ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.

أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.

أيها الإخوة: نقف اليوم مع حديث عظيم من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظ، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).

عباد الله: الأمور مقدرة، والآجال مؤجلة، والأرزاق مقسومة، والفرص محدودة، والأنفاس معدودة، وكل شيء بأجل مسمىً عند الله سبحانه وتعالى، فلنحسن ما بيننا وبين الله سبحانه وتعالى؛ فعند ذلك لا نخشى شيئاً قل أو كثر.

أيها الإخوة: هذا حديث عظيم وجليل ينبغي أن ننتبه له وأن نجعله مقياساً دقيقاً في أعمالنا كي لا نقع في رضا الخلق بسخط الخالق؛ ولكي نستطيع أن نكسب رضا الخلق فعلينا بطاعة الله سبحانه وتعالى.

أيها الإخوة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ينبغي أن يكون هاجساً وحديثاً وعملاً وهمة في نفس كل مسلم، ينبغي أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملاً دائماً نشغل أنفسنا به؛ لأن ذلك دليل على إخلاصنا ومحبتنا لربنا، وغيرتنا أن يعصى الله أمام أعيننا، ومحبتنا أن يكون الخلق كلهم مطيعين لله سبحانه وتعالى.

يقول أحد السلف: وددت أن هؤلاء الخلق أطاعوا الله ولو قرض لحمي بالمقاريض. يريد أن يكون الناس في عبادة لله سبحانه وتعالى، وعدم عصيان لله سبحانه وتعالى ولو قرض لحمه بالمقاريض، انظروا الغيرة والإشفاق والمحبة لعباد الله سبحانه وتعالى!

ولقد كان السلف الصالح يعتنون بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عناية عظيمة، حتى إن بعضهم مع مجافاته وعدم محبته للمناصب والولايات يلزم نفسه أو يضطر لأن يتولى ولاية معينة فيها أشد الحساب ألا وهي القضاء، لأجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول ابن رجب: وكان بعض الصالحين يتولى القضاء، ويقول: أنا لا أتولى القضاء إلا لأستعين به على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أيها الإخوة: لا أظن بعد هذا -وقبل هذا في نفوسنا- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج إلى تردد، أو مشاورة أو اتخاذ قرار أو دراسة، فالأمر وارد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبه صلاح الأمة، وبه نجاتنا وفوزنا وفلاحنا.

أيها الأحبة: نحتاج إلى عدة حتى نمضي على هذا الأمر وأهم عدة هي الصبر، يقول لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] لأن الإنسان لابد أن يصيبه شيء، وهذه سنة الله جل وعلا أن يكون أصحاب الباطل وأصحاب الحق في صراع دائم، فلابد أن يصيبك شيء من الابتلاء والامتحان في مالك، أو ولدك، أو فرصك، أو حياتك، لكن اسمع قول الله جل وعلا على لسان لقمان : يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] وانظروا هذا الأمر: (أَقِمِ الصَّلاةَ) ثم ثنى بعده: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) الصلاة مناجاة بل هي أعظم سند للمسلم في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر: إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].

كذلك يا أخي المسلم! حينما تتسلح بالصبر في هذا الأمر المهم ينبغي أن تكون متصفاً بأمر آخر وهو الذي يجعل العباد يتأثرون بأمرك، ويقبلون كلامك، ويمتثلون ما تأمرهم به من أمر الله سبحانه وتعالى وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم، ألا وهو الإخلاص فهو مفتاح الانقياد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، فالإخلاص يجعل هذه الكلمات مفاتيح سحرية شفافة تدخل إلى قلوب مغلقة فتفتحها، ثم توصل هذا الكلام إليها فتتأثر وتتفاعل، وهنا نتهم أنفسنا، ونتهم إخلاصنا؛ لأننا عرفنا أن الصحابة والسلف الصالح وعلماء الأمة كانوا يقفون في موقف واحد، أو في منبر واحد، أو في مكان واحد، فيعظهم ويأمرهم وينهاهم فتجدهم متأثرين يبكون خاشعين مخبتين، ما بالنا كثرت خطبنا، كثر كلامنا، كثرت محاضراتنا، كثرت كلماتنا ولا يتأثر إلا أقل القليل.

