منبر الجمعة


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي أعز عباده المؤمنين، ونصر جنده الصادقين، وجعل أعداء دينهم من الصاغرين، أحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فهو إله الأولين والآخرين، أحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، أحمده ملء السماء وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، وأشهد أن لا إله إلا هو جل عن الشبيه والند والمثيل والنظير لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، عبد ربه مخلصاً حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

معاشر المؤمنين: اتقوا الله تعالى حق التقوى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

معاشر المؤمنين: ما من أحد في هذه الدنيا يسلم من العداوة أو ينجو من الأحقاد والضغينة من قبل الحاسدين أو المبغضين، وإذا كان رب العباد جلَّ شأنه، وعزَّ سلطانه قد ضل وجهل في ذاته وصفاته أحقر خلقه وهم اليهود، فقالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة:64]، وقالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181].

وإذا كان نبيه صلى الله عليه وسلم قد نال من عرضه المنافقون، ونال من سيرته ونبوته الكافرون، فقالوا: ساحر أو مُعَلَّمٌ مجنون، وقالوا: في شأن الوحي الذي يتلى عليه: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5]، ولم ينج صلى الله عليه وسلم وهو النسيب الشريف في قومه .. لم ينج من أذى المعاندين، وسفاهة الجاهلين، فجعلوا الشوك والقذر في طريقه، وسلا الجزور على ظهره، وتمالؤوا في قتله ليضيع دمه، ولم ينج صحابته الكرام من كيد اللئام، وأذى الرعاء والطَّغام، فثبت الصحابة رضاً لرب الأنام، وأرخصوا الأرواح ليعز دين الإسلام، وبذلوا الدماء ليرتفع الجهل وليحل العدل والنور بين الأنام، وجاء من بعدهم التابعون لهم بإحسان، فحملوا الراية، ونشروا الهداية، وكانوا بحق لهذا الدين آية.

ومع هذا كله .. مع التضحيات ما نجوا من الأذى والفتنة والابتلاء!

وبالجملة: من طلب السلامة من الخلق فقد طلب المستحيل.

إن نصف الناس أعداء لمن      ولي الأحكام هذا إن عدل

نصبُ المنصِب أوهى جلدي     وعنائي من مداراة السفل

ليس يخلو المرء من ضد ولو     حاول العزلة في رأس الجبل

ولقد كانت العداوة بين الحق والباطل قديمة قِدم البشرية، واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، ليبتلي الله المؤمنين، وليمحص الصادقين، وليكشف الستر عن المفسدين والمنافقين.

إن عداوة الكافرين جلية من قديم الزمان، وحسبكم قول الله عز وجل: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] ويقول سبحانه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109] ويقول تعالى: هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ [آل عمران:119]، ويقول جل شأنه: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119].

ولما كانت هذه العداوة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، والهدى والضلالة .. لما كانت العداوة قديمة قِدم البشرية؛ فقد تلونت وتطورت بألوان البشر وتطورهم، وظهرت تارة سافرة العداوة، وتارة بأشكال قشيبة، وبأساليب غريبة سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].. وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].

عباد الله: لقد علم أعداء الإسلام علم اليقين أن مواجهة المسلمين في عقائدهم لا تزدهم في الدين إلا صلابة، ولا تزيدهم في الطريق إلا مُضياً.

لقد علم أعداء الإسلام أن المسلم حينما يصادم في عقيدته ودينه وكتاب ربه وسنة نبيه .. علموا أن هذا الصدام يزيل الغشاوة عن فطرته، فينهض للذب عن ملته، والذود عن أمته، وحينئذٍ لجئوا إلى أثواب الخداع القشيبة، وصور المكر المريبة التي انطلت على السذج والغوغاء، وفطن لها أولوا الفراسة والذكاء؛ فانطلق الصادقون يحذرون أمتهم شفقاً وحباً، يحذرون أمتهم شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، انطلق الصادقون يحذرون أمتهم من خطر هذه الأساليب الملتوية، ويكشفون زيفها وباطلها.

عباد الله: إن الذي يظهر لك العداوة سافرة، لا تحتاج إلى أدلة وبراهين لتعرف عداوته، إن الذي يبغضك صراحة لا تحتاج إلى دليل لمعرفة بغضائه وعداوته، ولكن مصيبة الأمة والخطوب المدلهمة إنما هي من أعداء يظهرون المسالمة ويبطنون الضغينة، فهم على حد قول القائل:

يعطيك من طرف اللسان حلاوة     ويروغ منك كما يروغ الثعلب

وهم كما قال الآخر:

إن الأفاعي وإن لانت ملامسها     عند التقلب في أنيابها العطب

فالمنافقون وأهل العداواة المغلفة هم مصيبة الأمة، وسبب النيل منها.

لقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقامت دولته، فأصبح الناس معه على فئات ثلاث: مؤمنين وكافرين، وهؤلاء شأنهم واضح، والفئة الثالثة المنافقون، ومن المنافقين نال النبي صلى الله عليه وسلم أذىً عظيماً، فما ترك المنافقون شاردة ولا واردة يقدرون على صرفها لمعاداة النبوة إلا فعلوها، حتى بلغ بهم الأمر أن اتهموا نبيهم صلى الله عليه وسلم في زوجته عائشة بالزنا.

يا عبد الله: لو جاء واحد وقال لك: إن زوجتك زانية، أو أمك باغية، أو أختك فاجرة، ما الذي يصيبك؟ هل تستطيع أن ترقأ بالنوم للحظة؟ هل تستطيع أن تلذ بطعام أو شراب؟ فما بالكم بالنبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزة، تتنزل عليه الملائكة بالوحي، خير من وطئت قدمه الثرى، يقول المنافقون عنه: إن زوجته لزانية.

أي مصيبة تصيب الأمة من المنافقين وأذناب الكافرين، لقد بلغ الأمر بهم أن اتهموا النبي صلى الله عليه وسلم في زوجته عائشة، وهي العفيفة الحصان الرزان. أم المؤمنين رضي الله عنها، رموها بالإفك، وقال رأس النفاق ابن أُبي في شأنها ما قال لما عادت متأخرة عن الجيش.

فاتها الجيش -والجيش بالليل سائر- بقيت مكانها، فلما جاء الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السُلمي ورآها عرفها، وكان قد عرفها قبل نزول الحجاب، فما كان منه إلا أن أناخ ناقته، وتنحى عن الناقة بعيداً، حتى تركب أم المؤمنين، وأمسك بزمام الناقة، يقودها حتى بلغ الجيش.

أي عفة؟!

وأي غض للبصر؟!

وأي احترام لزوج النبوة أعظم من هذا؟!

ومع ذلك كله قال ابن أُبي رأس النفاق، الذي نشر حادثة الإفك وتولى إذاعتها ونشرها بين الناس وبين أذناب النفاق في مجتمع المدينة ، قال: والله ما سملت منه وما سلم منها.

فَمِن هؤلاء -يا عباد الله- يدخل البلاء في صفوف الأمة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].

ولكن اعلموا -يا عباد الله- أن لله في هذا حكمه، وأن أنواع البلاء وتلون الابتلاء لله فيه حكمة: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112]، الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:1-3].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله، الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، اعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة في الدين ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار عياذاً بالله من ذلك.

معاشر المؤمنين: ها أنتم ترون وتعلمون أن العداوة للإسلام والمسلمين سافرة ظاهرة، وأخذت ألواناً قشيبة وأساليب غريبة، فتنطلي على من لا عقل له، ومن لا فؤاد ولا لب له، ويفهمها ويفطن لها الألِباء الأذكياء.

فيا معاشر المؤمنين: اعلموا أنكم مستهدفون، وأن أمتكم مستهدفة، وأن أرضكم مستهدفة، وأن مقدساتكم مستهدفة، وأن ولاة أمركم مستهدفون، وأن علماءكم مستهدفون، فما دمنا نعلم هذه العداوة، فلنأخذ الأهبة والاستعداد، لنشد من ترابطنا، ولنوحد صفوفنا، ولنجمع كلمتنا، ولا نجعل للمجرمين والمنافقين إلى أرضنا وخيراتنا وأمتنا وعلمائنا سبيلا.

معاشر المؤمنين: يئس الكفار أن يحرفوا القرآن بعد محاولات لتحريفه، فعجزوا عن ذلك، وكيف يقدرون والله حفظه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].

وحاولوا تشويه السنة، ولكن قيَّض الله لها رجالاً أتقياء أصفياء أقوياء، حفظوا الدين بالإسناد، فبينهم السند الذهبي العالي المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

ويوم أن أيقن أعداء الدين والملة أن لا سبيل لهم إلى الكتاب والسنة؛ لم يبق أمامهم إلا الرجال، فأخذوا يلفقون الافتراءات والأكاذيب والأقاويل والأباطيل على الرجال.

يقول أحد الرافضة: إننا أبطلنا الناقلة ليبطل المنقول، أي: أن شتمهم للصحابة، ونيلهم من رجال الحديث ليس لعداوة مجردة بينهم وبين رجال الحديث، ولكن الضرب والسبيل والطريق لتشكيك المسلمين في حديث نبيهم، الطريق إلى ذلك أن يشكك الناس في سير الصحابة، ومن قرأ الخطوط العريضة، وجد أقوالهم التي يستحي الواحد أن ينطق بها على هذا المنبر من شناعة قولهم في شأن الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

يريدون أن يشوهوا صورة الصحابة، ويريدون أن يشوهوا صورة التابعين، حتى إذا قرأت حديثاً في سنده ذلك الصحابي قلت: ومن يضمن لي سلامة الحديث وفيه ذاك الصحابي الذي سمعنا عنها كذا وكذا.

