ألا إن سلعة الله غالية


الحلقة مفرغة

معاشر المؤمنين! قد وعد الله عباده المؤمنين المخلصين بالجنة، وتوعد العاصين المعاندين المكابرين بالنار، وبين سبحانه أن هذه الجنة دار نعيمٍ لا يكدرها شيء، وبين سبحانه في هذه الجنة ألواناً من النعم، وألواناً من الخيرات والملذات، جاء عن هذه الجنة على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الجنة فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر) الله أكبر! الله أكبر!

يا عباد الله! تجولوا في هذه البلدان، وانظروا إلى أعظم القصور، وأكبر المراكب، وأفخم المفارش، واعلموا أن في الجنة ما هو خيرٌ منها، وأعظم منها وأبقى وأدوم منها؛ لأن نعيم الدنيا منتهٍ إلى زوال، فانٍ إلى محال، أما الدار الآخرة فنعيمها دائمٌ لا ينقطع.

ملذاتنا في هذه الدنيا: صحةٌ في البدن، لكن الأمراض تكدرها، اجتماعٌ بالأحباب، لكن الفراق ينغصه، نوالٌ للمال، لكن الفقر يهدده، حصول على العزة، لكن الذلة قد تفاجئه، حصول بكثيرٍ من الأمور، لكنها فانيةٌ منتهية: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن:26-27].

الله أكبر يا عباد الله!

وأكره أيام الوصال لأنني     أرى كل وصلٍ معقباً بزوالِ

وأحب ليالي الهجر لا فرحاً بها     عسى الله يأتي بعدها بوصالِ

ويقول آخر:

أشد الغم عندي في سرورٍ     تيقن عنه صاحبه انتقالا

من لم يغتنم حاضره فاتت آخرته

أتدرون أن أرباب الدنيا، وأصحاب المال، وتجار الأرصدة ما لم يسلطوا أنفسهم على أموالهم؛ لكي تكون عوناً لهم على الطاعة وشرفاً لهم في العبودية، فاعلموا أنهم والله أندم الناس يوم القيامة، يندمون على ما بين أيديهم من هذه النعم، وما سخروها لوجه الله جل وعلا، لماذا؟

الواحد منهم تحته الزوجات، ويعلم أنه يموت، فتنكحُ نساؤه من بعده، ويعلم أن أرصدته قد ضايقت البنوك ثم يعلم أنه يموت، فيقتسمها الورثة والعصاة وغيرهم، يعلمُ أنه في هذه القصور، وفي هذه الدور، ويعلمُ أنه يفارقها وبعد ذلك يأتي به أحبابه ليرموه في حفرةٍ ضيقةٍ مظلمةٍ محكمة الغطاء، ثم يعودون ينامون في غرفته ويتقلبون على سريره، ويتطيبون بطيبه، وينسونه وقد لا يذكرونه، فليست هذه الدنيا بدار طمأنينة.

والله لو أن القلوب صحيحـة     لتقطعت ألماً من الحسراتِ

نعم يا عباد الله! الصحة بين أيدينا، والمال في جيوبنا، وسخر الله لنا أشياء كثيرة، لكننا عن طاعة الله بها غافلون وننسى أننا نحتاج إلى حسنةٍ واحدة! ألاحق ولدي وتلاحق ولدك، والأم تلاحق ولدها .. ولدي تعبتُ عليك .. حملتك كرهاً .. وضعتك كرهاً .. أزلت الأذى عنك بيميني .. جعلت بطني لك وعاء وثديي لكي سقاء .. وحرمتني لذيذ النوم ببكاءٍ تتقلب فيه ... حسنةً واحدة، حسنةً واحدة!!

والأب يقول: يا ولدي أتعبتُ النهار، وأفنيت الضياء بحثاً عن لقمةٍ لأجلك، وسهرت الليل:

كأني أنا المطروق دونك بالذي     طرقت به دوني وعيني تهملُ

إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت     لسقمك إلا ساهراً أتململُ

تخاف الردى نفسي عليك وإنها     لتعلم أن الموت حقاً مؤملُ

يا ولدي حسنةً واحدة، فيقول: يا أبي إليك عني! إليك عني يا أبي!! إليكِ عني يا أمي!! نفسي نفسي! نفسي نفسي: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36] لماذا؟!