أيها الإخوة: لنتهم أنفسنا، فإخلاصنا فيه دخن.

يقول الحسن البصري: [الناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم] فالإخلاص الذي هو مفتاح سر الانقياد قد أوتينا من قبله، أو قد دخل علينا منه، فينبغي أن نحاسب أنفسنا وأن ندقق في أمورنا.

أيها الإخوة: حينما نعلم أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نتيجته أن ينتشر الباطل ويتكاثر أصحابه ويتجرءون على أهل الخير والصلاح، ويجرءون في السخرية، ويجدون في الاستهزاء بهم، أيرضى المسلم أن يقع هذا لدينه وأبناء دينه؟! لا والله. إذاً: ما هو السلاح لصد هذا الأمر؟ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسأضرب مثالاً كلنا نعرفه: منذ فترة كان الذي يُذكر عنه في بيته أن عنده عوداً إنساناً يتحدث به في المجالس، والآن يتجرأ كثير من الشباب ويخرج بهذا العود ويقف على قارعة الطريق مع شلة من الشباب، ثم يبدأ يعزف وقت الصلاة، يؤذن للصلاة وتقام الصلاة وينصرف الناس وهؤلاء على لهوهم وباطلهم، وقد كان أصحاب المنكر لا يستطيع واحد إظهاره، بل أن بعضهم يخرج العود في خيشة، وهي: كساء من الليف؛ خشية أن يظن أن في بيته عوداً، والآن بكل بجاحة وجرأة يقف على قارعة الطريق، والسبب في ذلك نحن؛ لأننا رأينا أول واحد وثاني واحد وعاشر واحد ولا نقف في وجهه إلا ما ندر، وما وجد من يقول لهؤلاء الشباب: اتقوا الله الذي جعل لكم السمع والبصر، لو شاء الله لأشل هذه الأصابع التي تعزف بها وتتفنن بالعزف بها، لو شاء الله لجعلها مشلولة فما استطعت أن تحركها، إذا لم تقلع عن هذا المنكر فكن مختبئاً، لا تجاهر بالمنكر، فإن أنكر المنكر أن يجاهر المرء به، وإن أفسق الفسق أن يجاهر الفاسق بفسقه.

أيها الإخوة: من الأمور المهمة التي ينبغي أن نلاحظها وأن نراعيها فيما يتعلق بموضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

المصالح والمفاسد

حينما نأمر بمعروف نعلم أن هذا الأمر أو أن هذا النهي لا يفضي إلى مفسدة، وأن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يكون ميزانه في درجات، وبالمناسبة فالاستجابة ليست شرطاً، فإنه قد يقول قائل: أنا أعلم مليون في المليون إن كان هذا الجدار يتحرك من مكانه فإن هذا الذي آمره بالمعروف لا يتحرك، نقول له: مر بالمعروف وانه عن المنكر، ولو لم يغلب على ظنك أن هذا المأمور وأن هذا المنهي يقلع عن الباطل، أنت مأمور وما عليك إلا البلاغ، والهداية بيد الله: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].

والمنكر في تغييرنا له حالات: إما أن يستجيب، وإما ألا يستجيب المدعو، وإما أن يكون في تغيير هذا المنكر منكر أعظم منه، فالواجب علينا في تلك اللحظة ألا نغير هذا المنكر، وأن نتركه حتى حينه، نكون أصحاب موازين ومقاييس، أصحاب فقه وحكمة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] ينبغي أن نعرف وأن نعلم إذا غلب على ظننا حينما نأمر بهذا الأمر أو ننهى عن هذا الشيء، أنه سيفضي إلى مفسدة عظيمة فينبغي أن نترك الأمر، إذا تساوى الأمران، قال بعض العلماء: تنكر، وقال بعضهم: لا تنكر، والواجب بل الأرجح أن الإنسان ينكر، أما ما دون ذلك فالإنكار لا شك مطلوب، فينبغي أن يكون لدينا فقه ومعرفة.

