خطب ومحاضرات
أسباب شرح الصدور
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله عز وجل في مستهل هذا اللقاء أن يكتب لنا ولكم جزيل الأجر وعظيم الثواب على ما نرجوه ونحتسبه عند الله عز وجل، من ستر العيوب وغفران الذنوب، ورفعة الدرجات ومضاعفة الحسنات.
أحبتنا في الله! كلمة أرددها دائماً في مستهل كل محاضرة، وهي أن كل من شغل وقته برياض الجنة، وحِلق الذكر، ومهابط الرحمة، ومنازل الملائكة؛ فلن يندم أبداً على مجيئه وجلوسه، وحسبه أنه في عبادة ينتظر بعدها عبادة، وفي مجلس تغشى أهله السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله عز وجل فيمن عنده، فأسألكم بالله هل فينا من سيندم على مجلسه هذا بين يدي الله يوم القيامة؟ الجواب: لا. وإنما الندم كل الندم يوم أن نتحسر على ساعات وأوقات ضاعت لم تكن في مرضاة الله، أو لم تكن في مباح يُعين على طاعة الله سبحانه وتعالى.
وإني لشاكر ومقدر دعوة صاحب الفضيلة الشيخ صالح بن غالب السدلان متع الله به ونفع بعلمه، لافتتاح هذا الموسم بهذه المحاضرة، التي أجدني محتاجاً إلى موضوعها، وربما بعض أحبابي بقدر الحاجة تلك.
أحبتنا في الله: أسباب انشراح الصدر كثيرة، ولماذا الحديث عن انشراح الصدر؟ لأنه منّة عظيمة امتن الله بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:1-4].
واهتمامٌ بقضية انشراح الصدر لأنها منة وفضل دعوة دعا بها موسى عليه السلام لما حُمّل قولاً ثقيلاً، وتبعة جسيمة ليدعو ظالماً غاشماً طاغية جباراً يدعي الألوهية، فلما أدرك عِظم هذا التكليف العظيم، سأل ربه أن يشرح صدره، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26].
واهتمام بقضية شرح الصدر؛ لأنها منة وفضل يختص الله به من يشاء من عباده: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22] ولأن شرح الصدر هداية من الله عز وجل: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ [الأنعام:125].
أحبتنا في الله! شرح الصدر: سلامته من الغل والحسد والحقد والكبر، وما أكثر الذين يدّعون لأنفسهم انشراح صدورهم، لكن صدورهم لما تزل فيها علائق من الحقد أو الحسد أو الكبر أو الإحن والضغائن، وشرح الصدر اتساع للمعرفة والإيمان، وشرح الصدر تنوره، ومعرفته للحق وثباته عليه، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أكثر على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في شأن المرتدين، يقول: [فعلمت أن الله قد شرح صدر
وشرح الصدر: طمأنينة النفس، وكرم في الخلق، وتواضع في المعاملة، وإقبال على الآخرة، وقناعة في الدنيا، ورضاً لا سخط معه، وشكر لا كفر فيه.
ولا شك أن شرح الصدر الذي امتن الله به على نبيه صلى الله عليه وسلم هو شرح حسي ومعنوي، قد اشتمل على صبره في الدعوة، وصفحه وعفوه عن أعدائه، ومقابلته الإساءة * بالإحسان، وثباته على الدين.
ولذا كان كما قلت أو أسلفت كان شرح الصدر مما دعا به موسى يوم أن أُمر بتبليغ الطاغية فرعون: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طـه:24-31].
فذكر هنا من دواعي العون على أداء الرسالة أربعة عوامل بدأها بشرح الصدر، ثم تيسير الأمر، وهذان عاملان ذاتيان، ثم الوسيلة بينه وبين فرعون وهو اللسان في الإقناع وبيان الحجة، وأن تُحل عقد لسانه ليفقه قوله، ثم العامل المادي الذي يحتاج إليه ممثلاً في المؤازرة: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طـه:29-31].
أيها الأحبة! وإذا تأملنا هذه الآية وجدنا أنه قد قُدم فيها شرح الصدر على هذا كله لأهميته؛ لأن من شرح الله صدره للحق قابل كل الصعوبات ورآها يسيرة، ولم يبال بأي عدو واجهه مهما كان عدده وعتاده، ولذا قابل موسى عليه السلام ما جاء به فرعون من السحر والسحرة بكل ثبات وطمأنينة ويقين بما شرح الله به صدره، ومن هنا ندرك أهمية انشراح الصدر.
أحبتنا في الله! ما أحوجنا إلى أن نبحث عن مظان هذه السعادة! وما أحوجنا أن نحقق لأنفسنا هذا الخير! وهو انشراح الصدر.
التوحيد
من حقق التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فإنه بإذن الله ممن يجدون انشراح الصدر ولذته، وطمأنينة الفؤاد وثباته، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فأعظم أسباب شرح الصدور التوحيد، وعلى حسب كمال التوحيد وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور، انتهى كلام ابن القيم.
وهذا معلوم -أيها الأحبة- لأن من تعلق بالله غاية التعلق، وتوكل إليه منتهى التوكل، فإنه في غاية الانشراح؛ إذ لا يكون أمر إلا بتقديره وتدبيره، ولا يستطيع العباد أن يقضوا شيئاً لم يقضه الله، أو يرفعوا شيئاً قد قضاه الله، أو يقبضوا شيئاً قد بسطه الله، أو يبسطوا شيئاً قد قبضه الله عز وجل: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2].
