خطب ومحاضرات
نعيم أهل الجنة
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، أحمده سبحانه جعل في السماء بروجاً، وجعل فيها سراجاًوقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، لم يعلم طريق خير إلا ودلنا عليه، وما علم سبيل شرٍ إلا وحذرنا منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أيها الأحبة: لابد أن نعلم أن هذه الحياة الدنيا -ونحن فيها على قليلٍ من اللباس، وقليلٍ من الطعام- متاعٌ، وأن الآخرة هي البقاء وهي الدار: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء:77].
صور النبي صلى الله عليه وسلم نعيم الدنيا بالنسبة إلى نعيم الجنة كما رواه الإمام مسلم في صحيحه في كتاب: وصف الجنة، فقال: (مثل هذه الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع).
انظر يوم أن تجلس على ساحل محيطٍ من المحيطات أو بحرٍ من البحار، ثم تضع إصبعك في البحر، ثم تنزع إصبعك مرة أخرى فانظر كم نقص من البحر، هل نقص نصفه أو ربعه أو لتر؟ إن البحر لم ينقص شيئاً، فإن ما علق بأصبعك من قطرة من الماء هي الدنيا، وأما الآخرة فهي البحر كله، كما قال صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الدنيا في الآخرة كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم -وأشار بالسبابة صلى الله عليه وسلم ثم قال-: فلينظر بم يرجع).
أيها الأحبة في الله: لذا إن الله عاتب المؤمنين إذا قعدوا بالدنيا عن الآخرة، واشتغلوا بالفاني عن الباقي، وتعلقوا بالزائل عن الدائم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].
أحبابنا: إن الله عز وجل قد جعل نعيم الجنة أضعافاً مضاعفة، وقد جعل فيه فضلاً لا يحيطه عقلٌ، وحسبك أن موضع سوطٍ في الجنة أعظم وأجَلُّ وأبرك وأطيب من الدنيا وما فيها: (ولقاب قوس أحدكم من الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس) قاب قوس أي: موضع قوسٍ في الجنة خيرٌ مما طلعت عليه الشمس.
لكن اعلموا يا عباد الله! أن هذه الدنيا لئن كانت مكدرة فإن الجنة خالية من الشوائب والكدر، ألا ترى أن طعام أهل الدنيا وشرابهم يتحول إلى الغائط والبول ورائحة كريهة؟!
ألا ترى أن نساءنا يقطعهن الحيض والنفاس، ألا ترى أن شيئاً في هذه الدنيا يكدره ما يكدره؟
أما نعيم الجنة فلا يشوبه كدرٌ، بل إنه نعيمٌ باقٍ دائم، ولذلك مثل الله متاع الدنيا كزهرة وورقة خضراء تيبس ثم تذروها الرياح، فكأن لم تكن شيئاً، أما الجنة فهو رزق ما له من نفاد: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] أما الجنة فأُكلها دائم وظلها.
أيها الأحبة في الله: إننا إذا تأملنا هذه الحقائق علمنا أن الفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة، وأن الفوز الزائف المؤقت هو تعلق أهل الدنيا بما يحققون.
تذكر حال لاعبٍ قد صفقت له الجماهير، وهتفت وأعطته الهتافات يوم أن سدد برجله ضربةً على تلك الكرة إلى مرمى فريق الخصم، ثم التفت والجماهير وهي تهتف له، ثم أتى أقرانه وأترابه من اللاعبين يقبلونه ويحملونه على رءوسهم، انظروا تلك الفرحة التي تغمره، أو يراها فرحةً غامرة، والله ليس ذلك إلا خداع فرحة، وما ذاك إلا خداع سرورٍ ولو تأمله لوجد أن بعده ما بعده.
وانظر ذلك الذي يناقش رسالةً في الماجستير أو الدكتوراه، فإذا خرجت اللجنة بعد أن تداولت ما قدمه الطالب في رسالته، وأعلنت اللجنة مجتمعة لا بالأغلبية أن هذا الطالب نال الامتياز ومرتبة الشرف، وأوصت بطباعة رسالته، كيف يتهلل وجهه؟!
وانظر إلى آخر يسمع قراراً يبشر فيه بمرتبةٍ علية في وظيفةٍ أو في منصبٍ من المناصب... كل ذلك نعيمٌ أو متاعٌ أو فرحةٌ أو فوزٌ، ولكنه بين حلال وحرام، وما كان من ذلك كله فاعلم أنه زائلٌ وينتهي عنك.
