حقيقة التقوى


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أوجدنا من العدم، وهدانا إلى الإسلام، وتفضل علينا بسائر النعم، ودفع عنا كثيراً من النقم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن اتبع هداه واقتفى أثره إلى يوم الدين.

أما بعــد:

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، فهي وصية الله لكم ولمن كان قبلكم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].

ولو تأملتم -معاشر المسلمين- حقيقة التقوى التي جاءت في كل صفحة من كتاب الله الكريم، وجاءت في كل نعت من نعوت المتقين المؤمنين، لوجدناها كما يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [التقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والاستعداد ليوم الرحيل].

وقال عمر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليط فيما بين ذلك فقط؛ ولكن تقوى الله: ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رُزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير.

وقال طلق بن حبيب: التقوى: أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله.

وحسبكم -معاشر المؤمنين- بالتقوى أنها وصية الله للأمم السابقة والأمم اللاحقة، ولقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي من يستوصيه بالتقوى.

واعلموا -معاشر المؤمنين- أن التقوى لا يلزم منها أن يكون العبد معصوماً من الذنوب والخطايا واللمم؛ بل إن العباد خطاءون، وخير الخطائين التوابون.

ويقول الله جلَّ وعَلا في محكم كتابه في سياق صفات المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] فعدَّهم من المتقين مع أنه جلَّ وعَلا قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [آل عمران:135] ولكنهم لم يصروا على هذا الظلم وأقلعوا عن تلك المعصية.

ويقول الله جلَّ وعَلا أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].

فهذا دليل على أن المتقين قد ينالهم ما ينالهم من مس طائف الشيطان؛ ولكن العبرة بالمتذكرين المنيبين المخبتين الأوابين إلى ربهم، وبعد ذلك ينقلبون من حال المعصية إلى حال التوبة الصادقة النصوح، وبذا يكونون في عداد المؤمنين المتقين.

أيها الأحبة: إن الشيطان يأتي إلى كثير من الناس يوم أن يفعل أحدهم معصية، أو يجترح خطيئة، ويسوِّد صفحات أعماله أمامه، ويقول له: لستَ في عداد المتقين، ولا من المؤمنين، وييئسه من رحمة الله، ويقنِّطه من عفوه ومغفرته، وبعد ذلك قد يصيب الإنسان ما يصيبه من الإصرار على المعصية يأساً وقنوطاً من مغفرة الله وعفوه عنه.

لذا فمن تأمل هذه الآيات علم أن حقيقة التقوى: التزام فعل ما أمر الله به، واجتناب عما نهى عنه وحرَّمه، ولو وقع الإنسان فيمـا وقـع من الذنوب والمعـاصي فإن العبرة بالتوبة والأوبة والإنابة إلى جناب رب العالمين، وهو الذي يقول في محكم كتابه: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

حسبكم -يا عباد الله- أن يجيء الأمر بالتقوى في كتاب الله قرابة السبعين مرة، وفي غيرها من الآيات التي ذكرت صفات المتقين، وما لهم من الأجر العظيم، ولا غرابة في هذا فالتقوى وصية الله للخلائق أجمعين، وهي خير ذخر، وخير زاد للقدوم على البرزخ والدار الآخرة، وهي سبب للصدق والقول السديد، وهي باب محاسبة النفس في جميع أعمالها، وهي أكبر دعائم التعاون والمحبة والإيثار في مجتمعات المسلمين، وهي خير لباس يتزين به العبد في الدنيا والآخرة: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].

إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى     تقلَّب عرياناً وإن كان كاسياً

وخير لباس المرء طاعة ربه     ولا خير فيمن كان لله عاصياً

وكما أن التقوى خير لباس على العبد حساً ومعنى، فإنها عنوان الرفعة والسيادة والعزة والكرامة فوق كل الجنسيات والقبليات والأعراق والدماء، يقول الله جلَّ وعَلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].

وعن أبي نجيح العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة جليلة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودِّع، فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى عزَّ وجلَّ، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة) رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وعن أبي أمامة صَدِّي بن عجلان الباهلي -وقيل: صُدَي- رضي الله عنه قال: (سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع، فقال: أيها الناس: اتقوا الله، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم) رواه الترمذي ، وقال: حديث حسن صحيح.

وفي وصيته صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (اتق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يُدخل الجنة؟ قال: تقوى الله، وحسن الخلق).

ورُوي أن كميل بن زياد قال: [خرجت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلما أشرف على الجُبَان التفتَ إلى المقبرة، وقال: يا أهل القبور! يا أهل الوحشة! ما الخبر عندكم؟ فإن الخبر عندنا: قد قُسِّمت الأموال، وأُيْتِمَت الأولاد، واستُبدل بالأزواج، فهذا الخبر عندنا، فما الخبر عندكم؟! ثم التفت إليَّ فقال: يا كميل، لو أُذِن لهم بالجواب لقالوا: إن خير الزاد التقوى، ثم بكى، وقال: يا كميل! القبر صندوق العمل، وعند الموت يأتيك الخبر].