ومعتقد أهل السنة والجماعة: أن الصحابة كلهم عدول، اختارهم الله جل وعلا لصحبة نبيه، ونهى النبي عن الوقوع فيهم فقال: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق ملء جبل أحد ذهبا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) لو تصدق واحد بوزن جبل أحد ذهباً ما كانت صدقته تساوي نصف مُدٍّ، يتصدق به أحد الصحابة، ومع ذلك اجتهد الأعداء في النيل من سير التابعين ومن بعدهم، حتى يتشكك الناس في سير العلماء، وفي سير معالم الدين، ورموز الشريعة، وهيهات هيهات إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].

عباد الله: يلجأ الأعداء إلى أسلوب الشائعات والأباطيل والأكاذيب والافتراءات في معالم الدين وعلماء الأمة وولاة الأمور .. هجوماً وتشويهاً وتشكيكاً؛ ليتفرق الناس عن ولاة الأمر، ولتضعف الثقة في ولاة الأمور، وليتشكك الناس في نزاهة العلماء، وليتصل الناس بالمذاهب والتيارات والملل والنحل والفرق والأباطيل؛ ثم تصبح الأمة تعيش في حيص بيص، لا يجدون معلماً يتعلقون به، أو ثقة ينضوون تحت لوائه، هكذا يريد الأعداء يوم أن يلفقوا الأباطيل والتهم والشائعات على أعداء المسلمين.

أليس أبا جهل هو من كان في مواسم الحج خلف النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يسبقه وتارة يلحقه وهو يقول: يا معاشر الحجاج! إن هذا ابننا، ولقد صبأ عن ملتنا، وإنه سفيه فينا ... ينال من عقله، وينال من سيرته، حتى يتشكك الناس في عدالته، فلا يقبلوا منه صرفاً ولا عدلاً.

وهذا الأسلوب قد فعله شياطين الإنس في هذا الزمان وقبل هذا الزمان، ومنذ ذلك التاريخ إلى يومنا هذا نالت الرافضة من سير الصحابة؛ لكي يشككوا الناس فيهم، ونال النصارى من قادة الإسلام العسكريين، وأخذوا يشككون في دوافعهم إلى الجهاد، ويشككون في أعمالهم وقيادتهم لجيوش الأمة.

واقرءوا ما كتب في سلسلة روايات تاريخ الإسلام، فمن قرأها -ومؤلفها نصراني- يحكم كل الحكم أن القادة وأن الجهاد تسيره آهات العشاق، ويحركه مطامع الأشواق، من قرأ تلك الروايات التي امتلأت تشويهاً وتحريفاً وتشكيكاً بسير قادة الإسلام، يقول: ما حرك الجيش إلا حب تلك الأميرة.

إنهم يوم أن كتبوا عن فتح محمد بن القاسم لبلاد السند، قالوا: وكان يحب الأميرة سيتا بنت الملك ذاهر ، ومن أجل ذلك جَيَّش الجيش، وأعَد العُدة، وسار وعبر النهر حتى يلتقي بمحبوبته.

هكذا ينال أعداء الإسلام من الدين، لا يستطيعون أن يسبوا صحابياً، لا يستطيعون أن ينالوا من الدين مباشرة، لكنهم يستطيعون النيل من علماء الدين منذ القديم إلى هذا الزمان، فانتبهوا لذلك يا عباد الله، ولا ينبغي لمسلم أن يفتح أُذنه للشائعة والمقالة: (فبئس مطية الرجل زعموا) كيف والله جل وعلا يظهر براءة أوليائه في الدنيا قبل الآخرة بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [الأنبياء:18].

معاشر المؤمنين: إن أسلوباً خبيثاً خطيراً يدبر لأمة الإسلام في هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، أتدرون ما هو يا عباد الله؟

إنه صناعة الأبطال من الشموع، وتشكيك الثقة في الحقائق.

أما صناعة الأبطال من الشموع فهذه ملموسة واضحة، يوم أن ترى المجلات الأجنبية والوافدة تضفي على رجل ألقاب الثقة، وألقاب العلم، وتجعله علماً ومعلماً وشخصية ومركزاً، ويجعلونه إماماً حتى يتعلق الناس فيه، وتشرئب أعناقهم إلى رؤيته، وتنطلق أبصارهم تتأمله.