إذاً أيها الأحبة! المؤمن على غاية اليقين: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] فهو على انشراح في صدره لا يخشى مصيبة؛ لأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله، ولا يخشى أحداً في تقريب أجله؛ لأن الآجال بيد الله، ولا يخشى أحداً في قطع رزقه؛ لأن الأرزاق بيده سبحانه وتعالى، فعلام يخاف إذاً؟ وعلام ينقبض صدره؟ وهو يعلم أن الأرزاق والآجال والمنايا والمقادير كلها بيد الله، والمقادير كل المقادير تنطوي على تمام عدل الله؛ لأن الله لا يظلم، وتنطوي على كمال حكمته؛ لأن الله لا يعبث، وتنطوي على تمام رحمته؛ لأن رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه.
إن أولي العزم من الرسل الذين شرح الله صدورهم بهذا التوحيد، واجهوا كل الصعاب، وواجهوا كل التحديات بهذا التوحيد الخالص، وبهذا اليقين المنقطع النظير، فهذا نوح عليه السلام، لما جمّع قومه وألبوا، قال: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] وانظروا قول الخليل إبراهيم عليه السلام: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80] وقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81].
بل وهذه امرأة فرعون كانت تحت طاغية غاشم ظالم، وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم تلك التي شرح الله صدرها للتوحيد والإسلام فعرفت ربها، وآمنت بدينها وهي تحت هذا الضال الغاشم، يقول تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11].
بل سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله عليه عز وجل قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
هل كل هذا الثبات؟ وهل كل هذا التحدي؟ وهل كل هذه المواجهة الصادقة التي لا يعترضها ريب أو تردد أو شك، إلا بسبب توحيد الخالق، ويقين عظيم أن الله عز وجل مُدبر الأمور ومقدر المقادير، وهو معهم أينما كانوا يحفظهم وينصرهم ويُعينهم، ومن حقق التوحيد فهو مُكرم بعناية الله ورعايته.
وإذا العناية لاحظتك عيونـها نم فالمخاوف كلهن أمان |
إن الفتى الذي واجهه النمرود الطاغية الذي خدد الأخاديد، وشق الأحافير وملأها وأضرمها نيراناً، وألقى الناس رجالاً ونساءً وشباناً ورضعاً وشيباً فيها، ماذا قال ذلك الغلام؟ اللهم اكفنيهم بما شئت، ثقة بالله عز وجل فما ضره كيدهم إلا يوم أن أراد أن ينذر دمه في سبيل الله ونشر دعوته، إلا يوم أراد أن يسقي عقيدته بما يتناثر من أشلائه لما جعل صدره مسرحاً لسهام الطاغية، والثمن نشر كلمة التوحيد، قال له: إن شئت أن تقتلني فاجمع الناس كلهم، ثم أخرج سهماً من كنانتي واجعله في كبد قوسك، فإذا أردت أن ترمي به، فارفع صوتك وقل: باسم الله رب الغلام.
بعد أن كان لا يتسمى إلا بألوهية ذاته، وربوبية شخصه، وتصرفه وإرادته المطلقة، ظناً منه أنه المتفرد، فأراد ذلك الفتى أن يجعل من أشلائه ودمه قرباناً لكلمة لا إله إلا الله، وما أطيب هذا القربان! وما أجمل هذا العمل! في نشر هذه العقيدة.
الإيمان
وهذا ملاحظ في أصناف معروفين معدودين من الناس، إن من الناس من جمع الله له من الأموال ما جمع، وجعل له من السلطان ما جعل، وهيأ له من أسباب النعم والجاه والسلطة ما هيأ له، ثم ترى انصرافه إلى مرضاة الله، وترى أنسه في طاعة الله، وترى لذته في تسلطه على أمواله لينفقها في سبيل الله عز وجل، فمن كان هذا شأنه يجمع حلالاً وينفق حلالاً في سبيل الله وجد انشراح الصدر كله.
طلب العلم الشرعي ومذاكرته
ومما لا شك فيه أن مما يشرح الصدر كثرة المعرفة، وغزارة المادة العلمية، واتساع الثقافة، وعمق الفكرة، وبعد النظرة، وأصالة الفهم، والغوص في الدليل، ومعرفة سر المسائل، وإدراك مقاصد الأمور، واكتشاف حقائق الأشياء: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وإن العالم رحب الصدر، واسع البال، مطمئن النفس، منشرح الفؤاد، وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله، يحكي شيئاً من سيرته في طلب العلم، يقول: فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، وهنا نصيحة أقولها للشباب وللناشئة، ولكل شاب لم يتزوج بعد، وأقولها لكل متزوج لم يعدد، وأقولها لكل متزوج لم تشغله مشاغل الذرية والزوجات، ومشاغل الحياة، أقول: إن صفاء الذهن وصفاء القلب وهمة النفس في طلب العلم قبل أن تمتلئ النفس بمشاغل القوت والولد والزوجات والبيوت.