أنسينا الصداقات؟! أنسينا العلاقات؟! أنسينا التجارات؟! لماذا؟ هل انقطعت المعرفة؟! هل زالت المودة؟! لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] شغل، داهية، واقعة، حاقة، زاجرة، غاشية، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37]، فما بال الناس؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:38-41] اللهم لا تجعلنا منهم.

نعيم الدنيا والآخرة

فيا أيها الأحبة في الله! هو ذاك نعيمُ الآخرة، وهذا نعيم الدنيا، شتان شتان بين هذا وهذا في البقاء والدوام والملذات: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة:25].

الله أكبر يا عباد الله! هذه الجنة يوم أن تتبادرك الحور العين، يزغردن ويصفقن بقدومك، يتقدمنك إلى قصرك اللؤلئي في جنات النعيم، يوم أن يقال: ادخل وارق، ورتل القرآن كما كنتَ ترتل في الجنة، فمنـزلتك عند آخر آيةٍ تقرأها.

الله أكبر يا عباد الله! يوم أن تكونوا يا معاشر المؤمنين! يوم العرض الأكبر على الله، فيدخل من نجا إلى الجنة، ويدخل من هلك إلى النار، نسأل الله ألا يكون بيننا أحد من الهالكين، ولا أن نكون منهم، ثم بعد ذلك إذا انتهى الفصل في القضاء والخطاب بين العباد، نادى منادٍ يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت، يا أهل النار! خلودٌ ولا موت وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:92-94].

عباد الله! ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة، ناداهم رب العزة جل وعلا، وقال: عبادي هل رضيتم عني؟ عبادي: هل رضيتم عني؟ عبادي: هل رضيتم عني؟ الله أكبر يا عباد الله.

خلقنا من العدم، وآتانا الصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، وأنواع الأرزاق، ثم يغفر لنا برحمته، ويدخلنا الجنة بمنه، ثم يقول: عبادي! عبادي! هل رضيتم عني، من ذا الذي لا يرضى عن ربه بعد هذا؟

فيقول: أهل الجنة، يا ربنا! ألم تغفر ذنوبنا! ألم تكفر سيئاتنا! ألم تدخلنا الجنة؟! رضينا عنك يا رب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8] لمن خاف الله في السر، لمن اتقى الله في خلوته، لمن خشي ربه.

فيقول الله جل وعلا: إن لكم عندي وعداً، يقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة! ويقول الله جل وعلا: إن لكم عندي وعداً أنجزكموه، فيكشف ربنا جل وعلا عن وجهه الكريم، فينظرون إلى وجه الله العظيم، فما أوتوا نعيماً في الجنة ألذ من النظر إلى وجه الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] جميلة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] مشرقة، بهية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22-25].

تخشى الهلاك، وتحقق الظن بالعذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذه الجنة يا عباد الله! لا نتغوط فيها، ولا نتبول فيها، نلهم فيها التسبيح والتهليل كما نتنفس هذا الهواء شهيقاً وزفيراً، وإذا اشتهيت شيئاً من نعيمها، تدنت لك أغصان الجنة: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23]، تتدنى للمؤمنين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

كان الناس يسهرون على الأفلام والمسلسلات، وكان أهل الجنة يراوحون الأقدام قيام الليل أُنساً بالله جل وعلا، كان الناس يسهرون في الورق والعبث، وكان أهل الجنة يقلبون كلام الله جل وعلا في كتابه الكريم، ويتدبرون آياته، كان الناس ضاحكين غافلين مسرفين، أما أهل الجنة فكانوا خاشعين خائفين مخبتين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