اتباع الأسلوب اللطيف

كذلك ينبغي للإنسان حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون متبعاً لأسلوب مهم، ألا وهو أسلوب معرفة حماية النفس، لا أقول هذا لأنقض الكلام السابق فيما يتعلق بالخوف على النفس في المال أو في الرزق أو في غير ذلك، لا. ولكن أقصد بذلك أن تكون قد سلكت الأسلوب الذي يجعلك فيما يغلب على ظنك مؤثراً، أو بالأحرى ألا تكون متعرضاً لتحديات ومواجهات، وأنت تعرف سلفاً أن هذه المحاولات فاشلة، ومن ثم يترتب على ذلك منكر أعظم من المنكر الذي أنت في صدد تغييره، أضرب لكم مثالاً:

ذات مرة جاءني أحد الأصدقاء الذين أعرفهم ووجهه قد أدمي، وفي وجنته بعض الجراحات، وأخذ يبكي، فقلت له: يا أخ فلان! ما الذي بك؟ أخذته العبرة ثم بعد ذلك سكت أو سكن مما بخاطره وسألته، قال: لنا جار يبني عمارة، وكان عنده عمال لا يصلون، فجئت ودخلت على العمال في العمارة، ولعله صار بينه وبينهم شيء من رفع الصوت والغلظة والجدال، فما كان من صاحب العمارة ومعه أناس آخرون إلا أن أمسكوا به وضربوه وجلدوه وفعلوا به فعلاً لا يفعل بمسلم، ثم بعد ذلك أخرجوه، فقلت له: يا أخي: كان من واجبك أن تتبع أسلوباً لطيفاً رقيقاً، وفي هذه الحالة: أيهما أفضل أنك أنت الآن يستهزأ بك ويتمسخر بك أمام هؤلاء الفسقة الذين ضربوك، أو أنك اتخذت الأسلوب الأمثل فذهبت إلى الهيئة وقلت: هناك أناس أنا أخشى منهم مثلاً -إلا أن يكون مفادياً بنفسه لله؛ فذلك أجره على الله- لكن أقول ذلك لأستشهد للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن: (لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) إذا كنت صبوراً وتتحمل وتصارع وتجادل أهل الباطل وتصرعهم وتذلهم نقول: أعانك الله على هذا التغيير، لكن أنت لا زلت شاباً صغيراً تدخل على مجموعة في بيت الله فلا تعرض نفسك لشيء لا تطيقه.

إذاً: لا نقول: من واجبك أن تسكت، ولكن أن تأخذ من هو أكبر منك، إمام المسجد، عمدة الحي، إنسان مسئول، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة، وتقول: هؤلاء لا يصلون، وعند ذلك إذا سلكت هذا الأسلوب تكون بإذن الله جل وعلا قد أديت الواجب وحفظت نفسك، ولم تعرضها لما لا تطيق من البلاء.

أن يكون الآمر والناهي قدوة لغيره

كذلك من الأمور والآداب التي ينبغي أن نراعيها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة القدوة، بأن تكون أنت بنفسك مؤتمراً بالمعروف منتهياً عن المنكر قبل أن تأمر الناس، قال رجل لـابن عباس: [إني أريد أن آمر بالمعروف وأن أنهي عن المنكر، قال: نعم. انظر إلى ثلاث آيات، فإن استطعت ألا تقع في واحدة منهن فاؤمر جزاك الله خيراً، قال: وما هي يا ابن عباس؟ قال: قول الله جل وعلا: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] والآية الأخرى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] والآية الثالثة: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]].

إذاً: من واجب الإنسان أن يكون قدوة صالحة حتى يكون لكلامه وقع وأثر على النفوس.

عدالة الآمر والناهي

وهذه مسألة ذكرها الفقهاء وتعرضوا لها في كتب الفقه وفي كتب الحسبة، وهي هل يشترط عدالة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ أعني: هل يشترط أن يكون عدلاً صالحاً عالماً مستقيماً، سليماً خالياً من الصغائر والكبائر؟ هذه مسألة خلافية، ورجح أغلب أهل العلم أنه لا يشترط العدالة التامة، وإنما يشترط العدالة العامة وذلك بالسلامة من فواحش المنكرات وكبار المعاصي، أما الصغائر فلا يسلم منها أحد، ولذلك فإن الإنسان حينما يحجه الشيطان ويقول له: أنت تفوتك صلاة الفجر أحياناً، كيف تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون عليك ذنبان، ترك الصلاة جماعة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقول الحسن البصري: [ود الشيطان منا أن نقع في المنكر وألا نأتمر بالمعروف ولا نتناهى عن المنكر] الشيطان يتمنى ذلك، لكن ينبغي إذا وقعنا في واحدة ألا نقع في اثنتين، إذا زل الإنسان في زلة بسيطة أو سهلة يستغفر ويتوب إليه سبحانه وتعالى، ومع ذلك يبقى مصراً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يجمع على نفسه هذين الأمرين يقول الشاعر:

إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب     فمن يعظ العاصين بعد محمد

المعصومون هم الأنبياء: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] ليس هناك أحد يسلم الصغائر إذاً: فلا تكن هذه المسألة حجة.

كنت أعرف صديقاً، من حسن صفاته أنه كان دائماً إذا صلى في مسجد استأذن إمام المسجد أن يلقي كلمة، فيقوم يلقي كلمة يتأثر بها كثير من الناس الحاضرين، وبعد مدة ترك هذا الشيء، وسألته: يا أخ فلان! مالك؟ قال: يا أخي أنا أرى نفسي مقصراً في بعض الأمور، إذاً: يا أخي! عالج نفسك ولا تحرم الناس هذا الخير، ولا تحرم نفسك هذا الأجر والثواب، انظروا هذا المدخل الشيطاني!

أيها الإخوة: لا يأتي الشيطان إلى أحدنا ويقول له: من أنت؟ لست بعالم، ولست بكامل، وفيك وفيك من الذنوب ما الله به عليم، نقول: لا. أنا أستغفر الله وأتوب إليه، وأجاهد نفسي، وما دمت حياً فأنت في جهاد مع نفسك، لأن هناك شيطاناً يجاهدك، وهوىً متبعاً، ونفساً أمارة بالسوء، كلها ستجاهدها في وجه الله وفي طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا يكون ذلك مدخلاً عليك في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

لا إنكار في مسائل الخلاف

أيها الإخوة: هنا أيضاً مسألة مهمة جداً وهي الإنكار في مسائل الخلاف: قد ترد مسائل خلافية عند بعض أهل العلم، أي أن فريقاً من العلماء يقول: هذا الشيء يجوز، وبعض أهل العلم يقول: لا يجوز، فعند ذلك نأتي في دبر هذا الزمان الذي اتسع فيه خرق افتراق الأمة ونريد أن نجمع الناس على رأي واحد وأمر واحد، ما دامت النصوص موجودة، والاجتهاد مفتوح، وكل يتبع شيخاً بدليل، إذا كان مقلداً قد يتبع هذا الشيخ بدليله، وإذا كان مجتهداً فعنده الدليل، تأتي أنت تقول: لا. لابد أن تتبعوا هذا الأمر.

وأعطيك مثالاً على ذلك: رجل دخل المسجد وقت نهي، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في أوقات معلومة، ويستثنى من ذلك بما هو معلوم، يستثنى قضاء الفوائت، يستثنى أشياء معينة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين) جاء إنسان بعد صلاة العصر، وصلى ركعتين، يأتي واحد يمسكه ويقول: لا يجوز يا أخي، لا يصلح، ثم تقعد تبلج في حلقه، لماذا هذا كله؟ لأن هذا وقت نهي، فنقول: اتركه يا أخي! المسألة وارد فيها الدليل، وهناك من الصحابة من رأى هذا الرأي، ومن الصحابة من رأى الرأي الثاني، فالمسائل الخلافية التي جاءت الأدلة فيها بالتوسيع على الأمة، ينبغي ألا ننكر فيها؛ لأنه قد يغلب على ظننا أو بالأحرى نظن لهذا الرجل أنه قد أخذ بدليل هذا الشيخ أو بدليل هذا العالم، إذاً فالمسألة ورد فيها عدة أدلة، وعند ذلك لا ينكر أي: لا يشدد النكير بعضنا على بعض، بإمكانك إذا كان طالب علم أن تتناقش معه، تقول: أنا أريد أن أستفيد، والرسول نهى عن الصلاة في هذا الوقت، وذلك إذا كنت تستدل عليه فهو يقول لك: إنها من ذوات الأسباب، أو كذلك العكس، فعند ذلك إذا كان في المسألة مجموعة من الأدلة، والمسألة خلافية بين العلماء، فلا ينبغي أن نشدد النكير فيما اختلفنا فيه.