يقول ابن الجوزي : فأما من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابلة ما يناله من لذات العلم، وهذا رأيناه في علماء أجلاء في كبر من سنهم، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز واحد منهم، تراه أشرح الناس صدراً فيما رأينا وعرفنا مع أنه فاقد البصر وكبير سن، قد لا يجد من لذات الدنيا ما يجدها بعض الشباب، لكن ما عوضه الله به من بركة العلم، والأنس بالدعوة، والاجتهاد في نفع الخلق يساوي أضعاف أضعاف ما يجده الشباب، أو ما يفوت في الكبر والمشيب.
وفي هذا يقول ابن الجوزي رحمه الله: فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جنى ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئاً في مقابل ما يناله من لذات العلم، هذا مع وجود لذاته في الطلب التي كان تأمل به إدراك المطلوب.
أيها الأحبة! لله در القائل:
اهتز عند تمني وصلها طرباً ورب أمنية أحلى من الظفر |
الذي يتلذذ ويطرب في طلب العلم وسعيه وسبيله وطريقه لتحصيله يجد لذة، فما بالك بمن جنى العلم وحصله وتأمله، وغاص في أسراره وبحاره، ويقول ابن الجوزي أيضا: ولقد تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين أنفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصبية والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي ندمت عليه -كلام نفيس وجميل لـابن الجوزي- قال: ثم تأملت حالي فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يُقاوم.
يقول ابن الجوزي: فقال لي إبليس: ونسيت تعبك وسهرك؟ فقلت له: أيها الجاهل تقطيع الأيدي من قبل النسوة لا وقع له عند رؤية يوسف، يذكر الآية فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ [يوسف:31] هول جمال يوسف عليه السلام، وهول لذة منظره ورؤيته، أنست كل واحدة منهن أن في يدها سكيناً قد حزت بها أناملها وسال الدم من يدها، وصدق صلى الله عليه وسلم إذ قال: (من أصبح وهمه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه ضيعته، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له، ومن أصبح وهمه الآخرة تَكفل الله برزقه، وأتته الدنيا راغمة، وجمع الله له ضيعته) وما طالت طريق أدت إلى صديق:
جزى الله المسير إليه خيراً وإن ترك المطايا كالمزار |
يقول ابن الجوزي أيضا: ولقد كنت في حلاوة طلب العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل لأجل ما أطلب وأرجو.
ونمضي -أيها الأحبة- مع أهل انشراح الصدر من أهل العلم، الذين علموا أن العلم نشاط النفس ومتعة الروح، هذه المتعة تُنسي طالب العلم ما يلحقه من متاعب، وتخفف عنه ما يبذله من عناء؛ لأنه يجد في العلم مرتعاً يأوي إليه ويرتاح عنده، وبذلك تقوى همته في طلب العلم، ولا يشبع منه أبداً، وهذا مصداقه ما أشار إليه الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب مال).
ولقد عرفت من الصالحين ممن جمع بين التجارة والعلم، وممن جمع بين التجارة والدعوة، يُقسم بالله العظيم أن لذته في درس يحضره، أو محاضرة يُلقيها، أو مسألة يتعلمها؛ ألذ في نفسه، وأوسع لفؤاده، وأشرح لقلبه من مائة أو مائتي ألف أو أكثر من ذلك يجدها في صفقة تجارة، وما ذاك إلا لأن:
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير خسران |
أيها الأحبة! النهم في طلب العلم دافع للعمل، مغذٍ للنفس، يزكيها ويشفيها من أمراضها، ويبعدها عن كل لذة محرمة أو شهوة خبيثة، قال الإمام الماوردي : العلم عوض من كل لذة، ومغنٍ عن كل شهوة، ومن تفرد بالعلم لم توحشه خلوة، ومن تسلى بالكتب لم تفته سلوة، فلا سمير كالعلم، ولا ظهير كالحلم، وما أحسن قول الشاعر:
شربت العلم كأساً بعد كـأس فما نفد الشراب ولا رويت |
وقد أورد الإمام ابن القيم قصة في هذا المجال عن شيخه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: حدثني شيخنا قال: ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر عن ذلك! أي: لا أصبر عن المذاكرة والمطالعة، فقال له الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقال له شيخ الإسلام : لا أصبر عن ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، شيخ الإسلام يناظر ويحاجج الطبيب إلى علمه، أليس النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة فدفعت المرض، فقال: بلى. قال شيخ الإسلام : فقلت له: فإن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعة فأجد راحة، فقال: هذا خارج عن علاجنا، أي: أنت تصف لنا وصفة ودواءً ما درسناه وما عرفناه.
وختاماً في هذا الباب: إن أهل العلم هم أهل الشرف الحقيقي، وأهل العز الدائم والمنزلة العالية في الدنيا والآخرة، وهم أعلم الناس، وأحظى الناس بانشراح الصدر وكيفيته.
وأسوق قصة حُكيت عن خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله يُظهر فيها شرف العلم وانشراح الصدر في الدنيا والآخرة، وهذه القصة هي أن الحافظ ابن حجر رحمه الله خرج يوماً بتلامذته وأحبابه الذين يطيفون حوله كالهالة حول القمر، وكان آنذاك رئيساً للقضاة بـمصر ، فاعترضه في طريقة رجل يهودي في حال رثة، فقال اليهودي: قف يا ابن حجر ! فوقف ابن حجر رحمه الله، فقال اليهودي: كيف تُفسر قول نبيكم؟ (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) -وهذا الحديث رواه الإمام مسلم - ثم قال اليهودي: وهأنت تراني في حال رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن.