أموالنا لذوي الميراث نجمعهـا ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
لا دار للمرء بعد الموت يسكنهـا إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنـه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها |
أيها الأحبة: إن أناساً يقولون: كيف السبيل إلى نعيم الجنة؟ ولا يمكن أن نصل إليه أو أن نسلك سبيله إلا إذا أصبحنا رهباناً، نلبس المسوح، وننقطع عن الناس، ونعتزل عن المجتمع، ونظمئ الأكباد في النهار، ونتعب الأقدام طيلة الليل.
أيها الحبيب! هذا منطق يحتاج إلى تأمل، أما الذين يظنون أن الجنة لا تبلغ إلا بالرهبنة، ولا تبلغ إلا بتحريم نعيم على النفوس نعيماً قد أباحه الله، فذلك ليس بحقٍ أبداً: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32] من هذا الذي يظن أنه لا ينال الجنة إلا إذا شدَّد على نفسه أمراً جعل الله له فيه فرجاً؟
من هذا الذي يظن أنه لا ينال نعيم الجنة إلا إذا ضيَّق على نفسه أمراً جعله الله واسعاً؟
من هذا الذي يظن أنه لا ينال نعيم الجنة إلا إذا ترك طيباتٍ قد أحلها الله لعباده المؤمنين وتكون خالصة في الجنة بإذن الله لعباده الصالحين؟
ليس هذا بمنطقٍ وليس هذا بعقل، ولكن الجنة تحتاج إلى عمل، لا تحتاج إلى الأماني، أو التشهي، أو التمني، إن نجمةً يعلقها ضابطٌ من الضباط على كتفه ما نالها إلا بعد سنواتٍ من التدريب الشاق، والامتحانات الصعبة، إن شهادةً ينالها طالبٌ من الطلاب ما نالها إلا بعد سنواتٍ من الكد والجد والمذاكرة والمثابرة، إن تاجراً ما جمع حفنةً من المال إلا بعد سهرٍ طويل، وإن كثيراً من متاع أهل الدنيا أو مناصبهم أو مراتبهم أو انتصاراتهم أو الفوز الذي يعدون أنهم سجلوه ويفتخرون به، ما نالوه بنومٍ ولا بانقطاع عن الجد والكد والاجتهاد وإنما نالوه بتعب، وهو نعيمٌ زائل فان منقض مضمحل، ومع ذلك ما نالوه إلا بتعب.
فمن ذا الذي يريد أن ينال الجنة بإعراضٍ عن طاعة الله، أو يريد أن ينالها بالتمني؟
من ذا الذي يريد أن يبلغ الجنة وهو معرضٌ عن طاعة الله، وعن الصلاة مع الجماعة، وعن بر والديه، وعن صلة رحمه، وعن الإنفاق في سبيل الله، وعن كف لسانه عن الغيبة والنميمة، وعن تصفية قلبه وتنقية فؤاده من الحسد والإحن والغل والبغضاء؟
تريد جنةً بالغل والحقد! تريد جنةً بالحسد والنميمة! تريد جنةً بالغيبة والكراهية! تريد جنةً بصلاةٍ في البيت المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح! تريد جنةً بإمساك المال، والله يقول: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]! تريد جنةً وأنت قاعدٌ وقد سبق السابقون وقد أضمأوا نهارهم وأسهروا ليلهم، تريد جنةً وأنت كسول خمول.
تسألني أم الوليد جملاً يمشي رويداً ويجي أولاً |
هذا والله لا يكون أبداً.
إن الجنة تحتاج إلى مخالفة للهوى، إن من أراد الجنة، وأراد أن يختبر نفسه ويمتحن طريقته ويتأكد من سير أقدامه هل هو في طريق الجنة أم لا، فلينظر نفسه إذا اشتهت شيئاً مما حرم الله، إن قال: لا.. وصبر عن معصية الله، وصبر على طاعة الله، وصبر على أقدار الله، وحزم نفسه وأخذ بزمامها وعسفها وصارعها وأكرهها وروضها.. إذا فعل ذلك فليعلم أنه على طريق أهل الجنة.
أما من يعطي نفسه هواها فقد خاب من دساها، أما من أراد لها الفلاح فقد أفلح من زكاها، يقول صلى الله عليه وسلم: (حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره) متفق عليه. وهذا الحديث يقول عنه النووي رحمه الله معلقاً: هذا من بديع الكلام وفصيحه وجوامعه الذي أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: لا وصول إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، فالنار بالشهوات قد حفت، والجنة محفوفةٌ بالمكاره فهما محجوبتان بهما، فمن هتك الحجاب وصل إلى المحجوب، فهتك حجاب الجنة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النار بارتكاب الشهوات، فأما المكاره فيدخل فيها الاجتهاد بالعبادة والمواظبة عليها، والصبر على المشقة فيها، وكظم الغيظ والعفو والحلم والصدقة والإحسان والصبر عن الشهوات ونحو ذلك.