أتدرون أن أرباب الدنيا، وأصحاب المال، وتجار الأرصدة ما لم يسلطوا أنفسهم على أموالهم؛ لكي تكون عوناً لهم على الطاعة وشرفاً لهم في العبودية، فاعلموا أنهم والله أندم الناس يوم القيامة، يندمون على ما بين أيديهم من هذه النعم، وما سخروها لوجه الله جل وعلا، لماذا؟

الواحد منهم تحته الزوجات، ويعلم أنه يموت، فتنكحُ نساؤه من بعده، ويعلم أن أرصدته قد ضايقت البنوك ثم يعلم أنه يموت، فيقتسمها الورثة والعصاة وغيرهم، يعلمُ أنه في هذه القصور، وفي هذه الدور، ويعلمُ أنه يفارقها وبعد ذلك يأتي به أحبابه ليرموه في حفرةٍ ضيقةٍ مظلمةٍ محكمة الغطاء، ثم يعودون ينامون في غرفته ويتقلبون على سريره، ويتطيبون بطيبه، وينسونه وقد لا يذكرونه، فليست هذه الدنيا بدار طمأنينة.

والله لو أن القلوب صحيحـة     لتقطعت ألماً من الحسراتِ

نعم يا عباد الله! الصحة بين أيدينا، والمال في جيوبنا، وسخر الله لنا أشياء كثيرة، لكننا عن طاعة الله بها غافلون وننسى أننا نحتاج إلى حسنةٍ واحدة! ألاحق ولدي وتلاحق ولدك، والأم تلاحق ولدها .. ولدي تعبتُ عليك .. حملتك كرهاً .. وضعتك كرهاً .. أزلت الأذى عنك بيميني .. جعلت بطني لك وعاء وثديي لكي سقاء .. وحرمتني لذيذ النوم ببكاءٍ تتقلب فيه ... حسنةً واحدة، حسنةً واحدة!!

والأب يقول: يا ولدي أتعبتُ النهار، وأفنيت الضياء بحثاً عن لقمةٍ لأجلك، وسهرت الليل:

كأني أنا المطروق دونك بالذي     طرقت به دوني وعيني تهملُ

إذا ليلةٌ ضافتك بالسقم لم أبت     لسقمك إلا ساهراً أتململُ

تخاف الردى نفسي عليك وإنها     لتعلم أن الموت حقاً مؤملُ

يا ولدي حسنةً واحدة، فيقول: يا أبي إليك عني! إليك عني يا أبي!! إليكِ عني يا أمي!! نفسي نفسي! نفسي نفسي: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36] لماذا؟!

أنسينا الصداقات؟! أنسينا العلاقات؟! أنسينا التجارات؟! لماذا؟ هل انقطعت المعرفة؟! هل زالت المودة؟! لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] شغل، داهية، واقعة، حاقة، زاجرة، غاشية، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37]، فما بال الناس؟ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:38-41] اللهم لا تجعلنا منهم.

فيا أيها الأحبة في الله! هو ذاك نعيمُ الآخرة، وهذا نعيم الدنيا، شتان شتان بين هذا وهذا في البقاء والدوام والملذات: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [البقرة:25].

الله أكبر يا عباد الله! هذه الجنة يوم أن تتبادرك الحور العين، يزغردن ويصفقن بقدومك، يتقدمنك إلى قصرك اللؤلئي في جنات النعيم، يوم أن يقال: ادخل وارق، ورتل القرآن كما كنتَ ترتل في الجنة، فمنـزلتك عند آخر آيةٍ تقرأها.

الله أكبر يا عباد الله! يوم أن تكونوا يا معاشر المؤمنين! يوم العرض الأكبر على الله، فيدخل من نجا إلى الجنة، ويدخل من هلك إلى النار، نسأل الله ألا يكون بيننا أحد من الهالكين، ولا أن نكون منهم، ثم بعد ذلك إذا انتهى الفصل في القضاء والخطاب بين العباد، نادى منادٍ يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، يا أهل الجنة! خلودٌ ولا موت، يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، ويا أهل النار! خلودٌ ولا موت، يا أهل النار! خلودٌ ولا موت وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:92-94].