فقال الحافظ : أنت مع تعاستك وبؤسك تُعد في جنة بالنسبة لما ينتظرك في الآخرة من العذاب الأليم إن مت كافراً، وأنا مع هذا الذي ترى إن أدخلني الله الجنة فهذا النعيم يعد سجناً بمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنان، فقال اليهودي: أكذلك يا ابن حجر ؟ قال: نعم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
وبذا نعلم أن السعادة كل السعادة وانشراح الصدر في العلم النافع والعمل بمقتضاه، كذا العز الدائم والرفعة في الدنيا والآخرة كلها في طلب العلم، ومصداق ذلك قول الله عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
فقل لمرجي معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحال |
وقال الآخر:
لولا المشقة ساد الناس كلـهم الجود يُفقر والإقدام قتال |
الإنابة إلى الله عز وجل ومحبته
وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب لا يعرفه إلا من له حس أو تجربة أو ذوق لذلك، وكلما كانت المحبة والانكسار والذلة والخشوع والمناجاة بين يدي الله عز وجل أعظم، كلما كان الصدر أفسح وأشرح، ولا يضيق الصدر حينئذ إلا عند رؤية البطالين الفارغين، فرؤيتهم قذا عينه، ومخالطتهم حمى روحه.
إن من أعظم أسباب ضيق الصدر: الإعراض عن الله عز وجل، وتعلق القلب بغيره، والغفلة عن ذكره، ومحبة سواه، فإن من أحب شيئاً غير الله عُذب به، انظروا إلى الذين أحبوا الدنيا حباً تعلقوا بها من أجله، فأصبحت الدنيا أحلامهم، وحديث صباحهم، وأنس عشيتهم، وسبيلهم ومطلبهم في صيفهم وشتاهم، وفي غدوهم ورواحهم، أحبوها فأذلتهم وعذبوا بها.
أما من أحب طاعة الله عز وجل فإنها ترفعه، وتشرح صدره، وتجمع له اللذات من جميع أطرافها، أما أولئك الذين لا هم لهم إلا الدنيا فقد جعلها الله عذاب أنفسهم وسجن قلوبههم، فما في الأرض أشقى منهم، ولا أكسف بالاً ولا أنكد عيشاً، ولا أتعب قلباً، إلا من جعل الدنيا قنطرة إلى الآخرة، وقال بالمال ها وها، وأنفق المال في سبيل الله، والدعوة إلى الله، وفي تجهيز الغزاة في سبيل الله، وكفالة أيتام المسلمين، ونشر العلم، وفي كل ما ينفع أمة الإسلام، فحينئذ تكون تجارته بركة ورحمة، بل ومن أسباب انشراح صدره أيضاً.
وبالخلاصة: فهما محبتان: محبة هي جنة الدنيا، وسرور النفس، ولذة القلب، ونعيم الروح، وغذاؤها ودواؤها بل حياتها وقرة عينها، وهي محبة الله وحده، ومحبة طاعته، ومحبة هدي نبيه، وانجذاب الميل والإرادة وكل الجوارح إلى ذلك.
ومحبة أخرى هي عذاب الروح، وغم النفس، وسجن القلب، وضيق الصدر، وهي سبب الألم والنكد والعناء، وهي محبة ما سواه سبحانه، انتهى ملخصاً من كلام ابن القيم .
وصدق الأول:
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق |
تراه باكياً في كل وقت مخافة فرقة أو لاشتياق |
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق |
أما من تعلق قلبه بالله، فهو في أنس دائم، وفي سعادة، وفي نعيم مستمر، أسأل الله ألا يحرمنا وإياكم لذة وانشراح الصدر بذكره.
ذكر الله عز وجل
ومن الذي يحصي؟ ليسوا ملائكة مقربين، لا. الذي يحصي في هذه الفاتورة أجهزة تحسب على الإنسان كل دقيقة وثانية من كلامه.
فما بالك بالسجل الآخر الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من فلتات اللسان وحركات اللسان، إن أطلقت في خير فلا تسل عن الطيبات والحسنات والدرجات العلا، وإن أرسلت في شر فلا تسل عن الهلكات والدركات والأمر الذي لا يسر صاحبه، فذكر الله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، وإني لأدعو على سبيل اليقين بهذه الوصفة والعلاج الرباني فأقول: من وجد منكم في نفسه ضيقاً، أو في حاله كرباً، أو في فؤاده شيئاً من الاكتئاب والاضطراب، فأوصيه بحسن الطهارة في ملبسه وبدنه، وأن يعمد إلى بيت من بيوت الله، أو يصلي ركعتين في بيته، فيصلي ما كتب الله له، ثم يستقبل القبلة ويسبح الله ما استطاع، ويستغفر الله ما استطاع، ويحمد الله ما استطاع، ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل ما استطاع، ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ما استطاع، وإني لأتحدى أن يقول: إنه قام من مجلسه كساعة جلوسه.
بل شتان بين أول لحظة جلسها، وبين آخر لحظة قام فيها بعد الذكر، آخر لحظة بعد ذكر طويل قام فيها يجد أن صدره اتسع، وأن فؤاده انشرح، وأن الدنيا قد أصبحت آفاقاً بعيدة، وميادين متعددة، ومجالات واسعة، وأن الخير ينتظره، وأن البشر على موعد معه في كل حال وفي كل مجال.
