الروض المربع - كتاب الجنائز [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويجب تكفينه في ماله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم: ( كفنوه في ثوبيه ) مقدماً على دين، ولو برهن وغيره من وصية وإرث؛ لأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين، فكذا الميت فيجب لحق الله وحق الميت ثوب لا يصف البشرة يستر جميعه من ملبوس مثله ما لم يوص بدونه، والجديد أفضل، فإن لم يكن له أي: للميت مال فكفنه ومؤنة تجهيزه على من تلزمه نفقته؛ لأن ذلك يلزمه حال الحياة فكذا بعد الموت، إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته، ولو غنياً؛ لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع، وقد انقطع ذلك بالموت، فإن عدم مال الميت ومن تلزمهم نفقته فمن بيت المال إن كان مسلماً، فإن لم يكن فعلى المسلمين العالمين بحاله. قال الشيخ تقي الدين : من ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه، فإن أراد بعض الورثة أن ينفرد به لم يلزم بقية الورثة قبوله، لكن ليس للبقية نبشه وسلبه من كفنه بعد دفنه، وإذا مات إنسان مع جماعة في سفر كفنوه من ماله، فإن لم يكن كفنوه ورجعوا على تركته، أو من تلزمه نفقته إن نووا الرجوع، ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض من قطن لقول عائشة رضي الله عنها: ( كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة أدرج فيها إدراجاً ) متفق عليه، ويقدم بتكفين من يقدم بغسل ونائبه كهو، والأولى توليه بنفسه ].

هذا الباب يتحدث عن تكفين الميت، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تكفين الميت من الإحسان له، فقال كما ثبت ذلك في صحيح مسلم : ( إذا كفن أحدكم أخاه، فليحسن كفنه )، وهذا يدل على أن الغاسل والكافن مطالب بأن يحسن كفن الميت.

تكفين الميت من تركته

والأصل في الكفن أن يكون من مال الميت إذا كان له مال؛ لأن القاعدة الفقهية هي أن الأحكام الشرعية مناطة بالمكلف بنفسه أو ماله؛ لأن الأحكام الشرعية مناطة بالمكلف نفسه إما بذاته وقد عدم، أو بماله، وهذا مثل ما لو كان عند الإنسان مال ولم يستطع الحج ببدنه فيكون الحج واجباً عليه بماله، كما هو مذهب جماهير أهل العلم خلافاً لـمالك ، وكذلك الكفن، فإن الإنسان مطالب به من ماله، لقوله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي وقصته ناقته: ( كفنوه في ثوبيه )، يعني: إزاره ورداءه، وفي البخاري من حديث أبي بكر الصديق : كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد، وإنما هو للمهلة والتراب، إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: يجب تكفينه في ماله، يعني: إن كان له مال، فيكون تكفينه في ماله من باب النفقة الواجبة على نفسه، وقد جاء في الصحيح ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! عندي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنفقه على زوجك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به )، والحديث عند أهل السنن بسند صحيح من حديث أبي هريرة .

وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان عنده شيء، فإنه يطالب بأن ينفق على نفسه النفقة الواجبة، فيكون مقدماً على حاجة الغير، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (مقدماً على دين)، والدين هو حاجة الغير، وعلى هذا فالنفقة الواجبة مقدمة على الدين، والدين دينان: دين لحق الله، ودين لحق المخلوق، وكلاهما فرع وليسا بأصل، فإن الأصل هو النفقة الواجبة على الميت، فإن كان ثمة فضل على نفقته الواجبة فإنه يتعلق بما لحق الله، أو لحق المخلوق، ولما كان الميت لا يحتاج إلى نفقته الواجبة إلا مقدار ما يكفن به قال العلماء: لا يجوز الزيادة على ثلاثة أثواب كما سوف يأتي؛ لأن ما زاد يسميه العلماء زائداً عن النفقة الواجبة، وهذه هي القاعدة في هذا الباب.

قال المؤلف رحمه الله: (مقدماً على دين)، ولو كان ذلك الدين برهن؛ لأن الدين من حيث تقدمه على غيره ينقسم إلى قسمين: دين برهن، ودين بلا رهن، فما كان برهن، فهو مقدم على الدين الذي بلا رهن، فإن ديون الغرماء على المفلس نوعان: ديون برهن، وديون بلا رهن، وكلاهما حقوق للغير، لكن ما كان برهن أولى بالتقديم من الدين الذي بلا رهن.

الثاني: من باع شيئاً على مفلس فأفلس، فوجد البائع دينه أو ماله بعينه، فهو أحق به.

الثالث: وهو سائر الديون التي للمخلوق.