وما تزال تلك الوسائل المغرضة للدين وأهله وعلمائه وولاة أمره تصنع من أحقر التافهين بطلاً عظيماً، فإذا لمع وبرز وعرفه الناس جميعاً، أخذوا فصلاً جديداً من تمثيلية أو مسرحية، فينال من قبل الأعداء نيلاً، تجدونهم وهو من أوليائهم، وهو من أذنابهم يظهرون أنهم يؤذونه، ويظهرون أنهم يتابعونه، ويظهرون أنهم ينالون منه، حتى يتأكد الناس أنه صادق وليس بعميل.

ثم بعد ذلك يطلقون سراحه من جديد، فيمسك شأناً من شئون أمة الإسلام، ثم بعد ذلك يعيث في الأرض فساداً، كيف استطاع أن ينال ثقة الجماهير والأمة يوم أن مر بدور مسرحي، وفصل تمثيلي خطير لم يكن شيئاً، ثم أظهر بين الناس، ثم لمع، ثم أصابه نوع في ظاهر الأمر بلاء، وليس في حقيقته بلاء، ثم يعود بعد ذلك مصيبة وويلاً على المسلمين. هذا اسمه صناعة الأبطال من الشموع!

والنوع الآخر والمقابل لهذا: تشكيك الناس في الثقات، يوم أن يبرز عالم من العلماء، أو أن يظهر علماء المسلمين وقادتهم وقادة الجهاد ورجاله، يوم أن يظهرون ويبرزون على الساحة، تجد ألوان التشكيك، المجاهد الفلاني كان ممن يتعاطون المخدرات، القائد الفلاني وصلت إليه سيارة فيها خمور، فلان بن فلان حصل له كذا وكذا، فماذا بعد ذلك يا عباد الله؟

في المقابل تصنع الأبطال من الشموع التي لو عرضت على حرارة الفتنة لذاب الشمع ولم يبق له وجود، وفي الجهة الأخرى الثقة العالم التقي النقي يرمى بمختلف الاتهامات، لماذا؟ حتى يشكك الناس فيه، ولا يثقوا بقوله، ولا ينتصحوا لنصحه، ولا يخلصوا الأمر له ومنه.

فيا عباد الله: اعلموا أن أمتكم مستهدفة، اعلموا أنكم مستهدفون بمختلف الأساليب وألوان الوسائل، فمن الناس من يفهمها، ومن الناس من تنطلي عليه.

يكفي اللبيب إشارة مرموزة     وسواه يدعى بالنداء العالي

يا عباد الله: لقد عرفنا في بعض دول العالم الإسلامي رجالاً ممن كانوا من أهل التجارة والربح الحلال، ماذا لفق عنهم؟ ماذا قيل عنهم؟ ماذا نشر عنهم؟

إنهم يتاجرون بالمخدرات، إنهم يفعلون كذا وكذا، حتى يتشكك الناس في سيرهم وسمعتهم، وفي المقابل تخرج الرموز، ويخرج الأبطال الذين صنعوا من الشموع، فتنطلي الحيلة على السذج والغوغاء.

واعلموا -يا عباد الله- أن بلدكم هذا بحمد الله ومنته هي آخر قلعة للإسلام، وهي آخر معقل من معاقله، ويأبى الله أن يدب هذا المرض إلى رجاله أو شبابه أو علمائه أو ولاة أمره، وإن حصل شيء فهذا لا يزيد أبناء المجتمع بولاة أمره إلا تماسكاً، ولا يزيد رجاله بولاة أمره إلا التفافاً، حتى يطرد الدخيل، ويكشف العميل، وتظهر السنة، وتمحى البدعة.

هكذا ينبغي أن يعمل المسلمون يوم أن يصاب المجتمع، أو يدب إلى الأمة بداية مرض من الأمراض، فاعلموا أن هذا لا يجعلنا نفيض في القول والشائعات والتفسير والاقتراحات والآراء، كل يفسر من تلقاء نفسه، لا وألف لا، بل هذا يزيدنا في ولاة أمرنا تمسكاً، وبعلمائنا ثقة، وبمجتمعنا وحدة، حتى لا يدب الضعف إلينا.

وما قتلت أمة إلا يوم أن قتلت من الداخل، وما سلبت أمه إلا يوم أن نهبت من الداخل، وما تسور اللص جداراً إلا يوم أن وجد الأمر هيناً، وما دخل بيتا إلا يوم أن وجد الباب مفتوحاً، فلا تفتحوا ولا تشرعوا أبواب الفتنة والشائعة والقول في ولاة أمركم أو علمائكم، بل احفظوا أنفسكم: َوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور:12].

يوم أن نسمع أي مقالة في واحد من ولاة أمورنا، أو علمائنا، أو رجالنا الصادقين المخلصين، فإننا والله لا يزيدنا هذا إلا إيماناً بصدقه وإخلاصه؛ لأنه ابتلي والابتلاء دليل من دلائل الصدق والإخلاص.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل الشرك والمشركين، وارفع لواء الدين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.