أما هذا الذي:
وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها |
إذا ضاق صدره فزع إلى الأغاني، فإذا زادته الأغاني ضيقاً فزع إلى مسكر، فإذا انتهى وزاده المسكر خبالاً
شربت الإثم حتى ضل عقلـي كذاك الإثم تذهب بالعقول |
فيخرج من داء إلى داء، ومن سقم إلى بلاء، ومن مصيبة إلى أعظم.
وحينئذ تكون دوامة النكد والقلق والمصائب التي لا تنتهي.
فإني لناصح، وإني لداع نفسي وكل إخواني والسامعين والسامعات، من وجد في نفسه ضيقاً فليفزع إلى الله، وليأنس بذكر الله عز وجل، ولقد جرب ذلك، بل عمل بذلك على سبيل اليقين ليس التجربة، عمل بذلك أقوام كانوا يترددون على مصحات نفسية، فعوضهم الله بذكره، والأنس بتسبيحه وحمده وشكره، بدلاً من هذه العقاقير التي تجعل النفس في خُمول وكسل، والبدن في انحطاط وضعفٍ، يظن صاحبها أنه قد انتهت مشكلاته وقد انتهت مهماته، وما هي إلا تخدير بعد تخدير، حتى يحتاج إلى جرعة أخرى.
لذا أيها الأحبة! عليكم بذكر الله عز وجل؛ لأن ذكر الله شعار المحبين لله، والمحبوبين من الله، والله عز وجل يقول: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد وابن ماجة وصححه الألباني رحمه الله.
فصاحب الأذكار مذكور عند الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152] والله عز وجل قال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:35].
والله سبحانه وتعالى قد أمر بالإكثار من الذكر فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] نحن كم نذكر الله عز وجل في يومنا؟ الواحد لو أراد أن يُحصي عدد ذكره لله لوجدها في بعض الأحيان لا تتجاوز عدد أنامله في يديه.
والحق -أيها الأحبة- أن الواجب علينا أن نتعود على ذكر الله، وأن نجعل ذكر الله شهيقاً وزفيراً، ونفساً يدخل ويخرج في أجوافنا.
عود لسانك ذكر الله تحض به إن اللسان لما يعتاد قوال |
وإن الله أثنى على الذاكرين وعدهم أولي الألباب، وأهل الذكاء، وأهل الحجا والفطنة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران:190] من هم أولو الألباب؟ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191] وأنت قادر على ذكر الله في كل أحوالك، في السيارة والطائرة، وفي السفينة والباخرة، وفي حلك وترحالك، وفي وقوفك واضطجاعك، وفي ذهابك وإيابك، وفي متجرك ودكانك، وفي المستشفى وفي كل حال فأنت لا تعجز عن ذكر الله، وذكر الله كنز لا تخشى عليه.
لو أن أحداً قال لك: تفضل هذه مائة ألف ريال، فإذا دخل البيت ظل يفكر أين يستثمر هذا المال.. في عقارات الإيراد؛ لكن نسبة الربح خمسة إلى ستة في المائة، تمور نظيفة لكن أخاف أن تفشل - المملكة إن شاء الله فيها خير، وكلها فيها خير، حتى لا يقال هذه دعوة مضمونة لقطع الاستثمار- ويظل يفكر تصلح أو لا تصلح هل أساهم أم لا... وهلم جراً، وتجده في حيرة من أمره ماذا يفعل بالمائة ألف؟ أين يضعها؟ لكن اجعله يجمع كنزاً اسمه كنز ذكر الله، قل سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله، الله أكبر، قد خُتم عليها، وسجلت لك، عبد الله فلان بن فلان ذكر الله في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية، ولا يسرق هذا الكنز أحد، ولا تخشى عليه انخفاض أسعار النفط، أو ارتفاع الأسهم، أو تغير أحوال البورصة، كنز الذكر لا تخشى عليه شيئاً أبداً، أما كنز الدنيا فأنت مشغول به.
أحد العلماء أتاه بعض الشباب جزاهم الله خيراً، يريدون أن يدخلوه معهم في مجال استثمار، وكان هذا العالم من القصيم متع الله به على طاعته، ومتع الله بأهل المملكة جميعاً على الطاعة، قالوا له: يا شيخ! عندنا مساهمة طيبة ونظيفة وممتازة، وحباً فيك فضيلة الشيخ أعطنا إذا كان عندك قرشين تساهم بها معنا، قال: أنا ليس لي حاجة في هذه الأمور، دعوني في التعليم والتدريس ولا تشغلوني، قالوا: يا شيخ! والله إنا لك لمن الناصحين، أعطنا القرشين الذي عندك نستثمرها، قال: تضمنون أني لا أفكر بها، قالوا: والله هذا يرجع لك، قال: إذاً دعوني، ما جمعت وأنفقت وأكلت واسترحت من همه.
