشرف، وذلك بثناء الله عليهم وثناء رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: [(كيف تقول في الصلاة؟)] يعني: في الدعاء، أي: كيف تدعو في صلاتك؟ قال: [أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: [(حولها ندندن)].

فالرجل يقصد أنه لا يحسن تلك الأدعية الكثيرة التي كان يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها ويحصل منه الدعاء دون أن يسمع الصوت، وكذلك ما يحصل من معاذ من الدعاء دون أن يسمع له الصوت، وهذا هو الدندنة.

فالرجل أخبر أنه يسأل الله الجنة بعد التشهد ويستعيذ بالله من النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: [(حولها ندندن)] يعني: هذه الدعوة التي تدعو بها -وهي حصول الجنة والسلامة من النار- كل الأدعية التي نقولها تدور حول نتيجتها وغايتها، وهي الوصول إلى الجنة والسلامة من النار.

ولعله ذكر معاذ في هذا الحديث وفي هذه الترجمة على اعتبار أنه كان يؤمهم، وأنه كان إمامهم، حيث كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهب ليصلي بهم، ولا يظهر وجه لهذا الحديث من ناحية تخفيف الصلاة.

تراجم رجال إسناد حديث سؤاله صلى الله عليه وسلم رجلاً عما يقول في الصلاة

قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ].

عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ حدثنا حسين بن علي ].

هو حسين بن علي الجعفي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن زائدة ].

هو زائدة بن قدامة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن سليمان ].

سليمان هو الأعمش ، وهو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي صالح ].

هو ذكوان السمان ، وأبو صالح كنيته، واسمه ذكوان ، ولقبه السمان ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ عن بعض أصحاب النبي ].

يقول ابن حجر في آخر التقريب: أبو صالح السمان عن رجل من أسلم لم يسم وعن بعض الصحابة في ثلاثة أحاديث هو أبو هريرة .

وأبو صالح مشهور بالرواية عن أبي هريرة ، وقد أخرج الحديث ابن ماجة من طريق أبي صالح عن أبي هريرة .

شرح حديث (كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يحيى بن حبيب حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن عبيد الله بن مقسم عن جابر رضي الله عنه ذكر قصة معاذ رضي الله عنه قال: وقال -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- للفتى: (كيف تصنع -يا ابن أخي- إذا صليت؟ قال: أقرأ بفاتحة الكتاب وأسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، وإني لا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني ومعاذاً حول هاتين) أو نحو هذا ].

أورد أبو داود الحديث عن جابر رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الفتى عما يصنعه في صلاته فأخبره أنه يقرأ فاتحة الكتاب ويسأل الله تعالى الجنة ويعوذ به من النار، قال: [ (وإني لا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ) ].

وهو مثل الذي قبله، إلا أن ذاك عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبو هريرة ، وهذا عن جابر رضي الله عنه.

تراجم رجال إسناد حديث (كيف تصنع يا ابن أخي إذا صليت)

قوله: [ حدثنا يحيى بن حبيب ].

هو يحيى بن حبيب بن عربي ، ثقة، أخرج له مسلم وأصحاب السنن.

[ حدثنا خالد بن الحارث ].

هو خالد بن الحارث البصري ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.

[ حدثنا محمد بن عجلان ].

هو محمد بن عجلان المدني ، وهو صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً ومسلم وأصحاب السنن.

[ عن عبيد الله بن مقسم ].

عبيد الله بن مقسم ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي .

[ عن جابر ].

هو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد مر ذكره.

شرح حديث (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء) ].

أورد أبو داود رحمه الله تعالى حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف) ].

ومعنى قوله: [(للناس)] أي: بالناس، بأن يكون إماماً لهم. فليخفف في صلاته ولا يطل الصلاة، وقوله: [(فإن فيهم)] هذا هو التعليل، فالسبب في الأمر بالتخفيف هو أن في الناس من يكون كبيراً ومن يكون ضعيفاً ومن يكون صاحب حاجة، وهذا عام، وهذه الحاجة مثل قصة الرجل الذي له كان نواضح وجاء وصلى مع معاذ ثم انفصل عنه وأتم صلاته.

وقوله: [(وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء)] لأن الأمر يرجع إليه، ولا يترتب عليه مشقة على أحد، وهو الذي يعرف قدرته وعدم قدرته، لكن بالنسبة لغيره قد يحصل له المضرة من حيث لا يشعر هو بأن هناك مضرة في هذا التطويل.

تراجم رجال إسناد حديث (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف)

قوله: [ حدثنا القعنبي ].

هو عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة .

[ عن مالك ].

هو مالك بن أنس ، إمام دار الهجرة المشهور، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[ عن أبي الزناد ].

هو عبد الله بن ذكوان لقبه أبو الزناد ، وكنيته أبو عبد الرحمن ، ولقب بصيغة الكنية، وهو مشهور بذلك، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.