الرابع: الديون التي هي لحق الله تعالى كالزكاة والكفارات وغيرها.

إذاً: الذي يقدم الديون التي غير النفقة الواجبة بالترتيب: دين برهن، باع على مفلس فمات، فوجد ماله بعينه فهو أولى.

الثالث: دين بلا رهن لحق المخلوق.

الرابع: الديون المتعلقة بحقوق الله تعالى كالكفارات.

وأنت ترى أننا لم نذكر النفقات الواجبة على الميت، كنفقته على زوجه وولده؛ لأن هذه لا تعد ديوناً، ولكنها من باب النفقات، ولهذا قال المؤلف: (مقدماً على دين ولو برهن وغيره) يعني: وغير الدين، كالوصية، والإرث؛ لأن الإرث إنما صار مال الغير بموت الإنسان؛ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان )، ما معنى (وقد كان لفلان)؟ لأنه صار مال الوارث، فإذا بلغت الحلقوم فلا حياة بعد ذلك، فصار لفلان فكذلك إذا مات، والمؤلف يقول: (لأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين)، لأنها نفقته الواجبة على نفسه، فإذا أفلس المفلس، وهو من كانت ديونه زائدة على ماله، فيأتي القاضي فينظر إلى نفقته الواجبة على نفسه ثم نفقته الواجبة على أولاده الصغار، ثم نفقته الواجبة على زوجته أو زوجاته فما فضل على ذلك فإنه ليس بماله، إنما هو مال الغرماء، والغرماء على مراتب كما مر معنا.

أقل ما يجزئ في كفن الميت

قال المؤلف رحمه الله: (فكذا الميت، فيجب لحق الله تعالى وحق الميت ثوب لا يصف البشرة).

قول المؤلف رحمه الله: (لحق الله وحق الميت) دليل على أن تكفينه إنما هو لحق الله ولحق الميت، وإنما كان لحق الله لأمره سبحانه وتعالى بذلك، قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، وهذا أمر شرعي، فهو لحق الله تعالى.

والثوب الذي يكفي هو ما لا يصف البشرة؛ لأن ما يصف البشرة وجوده كعدمه.

قال المؤلف رحمه الله: (من ملبوس مثله) يعني: أن الإنسان يكفن في ثوب مما يلبس في العادة، فالفقير يكفن بماله إذا لم يكن عليه دين بما يلبس في العادة (ما لم يوص بدونه)؛ لأنه إن كان قد أوصى بأن يكفن بأقل مما يلبس في العادة أو يكفن مثله في العادة فإنه لا حرج أن يكفن بأقل من ملبوس مثله؛ لأن الوصية هنا مقدمة؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه كما عند البخاري قال: كفنوني في ثوبي هذا فإن الحي أحوج إلى الجديد، وإنما هو للمهلة أو للمَهلة والتراب، فأوصى أبو بكر بأن يكفن بأقل من ملبوس مثله، فأجريت وصيته.

قال المؤلف رحمه الله: (والجديد أفضل)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( البس جديداً، وعش حميداً )، والحديث رواه أهل السنن وسنده جيد، ولما جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند جيد: ( البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم )، ولهذا فالجديد أفضل والبياض أفضل.

الذي يلزمه تكفين الميت إذا لم يكن له مال

قال المؤلف رحمه الله: (فإن لم يكن له أي: للميت مال) يعني: مات وليس عنده مال، فلم يخلف ولا مقدار الكفن (فكفنه ومؤنة تجهيزه على من تلزمه نفقته)، فإن كان له أولاد فيجب على الأولاد أن يكفنوه، وإن كان له أب فيجب على الأب أن يكفنه، وهذا واجب عند الأئمة الأربعة أن الأصول يجب أن ينفقوا على الفروع إذا لم يكن عندهم مال، وأن الفروع يجب أن ينفقوا على الأصول إن لم يكن عندهم مال، وهذا أمر ذهب إليه عامة أهل العلم، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك على خلاف عندهم في بلوغهم أم عدم بلوغهم.

وأما الحواشي وهو الأخ مع أخيه، والشخص مع عمه، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أن النفقة واجبة على الأخ لأخيه إن كان يرثه فيما لو مات، وهو قول لبعض الشافعية، وذهب مالك وأحد قولي الشافعي إلى أن النفقة لا تلزم الحواشي فلا تلزم الشخص على أخيه حتى ولو كان يرثه، ومنشأ الخلاف في الاستدلال بقول الله تعالى: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، فهل قوله: (مثل ذلك) الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، كما هو مذهب مالك ، وأقرب مذكور: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، فكلمة (مثل ذلك) مثل أن الوارث لا يضار المرضعة، أم أن الضمير يرجع إلى النفقة وهي قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:233]، فذهب الحنفية والحنابلة إلى ذلك.