عباد الله! ثم إذا استقر أهل الجنة في الجنة، ناداهم رب العزة جل وعلا، وقال: عبادي هل رضيتم عني؟ عبادي: هل رضيتم عني؟ عبادي: هل رضيتم عني؟ الله أكبر يا عباد الله.

خلقنا من العدم، وآتانا الصحة في الأبدان، والأمن في الأوطان، وأنواع الأرزاق، ثم يغفر لنا برحمته، ويدخلنا الجنة بمنه، ثم يقول: عبادي! عبادي! هل رضيتم عني، من ذا الذي لا يرضى عن ربه بعد هذا؟

فيقول: أهل الجنة، يا ربنا! ألم تغفر ذنوبنا! ألم تكفر سيئاتنا! ألم تدخلنا الجنة؟! رضينا عنك يا رب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8] لمن خاف الله في السر، لمن اتقى الله في خلوته، لمن خشي ربه.

فيقول الله جل وعلا: إن لكم عندي وعداً، يقولون: ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة! ويقول الله جل وعلا: إن لكم عندي وعداً أنجزكموه، فيكشف ربنا جل وعلا عن وجهه الكريم، فينظرون إلى وجه الله العظيم، فما أوتوا نعيماً في الجنة ألذ من النظر إلى وجه الله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] جميلة وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] مشرقة، بهية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ [القيامة:22-25].

تخشى الهلاك، وتحقق الظن بالعذاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هذه الجنة يا عباد الله! لا نتغوط فيها، ولا نتبول فيها، نلهم فيها التسبيح والتهليل كما نتنفس هذا الهواء شهيقاً وزفيراً، وإذا اشتهيت شيئاً من نعيمها، تدنت لك أغصان الجنة: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [الحاقة:23]، تتدنى للمؤمنين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

كان الناس يسهرون على الأفلام والمسلسلات، وكان أهل الجنة يراوحون الأقدام قيام الليل أُنساً بالله جل وعلا، كان الناس يسهرون في الورق والعبث، وكان أهل الجنة يقلبون كلام الله جل وعلا في كتابه الكريم، ويتدبرون آياته، كان الناس ضاحكين غافلين مسرفين، أما أهل الجنة فكانوا خاشعين خائفين مخبتين: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].

هذه الجنة يا عباد الله! كفى كذباً على أنفسنا نقول: إننا عملنا عملاً مناسباً لكي ننالها؛ لأنه لا يدخل أحدٌ جنة الله إلا برحمته، ولا ينال أحدٌ جنة الله إلا بمغفرة الله، قال صلى الله عليه وسلم: (إنه لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته) رسول الله الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أول من ينشق عنه القبر، صاحب المقام المشهود، واللواء المحمود، والحوض المورود، أول من يمسك بحلق أبواب الجنة، فيقول: (من؟ فيقول: محمد، فيقول: لكَ أُمرت أن أفتح أدخل يا محمد).

هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ولا أنا -لا أدخل الجنة- إلا أن يتغمدني الله برحمته) فيا أيها الأحبة في الله! مع هذا الوصف لجنات الله جل وعلا، والقرآن مليءٌ بذكر وصف الجنة، هل أعددنا لها عملاً؟! من سار أدلج، ومن أدلج بلغ المنـزلة، ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله الجنة .. ألا إن سلعة الله غالية .. ألا إن سلعة الله الجنة.

ويوم أن عرف الصحابة رضوان الله عليهم ثمن هذه الجنة، وعظم ثمنها ومنزلتها وما فيها من النعيم، أعدوا لها عدةً وتحملوا البلاء لوجه الله، ثم لأجل نوالها، والفوز بها، إننا ما عبدنا الله إلا طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، هكذا عبده الأنبياء قبلنا، إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

هذه الجنة يا عباد الله! لأجل ما فيها من رضا الله، ولما فيها من النعيم، تحمل النبي صلى الله عليه وسلم ألوان العذاب، والأذى النفسي والعملي، وتحمل الصحابة رضوان الله عليهم كذلك، ولسنا بصدد التفصيل فيما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من وضع الشوك في طريقه، ووضع سلى الجزور وخلاص الناقة بعد ولادتها على ظهره، وطرده من مكة هائماً على وجهه! ووقوف أهل الطائف له سماطين يرجمونه بالحجارة! حتى أدميت قدماه.

