العبادة الميسرة


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه وعن الند وعن المثيل وعن النظير، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا عباد الله: يا معاشر المؤمنين! اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين: يقول الله جل وعلا: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35] ويقول جل شأنه: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

أيها الأحبة في الله: لكل متحركٍ في هذا الزمان مادته ووقوده الذي يحركه، فمن رامَ تحريك الطائرات بالأحجار ما تحركت قيد أنملة، ومن رام تحريك السيارات بالرمال ما تحركت خطوة، ومن رامَ تحريك السفن بالأطعمة ما تحركت ميلاً، وكذلك الأبدان لو أراد رجلٌ أن يملأ البطون بالحجر أو بالرمل ما تحركت؛ لأن لها وقوداً ومادةً تحركها، فكذلك القلوب، لها مادةٌ لا تتحرك إلا بها؛ فإن وجدت تلك المادة تحركت هذه القلوب يقظةً وإنابةً وخوفاً وخشيةً ومراقبةً واستجابةً لأمر الله، وهي الملوك على الجوارح، فتكسب تلك الجوارح خضوعاً وطاعةً وامتثالاً لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا غذيت القلوب أو رامَ عبدٌ سقي قلبه بغير المادة التي يحيا بها القلب لم يفد ذلك الطعام، أو لم تزد تلك المادة القلب إلا خموداً ومرضاً وموتاً وهلاكاً.

إن حياة القلوب ليست بالطعام، وليست بالشراب، وليست بالقيل والقال، وليست كما يظن بعض المنحرفين في هذا الزمان بالغناء والموسيقى بأنواعها الصاخبة والراقصة والهادئة، وإنما حياة القلوب ذكر الله جل وعلا، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) [الرعد:28]. حياة القلوب، أن تذكر في ملأ الله الأعلى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].. حياة القلوب أن تغشاها الملائكة، أن تحفها الملائكة، أن تغشاها السكينة، أن تتنزل عليها الرحمة (ما جلس قومٌ مجلساً يذكرون الله فيه، إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم السكينة، ونزلت عليهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده) حياة القلوب ذكر الله جل وعلا، أن يلهج اللسان بالذكر، وأن يستحضر القلب هذه المعاني، فلا تسل بعد ذلك عن إشراقة الوجه، وطمأنينة القلب، وهدوء البال، ولذة الحياة؛ لأن العبد بهذا يوافق مخلوقات الله في توجهها إلى الله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ الإسراء:44].

أيها الأحبة في الله: ربما وقفنا موقفاً رأينا رجلاً يسمى: (بلبل) -يعني يتحدث بلغاتٍ عديدة- يجيد لغة الألمان والإنجليز والروس وغيرهم، فنعجب به وننظر إليه، وتشتد غبطتنا له؛ فيما استطاع لسانه أن يجمع من ألوان مفردات هذه اللغة، ومعانيها وجملها وتراكيبها، لكن ما أقل ما غبطنا الذاكرين، إن الغبطة كل الغبطة أن تغبط ذاكراً لله في كل أحواله، أن تغبط عبداً يلهج لسانه بذكر الله جل وعلا، ولا يعني ذلك أن نحتقر من وجدناه يجيد لغاتٍ شتى، فذلك علم، وذلك فهم، وتلك منحة، ولكن غبطتنا بمن اشتغل لسانه بذكر الله، ينبغي أن تكون أضعاف أضعاف ما نحن عليه، يوم أن نغبط متحدثاً بمعلوماتٍ سياسيةٍ أو اقتصادية، أو مفرداتٍ لغوية، من لغاتِ شتى، فما هو الذكر يا عباد الله؟

المراد بالذكر الشرعي

الذكر زاد المؤمنين وحياة الصالحين، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: والمراد بالذكر الإتيان بالألفاظ التي وردت ترغيباً في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة، يعني: من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسم الله، وحسبنا الله، والاستغفار، -يعني وأستغفر الله- قال: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل، بما أوجبه الله أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة.

وقال معاذ بن جبل : [مذاكرة العلم تسبيح] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما دمت تذكر الله، فأنت في صلاةٍ وإن كنتَ في السوق]وقال سعيد بن جبير : [كل عاملٍ لله بطاعة، فهو ذاكرٌ لله] وقال عطاء رحمه الله: [مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا].

إذا تقرر هذا، أدركنا أن ذكر الله بألفاظٍ مخصوصة، ويدخل في ذكر الله الاشتغال بمعرفة الأحكام، والحلال والحرام، ومعرفة التفسير، ومعرفة السند والمتن والجرح والتعديل والرواية، فذلك داخلٌ في ذكر الله سبحانه وتعالى.