والذي يظهر والله أعلم هو قول مالك ، ولكن وإن قلنا: إن النفقة لا تجب على الحواشي إلا أنها تجب عليه من باب القاعدة الفقهية، وهي الواجب الكفائي إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فهم أولى بالإثم من سائر الناس؛ لعلمهم به، ولقربهم له؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك )، فهو وإن لم يجب من حيث الأصل، لكنه أولى من حيث الواجب الكفائي، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (لأن ذلك يلزمه حال الحياة) والراجح أنه لا يلزمه، ولكنه يجب عليه من باب أنه أولى بالواجب الكفائي، ولأنه أعلم بحال الميت، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك ).

تكفين الرجل لزوجته

قال المؤلف رحمه الله: (إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته)، الحنابلة رحمهم الله لا يوجبون كفن الزوج على زوجته، سواء أكان للمرأة مال أو لم يكن لها مال، وسواء أكان للزوج مال أو لم يكن له مال. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنه إن كان للزوجة مال فيجب عليها، وإن لم يكن لها مال، فإن أبا حنيفة له رواية وافق فيها الإمام أحمد بأنه لا يجب عليه، وأما مالك فأوجب على الزوج، وأما الشافعي فإنه قال: يجب على الزوج؛ لأن هذا من نفقة المرأة الواجبة، وهذا ظاهر قول الظاهرية، والراجح هو مذهب الشافعي والظاهرية؛ وذلك لأن هذا مما يوجبه عقد النكاح؛ لأن الزوج مطالب بأن ينفق على زوجته النفقة الواجبة عليها، والكفن داخل في ذلك، لقوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19].

وأما الحنابلة فإنهم منعوا من ذلك سواء أكان لزوجته مال أو لم يكن لها مال، يقولون: لأن عقد الزوجية شيء، والنفقة الواجبة في عقد الزوجية شيء آخر، فعقد الزوجية لم ينحل بالوفاة مطلقاً، وإنما الذي انحل هو الاستمتاع، فالإنسان إذا ماتت زوجته انقطع الاستمتاع، قالوا: والنفقة مربوطة بالاستمتاع، أو التمكن من الاستمتاع، فلو أن الزوجة مكنت زوجها ولكنه قال: الدخول في العطلة مثلاً يجب عليه أن ينفق على زوجته؛ لأنها مكنته من الاستمتاع، هذا مذهب الحنابلة، والراجح أن النفقة ليست لأجل التمكن من الاستمتاع، وإنما لأجل الزوجية نفسها بدليل أن المرأة العجوز التي لا تشتهى واجب على الزوج أن ينفق عليها، ولأن المرأة المريضة التي احترق سائر بدنها التي لا تشتهى أن ينظر لها يجب على الزوج أن ينفق عليها خلافاً للحنابلة، وهذا هو مذهب الشافعي و ابن حزم ، والله أعلم، وعلى هذا فقول المؤلف: (لأن الكسوة وجبت عليه بالزوجية والتمكن من الاستمتاع، وقد انقطع ذلك بالموت)، فجوابه أن النفقة ليست مربوطة بالتمكن من الاستمتاع، وإنما مربوطة بعقد الزوجية، بدليل: أن المرأة العجوز التي لا تشتهى يجب على الزوج أن ينفق عليها، ولأن المرأة المريضة التي احترق بدنها واجب على الزوج أن ينفق عليها، نعم لو امتنعت المرأة من تمكين زوجها لجاز لزوجها ألا ينفق عليها من باب النشوز، لا من باب التمكن، والله أعلم.

من يلزمه كفن الميت إذا عدم ماله ومال من تلزمه نفقته

قال المؤلف رحمه الله: (فإن عدم مال الميت ومن تلزمه نفقته فمن بيت المال إن كان مسلماً).

نعم يجب على ولي أمر المسلمين أن ينفق عليه من بيت المال، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من ترك مالاً أو ضياعاً فلورثته )، ثم قال: ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم )، فكان صلى الله عليه وسلم ينفق عليهم من بيت المال، ولما مات المسلم ولم يعلم من قاتله وداه صلى الله عليه وسلم من بيت المال، يقول سهل بن أبي حثمة : فلقد ركضتني منها ناقة حمراء، فهذا يدل على أن بيت المال إنما تنفق على الميت إذا لم يكن له مال، ولم يعلم به أهله، ثم يقول المؤلف: (فإن لم يكن فعلى المسلمين العالمين بحاله)؛ لأن هذا من باب الفرض الكفائي، ولا يكلفهم، وهذا داخل في قول الله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7].