وتمالأت قريش في دار الندوة ليثبتوه أو يقتلوه ويمكرون ويمكر الله، ثم كذلك ما لقيه الصحابة، فقد جاء خباب بن الأرت، فكشف ظهره للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي ظهره من كي الحديد، (يا رسول الله: ألا تستغفر لنا، ألا تدعوا الله لنا) مما يلقون من العذاب، ويصبرون عليه طمعاً في رضا الله وجنته فيقول صلى الله عليه وسلم: (لقد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤتى به، فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، وينشر بالمنشار من مفرق رأسه إلى قدمه، ما يصده ذلك عن دينه).

ويجيء الصحابي في المدينة : (يا رسول الله! متى نأمن؟ أحدنا لا يبول إلا وسلاحه على كتفه، ولا ينام إلا وسلاحه تحت وسادته، فيقول صلى الله عليه وسلم: إنكم قومٌ تستعجلون، والله ليتمن الله هذا الأمر، وليظهرن الله هذا الدين، حتى يسير الراكب إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه).

أيها الأحبة! أحد الصحابة من رجالات الدولة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعث مفاوضاً إلى الروم فجيء به وقيل له تنصر واترك دينك، قال: ما أنا بمتنصرٍ ولا بتاركٍ ديني، فقالوا له: نعطيك نصف هذا الملك، واترك دينك، وتنصر؟ فقال: لا، قيل: إن لم تفعل لنعذبنك، فقال: لا، فأمر ذلك الملك بأن تضرم النار العظيمة، وتنصب القدور العظيمة، ويوضع فيها الماء والزيت، حتى إذا صار يغلي، جيء بالصحابي رضي الله عنه، ووقف به أمام هذه القدر التي تغلي ليلقى به فيها، فلما رفع ليرمى به بكى رضي الله عنه، فأنزلوه وعادوا به إلى الملك، قالوا: هل تترك دينك؟ قال: لا والله، قال: إذاً لماذا بكيت؟ قال: علمتُ أن ميتتي هذه شهادةٌ في سبيل الله أنال بها الجنة، فتمنيتُ أن لي مائة نفسٍ تموت هذه الميتة!!

لقد عرفوا الله، وعرفوا نعيمه، فطلبوه، وبذلوا النفس والمال رخيصاً في لقاء ذلك وفي سبيل ذلك.

عباد الله!

يا سلعة الرحمن سوقك كاسدٌ     فلقد عرضت بأيسرِ الأثمانِ

هل منكم من يُصَدُّ عن دينه؟! هل منكم من يُعَذَّب على دينه؟! هل منكم من يُفْتَن في دينه؟!

عباد الله! جنةٌ عرضها السماوات والأرض، تنالها بأدنى قليلٍ من العمل، وبأكبر كبيرٍ من العمل إذا كان خالصاً لوجه الله ثواباً على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما الذي يردنا أن نتنافس في هذه الجنة؟!

شمسٌ تزف إلى ضرير مقعدٍ     يا محنة الحسناء بالعميان

نعيم الجنة يوصف لقلوب غافلةٍ ميتة، أسأل الله أن يوقظ قلوبنا من نومة الغفلات، وأن يرزقنا التوبة الصادقة والاستعداد للقائه، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تستمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2805 استماع
حقوق ولاة الأمر 2669 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2654 استماع
توديع العام المنصرم 2649 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2557 استماع
من هنا نبدأ 2497 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2463 استماع
أنواع الجلساء 2462 استماع
إلى الله المشتكى 2438 استماع
الغفلة في حياة الناس 2437 استماع