إذاً ما يجمعه من حطام الدنيا مُشغل له لا محالة، وما يجمعه من كنـز الآخرة فلا خطر عليه، بل إنه يدعوك إلى المزيد، وشتان بين من اهتم بالآخرة أو ضيعها، هما على سبيل أمثلتنا المنظورة في واقعنا كرجلين أحدهما منح أرضاً مساحتها كيلو في كيلو، فسورها، وحفر فيها بئراً، وغرس نخلاً، وبنى فلّةً، وجملها وزينها، وجعل فيها كل شيء، هل ترون هذا الذي خسر على منحته هذه، وبنى وأنفق من أجلها، هل ترونه يسمح للكلاب أن تدخل داره وقصره، أو استراحته ومزرعته؟ الجواب: لا. هل ترون أن هذا الرجل يسمح للغادين والرائحين أن يجعلوها مرتعاً لهم؟ الجواب: لا، هل ترونه لا يبالي من جاء أو ألقى عندها من الزبالات والأوساخ ومخلفات البناء؟ الجواب: لا.
والآخر الذي منح مثله كيلو في كيلو ترك المنحة هكذا، لا سورها، ولا غرس فيها نخلاً، ولا حفر بئراً، ولا بنى داراً، ولا جعل مسبحاً، ولا زينها، جاءوا قالوا له: هناك أناس جلسوا فيها، قال: ماذا أصنع؟ جاء آخرون فقالوا: هناك سيارات وضعت بعض المخلفات، قال: سنكلمهم فيما بعد أن أخذوا المخلفات، فلا يهمه الأمر، لأن الذي عمر الاستراحة الأولى والمنحة الأولى، لما أنفق عليها أهمته، فأصبح يخشى عليها ما يُفسدها، ويكبر ما فعل فيها، أما الذي لم يبال بالثانية فلا يهتم أن يُلقي الناس فيها الأوساخ.
فكذلك من عمر الآخرة بالصيام والتعبد والصدقات والجهاد وطلب العلم والدعوة والاستغفار والذكر، وأصبحت آخرته كالاستراحة الأولى، فهو لا يرضى أن تدنو إليها منكرات، أو أن تسكن فيها فواحش، أو أن يتجول فيها فجار، بخلاف الآخر الذي لم يُعمر آخرته، فإنه لا يبالي أن يجلس فيها من جلس، أو يُرمى فيها ما يُرمى، وهذا مثل واضح جلي.
الشاهد أيها الأحبة! أن ذكر الله من أعظم أسباب انشراح الصدر: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] فأكثروا من ذكر الله عز وجل، فلا شك أنه من أعظم أسباب انشراح الصدر، يقول صلى الله عليه وسلم وهذه خصوصية من خصوصية الذكر، ليس الذكر الانقطاع فقط في المسجد، بل كل محاضرة وكل حلقة ذكر من رياض الجنة هي من حِلق الذكر ومن أسباب الذكر، التي هي من أسباب انشراح الصدر بإذن الله عز وجل، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يُسرع به نسبه).
فذكر الله -بإذن الله- أنس العبد من الوحشة، ونوره من الظلمة، وسكن للقلب، وهدوء ونجاة وسلامة من القلق والاضطراب، يقول ابن القيم حول الآية الآنفة: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] يقول: سكون القلب إلى الشيء، وعدم اضطرابه وقلقه، ومنه الأثر المعروف: (الصدق طمأنينة والكذب ريبة) أي: الصدق يطمئن إليه قلب السامع، ويجد عنده سكوناً إليه، والكذب يُوجب اضطراباً وارتياباً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر ما اطمأن إليه القلب) أي: سكن إليه وزال عنه اضطرابه وقلقه.
وفي المقابل الذين ليس لهم من ذكر الله حظٌ أو نصيب، وإنما حظ ذاكرتهم الألبومات جديدة، يتلو ما يسمى بالألبوم الجديد، وأصبح الشباب -نسأل الله أن يهديهم وأن يُصلح أحوالهم- يتبادلون أخبار الفنان الجديد والألبوم الجديد، المسألة ليست مسألة شريط أو أغنية واحدة، بل ألبوم مجموعة الأغاني الفلانية، أو المطرب الفلاني، أو المطربة الفلانية، أو الفنان الفلاني والفلانية وغير ذلك، أصبحت عقولهم مستودعاً لساقط القول ورديء الكلام، وخلت قلوبهم من ذكر الله عز وجل، فترى علامات القلق والاكتئاب والاضطراب على نفوسهم وحركاتهم وتصرفاتهم.
الذين يعرضون عن ذكر الله عز وجل: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] وهذا ملاحظ، فتجد كثيراً من الشباب الذين لا يذكرون الله عز وجل قد قُيض لهم من الشياطين التي ركبت على أكتافهم -أسأل الله لهم الهداية، وأن يطرد الشياطين عنهم- وأخذت تؤزهم أزاً، وتهزهم هزاً، والله عند بعض إشارة المرور أنك تسمع ضرب موسيقى صاخبة مستوردة، روك أو جاز أو بولي أم أو ديسكو أو غيره، وتجد السيارة تتحرك حديد مع عبيد يتحركون جمعياً، من شدة ما تأزهم الشياطين فيما هم فيه.
هل رأيتم أحداً يذكر الله يجن هذا الجنون؟ الذي يذكر الله عليه السكينة والطمأنينة والهدوء، وعلى محياه الراحة، وتجد الرجل كثير ذكر الله تنشرح نفسك إليه وإلى لقياه، والجلوس معه والأنس به، أما هؤلاء -أسأل الله أن يهديهم- فتجد من تصرفاتهم العجب العجاب، بعضهم إذا وقف عند الإشارة والتفت إليه ونصحته، يستحي ويُغلق الزجاج ويخفض المسجل، ويستجيب للنصيحة وهذا حال كثير منهم ولله الحمد.