قال المؤلف رحمه الله: (قال الشيخ تقي الدين -يعني: ابن تيمية - ومن ظن أن غيره لا يقوم به تعين عليه)، يعني: لو سمع الإنسان أن قرية أهلها فقراء وإذا مات فيهم ميت لا يجد من ينفق عليه وربما تدافعوا ذلك، وهو قادر على ذلك تعين عليه أن ينفق على هذه المغسلة مثلاً؛ لأن غيره لا يقوم بذلك إلا بالطلب وهو قادر فيجب عليه والله أعلم.

انفراد بعض الورثة بتكفين الميت

قال المؤلف رحمه الله: (فإن أراد بعض الورثة أن ينفرد به لم يلزم بقية الورثة قبوله).

يعني: لو أن الميت مات وليس عنده مال فعلى المذهب يجب على من يلزمه نفقته من الورثة، وهذا مذهب الحنفية، فإذا كان من تلزمه نفقته إخوته، فلو طلب أحد الإخوة أن يعطي كسوة الكفن فلا يلزم بقية الورثة قبوله، فيقولون: نحن نقتسم بيننا.

قال المؤلف رحمه الله: (لكن ليس للبقية نبشه).

يعني: لو أن أحدهم تبرع وكفنه ثم دفن، فقالوا: نحن نشاركه، فقال: لا أريد، فلا يجوز نبش القبر لأجل أن يلغوا هذه الأكفان، ويدفع بينهم؛ لأنه إذا دفن فحرمته ألا ينزع، ولهذا قال: (ليس للبقية نبشه وسلبه من كفنه بعد دفنه)، لما في ذلك من هتك حرمة الميت، ولأنه إذا تعارضت مفسدتان قدم أدناهما، وأدناهما هو الترك، والله أعلم.

كيفية تكفين الميت إذا مات في سفر وكان مع جماعة

قال المؤلف رحمه الله: (وإذا مات إنسان مع جماعة في سفر كفنوه من ماله).

لأن الواجب الكفائي أنيط بهم، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: (فإن لم يكن كفنوه ورجعوا على تركته).

يعني: إذا مات إنسان في سفر وليس معه مال، فلا يخلو إما لا يكون معه مال في بلده، أو كان عنده مال في بلده، فإن لم يكن عنده مال في بلده كفنه من حضروا وفاته، فإن كان له مال كفنوه ورجعوا فيه على تركته؛ لأن ذلك واجب عليه من ماله، فيكون ذلك بمثابة الدين عليه، والله أعلم، فإن لم يكن له مال فالمذهب أنها تلزمه نفقة من ينوبه، فعلى هذا فالناس يرجعون على أهل الميت، والراجح أنهم لا يرجعون؛ لأنهم لا يجب عليهم نفقته، وإن كانوا هم أولى، فلما تقدم هؤلاء الذين حضروا السفر، فإنه لا يلزم الورثة نفقته إلا الأصول والفروع كما مر معنا.

والأصل في الكفن أن يكون من مال الميت إذا كان له مال؛ لأن القاعدة الفقهية هي أن الأحكام الشرعية مناطة بالمكلف بنفسه أو ماله؛ لأن الأحكام الشرعية مناطة بالمكلف نفسه إما بذاته وقد عدم، أو بماله، وهذا مثل ما لو كان عند الإنسان مال ولم يستطع الحج ببدنه فيكون الحج واجباً عليه بماله، كما هو مذهب جماهير أهل العلم خلافاً لـمالك ، وكذلك الكفن، فإن الإنسان مطالب به من ماله، لقوله صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي وقصته ناقته: ( كفنوه في ثوبيه )، يعني: إزاره ورداءه، وفي البخاري من حديث أبي بكر الصديق : كفنوني في ثوبي هذين، فإن الحي أحوج إلى الجديد، وإنما هو للمهلة والتراب، إذا ثبت هذا فإن المؤلف يقول: يجب تكفينه في ماله، يعني: إن كان له مال، فيكون تكفينه في ماله من باب النفقة الواجبة على نفسه، وقد جاء في الصحيح ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! عندي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنفقه على زوجك، قال: عندي دينار آخر، قال: أنت أبصر به )، والحديث عند أهل السنن بسند صحيح من حديث أبي هريرة .