[عن الأعرج ].

هو عبد الرحمن بن هرمز المدني ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو مشهور بلقبه الأعرج .

[عن أبي هريرة ].

هو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي ، وهو أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إسناد آخر لحديث (إذا صلى أحدكم للناس فليخفف) وتراجم رجاله

قال المصنف رحمه الله تعالى: [حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب وأبي سلمة عن

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في تخفيف الصلاة.

حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا سفيان عن عمرو أنه سمعه من جابر رضي الله عنه قال: (كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرجع فيؤمنا -قال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه- فأخر النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً الصلاة -وقال مرة: العشاء-، فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يؤم قومه، فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى، فقيل: نافقت يا فلان! فقال: ما نافقت. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن معاذاً يصلي معك ثم يرجع فيؤمنا يا رسول الله، وإنا نحن أصحاب نواضح ونعمل بأيدينا، وإنه جاء يؤمنا فقرأ بسورة البقرة. فقال: يا معاذ ! أفتان أنت؟! أفتان أنت؟! اقرأ بكذا، اقرأ بكذا) قال أبو الزبير بـ(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى)، فذكرنا لـعمر فقال: أراه ذكره].

أورد أبو داود رحمه الله [ باب في تخفيف الصلاة ] يعني أن الإنسان الذي هو إمام للناس يخفف الصلاة، ومن المعلوم أن الإنسان يراعي أحوال المأمومين، فإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء، وإذا صلى بالناس فليخفف. لكن الصلوات -كما هو معلوم- جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان التفاوت بينها في القراءة، وأن صلاة الفجر تطول فيها القراءة، وصلاة العشاء تخفف فيها القراءة، والحديث إنما جاء في صلاة العشاء، وأورد أبو داود رحمه الله حديث جابر بن عبد الله : كان معاذ يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع فيؤمنا ] أي أنه يصلي مفترضاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصلي بهم متنفلاً وهم مفترضون، وهو دال على صحة صلاة المفترض خلف المتنفل وواضح الدلالة في ذلك، وهذا قول جمهور العلماء.

وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يقتدي المفترض بالمتنفل، وأجابوا عن هذا الحديث بأن معاذاً رضي الله عنه إنما كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نافلة، ثم يذهب إلى قومه ويصلي بهم تلك الفريضة، فهو مفترض وهم مفترضون.

لكن هذا بعيد جداً؛ لأنه لا يليق بـمعاذ بن جبل رضي الله عنه أن يترك صلاة الفرض مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مسجده صلى الله عليه وسلم، ثم يؤخر ذلك إلى أن يصلي مع الناس في مسجد آخر مفترضاً وقد تمكن من أن يأتي بالفريضة في مسجد هو خير المساجد بعد المسجد الحرام والصلاة فيه بألف صلاة، الفريضة بألف فريضة، والنافلة بألف نافلة، فكيف يترك معاذ بن جبل رضي الله عنه صلاة الفريضة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والفريضة فيه بألف فريضة ويؤخر ذلك إلى أن يصلي بقومه؟!

ثم إن الحديث ورد فيه أنه صلى معه العشاء، ومعلوم أن العشاء إنما هي الفرض، ومعنى هذا أنه كان يصلي معه الفرض ولا يصلي معه النفل.

ثم إنه ليس للإنسان أن ينشغل بالنافلة مع الجماعة وقد دخل وقت الفريضة ويؤجل ذلك؛ لأن المبادرة إلى إبراء الذمة والمبادرة إلى أداء الواجب الفرض المتحتم مطلوب، سيما وقد دخل الوقت وهو مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مسجده عليه الصلاة والسلام، فكل هذا يبين عدم صحة القول بأن معاذاً رضي الله عنه إنما كان متنفلاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفترضاً مع قومه، وعلى هذا فإن صلاة المفترض خلف المتنفل صحيحة وثابتة، وهذا الحديث يدل عليها.

ومما يدل عليها -أيضاً- فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف، فإنه جعل الناس مجموعتين في إحدى صور صلاة الخوف، فصلى بالمجموعة الأولى منهم ركعتين وسلم، ثم صلى بالمجموعة الثانية ركعتين وسلم، فهو صلى الله عليه وسلم متنفل في الصلاة الثانية وفي الأولى مفترضاً.

فالذي جاء في حديث معاذ رضي الله عنه هذا هو مثل الذي جاء في حديث صلاة الخوف من إمامته عليه الصلاة والسلام للمجموعة الثانية وهو متنفل وهم مفترضون.

ويجوز العكس، بأن يصلي المتنفل خلف المفترض، والدليل على ذلك قصة الرجلين الذين كانا في مسجد الخيف والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس الصبح، ولما انصرف من صلاته رآهما جالسين، فدعا بهما فجاءا ترتعد فرائصهما، فقال: (مالكما لم تصليا؟ قالا: إنا صلينا في رحالنا. قال: إذا صليتما في رحالكما وأتيتما والإمام لم يصل فصليا معه تكن نافلة) فهذا يدل على عكس ما جاء في حديث معاذ من صلاة المتنفل خلف المفترض.