يا غافلاً عن العملْ     وغره طولُ الأملْ

الموت يأتي بغتةً     والقبر صندوق العملْ

اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم، وعذاب القبر.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم الجليل الكريم لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، وتوبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى.

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، نبيٌّ بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم وجسومكم على وهج النار لا تقوى.

واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.

أيها الأحبة: إذا علمتم أن منـزلة التقوى في الإسلام عظيمة وجليلة، فما هي صفات المتقين أصحاب الأمن والسعادة في الدنيا، والرحمة والمغفرة والرضوان في الآخرة.

إن الآيات والأحاديث جاءت في صفات المتقين كثيرة جداً، وحسبكم ألا تخلو صفحة من كتاب الله إلا وفيها الحث على التقوى، ومن تلك الآيات الآية الجامعة من كتاب الله: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].

تلك هي صفات المتقين يا عباد الله، وإن كان كل أمر لا يعلو قدره إلا بمعرفة ثمرته، فإن ثمار التقوى عظيمة جداً:

أولها: الهداية بنور الله جلَّ وعَلا:

ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2].

وثانيها: المكانة العالية عند الله، وأعظِـم بـها من ثمرة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [البقرة:212].

ثم إن التقوى أجلُّ سبب إلى حصول العلوم النافعة، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282] ومن اتقى الله وعمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم.

ومن هنا -أيها الأحبة- ندرك سبب الفتوحات الإلهية، والإلهامات الربانية على سلف الأمة الصالح الذين قضوا حياتهم بين الجهاد والدعوة، والتعليم والتصنيف، جمعوا بين ذلك كله وبين العلم الواسع الغزير الذي يجعل المسلم في هذا الزمان يندهش من كل ما ألَّفوا وصنَّفوا، يندهش من محفوظاتهم وما حصَّلوا من العلوم بأنواعها، وما ذاك إلا بتقوى الله وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

ورابع ثمار التقوى: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر:- قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15].

وأي نعيم يا معاشر المؤمنين؟! أي نعيم على العبد أعظم مما هداه الله جلَّ وعَلا إلى التقوى؟! وبذا ينال محبة ربه وخالقه ومولاه بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76].

وإذا اطمأن العبد الذليل الضعيف إلى محبة الله العظيم الجليل الكريم فلا يسأل بعدُ عن محبة أحد بعد الله ورسوله.

فليتك تحلو والحياة مريرةٌ     وليتك ترضى والأنام غضابُ

إذا صحَّ منك الود فالكل هيِّنٌ     وكل الذي فوق التراب ترابُ

وليت الذي بيني وبينـك عامرٌ     وبيني وبين العالمين خرابُ

وما لا يُحصى من ثمار التقوى: من المعية والإحاطة من الله جلَّ وعَلا لعباده المؤمنين المتقين، والفلاح والتوفيق لهم في الدنيا والآخرة، واطمئنانهم، وبُعد الخوف والحزن عنهم، وحصول الفوز والبشارة بالنعيم، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62-64].

وتأملوا ثمار التقوى بين العباد والبلاد :-

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].

عباد الله: ما خلق الله أمةً وضيَّع أرزاقها، وما أوجد الله جيلاً ونسي أرزاقهم وأقواتهم؛ ولكن العباد يبغي بعضهم على بعض، ويسطو بعضهم على أرزاق بعض، ويُحرَم بعضُهم رزقَه بسبب بُعده عن التقوى، وبسبب معصيته وذنوبه: (وإن العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه).

ومن تأمل كتاب الله وجد ما لا يُحصى من ثمار التقوى.

وما أجمل التقوى في واقعة حصلت في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في امرأة سافر زوجها إلى الجهاد، وأبطأ عنها وتأخر، وكان عمر خليفة رسول الله أمير المؤمنين كان يجوب الأسواق ليلاً، يستمع وينصت إلى حوائج الضَّعَفَة والمساكين، فسمع امرأة تناجي نفسها، وتقول:

تطاول هذا الليل واسودَّ جانبُهْ     وأرَّقها أن لا خليل تداعبُهْ

فوالله لولا الله تُخشى محارمـه     لَحُرِّك من هذا السرير جوانبُهْ

فسأل عمر عن هذه المرأة، وسأل قبل ذلك ابنته حفصة ، وأجابته وقالت: [يا أمير المؤمنين! ألم تقرأ كتاب الله جلَّ وعَلا؟] وفهم من ذلك ألا يتأخر الرجل عن زوجته أكثر من ستة أشهر، ثم بعد ذلك أمر أن يُرد زوجُها إليها.

ولكن العبرة في حال هذه المرأة التي لا رقيب عليها سوى الله، ولا حسيب لها سوى التقوى، زوجها بعيد، والليل مظلم، وما ردها عن المعصية إلا تقوى الله ومخافة عذابه.