الذكر عند الصوفية

أما الصوفية الذين ضلوا في هذا الباب ضلالاً بعيداً فلم يفقهوا أن الذكر داخلٌ في هذا، بل وعدوا الأذكار نوعين: ذكرٌ يفهمه العوام، وذكرٌ يختص بعلمه الخواص، فأما ذكر العوام فهو سائر الأذكار المشروعة، التي وردت في الكتاب والسنة، كقول: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، إلى غير ذلك يقولون: هذه أذكار العوام.

أما أذكار الخواص فهي: إشراقاتٌ تتجلى على القلوب بنطق بعض عبارات الذكر يدرك الذاكر منها معانيَ لا يفهمه العوام، وهذا الكلام كله هرطقةٌ وخزعبلات، يظنون ويقولون ويجزمون بأن ذكر الخواص بدلاً من أن يقول الذاكر: لا إله إلا الله، أي يقول: وهو يهز برأسه يمنةً ويسرةً ويقدم ويؤخر برأسه أن يقول: الله الله الله، ويظن أن هذا من أعلى درجات الذكر!!

عجباً لحثالةٍ في دبر هذا الزمان تظن أنها أدرى بالذكر ممن جاء به من ربه جل وعلا!

عجباً لحثالةً في دبر القرون المتأخرة، تظن أنها أعلم بحقائق الذكر من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي !

عجباً لحثالة الصوفية الذين اختصوا أنفسهم بما لم يختص به، أو بما لم يكن وليس في ذلك شرفٌ يخصون به، ولكنهم ادعوه بما لم يكن لأنبياء الله ورسله وأفضل خلقه من الصحابة والقرون المفضلة!!

ذكر أن في أيام ولاية الأتراك على الحجاز أن الشريف عون كان في زمنه يجلس الصوفية في الحرم المكي الشريف، فيذكرون الله بهذه الأذكار، يذكرون ذكراً مبتدعاً وذكراً ممنوعاً لا مشروعاً، يقولون: الله.. الله.. الله.. هو.. هو.. هو.. فنهاهم شيخٌ من علماء نجد رحمه الله رحمةً واسعة، فلما شق نهيه عليهم، وكثر إنكاره على فعلهم، شكوه إلى الشريف عون ، فاستدعاه وطلبه، ولما مثل بين يديه قال: لماذا تنهى الناس أن يذكروا ربهم في بيت الله؟ فقال ذلك العالم الجليل: يا أيها الشريف ! لو أن رجالاً جاءوا بين يديك واسمك عون ، فقالوا: عو.. عو.. عو.. أترضى أن تنادى أو تذكر بهذا، قال: لا. قال: فكذلك الله، قد شرع لنا أن نذكره بأن نقول: لا إله إلا الله، فكيف نرضى أن يذكر ربنا بقولهم: هو.. هو.. ونحو ذلك؟!!

فاقتنع الشريف بعد هذا، ومنع القوم من هذا النوع من الذكر، صدق الله العظيم: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].

أكمل حالات الذكر

الذكر أيها الأحبة: أكمل أحوال الذاكر فيه أن يكون العبد ذاكراً لله بلسانه، مستحضراً معنى الذكر بقلبه، فإذا انضاف إلى ذلك وقوع الذكر في عبادة، كصلاةٍ وجهادٍ وحجٍ وصيامٍ واعتكاف، كان الذكر في هذه الأحوال أكمل، ولو أن عامياً من العوام ذكر الله ذكراً لم يفقه معناه، فهو على أجرٍ عظيم، وخيرٍ عميم؛ لأن فضل الله واسع: ومن ذا يتحجر رحمة الله التي وسعت كل شيء.

أيها الأحبة في الله: عجباً لنا كيف نحرم حظاً ورزقاً وفضلاً عظيماً من هذا الذكر وهو عبادةٌ أجرها عظيم، ومؤنتها يسيرة؟!

الذاكر يذكر ربه باللسان، لو أردت أن تحرك يدك بعدد حركات لسانك في يومٍ وليلة لكلت وملت وسقطت يدك في نصف نهار أو نصف ليلة، أكثر أعضاء البدن حركةً هو اللسان، فلو أردت أن تذكر الله بيدك، أو تمشي بخطىً تمضي إليها، أو تفعل أفعالاً ببدنك لقصرت همتك وقوتك دون ذلك، أما حركات اللسان فكثيرةٌ كثيرةٌ جداً، فسبحان من يحصيها: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وبإمكانك أن تذكر الله هذا الذكر العظيم، بأخف جارحة تحركها، وهي جارحة اللسان.