حينما نأمر بمعروف نعلم أن هذا الأمر أو أن هذا النهي لا يفضي إلى مفسدة، وأن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يكون ميزانه في درجات، وبالمناسبة فالاستجابة ليست شرطاً، فإنه قد يقول قائل: أنا أعلم مليون في المليون إن كان هذا الجدار يتحرك من مكانه فإن هذا الذي آمره بالمعروف لا يتحرك، نقول له: مر بالمعروف وانه عن المنكر، ولو لم يغلب على ظنك أن هذا المأمور وأن هذا المنهي يقلع عن الباطل، أنت مأمور وما عليك إلا البلاغ، والهداية بيد الله: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20].

والمنكر في تغييرنا له حالات: إما أن يستجيب، وإما ألا يستجيب المدعو، وإما أن يكون في تغيير هذا المنكر منكر أعظم منه، فالواجب علينا في تلك اللحظة ألا نغير هذا المنكر، وأن نتركه حتى حينه، نكون أصحاب موازين ومقاييس، أصحاب فقه وحكمة: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269] ينبغي أن نعرف وأن نعلم إذا غلب على ظننا حينما نأمر بهذا الأمر أو ننهى عن هذا الشيء، أنه سيفضي إلى مفسدة عظيمة فينبغي أن نترك الأمر، إذا تساوى الأمران، قال بعض العلماء: تنكر، وقال بعضهم: لا تنكر، والواجب بل الأرجح أن الإنسان ينكر، أما ما دون ذلك فالإنكار لا شك مطلوب، فينبغي أن يكون لدينا فقه ومعرفة.

كذلك ينبغي للإنسان حينما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون متبعاً لأسلوب مهم، ألا وهو أسلوب معرفة حماية النفس، لا أقول هذا لأنقض الكلام السابق فيما يتعلق بالخوف على النفس في المال أو في الرزق أو في غير ذلك، لا. ولكن أقصد بذلك أن تكون قد سلكت الأسلوب الذي يجعلك فيما يغلب على ظنك مؤثراً، أو بالأحرى ألا تكون متعرضاً لتحديات ومواجهات، وأنت تعرف سلفاً أن هذه المحاولات فاشلة، ومن ثم يترتب على ذلك منكر أعظم من المنكر الذي أنت في صدد تغييره، أضرب لكم مثالاً:

ذات مرة جاءني أحد الأصدقاء الذين أعرفهم ووجهه قد أدمي، وفي وجنته بعض الجراحات، وأخذ يبكي، فقلت له: يا أخ فلان! ما الذي بك؟ أخذته العبرة ثم بعد ذلك سكت أو سكن مما بخاطره وسألته، قال: لنا جار يبني عمارة، وكان عنده عمال لا يصلون، فجئت ودخلت على العمال في العمارة، ولعله صار بينه وبينهم شيء من رفع الصوت والغلظة والجدال، فما كان من صاحب العمارة ومعه أناس آخرون إلا أن أمسكوا به وضربوه وجلدوه وفعلوا به فعلاً لا يفعل بمسلم، ثم بعد ذلك أخرجوه، فقلت له: يا أخي: كان من واجبك أن تتبع أسلوباً لطيفاً رقيقاً، وفي هذه الحالة: أيهما أفضل أنك أنت الآن يستهزأ بك ويتمسخر بك أمام هؤلاء الفسقة الذين ضربوك، أو أنك اتخذت الأسلوب الأمثل فذهبت إلى الهيئة وقلت: هناك أناس أنا أخشى منهم مثلاً -إلا أن يكون مفادياً بنفسه لله؛ فذلك أجره على الله- لكن أقول ذلك لأستشهد للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن: (لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل: كيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق) إذا كنت صبوراً وتتحمل وتصارع وتجادل أهل الباطل وتصرعهم وتذلهم نقول: أعانك الله على هذا التغيير، لكن أنت لا زلت شاباً صغيراً تدخل على مجموعة في بيت الله فلا تعرض نفسك لشيء لا تطيقه.