وتلك الأخرى التي سمعهما عمر ، إذ امرأة تقول لابنتها: يا ابنتي! امذُقي -أو امزجي- اللبن بالماء، قالت: وأين أنت يا أماه من عمر ؟! قالت: إن عمر لا يرانا، فقالت تلك الصغيرة البريئة: ولكن رب عمر يرانا.

هكذا كانت منزلة التقوى في قلوب كثير من العباد، إذ تزينت لهم المعاصي، وتهيأت لهم المنكرات، تجافوا عنها وابتعدوا، وخافوا من ربهم جلَّ وعَلا.

خَلِّ الذنوب كبيرهـا     وصغيرها ذاك التقى

واصنع كماشٍ فوق أر     ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرةً     إن الجبال من الحصى

والتقوى هي أزمة المجتمعات في هذا اليوم، حاجتنا إلى التقوى عظيمة، وأَزمَت مجتمعاتنا لفقد التقوى، التقوى مفقودة في كثير من مجالات الحياة، لو وجدنا الكثير قد اتقوا الله جلَّ وعَلا فيما تولوه من مصالح المسلمين، وفيما تولوه من مصالح تعليم أبناء المسلمين، وفيما تولوه من مصالح المسلمين عامة.

كل إنسان وكل فرد لو اتقى الله فيما دونه؛ الموظف يتقي الله في وظيفته، والجندي يتقي الله في أمن بلده، والطالب يتقي الله فيما تعلمه، والمسئول يتقي الله في مسئوليته، لم نجد فساداً، ولم نجد خراباً أو دماراً، ونحن بخير ولله الحمد والمنة، وإن كان النقص قد دبَّ إلينا شيئاً فشيئاً، وما ذاك إلا لبُعدنا عن التقوى، ولاستهتار بعض المسلمين بمراقبة الله جلَّ وعَلا، وعدم مراقبة ربهم، واستحضار التقوى في كل أعمالهم، وفي كل ما يأتون ويذرون.

نسأل الله العلي العظيم الجليل الكريم أن يؤتي أنفسنا تقواها، وأن يزكيها هو خير من زكَّاها.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وأبطِل كيد الزنادقة والملحدين.

عباد الله: قد ندب الإمام -معاشر المسلمين- إلى صلاة الاستسقاء صبيحة يوم الإثنين.

فالله.. الله.. لا يتخلفَنَّ أحدٌ عن ذلك، ولا يقولنَّ امرءٌ: ما لي ومال هذا، لستُ بذي زراعة ولا محصول، ولا يهُمُّه المطر في قليل أو كثير؛ لِتَوافُر المياه أمامَه، لا. لا يقولنَّ امرء ذلك؛ ولكن ليعلم أن الغيث رحمة، وأن الغيث توبة ومغفرة من الله جلَّ وعَلا، وشعور من العباد بأن ربهم تقبل دعاءهم، وقد تلطف بحاجتهم وهو أعلم بها قبل أن يسألوه.

فالله.. الله.. لهذا، ولا تغفلوا عنه.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء الضعفاء المساكين إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً سَحاً غدقاً نافعاً غير ضار، اللهم اسقِ العباد، والبهائم، والبلاد.

اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، اللهم انصرنا ولا تخذلنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا.

اللهم مَن أراد المسلمين بسوء، وأراد ولاةَ أمورهم بفتنة، وأراد علماءهم بمكيدة، اللهم فاجعل تدبيره تدميراً عليه، يا سميع الدعاء.

اللهم من أراد بشبابنا ضلالاً، وأراد بنساء المسلمين تبرجاً وسفوراً، اللهم أرنا فيه يوماً أسود كيوم فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف.

اللهم عذب الذين لا يريدون لدينك نصرة ولا عزة، اللهم من أراد دينَنا بعزة فأعزه بعزتك يا رب العالمين. ومن أراد للمسلمين ذلة فاخذله، يا أكرم الأكرمين.

اللهم لا تدع لأحدنا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا دَيناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلىً إلا عافيته، ولا أسيراً إلا فككت أسره، ولا حيران إلا دللته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا أعنتنا عليها ويسرتها لنا، يا رب العالمين.

اللهم اختم بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله آجالنا، واقرن بالعافية غدونا وآصالَنا، واجعل إلى جناتك مصيرنا ومآلنا.

اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك.

اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعفُ عنهم، وأكرم نزلهم، ووسع مدخلهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس.

اللهم آمِنا في دورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اهدهم لكتابك ولسنة نبيك، اللهم أصلح مُضَغَ قلوبهم، اللهم أصلح بطانتهم، ومَن علمتَ فيه خيراً فقرِّبه منهم، ومَن علمتَ فيه سوءاً لهم وللمسلمين فأبعده عنهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.

إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، محمد بن عبد الله، أكرم الخلق، وأفضل البشر، وسيد المرسلين والأنبياء أجمعين.

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على نبينا محمد، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه الطيبين الطاهرين، ومن اتبع هداه، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه التي لا تستطيعون حصرها ولا تقدرون شكرها يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.