التوسل والوسيلة


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله الذي لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله ربه إلى الإنس والجن بشيراً ونذيراً.

أما بعد:

فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق التقوى، اتقوا الله جل وعلا فهي وصية الله لكم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، ويقول جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

معاشر المؤمنين! مر بنا في الجمعة الماضية ما وقع فيه كثير من الضعفاء والجهلة والمصرين على الضلالة أولئك الذين يعتقدون في القبور وسكانها واللحود ونزلائها، أولئك الذين يعتقدون فيهم دفعاً أو نفعاً أو إجابة دعوة أو كشف كربة، وأولئك لا يملكون لأنفسهم شيئاً قليلاً ولا كثيراً، صغيراً أو حقيراً أو كبيراً، فكيف يدفعون عن غيرهم؟ وكيف يجيبون من دعاهم؟ وكيف يسمعون من ناداهم؟

ولكن ضلال القبوريين المنتسبين إلى طائفة القبورية، ومن حذا حذوهم وسار سيرهم يشركون بالله وهم لا يعلمون، وصدق الله جل شأنه حيث قال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] هذا في شأن من يدعون الإيمان، ومنهم من يكفرون بالله جل وعلا على بصيرة.

ما يستدل به القبوريون والرد عليهم

وحديثنا اليوم عن التوسل والوسيلة وما كان قريباً منها وفي حكمها من الاستغاثة والاستعانة.

فاعلموا يا عباد الله! أن من ضلال أهل الضلالة، ومن جهلاء أهل الجهالة من يحتجون بكتاب الله على باطلهم، فتجد منهم من يحتج بقوله سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57]، ويحتجون بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فيجعلون هذه الوسيلة التي وردت في الآية حجة لهم باتخاذ من يتوسلون بهم من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن الأموات الغائبين المغيبين في اللحود والقبور يجعلون هذه الآية يستدلون بها استدلالاً ضالاً ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويوردون الكلام في غير ما يستدل به، ويحتجون بها لأنفسهم، وقد أجمع العلماء وعلماء التفسير رحمهم الله أن المقصود بالوسيلة في هاتين الآيتين: (العمل الصالح) والمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:35] نداء للمؤمنين، أن اتقوا الله، واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] أي: اطلبوا عملاً صالحاً يقربكم إلى الله جل وعلا.

وكذلك ما جاء في الآية الأخرى في وصف المؤمنين: الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57] يبتغون العمل الصالح سلماً لرضا الله جل وعلا، وما سوى ذلك من استغاثة المخلوق بالمخلوق الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو استغاثة المخلوق بالمخلوق الميت فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فإن ذلك أمر لا يجوز، بل هو شرك لا شك فيه.

أنواع من الاستعانة والاستغاثة الجائزة

والاستغاثة والاستعانة إما أن تكون في أمر يقدر المخلوق عليه فهي جائزة، وإما أن تكون في أمر لا يقدر عليه إلا الله فهي شرك لا شك فيه.

ومن أنواع الاستغاثة الجائزة: ما ورد في كتاب الله جل وعلا: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] فهذا يستغيث بموسى عليه السلام ليعينه على قتل عدوه.

وكذلك استغاثة الإنسان بمن يعينه على رد صائل أو إطفاء حريق ونحو ذلك، فهذا من الاستغاثة ومن الاستعانة الجائزة، وأما ما سوى ذلك كمن يستغيث بحي في شفاء مرضه، أو يستغيث بحي في تفريج كربته، أو يستغيث بحي في حصول خير له، فإن هذا لا يجوز.

