الروض المربع - كتاب الطهارة [26]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب التيمم، في اللغة: القصد، وشرعاً: مسح الوجه واليدين بصعيد على وجه مخصوص ].

التيمم في اللغة: القصد، تقول: يممت إلى مكان كذا، يعني: قصدت، كما قال الله تعالى: آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، يعني: قاصدين، وهذا هو القصد.

وفي الاصطلاح أشار المؤلف إلى قول: (مسح الوجه واليدين بصعيد على وجه مخصوص).

وقوله: (بصعيد)؛ ليعم الخلاف: هل الواجب التراب الذي له غبار، أو الرمل يكفي، أو الصعيد من الحجارة ونحوها؟ كما سوف يأتي بيان الخلاف في ذلك.

وقوله: (على وجه مخصوص)؛ لبيان هل للتيمم ضربة أو ضربتين؟ وهل يمسح اليدين إلى المرفقين أو إلى الكفين؟ على الخلاف؛ ولهذا قال: (على وجه مخصوص) وسوف يبين هذا الوجه المخصوص، وهذا هو تعريف التيمم.

قال المؤلف رحمه الله: [ وهو من خصائص هذه الأمة، لم يجعله الله طهوراً لغيرها؛ توسعة عليها وإحساناً إليها، فقال تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، الآية ].

يقول المؤلف: ( هو من خصائص هذه الأمة ).

أولاً: لنعلم أن التيمم محل إجماع من أهل العلم، كما حكى ذلك ابن المنذر في كتابه الإجماع و ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع على أن التيمم بالتراب جائز.

(وهو من خصائص هذه الأمة) كما روى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء )، وفي حديث جابر : ( أعطيت خمساً لم يعطهن أحداً من الأنبياء قبلي وفيه: وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهورا )، فعلى هذا فالتيمم من خصائص هذه الأمة.

وأول ما شرع التيمم على الراجح كان في غزوة بني المصطلق في السنة السادسة، حينما ( خرجت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتقدت عقدها، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبس الناس؛ لكي يبحث عن عقد عائشة، فكأن الناس ذهبوا إلى أبي بكر، ولاموا عائشة على حبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فدخل أبو بكر رضي الله عنه على عائشة تقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري، فجعل يطعن بإصبعه على خاصرتي، ويقول: أقمت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، قالت: فلم يمنعني من القيام إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجري، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت آية التيمم، فقال أسيد بن حضير : والله ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر! ).

والتيمم ليس رخصة، بل هو بدل كما سوف يأتي تفصيله؛ ولهذا يجوز للمسافر سفر المعصية إذا لم يجد الماء أن يتيمم؛ لأنه عزيمة بدلية.

قال المؤلف رحمه الله: [وهو -أي: التيمم- بدل طهارة الماء لكل ما يفعل بها عند العجز عنه شرعاً].

يقول المؤلف: (وهو -أي: التيمم- بدل طهارة الماء)، والقاعدة: أن البدل يأخذ حكم المبدل في أحكامه وإن اختلف معه في بعض صفاته، يقول المؤلف: (بدل طهارة الماء لكل ما يفعل بها) أي: لكل ما يفعل بطهارة الماء، (عند العجز عنه) يعني: عند العجز عن الماء؛ لعدم أو لمرض؛ لعدم يعني إذا لم يجد الماء أصلاً، أو لمرض يعني: أن الماء موجود لكن يمنعه من استعماله عجز حسي من مرض ونحوه، فيكون الماء الموجود المعجوز عن استعماله في حكم المعدوم.

يقول المؤلف: [ لكل ما يفعل بها عند العجز عنه شرعاً؛ كصلاة وطواف ومس مصحف وقراءة قرآن ووطء حائض قد طهرت ].

الحنابلة ومعهم المالكية والشافعية يرون أن التيمم مبيح وليس برافع، ومعنى ذلك: أن طهارته ليست طهارة كاملة، ولكنها طهارة تبيح للمرء أن يفعل ما يفعله المتطهر، وذهب أبو حنيفة وهو قول سعيد بن المسيب و الحسن البصري و الزهري وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله ورواية عند الإمام أحمد ، إلى أن التيمم رافع للحدث، مثله مثل الماء، سواء بسواء، مع العدم؛ لأمور:

أولاً: لأن التيمم كما يقول الجميع: بدل عن الماء، والقاعدة: أن البدل يأخذ حكم المُبدل في أحكامه، وإن خالفه في بعض صفاته.

الثاني: ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والإمام أحمد وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليُمسه بشرته ) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الماء والصعيد طهوراً.