كم يفوتنا من الأجر؟ -والله- لو عدت كلماتنا في القيل والقال، والمال والسؤال، والعيال والأحوال، لوجدناها ملايين الكلمات، ولو نسبنا مقدار ذكرنا لله إلى اشتغالنا بتلك الأحوال لما وجدنا الذكر بالنسبة لها إلا شيئاً يسيراً يسيراً، كم فاتنا من الأجر؟ كم فاتنا من الخير؟ كم فاتنا من الفضل؟ وسنقدم جميعاً حال نزع الروح ثم فراقها إلى دار جزاءٍ وليست بدار عمل، نتمنى لو ينشق القبر عنا لحظة، لنقول: لا إله إلا الله، لنقول: سبحان الله، أو نقول: الحمد لله.

فالذكر من أيسر العبادات، وأجلها وأفضلها، وحركة اللسان أخف حركات الجوارح، ولو تحرك عضواً من أعضاء البدن في اليوم والليلة بقدر حركات اللسان لشق على البدن ذلك غاية المشقة، بل لا يستطيع ذلك ألبتة، فالذكر يسير، ومن دلائل يسره: أن كثيراً من العبادات لا تستطيع أداءها إلا على هيئة مخصوصةٍ وحالٍ مخصوصة، أما الذكر فلك أن تذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً وعلى جنبك وذاهباً وآيباً، وراكباً وغادياً، وراحلاً وحالاً، ومتنقلاً ومسافراً، الذكر عبادة، تستطيع أن تؤديها وأن تقوم بها في كل آنائك وفي كل أحوالك وذلك فضل الله، وذلك خيرٌ من الله لهذه الأمة وهو مشروعٌ لسائر الأمم قبلنا، ولكن كثيراً من الناس عن فضل الله غافلون.

دلائل فضل الذكر

أيها الأحبة في الله: ومن دلائل فضل الله بهذا الذكر، وأن الله يعطي الثواب الجزيل على العمل القليل: عبادة الأذكار، فأنت تقول: الحمد لله، فتكتب لك ثلاثون حسنة، أي جهدٍ أي مشقة؟ أي كلمة؟ أي عناءٍ تعبت فيه وأنت تقول: الحمد لله؟

هذا فيه دلالة على أن الله جواد كريم مفضال، وأن الله ليس بحاجة إلى أعمال العباد، فلو كان الله بحاجة أعمالهم لكان أعلى العبادات أجراً أعلاها كلفة ومشقة ومئونة، فأنت ترى الذكر عبادةً يسيرة عليها فضلٌ عظيم.

قال العز بن عبد السلام رحمه الله: وفي هذا أن الثواب لا يترتب على شكل العمل أو هيئته، قال ربنا جل وعلا: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].

فمن هم الذاكرون؟ علنا أن نكون منهم! ومن هنّ الذاكرات؟ علّ بناتنا ونساءنا وأزواجنا يكنّ منهن، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه وغدا أو راح من منـزله ذكر الله] وقال مجاهد : [حتى يذكر الله قائماً وقاعداً] وقال ابن الصلاح : إذا واظب على الأذكار المأثورة المثبتة صباحاً ومساءً في الأوقات والأحوال المختلفة ليلاً ونهاراً، كان من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

ولكن اعلم أنك تنال هذا الأجر بعبادةٍ يسيرةٍ أيضاً، ففي الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم (إذا أيقظ الرجل أهله، فصليا من الليل جميعاً، كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات) رواه أبو داود والنسائي والحديث صحيح.

والذكر أيها الأحبة! فضله عظيمٌ عظيم جداً، ففي هذا الحديث تعلمون قيمة ما تذكرون بألسنتكم من فضل الله ونعم الله وآلاء الله، وقيمة ما تسألون به الله جل وعلا.

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند ملككم وأرفعها في درجاتكم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة ، والحديث صحيح.

وفي هذا الذكر -كما مر معنا-: أن يكون العبد دائماً في ملأ الله الأعلى، يدل عليه حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على حلقةٍ من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟! قالوا: -والله- ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم ملائكته) رواه الإمام مسلم .

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما عمل ابن آدم عملاً أنجى له من عذاب الله، من ذكر الله جل وعلا) رواه الإمام أحمد والحديث صحيح.

عظم منزلة الذكر في الشرع

أيها الأحبة: وحسبكم دلالةً وبياناً على أن الذكر عبادةٌ عظيمة: أن كل عبادةٍ مربوطةٌ بالذكر بعد الفراغ منها، فالصلاة ذكرٌ وعبادة ثم يشرع بعدها ذكر الله، والحج توحيدٌ وذكر، ثم بعده يشرع ذكر الله، والصيام عبادة، ويشرع بعده ذكر الله، قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200] وقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [النساء:103] وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال:45]..وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ [البقرة:185].