وكذلك تجوز صلاة المفترض خلف المفترض مع اختلاف النيتين، كمن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر، فكل ذلك سائغ ولا بأس به.

فـمعاذ رضي الله عنه في مرة من المرات جاء رجل ودخل معه في الصلاة، وأطال معاذ صلاة العشاء، والرجل صاحب نواضح -وهي الإبل التي يستقى عليها الماء من الآبار- وكان يتعب في النهار، فـمعاذ قرأ بالبقرة، فانفصل عنه وأكمل صلاته وذهب إلى نواضحه، فقيل له: نافقت. أي: لكونك تركت الصلاة مع الإمام وخرجت قبل أن تكمل الصلاة مع الإمام، فوقعت في هذا الأمر الذي هو من صفات المنافقين؛ لأن المنافقين -كما هو معلوم- شأنهم في الصلاة أنهم لا يأتونها إلا وهم كسالى، فهم لا يأتون الصلاة، وإذا أتوا فعندهم كسل.

فهذا الرجل ترك الصلاة خلف معاذ وأكمل لنفسه، فقيل له: نافقت. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالذي حصل من معاذ ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : [(أفتان أنت يا معاذ ؟)] يعني: لا يحصل منك الشيء الذي يشق على الناس، فوراءك الصغير والكبير وذو الحاجة [(ولكن اقرأ بكذا اقرأ بكذا)].

وجاء في بعض الروايات تفسير المقروء الذي أبهم من بعض الرواة، وأن المقصود به (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى)، (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) أي: يقرأ في صلاة العشاء بهاتين السورتين وأمثالهما مما ليس فيه مشقة أو ضرر على المصلين المأمومين.

فالحاصل أن الحديث فيه دلالة على الأمر بالتخفيف في الصلاة إذا كان هناك مشقة على الناس.

وإذا علم أن أهل المسجد عددهم محصور معروف ويرغبون بأن تطول القراءة فإنه لا بأس بذلك، ولكن حيث يكون المسجد على طريق، أو يدخله أناس غير أصحاب المكان، أو قد يأتيه صاحب حاجة فيحصل له مثل هذا الذي حصل للرجل الذي صلى خلف معاذ رضي الله تعالى عنه فإن التخفيف حينئذٍ يكون مطلوباً، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف صلاته وكانت مع ذلك تماماً، ومعناه أنه لا يحصل فيها شيء من النقص مع تخفيفه إياها صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.

قوله: [ (ثم يرجع فيؤمنا -قال مرة: ثم يرجع فيصلي بقومه-)].

لا تنافي بين قوله قوله: [فيؤمنا] وقوله: [فيصلي بقومه]؛ لأن معاذاً من قومه رضي الله عن الجميع.

قوله: [ (فصلى معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء يؤم قومه، فقرأ البقرة فاعتزل رجل من القوم فصلى) ].

الذي يظهر أنه تركهم وأتم صلاته ولم يستأنفها، ودخوله في الصلاة صحيح، لكن التطويل هو الذي منعه من البقاء معهم، فقطع الائتمام وأتم صلاته ثم ذهب إلى نواضحه.

وهذا يدل على أن الإنسان إذا حصل له أمر يقتضي خروجه من الصلاة ويضطره إلى ذلك فله أن ينفصل عن الإمام ويكمل الصلاة منفرداً، ويبني على ما سبق، فيكون صلى بعض صلاته مأموماً وصلى بعضها منفرداً، وكلمة اعتزل تفيد أنه تنحى عنهم ولم يبق في الصف.

ثم إن في الحديث عتاب من حصل منه خطأ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عاتب معاذاً رضي الله عنه وقال له: [(أفتان أنت يا معاذ ؟)] وقوله: [(أفتان)] يحتمل أن يكون المراد به الفتنة في الدين، وهو أنه يحصل بذلك أن الناس لا يقدمون على الجماعة ولا يأتون لصلاة الجماعة بسبب التطويل، ويحتمل أن يكون المقصود به التعذيب؛ لأن الفتنة تأتي بمعنى التعذيب، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا [البروج:10] يعني: عذبوهم.

ولا شك في أن الإنسان إذا صلى مثل هذه الصلاة التي فيها طول مع أنه مشغول وذو حاجة أو تعب في النهار ثم وقف هذا الوقوف الطويل لا شك أن في ذلك مشقة عليه، ولا شك أن في ذلك مضرة عليه، فالنبي صلى الله عليه وسلم عاتب معاذاً على ما حصل منه، وأرشده إلى أن يقرأ بالشيء الذي لا مشقة فيه على غيره من الناس الذين يصلون وراءه.