إن أهل الجنة يستحقون الجنة برحمة الله لا بأعمالهم العمل سببٌ إلى الجنة وليس ثمناً إلى الجنة، فالجنة شيءٌ عظيم، ومن ناله فإنما ناله برحمة الله لا بعمله، ولا بقوله، ولا بمنزلته، ولا بفعله، ولا باجتهاده... إنما ناله برحمة الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (لن يُدخل أحدٌ منكم عمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضلٍ منه ورحمة) وهذا أمرٌ مهم، فإن بعض الناس إذا تصدق صدقةً ظن أنه مقابل هذه الصدقة يستحق الفردوس، وإذا كفل يتيماً ظن أنه بهذه الكفالة يستحق عليين، والآخر إذا تهجد ليلةً أو صام يوماً ظن أنه بذلك يستحق كذا، وكأنه في عقد معطاة، هذه مقابل هذه.
اعلم أيها الأخ الحبيب! أن العمل ليس ثمناً للجنة، إنما العمل سبب إلى الجنة، وفرقٌ بين السبب والثمن، أما دخول الجنة فما هو إلا برحمة الله، وأما السبب فهو العمل الصالح الذي ينفع بإذن الله إذا كان خالصاً صواباً، خالصاً لوجه الله صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قد تشكل كثير من الآيات والنصوص على كثيرٍ من المسلمين كقول الله عز وجل: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، وكقول الله عز وجل: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72] فالجواب: ألا تعارض بين الآيات، أو ما دل عليه الحديث في صحيح مسلم، فإن الآيات تدل على أن الأعمال سببٌ لدخول الجنة وليست ثمناً لها، والحديث نفى أن تكون الأعمال ثمناً للجنة، وفي هذا يقول ابن أبي العز الحنفي شارح الطحاوية يرحمه الله: وإنما ترتيب الجزاء على الأعمال، وقد ضل فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة وله الحمد والمنة، فإن الباء في النفي غير الباء في الإثبات، فالمنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحدٌ بعمله) باء العوض -الباء في الحديث (بعمله) هي باء العوض- وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل الجنة، كما زعمت المعتزلة: أن العامل مستحقٌ لدخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله، والباء في قول الله عز وجل: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] -أو في آياتٍ أخرى- هي باء السبب، أي: بسبب عملكم، والله هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.
ما أجمل فهم السلف! وما أجمل فقه السلف! وما أحوجنا إلى تأمل كلام السلف الصالح رضوان الله عليهم في دقيق هذه المسائل الجليلة.
إن الأعمال التي هي سببٌ إلى الجنة لو أردنا أن نستعرضها لطال بنا المقام، وحسبنا في هذا المقام القصير المبارك -بإذن الله- أن نستعرض شيئاً منها:
الاستقامة على الدين والصبر عليه
أخي الحبيب: إن كنت في العشرين من عمرك فتخيل نفسك وأنت على استقامةٍ في الأربعين والخمسين والستين إن طالت بك الحياة، إن كنت في الثلاثين فتخيل نفسك في الأربعين والخمسين، لا تنظر إلى استقامتك:
كأنها سحابة صيفٍ عما قريبٍ تقشع |
لا تنظر إلى استقامتك وكأنها شيءٌ لا يصلح للاستعمال إلا مرةً واحدة، لا تنظر إلى استقامتك وكأنها قضية عاطفية آنية تزول بزوال مسببها من حدثٍ أو موقف، إنما انظر إلى استقامتك وكأنها نفسك، وكأنها الشهيق والزفير الذي تتنفسه، فصلاة الفجر، والصبر عن المعاصي، والثبات على الحق، والإعراض عن الشهوات، ومجاهدة النفس، ليس لمدة سنة أو سنتين إن طال العمر أو قصر خمسين سنة، ستين سنة، سبعين سنة، يقول أحد السلف ولعله لما بلغته الوفاة، وبكى أحد أولاده، أو بكى أحدٌ ممن حوله، قال: [إني لأرجو رحمة ربي، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام أربعين عاماً] استقامة.. متابعة جادة.. صبر وجلد على الطاعة أربعين سنة، قال: [ولي عشرون عاماً ما أذن المؤذن إلا وأنا في المسجد] الله أكبر! من يستطيع هذا؟! نختبر أنفسنا وإياكم إن شئتم من هذه الليلة والذي يسجل الرقم القياسي يبشرنا فندعوا له، ونسأل الله للجميع الثبات.