فمن دلائل أن هذا الذكر عظيم: أن العبادة ذات العبادة تختم بعد ذلك وتتوج بذكر الله جل وعلا، وحسبكم يا معاشر المؤمنين! في ذكر الله علواً وعبادةً جليلةً أن كل عبادةٍ تنقطع في الجنة إلا عبادة الذكر فهي باقية!!

ليس في الجنة صيام، وليس في الجنة صلاة، وليس في الجنة جهاد، ولكن في الجنة ذكرٌ لله؛ فالتكاليف الشرعية في الدنيا تنقطع عن العباد في الآخرة، إلا ذكر الله فهي باقية، ولكنها باقيةٌ على وجه الكرامة والتشريف، وليست على وجه التكليف.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح : فصلٌ في ارتفاع العبادات في الجنة إلا عبادة الذكر فإنها دائمة: دل على ذلك حديث مسلم في صحيحه ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (قال صلى الله عليه وسلم: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخطون، ولا يتغوطون، ولا يبولون، ويكون طعامهم ذلك جشاءً ورشحاً كرشح المسك، يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النَّفس) وفي رواية: (يلهمون التسبيح والتكبير، كما تلهمون أنتم هذه الأنفاس) أي: يلهمون تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس.

الله أكبر: كل عبادةٍ في الجنة ترتفع إلا عبادة ذكر الله، ما ذاك إلا لفضلها، وعظمها وشرفها وعلو منزلتها، فهنيئاً للذاكرين:

عطايانا سحائب مرسلاتٍ          ولكن ما وجدنا السائلينا

وكل طريقنا نورٌ ونورٌ     ولكن ما رأينا السالكينا

ما يتركه الذكر من أثر في قلب الذاكر

وذكر الله أيها الأحبة! يكسبُ العبد خوفاً وإنابةً وخشيةً ورجوعاً إلى الله، فأنت حينما تقول لرجلٍ غافل: اتق الله، أخوفك بالله، أدعو عليك، أفعل بك، فإنه لا يأبه بك، ولكن يوم أن تقول لرجلٍ ذكّارٍ شكار ذاكرٍ شاكر: اتق الله يوم تلقى الله؛ يضطرب ويهتز ويراجع نفسه ألف مرة حتى وإن لم يظهر على لسانه علامات الرجوع أو التراجع.

هذا كان جلياً واضحاً في سلف الأمة، وخلفائها الراشدين، والمقامُ يضيق بالأمثلة، وحسبكم مثالاً واحداً على أن الذكر يكسب أصحابه الخوف والخشية من الله.

جاء أعرابيٌ إلى عمر بن الخطاب رضي الله، وكان ذلك الأعرابي فقيراً ذا متربة، مسكيناً لا يجد شيئاً، فلما قدم الأعرابي على عمر ، قال:

يا عمر الخير جزيت الجنه     اكسو بنياتي وأمهنه

وكن لنا في الزمان جنـة     أقسم بالله لتفعلنه

فقال عمر رضي الله عنه: [وإن لم أفعل يا أعرابي يكون ماذا؟!] فقال الأعرابي:

إذاً أبا حفص لأمضينه

فقال عمر: وإن مضيت فماذا يكون؟ فالتفت الأعرابي إلى عمر رضي الله وقال:

يا عمر:

إذاً والله عنهنّ لتسألـنه     يوم تكون الأعطيات مِنه

وموقف المسئول بينهـنه     إما إلى نارٍ وإما جنه

فبكى عمر حتى بلَّ دمعه لحيته، واضطرب من هذا الكلام، خوف بالآخرة، فدخل داره يصول ويجول، يبحث عن طعام أو صدقةٍ يعطيها هذا الأعرابي فلم يجد، فعاد إليه ونزع رداءه وقميصه وقال يا إعرابي! خذ:

هذا ليومٍ تكون الأعطيات فيه منة

وموقف المسئول بينهـنه     إما إلى نارٍ وإما جنه

لو قيل هذا الكلام لمن لا يذكر الله، أو ليس لله في قلبه وقار: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً [نوح:13]

لقال: اذهب، ولو خوف بالسؤال لقال: أنا مستعدٌ للجواب، ولو قيل له ما قيل، لرد بكل إجابةً باردة، أما الذين يخافون الله جل وعلا، فإذا خوفوا بالله خافوا.