وهذا يدل على أن الإنسان إذا كان عنده شيء، فإنه يطالب بأن ينفق على نفسه النفقة الواجبة، فيكون مقدماً على حاجة الغير، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (مقدماً على دين)، والدين هو حاجة الغير، وعلى هذا فالنفقة الواجبة مقدمة على الدين، والدين دينان: دين لحق الله، ودين لحق المخلوق، وكلاهما فرع وليسا بأصل، فإن الأصل هو النفقة الواجبة على الميت، فإن كان ثمة فضل على نفقته الواجبة فإنه يتعلق بما لحق الله، أو لحق المخلوق، ولما كان الميت لا يحتاج إلى نفقته الواجبة إلا مقدار ما يكفن به قال العلماء: لا يجوز الزيادة على ثلاثة أثواب كما سوف يأتي؛ لأن ما زاد يسميه العلماء زائداً عن النفقة الواجبة، وهذه هي القاعدة في هذا الباب.

قال المؤلف رحمه الله: (مقدماً على دين)، ولو كان ذلك الدين برهن؛ لأن الدين من حيث تقدمه على غيره ينقسم إلى قسمين: دين برهن، ودين بلا رهن، فما كان برهن، فهو مقدم على الدين الذي بلا رهن، فإن ديون الغرماء على المفلس نوعان: ديون برهن، وديون بلا رهن، وكلاهما حقوق للغير، لكن ما كان برهن أولى بالتقديم من الدين الذي بلا رهن.

الثاني: من باع شيئاً على مفلس فأفلس، فوجد البائع دينه أو ماله بعينه، فهو أحق به.

الثالث: وهو سائر الديون التي للمخلوق.

الرابع: الديون التي هي لحق الله تعالى كالزكاة والكفارات وغيرها.

إذاً: الذي يقدم الديون التي غير النفقة الواجبة بالترتيب: دين برهن، باع على مفلس فمات، فوجد ماله بعينه فهو أولى.

الثالث: دين بلا رهن لحق المخلوق.

الرابع: الديون المتعلقة بحقوق الله تعالى كالكفارات.

وأنت ترى أننا لم نذكر النفقات الواجبة على الميت، كنفقته على زوجه وولده؛ لأن هذه لا تعد ديوناً، ولكنها من باب النفقات، ولهذا قال المؤلف: (مقدماً على دين ولو برهن وغيره) يعني: وغير الدين، كالوصية، والإرث؛ لأن الإرث إنما صار مال الغير بموت الإنسان؛ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى ولا تمهل، حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان )، ما معنى (وقد كان لفلان)؟ لأنه صار مال الوارث، فإذا بلغت الحلقوم فلا حياة بعد ذلك، فصار لفلان فكذلك إذا مات، والمؤلف يقول: (لأن المفلس يقدم بالكسوة على الدين)، لأنها نفقته الواجبة على نفسه، فإذا أفلس المفلس، وهو من كانت ديونه زائدة على ماله، فيأتي القاضي فينظر إلى نفقته الواجبة على نفسه ثم نفقته الواجبة على أولاده الصغار، ثم نفقته الواجبة على زوجته أو زوجاته فما فضل على ذلك فإنه ليس بماله، إنما هو مال الغرماء، والغرماء على مراتب كما مر معنا.

قال المؤلف رحمه الله: (فكذا الميت، فيجب لحق الله تعالى وحق الميت ثوب لا يصف البشرة).

قول المؤلف رحمه الله: (لحق الله وحق الميت) دليل على أن تكفينه إنما هو لحق الله ولحق الميت، وإنما كان لحق الله لأمره سبحانه وتعالى بذلك، قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، وهذا أمر شرعي، فهو لحق الله تعالى.

والثوب الذي يكفي هو ما لا يصف البشرة؛ لأن ما يصف البشرة وجوده كعدمه.

قال المؤلف رحمه الله: (من ملبوس مثله) يعني: أن الإنسان يكفن في ثوب مما يلبس في العادة، فالفقير يكفن بماله إذا لم يكن عليه دين بما يلبس في العادة (ما لم يوص بدونه)؛ لأنه إن كان قد أوصى بأن يكفن بأقل مما يلبس في العادة أو يكفن مثله في العادة فإنه لا حرج أن يكفن بأقل من ملبوس مثله؛ لأن الوصية هنا مقدمة؛ لقول أبي بكر رضي الله عنه كما عند البخاري قال: كفنوني في ثوبي هذا فإن الحي أحوج إلى الجديد، وإنما هو للمهلة أو للمَهلة والتراب، فأوصى أبو بكر بأن يكفن بأقل من ملبوس مثله، فأجريت وصيته.

قال المؤلف رحمه الله: (والجديد أفضل)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( البس جديداً، وعش حميداً )، والحديث رواه أهل السنن وسنده جيد، ولما جاء عند الإمام أحمد من حديث ابن عباس بسند جيد: ( البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم )، ولهذا فالجديد أفضل والبياض أفضل.