نعم. الأسباب واردة، والله جل وعلا يقول: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) فإن الإنسان إذا نزلت به كربة فسأل الله جل وعلا أن يدفع عنه وأن يسخر له، ثم طلب سبباً من البشر لوجاهته أو لمنزلته أو لأمر يختص به دون غيره، فقال: يا فلان اشفع لنا عند فلان في أمر يقدر عليه الشافع والمشفع عنده أو المشفوع عنده، فليس هذا من الاستغاثة أو الاستعانة المحرمة، لكن المحرم هو أن يستغيث المخلوق بمخلوق ضعيف مثله في أمر لا يقدر عليه الأحياء، أو أن يستغيث بغائب، فترى رجلاً مثلاً في مكة، وآخر في الرياض، فإذا أصاب الذي في الرياض سوءٌ أو مكروهٌ نادى فلاناً وهو بـمكة وقال: يا فلان ادفع عنا ما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالحي على ما يقدر عليه إذا كان غائباً فإن هذا لا يجوز أبداً، وهو الذي وقع فيه كثير من هذه الأمة، حيث ضلوا وأضلوا كثيراً منهم بغير علم.

فترى أناساً يستغيثون بالأموات في قبورهم، وأناساً يستغيثون بالأحياء الذين عندهم فيما لا يقدرون عليه ولا يقدر إلا الله، أو يستغيثون بالأحياء فيما يقدرون عليه ولكنهم غائبون عنهم، فحينئذٍ أيها الأحبة ذلك مما لا يجوز، إذ إن الاستغاثة من المخلوق بالمخلوق ومن الحي بالحي في أمر يقدر عليه يشترط له أن يكون موجوداً وأن يكون قادراً على فعل ذلك.

فالله جل وعلا يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قدم اللفظ إِيَّاكَ لحصر العبادة لله جل وعلا، وقدم لفظ (إياك) لحصر الاستعانة بالله جل وعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: إذا سألت فاسأل الله).

ما يفعله من يعرف حقيقة العبودية عند المصائب

وهنا مسألة جليلة أيها الأحبة: فإن من واجب العبد المتعلق بربه، العارف بحقيقة وحق العبودية أن يسأل الله قبل أن يسأل غيره، فإذا نزل بك مرض من الأمراض وأنت تعرف أن المستشفى بجوارك، فاسأل الله جل وعلا قبل أن تلتفت إلى سبب الطبيب الذي قد ينفع وقد لا ينفع، وقد يوفق إلى الدواء الذي يصيب الداء وقد لا يوفق، وإذا نزلت بك كربة مالية وأنت تعلم أن جارك فلان غني ثري قريب حبيب إليك، لا يتردد في بذل ماله، فقبل أن تسأله اسأل الله جل وعلا، حتى ولو كان الذي بجوارك قادراً على أن يقرضك من ماله، أو يهبك من متاعه، أو ينفعك بجاهه، ولكن تعلق بالله قبل أن تتعلق بخلق الله.

من يسأل الناس يحرموه     وسائل الله لا يخيب

أيها الأحبة: إننا نرى كثيراً من أحبابنا وإخواننا إذا نزلت الحاجة بأحدهم أو حلت بأحدهم الواقعة وهو يعلم أن من عباد الله من يقدر على معونته فيها، تجده أول ما يفزع إلى دليل أرقام هاتفه، أو إلى أرشيف معلوماته وصداقاته وعلاقاته، ثم يقلب الأوراق ورقة ورقة، هذا ينفع وهذا لا ينفع، وهذا ينفع قليلاً، وهذا ندعه للمهمات الملمات، ونسي المسكين قبل أن يتناول الدواء، وقبل أن يلتفت للصديق، وقبل أن يتحول إلى الرفيق؛ نسي أن يسأل الله جل وعلا.

فالواجب علينا تحقيقاً للعبودية أيها الأحبة أن نبدأ بسؤال الله، وأن نحتاج إلى الله قبل الحاجة إلى غيره:

لا تسألن بني آدم حاجة     وسل الذي أبوابه لا تحجب

الله يغضب إن تركت سؤاله     وبني آدم حين يُسأل يغضب

ثم إن الله جل وعلا يحب من تضرع إليه، ويحب السائلين بين يديه، أما العباد فإن أعطوا مرة يسأمون الأخرى، ثم يطردون الثالثة.