كان عمر: إذا قيل له اتق الله، اضطرب وبكى وعرفت الخشية في وجهه رضوان الله عليه.

الذكر زاد المؤمنين وحياة الصالحين، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: والمراد بالذكر الإتيان بالألفاظ التي وردت ترغيباً في قولها والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وما يلتحق بها من الحوقلة والبسملة والحسبلة، يعني: من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبسم الله، وحسبنا الله، والاستغفار، -يعني وأستغفر الله- قال: ويطلق ذكر الله ويراد به المواظبة على العمل، بما أوجبه الله أو ندب إليه كتلاوة القرآن وقراءة الحديث ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة.

وقال معاذ بن جبل : [مذاكرة العلم تسبيح] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [ما دمت تذكر الله، فأنت في صلاةٍ وإن كنتَ في السوق]وقال سعيد بن جبير : [كل عاملٍ لله بطاعة، فهو ذاكرٌ لله] وقال عطاء رحمه الله: [مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تشتري وتبيع وتصلي وتصوم وتنكح وتطلق، وتحج وأشباه هذا].

إذا تقرر هذا، أدركنا أن ذكر الله بألفاظٍ مخصوصة، ويدخل في ذكر الله الاشتغال بمعرفة الأحكام، والحلال والحرام، ومعرفة التفسير، ومعرفة السند والمتن والجرح والتعديل والرواية، فذلك داخلٌ في ذكر الله سبحانه وتعالى.

أما الصوفية الذين ضلوا في هذا الباب ضلالاً بعيداً فلم يفقهوا أن الذكر داخلٌ في هذا، بل وعدوا الأذكار نوعين: ذكرٌ يفهمه العوام، وذكرٌ يختص بعلمه الخواص، فأما ذكر العوام فهو سائر الأذكار المشروعة، التي وردت في الكتاب والسنة، كقول: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، إلى غير ذلك يقولون: هذه أذكار العوام.

أما أذكار الخواص فهي: إشراقاتٌ تتجلى على القلوب بنطق بعض عبارات الذكر يدرك الذاكر منها معانيَ لا يفهمه العوام، وهذا الكلام كله هرطقةٌ وخزعبلات، يظنون ويقولون ويجزمون بأن ذكر الخواص بدلاً من أن يقول الذاكر: لا إله إلا الله، أي يقول: وهو يهز برأسه يمنةً ويسرةً ويقدم ويؤخر برأسه أن يقول: الله الله الله، ويظن أن هذا من أعلى درجات الذكر!!

عجباً لحثالةٍ في دبر هذا الزمان تظن أنها أدرى بالذكر ممن جاء به من ربه جل وعلا!

عجباً لحثالةً في دبر القرون المتأخرة، تظن أنها أعلم بحقائق الذكر من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي !

عجباً لحثالة الصوفية الذين اختصوا أنفسهم بما لم يختص به، أو بما لم يكن وليس في ذلك شرفٌ يخصون به، ولكنهم ادعوه بما لم يكن لأنبياء الله ورسله وأفضل خلقه من الصحابة والقرون المفضلة!!

ذكر أن في أيام ولاية الأتراك على الحجاز أن الشريف عون كان في زمنه يجلس الصوفية في الحرم المكي الشريف، فيذكرون الله بهذه الأذكار، يذكرون ذكراً مبتدعاً وذكراً ممنوعاً لا مشروعاً، يقولون: الله.. الله.. الله.. هو.. هو.. هو.. فنهاهم شيخٌ من علماء نجد رحمه الله رحمةً واسعة، فلما شق نهيه عليهم، وكثر إنكاره على فعلهم، شكوه إلى الشريف عون ، فاستدعاه وطلبه، ولما مثل بين يديه قال: لماذا تنهى الناس أن يذكروا ربهم في بيت الله؟ فقال ذلك العالم الجليل: يا أيها الشريف ! لو أن رجالاً جاءوا بين يديك واسمك عون ، فقالوا: عو.. عو.. عو.. أترضى أن تنادى أو تذكر بهذا، قال: لا. قال: فكذلك الله، قد شرع لنا أن نذكره بأن نقول: لا إله إلا الله، فكيف نرضى أن يذكر ربنا بقولهم: هو.. هو.. ونحو ذلك؟!!

فاقتنع الشريف بعد هذا، ومنع القوم من هذا النوع من الذكر، صدق الله العظيم: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:180].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2799 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2648 استماع
توديع العام المنصرم 2643 استماع
حقوق ولاة الأمر 2626 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2548 استماع
من هنا نبدأ 2492 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2432 استماع
الغفلة في حياة الناس 2432 استماع