وبعضهم لو نصحته زاد؛ لأن القرين الذي قُيض له على كتفه قد جثم على رقبته، يجعله في عناد، وتأخذه العزة بالإثم ويزداد، والطاقم الذي معه ملاحي الكبينة هؤلاء يزدادون جنوناً معه، وتجد السيارة وقد رأيت هذا بعيني تهتز من أولها إلى آخرها، أسأل الله أن يهديهم وأن يمن عليهم.
فالشاهد أن من أعرض عن ذكر الله فهو ممن قال الله فيه: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36] وقال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ... [طه:124] الذكر عام، الأذكار المعروفة، والعبادة والطاعة والانقياد: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فالربح كل الربح في ذكر الله عز وجل.
الإحسان إلى الخلق
ولم أر كالمعروف أما مذاقـه فحلو وأما وجهه فجميل |
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استبعد الإنسان إحسان |
أحسن إذا كان إمكان ومقدرة فلا يدوم على الإحسان إمكان |
إذا هيأ الله لك، وأقدرك الله على نفع إخوانك بمالك أو بجاهك أو ببدنك أو بكلمتك أو بما تستطيعه، فلا تتردد لأمرين:
الأمر الأول: تستعبد القلوب بالإحسان فتنال حظاً من الدعاء، والذكر الحسن في الأولين والآخرين: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء:84] تجعل لك ذكراً حسناً حتى بعد موتك.
يبقى الثناء وتذهب الأمـوال ولكل عصر دولة ورجال |
والثاني: أنك اليوم قادر وغداً عاجز، وأنت اليوم قوي وغداً ضعيف، وأنت اليوم نشيط وغداً ربما تخور القوى، فما دمت ذا مقدرة، وما دمت على استطاعة في نفع العباد فأحسن إليهم، وإني لأعلم من بعض إخواني جزاهم الله خيراً، من يقسم بالله قائلاً: إني لأجد انشراحاً في صدري ونفسي، وأجد لذة إذا هيأ الله أو يسر الله قضاء حاجة مسلم على يدي، أعظم من فرحي وانشراحي بكسب مالٍ قد أدخلته جيبي.
وهذا واضح، بل ذكره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في رسالة قيمة أنصح كل السامعين والسامعات باقتنائها وقراءتها وهي رسالة بعنوان: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة ، ذكر منها الإحسان إلى الناس، والذي يُحسن إلى الناس يعيش عالمياً، يعيش لا لذاته، بل يعيش لغيره، وحينما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة صغيرة وقصيرة ومحدودة، وتبدأ من حيث بدأنا وتنتهي من حيث انتهينا في حدود ملذاتنا، أما حينما نعيش لغيرنا؛ لفكرة أو لهدف أو لدعوة أو لنفع الناس وتعبيدهم لله عز وجل، فإن الحياة طويلة وباقية تبدأ منذ أن بدأ الحق، ولا يفنى الحق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ما أجمل أن تكون باذلاً ما استطعت في الإحسان إلى إخوانك! والبخيل من بخل بجاهه، فلا يتردد أحد في داره.
إن من أعظم المناقب التي بلغ بها سماحة الإمام العلامة الراحل الشيخ عبد العزيز بن باز وبلغ بها الثريا بين نجوم العلماء، فالعلماء كثير لكن ابن باز شيء بينه وبينهم مرحلة، والسبب أمور عديدة منها: قضاء حوائج الناس، والشفاعة للخلق، ولا يرد أحداً سواءً تجنساً أو إقامة، أو أراد منحة جامعية، أو سداد دين، أو علاجاً في الخارج، أو كفالة داعية أو يتيم، أو إصلاح قضية زوجية كأمور الطلاق، قد فتح الشيخ قلبه قبل بابه، وفؤاده قبل مجلسه، واعتبر نفسه أباً للناس جميعاً، مسئولاً عن كل حوائجهم، فلا يألو جهداً في قضاء حوائجهم ما استطاع، وهذا من مناقبه التي أورثته انشراح الصدر العجيب.
أنا أقول لبعض الإخوان: هل سمعتم أحداً يأتي إلى الشيخ يبشره، لا يأتي إلى الشيخ إلا ويقول: يا شيخ! حصلت مشكلة، يا شيخ! وقعت مصيبة، يا شيخ! حدث منكر، قلّ من يأتي إلى الشيخ ببشارة، أكثر من يأتي إلى الشيخ يشكو حاجةً، أو يريد مالاً، أو يسأل شيئاً، فما الذي جعل هذا الشيخ يتصبر؟ لو آتي لك بواحد بعد كل فريضة يأتي يسلم عليك ويقبل رأسك، هل تصبر؟
أيها الأحبة! اعلموا أنه لا انشراح بدون عقيدة نقية أو توحيد خالص، فالتوحيد وإخلاص العبادة لله عز وجل من أعظم أسباب انشراح الصدر، السجود لله وحده، والخضوع له وحده، والخوف منه وحده، والرغباء إليه وحده، فهو الذي يُدعى سبحانه لا شريك له، وهو الذي يُرجى، وهو الذي يحيي وهو الذي يميت، وإليه المنتهى في كل شيء، وبيده خزائن كل شيء، قدر المقادير، وكتب الآجال، ووسع على العباد في الأرزاق، وضيق على من يشاء، يذل من يشاء ويعز من يشاء، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينـزع الملك ممن يشاء، العبادة كلها دقيقها وجليلها له وحده لا شريك له، لا يُدعى ولا يسمى إلا بما هو أهله وما يليق به، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى، فلا يسمى أو يوصف إلا بما سمى أو وصف به نفسه، أو سماه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
من حقق التوحيد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فإنه بإذن الله ممن يجدون انشراح الصدر ولذته، وطمأنينة الفؤاد وثباته، ولذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: فأعظم أسباب شرح الصدور التوحيد، وعلى حسب كمال التوحيد وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه، قال الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] فالهدى والتوحيد من أعظم أسباب انشراح الصدور، انتهى كلام ابن القيم.