سألنا فأعطيتم وعدنا وعدتم      ومن أكثر التسآل يوماً سيحرم

وإذا رضيت ببذل وجهك سائلاً     فابذله للمتفرد المفضال

اسأل الله قبل أن تسأل عباد الله، واسأل الله قبل أن تسأل خلق الله، وتضرع إلى الله، وتملق إلى الله، وقف واسجد واخشع وتضرع ومرغ أنفك وجبهتك على التراب بين يدي الله قبل أن تقدم على واحد من البشر، خاضع الطرف، مطرق الرأس، تمشي على استحياء خجلاً من عرض حاجتك أمام هذا المخلوق الضعيف، لكن أمامك ساحة العزة وفرصة الكرامة، أن تخضع وأن تسجد لله، وما يدريك لعل الله أن يقضي حاجتك قبل أن تذهب أو تحتاج إلى فلان.

أيها الأحبة في الله: يقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف) هذا فيما يتعلق بهذه المقدمة.

الفرق بين تكفير المعين وتكفير فاعل الفعل

أيها الأحبة! فإذا علم ذلك وأيقنه المسلم، أدركنا ضلال وجهل بل ربما شرك المستغيثين والمستعينين بغير الله، والمتوسلين بغير الله، بل يقع أحدهم في هذا الشرك إن كان عالماً ويقع الكثير منهم بهذا، أو إعراضه عن العمل بالتوحيد بعد بلوغه، يحقق فيه الشرك.

وهنا مسألة أيها الأحبة! فربما رأيت مخلوقاً ضعيفاً عند قبر من القبور يدعو الله جل وعلا، فلا تعجل بتكفيره، ولا تعجل بإطلاق لفظ الشرك عليه، فهناك أحوال: فقد يكون ذلك السائل عند القبر يدعو الله جل وعلا ولا يدعو القبر، لكنه مبتدع باختيار مكان الدعاء عند القبر، واختيار زمان الدعاء في زمن معين بجوار القبر، فهذا مبتدع ومرتكب كبيرة، وفاسقٌ فسقاً عظيماً، لكن لا يكون مشركاً ولا يكون كافراً إلا إذا اعتقد أن الدعاء لصاحب هذا القبر أو أن الدعاء ببركة صاحب هذا القبر ينفع ويدفع الضر ويجلب الخير، وأنه بالبعد عنه لا يستجاب الدعاء فحينئذ يتحقق، ثم إننا أمة لم يطلب منا أن نكفر الناس بأعيانهم، فهناك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فرق بين تكفير النوع والشخص المعين.

فتقول: كل من دعا غير الله فهو كافر، وكل من استعان واستغاث بغير الله فهو مشرك، ولكن إذا رأيت من يدعو عند القبر أو يتوسل، فقبل أن تقول وأن تشير وأن تحدد أن هذا فلان بن فلان بعينه وشخصه كافر لا بد أن تتثبت من ذلك، إذ قد يكون يدعو الله بجوار هذا القبر معتقداً أنه يدعو الله جل وعلا، ولا يدعو القبر لكنه مبتدع ضالٌ ضلالة كبيرة بالدعاء بجوار القبر، فهذا أمر لا يكفره ولا يخرجه من الملة، فواجبنا أن نتثبت، وواجبنا أن نحذر؛ لأن الفائدة العظمى والنصيحة الأولى هي لأنفسنا ولبيان خطر ذلك على أبنائنا ومجتمعاتنا وذرياتنا ومن حولنا، ويا خيبة أولئك الذين يتعلقون بغير الله! ويا ضلال أولئك الذين يستغيثون ويستعينون ويتوسلون بغير الله، أو بغير أسباب التوسل المشروعة!

فـالرافضة مثلاً يرددون في نشيدهم وحدائهم قائلين:

لي خمسة أطفي بهم     نار الحطيم الحاطمة

المصطفى والمرتضى     وابناهما والفاطمة

يرددون ما معناه: أن خمسة يرجون بهم أن ينجوا من النار ويكونون في الجنة:

لي خمسة أطفي بهم     نار الحطيم الحاطمة

أي: نار جهنم.