صحح الألباني وفقه الله حديثاً في كتاب الترغيب والترهيب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك تكبيرة الإحرام خلف الإمام أربعين يوماً كتب له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار) الاستقامة على الطاعة، الصبر على الالتزام أياً تقلبت الأحوال وتغيرت الظروف، فهذا هو المطلوب أيها الأحبة! وحينئذٍ يكون الواحد بإذن الله وبرحمة الله، وبمنه وكرمه من أهل الجنة، والعمل الصالح: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) ابتسامة، سلامٌ، كلمة طيبة، أمرٌ بمعروف، نهيٌ عن منكر، بر والدين، صلة رحم، إماطة أذى، إغاثة ملهوف، نصيحة مسلم، زيارة أخ في الله، اتباع جنازة، الصلاة على جنازة، زيارة مريض، لا تدع خيراً من الأعمال إلا واجتهدت فيه لعلك برحمة الله أن تكون من أهل الجنة بسبب هذا العمل، قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة:25].
الصبر على شظف العيش
الصبر -أيها الأحبة- من الأمور التي ينال بها الجنة بإذن الله عز وجل، قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58-59].
القوة في العبادة والرغبة إلى الله
الخوف من الله، وما أجمل الخوف من الله، إذا دعيت إلى معصيةٍ فوعدوك بمالٍ عليها، أو زخرفوا لك في ارتكابها، أو وسوسوا لك في قربانها، فقلت: إني أخاف الله: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص:17]، إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ [يوسف:23].
أيها الأحبة: ينبغي أن يتذكر الواحد نِعم ربه عليه، فلا يتجرأ بهذه النعمة على المعصية، وليكن في قلبك خوفٌ من الله عز وجل، والله إن كثيراً من الناس إذا دس أو أدخل من تحت بابه ورقةً يطالب فيها بالحضور إلى مقر الشرطة صبيحة يومٍ معين احمر واصفر وجهه، وانتقع لونه، وذهبت به الأفكار أخماساً وأسداساً، وتشتت ذهنه انزعاجاً من هذا الأمر، يا ترى ماذا يريدون مني؟
لو قيل لك: إنذارٌ قد وجه لك، أنت مطلوبٌ للتحقيق، أنت مطلوبٌ للمحاسبة، أنت مطلوبٌ للمساءلة، والله لا تدع صديقاً ولا وجيهاً ولا قريباً ولا حسيباً إلا وحاولت أن تجعله وسيلةً أو تجد عنده شفاعةً للاستفسار عن هذا الأمر الذي أهمك، فما بالك والواحد منا ينتظر منيته صباح مساء، ويخبرني الأخ الشيخ/ محمد الغزالي وفقه الله، وبارك في جهوده: أن رجلاً اتصل به على جهاز النداء من مدينة الرياض، فقلت: هذا رقمٌ نعرفه، فانظر لم اتصل صاحبنا هذا، فقال: إن فلاناً قد توفاه الله، سبحان الله! أنا أعرف أن فلاناً هذا لو صارع أقوى رجل فيكم لصرعه، أعرف أن هذا الشاب قوي جلد نشيط، ما يخطر ببالنا أن يموت، لكن جاءته المنية ومات وانتقل إلى رحمة الله، فلا أتكون المنية غداً لي أو لك.
لا بد أن نتخيل هذا، وأن نتصوره، فالواحد أيها الأحبة! لا يخشى من البشر، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37] لا بد أن يكون في القلوب خوفٌ من الله: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
تقوى الله عز وجل
وتقوى الله خير الزاد ذخراً وعند الله للأتقى مزيد |
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد |
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل |
وقول الله أبلغ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً [مريم:63]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر:54] تجد أغلب وجُلَّ آيات الجنة قد ربطت بتقوى الله عز وجل، وتقوى الله أمرٌ معلوم، أن تعبد الله على نورٍ من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله خشيةً من الله، وخوفاً من عذاب الله.