إذاً: لا نقول: من واجبك أن تسكت، ولكن أن تأخذ من هو أكبر منك، إمام المسجد، عمدة الحي، إنسان مسئول، رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المنطقة، وتقول: هؤلاء لا يصلون، وعند ذلك إذا سلكت هذا الأسلوب تكون بإذن الله جل وعلا قد أديت الواجب وحفظت نفسك، ولم تعرضها لما لا تطيق من البلاء.

كذلك من الأمور والآداب التي ينبغي أن نراعيها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسألة القدوة، بأن تكون أنت بنفسك مؤتمراً بالمعروف منتهياً عن المنكر قبل أن تأمر الناس، قال رجل لـابن عباس: [إني أريد أن آمر بالمعروف وأن أنهي عن المنكر، قال: نعم. انظر إلى ثلاث آيات، فإن استطعت ألا تقع في واحدة منهن فاؤمر جزاك الله خيراً، قال: وما هي يا ابن عباس؟ قال: قول الله جل وعلا: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] والآية الأخرى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة:44] والآية الثالثة: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]].

إذاً: من واجب الإنسان أن يكون قدوة صالحة حتى يكون لكلامه وقع وأثر على النفوس.

وهذه مسألة ذكرها الفقهاء وتعرضوا لها في كتب الفقه وفي كتب الحسبة، وهي هل يشترط عدالة الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر؟ أعني: هل يشترط أن يكون عدلاً صالحاً عالماً مستقيماً، سليماً خالياً من الصغائر والكبائر؟ هذه مسألة خلافية، ورجح أغلب أهل العلم أنه لا يشترط العدالة التامة، وإنما يشترط العدالة العامة وذلك بالسلامة من فواحش المنكرات وكبار المعاصي، أما الصغائر فلا يسلم منها أحد، ولذلك فإن الإنسان حينما يحجه الشيطان ويقول له: أنت تفوتك صلاة الفجر أحياناً، كيف تأمر الناس بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيكون عليك ذنبان، ترك الصلاة جماعة وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يقول الحسن البصري: [ود الشيطان منا أن نقع في المنكر وألا نأتمر بالمعروف ولا نتناهى عن المنكر] الشيطان يتمنى ذلك، لكن ينبغي إذا وقعنا في واحدة ألا نقع في اثنتين، إذا زل الإنسان في زلة بسيطة أو سهلة يستغفر ويتوب إليه سبحانه وتعالى، ومع ذلك يبقى مصراً على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يجمع على نفسه هذين الأمرين يقول الشاعر:

إذا لم يعظ في الناس من هو مذنب     فمن يعظ العاصين بعد محمد

المعصومون هم الأنبياء: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ [النجم:32] ليس هناك أحد يسلم الصغائر إذاً: فلا تكن هذه المسألة حجة.

كنت أعرف صديقاً، من حسن صفاته أنه كان دائماً إذا صلى في مسجد استأذن إمام المسجد أن يلقي كلمة، فيقوم يلقي كلمة يتأثر بها كثير من الناس الحاضرين، وبعد مدة ترك هذا الشيء، وسألته: يا أخ فلان! مالك؟ قال: يا أخي أنا أرى نفسي مقصراً في بعض الأمور، إذاً: يا أخي! عالج نفسك ولا تحرم الناس هذا الخير، ولا تحرم نفسك هذا الأجر والثواب، انظروا هذا المدخل الشيطاني!

أيها الإخوة: لا يأتي الشيطان إلى أحدنا ويقول له: من أنت؟ لست بعالم، ولست بكامل، وفيك وفيك من الذنوب ما الله به عليم، نقول: لا. أنا أستغفر الله وأتوب إليه، وأجاهد نفسي، وما دمت حياً فأنت في جهاد مع نفسك، لأن هناك شيطاناً يجاهدك، وهوىً متبعاً، ونفساً أمارة بالسوء، كلها ستجاهدها في وجه الله وفي طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا يكون ذلك مدخلاً عليك في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.