الحاطمة: الملتهبة.

المصطفى: ويعنون به النبي صلى الله عليه وسلم.

والمرتضى: ويعنون به علي بن أبي طالب .

وابناهما: الحسن والحسين .

والفاطمة هي الخامسة.

أولئك يدفعون بهم عذاب الله ويدفعون بهم النار، كيف يفعلون ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كام أمره الله تعالى: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً [الأعراف:188].

فالله جل وعلا قد بين على لسان نبيه وجاء هذا في كتابه أن النبي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرا، بل يقول صلى الله عليه وسلم: إن هدايته ببركة ما أوحى الله إليه، فقال جل شأنه على لسان نبيه: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [سبأ:50] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـفاطمة: (يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أملك لك من الله شيئاً).

والله جل وعلا قد بين هذا الأمر لنبيه صلى الله عليه وسلم في مواقع كثيرة، فلو كان يملك من الأمر قليلاً أو كثيراً لما قال الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ [آل عمران:128]، وقال الله جل وعلا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56]، وقال الله جل وعلا: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113].

فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم يملك لنفسه أو لذريته أو لمن يريد هدايته أو لمن يريد الاستغفار له، لو كان يملك في هذا قليلاً أو كثيراً، لنفعه ولم يرد في القرآن ما يدل على أن ذلك ليس له صلى الله عليه وسلم، فدلالة النبي دلالة الإرشاد، وأما دلالة الهداية والتوفيق فهي دلالة من عند الله جل وعلا.

وإذا نوقش بعض هؤلاء الضّلال، قالوا: إنا لا نعبد من نتوسل به، ولا نعبد من نستغيث به، ولا نعبد من نستعين به، وإنما نجعله بجانب الله، وذلك والله هو عين كفر الجاهلية الأولى الذين يقولون في الأصنام: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] إن مشركي قريش وكفار الجاهلية ما قالوا: إن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى هم الذين خلقوا، وما قالوا هم الذين يميتون، بل قال الله جل وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] ولكنهم يعتقدون شيئاً من بركة ونفع وشفاعة هذه الأصنام عند الله جل وعلا، ومع ذلك ما عصم ذلك دماءهم ولا أموالهم ولا أعراضهم من أن يقاتلوا وأن تسبى ذراريهم وأن تؤخذ أموالهم.

فإذا أدركت ذلك، تأمل قول الله جل وعلا: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سـبأ:22-23]، وقال جل شأنه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73] فضعفهم مع اجتماعهم كضعف الذبابة في هوانها وحقارتها.

فإذا تأملتم هذا يا عباد الله! كيف يتعلق مخلوق بمخلوق؟! كيف يتعلق بشر ببشر؟! كيف يتعلق ضعيف بضعيف؟! كيف يتعلق مسكين بمسكين؟! كيف يتعلق حقير بحقير؟! والله إن التعلق بالبشر هو غاية الضلالة والهوان، وأما الكريم الشريف العزيز في نفوسنا حبيبنا الطاهر المطهر نبينا صلى الله عليه وسلم فتعلقنا به هو بحبنا لشخصه صلى الله عليه وسلم، وتعلقنا به هو باتباعنا أمره حيث نهانا أن نعتقد في شخصه نفعاً وضراً بعد موته، وتعلقنا به أن نتبعه استجابة لما أمرنا به: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] ومن أحب الله أحب نبيه صلى الله عليه وسلم لا محالة.

وحديثنا اليوم عن التوسل والوسيلة وما كان قريباً منها وفي حكمها من الاستغاثة والاستعانة.