أيها الأحبة: ليس عجيباً أن نكون أسوياء أمام بعضنا البعض، ليس غريباً أن يكون الواحد أنموذجاً جيداً أمام الآخرين، ولكن التقوى هي صدق هذا النموذج في السر، صدق هذا النموذج يكون إذا أُرخيت الستور، وأُغلقت الأبواب، وأطفئت الأنوار، وخلا الواحد بنفسه، فانظر إن كنت من أهل التقوى أم لا؟
إن التقوى منزلة عظيمة، ولكن جاهد نفسك، فإن المتقين ليسوا قوماً معصومين عن المعصية، وقد ذكر الله عز وجل حال المتقين بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] من هم المتقون؟ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ [آل عمران:134] فالمتقون ينفقون وَالضَّرَّاءِ ينفقون في السراء والضراء: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ فالمتقون يكظمون غيظهم: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ فالمتقون يعفون عن الناس: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] فالمتقون يحسنون: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] فالمتقون ليسوا بمعصومين أن يقعوا أو أن يزلوا في معصيةٍ أو خطيئة، لكن المتقين إن وقعوا أو زلوا: ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ [آل عمران:135-136] انظروا إلى هذا الجزاء العظيم: مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:136] هذه التقوى -أيها الأحبة- هي من أعظم الدرجات التي ينال بها العبد جنة الله ورضوانه.
القسط والعدل في السلطان
يقول الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14]، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30] الاستقامة على طاعة الله، الثبات على الدين، المضاء، البقاء، القوة على هذا الأمر حتى يلقى العبد ربه، هذا خيرٌ عظيم.
أخي الحبيب: إن كنت في العشرين من عمرك فتخيل نفسك وأنت على استقامةٍ في الأربعين والخمسين والستين إن طالت بك الحياة، إن كنت في الثلاثين فتخيل نفسك في الأربعين والخمسين، لا تنظر إلى استقامتك:
كأنها سحابة صيفٍ عما قريبٍ تقشع |
لا تنظر إلى استقامتك وكأنها شيءٌ لا يصلح للاستعمال إلا مرةً واحدة، لا تنظر إلى استقامتك وكأنها قضية عاطفية آنية تزول بزوال مسببها من حدثٍ أو موقف، إنما انظر إلى استقامتك وكأنها نفسك، وكأنها الشهيق والزفير الذي تتنفسه، فصلاة الفجر، والصبر عن المعاصي، والثبات على الحق، والإعراض عن الشهوات، ومجاهدة النفس، ليس لمدة سنة أو سنتين إن طال العمر أو قصر خمسين سنة، ستين سنة، سبعين سنة، يقول أحد السلف ولعله لما بلغته الوفاة، وبكى أحد أولاده، أو بكى أحدٌ ممن حوله، قال: [إني لأرجو رحمة ربي، والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام أربعين عاماً] استقامة.. متابعة جادة.. صبر وجلد على الطاعة أربعين سنة، قال: [ولي عشرون عاماً ما أذن المؤذن إلا وأنا في المسجد] الله أكبر! من يستطيع هذا؟! نختبر أنفسنا وإياكم إن شئتم من هذه الليلة والذي يسجل الرقم القياسي يبشرنا فندعوا له، ونسأل الله للجميع الثبات.
صحح الألباني وفقه الله حديثاً في كتاب الترغيب والترهيب فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أدرك تكبيرة الإحرام خلف الإمام أربعين يوماً كتب له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار) الاستقامة على الطاعة، الصبر على الالتزام أياً تقلبت الأحوال وتغيرت الظروف، فهذا هو المطلوب أيها الأحبة! وحينئذٍ يكون الواحد بإذن الله وبرحمة الله، وبمنه وكرمه من أهل الجنة، والعمل الصالح: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) ابتسامة، سلامٌ، كلمة طيبة، أمرٌ بمعروف، نهيٌ عن منكر، بر والدين، صلة رحم، إماطة أذى، إغاثة ملهوف، نصيحة مسلم، زيارة أخ في الله، اتباع جنازة، الصلاة على جنازة، زيارة مريض، لا تدع خيراً من الأعمال إلا واجتهدت فيه لعلك برحمة الله أن تكون من أهل الجنة بسبب هذا العمل، قال تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة:25].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
أهمية الوقت في حياة المسلم | 2802 استماع |
حقوق ولاة الأمر | 2664 استماع |
المعوقون يتكلمون [2] | 2652 استماع |
توديع العام المنصرم | 2647 استماع |
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] | 2552 استماع |
من هنا نبدأ | 2495 استماع |
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] | 2461 استماع |
أنواع الجلساء | 2460 استماع |
إلى الله المشتكى | 2436 استماع |
الغفلة في حياة الناس | 2436 استماع |