وهذا معلوم -أيها الأحبة- لأن من تعلق بالله غاية التعلق، وتوكل إليه منتهى التوكل، فإنه في غاية الانشراح؛ إذ لا يكون أمر إلا بتقديره وتدبيره، ولا يستطيع العباد أن يقضوا شيئاً لم يقضه الله، أو يرفعوا شيئاً قد قضاه الله، أو يقبضوا شيئاً قد بسطه الله، أو يبسطوا شيئاً قد قبضه الله عز وجل: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا [فاطر:2].
إذاً أيها الأحبة! المؤمن على غاية اليقين: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] فهو على انشراح في صدره لا يخشى مصيبة؛ لأنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله، ولا يخشى أحداً في تقريب أجله؛ لأن الآجال بيد الله، ولا يخشى أحداً في قطع رزقه؛ لأن الأرزاق بيده سبحانه وتعالى، فعلام يخاف إذاً؟ وعلام ينقبض صدره؟ وهو يعلم أن الأرزاق والآجال والمنايا والمقادير كلها بيد الله، والمقادير كل المقادير تنطوي على تمام عدل الله؛ لأن الله لا يظلم، وتنطوي على كمال حكمته؛ لأن الله لا يعبث، وتنطوي على تمام رحمته؛ لأن رحمته وسعت كل شيء وسبقت غضبه.
إن أولي العزم من الرسل الذين شرح الله صدورهم بهذا التوحيد، واجهوا كل الصعاب، وواجهوا كل التحديات بهذا التوحيد الخالص، وبهذا اليقين المنقطع النظير، فهذا نوح عليه السلام، لما جمّع قومه وألبوا، قال: يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس:71] وانظروا قول الخليل إبراهيم عليه السلام: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً [الأنعام:80] وقوله: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ [الأنعام:81].
بل وهذه امرأة فرعون كانت تحت طاغية غاشم ظالم، وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم تلك التي شرح الله صدرها للتوحيد والإسلام فعرفت ربها، وآمنت بدينها وهي تحت هذا الضال الغاشم، يقول تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11].
بل سيد الأنبياء وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، قد أنزل الله عليه عز وجل قوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173-174].
هل كل هذا الثبات؟ وهل كل هذا التحدي؟ وهل كل هذه المواجهة الصادقة التي لا يعترضها ريب أو تردد أو شك، إلا بسبب توحيد الخالق، ويقين عظيم أن الله عز وجل مُدبر الأمور ومقدر المقادير، وهو معهم أينما كانوا يحفظهم وينصرهم ويُعينهم، ومن حقق التوحيد فهو مُكرم بعناية الله ورعايته.
وإذا العناية لاحظتك عيونـها نم فالمخاوف كلهن أمان |
إن الفتى الذي واجهه النمرود الطاغية الذي خدد الأخاديد، وشق الأحافير وملأها وأضرمها نيراناً، وألقى الناس رجالاً ونساءً وشباناً ورضعاً وشيباً فيها، ماذا قال ذلك الغلام؟ اللهم اكفنيهم بما شئت، ثقة بالله عز وجل فما ضره كيدهم إلا يوم أن أراد أن ينذر دمه في سبيل الله ونشر دعوته، إلا يوم أراد أن يسقي عقيدته بما يتناثر من أشلائه لما جعل صدره مسرحاً لسهام الطاغية، والثمن نشر كلمة التوحيد، قال له: إن شئت أن تقتلني فاجمع الناس كلهم، ثم أخرج سهماً من كنانتي واجعله في كبد قوسك، فإذا أردت أن ترمي به، فارفع صوتك وقل: باسم الله رب الغلام.
بعد أن كان لا يتسمى إلا بألوهية ذاته، وربوبية شخصه، وتصرفه وإرادته المطلقة، ظناً منه أنه المتفرد، فأراد ذلك الفتى أن يجعل من أشلائه ودمه قرباناً لكلمة لا إله إلا الله، وما أطيب هذا القربان! وما أجمل هذا العمل! في نشر هذه العقيدة.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أهمية الوقت في حياة المسلم | 2802 استماع |
حقوق ولاة الأمر | 2664 استماع |
المعوقون يتكلمون [2] | 2652 استماع |
توديع العام المنصرم | 2647 استماع |
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] | 2552 استماع |
من هنا نبدأ | 2495 استماع |
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] | 2461 استماع |
أنواع الجلساء | 2460 استماع |
الغفلة في حياة الناس | 2437 استماع |
إلى الله المشتكى | 2436 استماع |