فاعلموا يا عباد الله! أن من ضلال أهل الضلالة، ومن جهلاء أهل الجهالة من يحتجون بكتاب الله على باطلهم، فتجد منهم من يحتج بقوله سبحانه: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57]، ويحتجون بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] فيجعلون هذه الوسيلة التي وردت في الآية حجة لهم باتخاذ من يتوسلون بهم من الأحياء فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن الأموات الغائبين المغيبين في اللحود والقبور يجعلون هذه الآية يستدلون بها استدلالاً ضالاً ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويوردون الكلام في غير ما يستدل به، ويحتجون بها لأنفسهم، وقد أجمع العلماء وعلماء التفسير رحمهم الله أن المقصود بالوسيلة في هاتين الآيتين: (العمل الصالح) والمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:35] نداء للمؤمنين، أن اتقوا الله، واجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] أي: اطلبوا عملاً صالحاً يقربكم إلى الله جل وعلا.

وكذلك ما جاء في الآية الأخرى في وصف المؤمنين: الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57] يبتغون العمل الصالح سلماً لرضا الله جل وعلا، وما سوى ذلك من استغاثة المخلوق بالمخلوق الحي فيما لا يقدر عليه إلا الله، أو استغاثة المخلوق بالمخلوق الميت فيما يقدر عليه وما لا يقدر عليه، فإن ذلك أمر لا يجوز، بل هو شرك لا شك فيه.

والاستغاثة والاستعانة إما أن تكون في أمر يقدر المخلوق عليه فهي جائزة، وإما أن تكون في أمر لا يقدر عليه إلا الله فهي شرك لا شك فيه.

ومن أنواع الاستغاثة الجائزة: ما ورد في كتاب الله جل وعلا: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ [القصص:15] فهذا يستغيث بموسى عليه السلام ليعينه على قتل عدوه.

وكذلك استغاثة الإنسان بمن يعينه على رد صائل أو إطفاء حريق ونحو ذلك، فهذا من الاستغاثة ومن الاستعانة الجائزة، وأما ما سوى ذلك كمن يستغيث بحي في شفاء مرضه، أو يستغيث بحي في تفريج كربته، أو يستغيث بحي في حصول خير له، فإن هذا لا يجوز.

نعم. الأسباب واردة، والله جل وعلا يقول: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) فإن الإنسان إذا نزلت به كربة فسأل الله جل وعلا أن يدفع عنه وأن يسخر له، ثم طلب سبباً من البشر لوجاهته أو لمنزلته أو لأمر يختص به دون غيره، فقال: يا فلان اشفع لنا عند فلان في أمر يقدر عليه الشافع والمشفع عنده أو المشفوع عنده، فليس هذا من الاستغاثة أو الاستعانة المحرمة، لكن المحرم هو أن يستغيث المخلوق بمخلوق ضعيف مثله في أمر لا يقدر عليه الأحياء، أو أن يستغيث بغائب، فترى رجلاً مثلاً في مكة، وآخر في الرياض، فإذا أصاب الذي في الرياض سوءٌ أو مكروهٌ نادى فلاناً وهو بـمكة وقال: يا فلان ادفع عنا ما نحن فيه، فإن الاستغاثة بالحي على ما يقدر عليه إذا كان غائباً فإن هذا لا يجوز أبداً، وهو الذي وقع فيه كثير من هذه الأمة، حيث ضلوا وأضلوا كثيراً منهم بغير علم.

فترى أناساً يستغيثون بالأموات في قبورهم، وأناساً يستغيثون بالأحياء الذين عندهم فيما لا يقدرون عليه ولا يقدر إلا الله، أو يستغيثون بالأحياء فيما يقدرون عليه ولكنهم غائبون عنهم، فحينئذٍ أيها الأحبة ذلك مما لا يجوز، إذ إن الاستغاثة من المخلوق بالمخلوق ومن الحي بالحي في أمر يقدر عليه يشترط له أن يكون موجوداً وأن يكون قادراً على فعل ذلك.

فالله جل وعلا يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قدم اللفظ إِيَّاكَ لحصر العبادة لله جل وعلا، وقدم لفظ (إياك) لحصر الاستعانة بالله جل وعلا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: إذا سألت فاسأل الله).




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2800 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2648 استماع
توديع العام المنصرم 2643 استماع
حقوق ولاة الأمر 2629 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2548 استماع
من هنا نبدأ 2492 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2432 استماع
الغفلة في حياة الناس 2432 استماع