وأما مذهب الحنابلة فقد استدلوا بفعل ابن عمر،كما روى البيهقي بسند صحيح عن ابن عمر (أنه كان يتيمم لكل صلاة)، وروي عن علي و عبد الله بن عمرو بن العاص و ابن عباس، ولا يصح عنهم حديث كما أشار إلى ذلك البيهقي .

وقال ابن تيمية: وإنما روي عن ابن عمر من فعله وليس من قوله، وإذا كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم يؤخذ على الاستحباب لا على الوجوب ففعل الصحابة من باب أولى، يعني: فعل الرسول عليه السلام لا يدل على الوجوب إلا إذا داوم عليه، فإذا كان فعل النبي عليه السلام لا يدل على الوجوب، ففعل الصحابة لا يدل على الوجوب من باب أولى.

وعلى هذا فإذا قلنا: إن التيمم مبيح خالف الطهارة بالماء من ثلاث وجوه، هذا وجه الخلاف، ولهذا يقول ابن تيمية: الخلاف خلاف عملي يقولون: إنه لا يجوز أن يتيمم إلا بعد دخول الوقت، كما سوف يأتي تفصيله.

الثاني: أن التيمم يبطل بخروج الوقت.

الثالث: تعيين نية ما يتيمم له، بمعنى: لو نوى أن يتيمم لقراءة القرآن جاز أن يقرأ القرآن وما دونه مثل الذكر، وحرُم عليه أن يصلي؛ لأن الصلاة أعلى من قراءة القرآن، فيكون لمثله وما دونه، وما زاد فلا، هذا من ثمرة القول بأن التيمم مُبيح.

وعلى القول الراجح: أن التيمم مثل الماء، فلو تيمم لقراءة القرآن جاز أن يصلي به والجمهور يقولون بجميع هذه الأشياء الثلاثة، لكن المسألة الثالثة: وهي تعيين نية ما يتيم له هو الذي فيه لهم تفاصيل، لكنهم في الجملة يقررون هذا، أما الأول والثاني فهذا معروف عندهم.

قال المؤلف رحمه الله: [ويشترط له شرطان].

يعني: ويشترط للتيمم شرطان غير شروط الطهارة.

دخول الوقت

قال المؤلف رحمه الله: [أحدهما: دخول الوقت، وقد ذكره بقوله: إذا دخل وقت فريضة أو منذورة بوقت معين أو عيد أو وجد كسوف أو اجتمع الناس لاستسقاء أو غسل الميت أو يمم لعذر أو ذكر فائتة وأراد فعلها].

قال المؤلف رحمه الله: (أحدهما: دخول الوقت)، فإذا دخلت وقت فريضة تيمم لها، فلو تيمم قبل أذان الظهر بخمس دقائق ما جاز له أن يصلي الظهر بهذا التيمم حتى يتيمم مرة أخرى؛ لأنه تيمم قبل دخول الوقت، ودليل الحنابلة والجمهور على ذلك، قالوا: لأن الله أمر العبد بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، الآية، ثم قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا [المائدة:6]، قالوا: فهذا أمر للعبد في دخول وقت كل صلاة أن يصنع هذا، وقد خرج الماء بحديث بريدة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات كلها بوضوء واحد )، فإذا لم يوجد الماء كان التيمم على أصله، هذا ذكره الإمام الشافعي رحمه الله، وهذا إذا كان على سبيل الاستحباب فنعم، أما إذا كان على سبيل الوجوب فلا؛ لحديث أبي هريرة و أبي ذر : ( الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء ).

وعلى تفريقات الحنابلة والشافعية ومن نحا نحوهما أنه لو اغتسل لعيد قبل وقته، مثل: أن يتيمم لصلاة الفجر، ومعلوم أن صلاة العيد من ارتفاع الشمس قيد رمح، فيجب عليه أن يتيمم من ارتفاع الشمس قيد رمح، ويجب عليه حال الاستسقاء أن يتيمم حال اجتماع الناس، يعني: وهو في المصلى، فلو جاء أول الناس ومعه شخص أو شخصان فلا يصح تيممه؛ حتى إذا اكتملوا واجتمع الناس تيمم؛ لأنها لا تصح صلاة الاستسقاء إلا بجماعة، فلو تيمم قبل ذلك وخرج إلى المصلى ما أجزأه ذلك.

كذلك ( غسل الميت ) لو أنه أراد أن يصلي على ميت، وليس ثمة ماء قبل تغسيل الميت، يعني: عندهم ماء قليل، يريدون أن يغسلوا به الميت، فلو تيمم وانتظر حتى ينتهي الميت من الغسل لم ينفعه ذلك لكن إذا انتهى الميت من الغسل تيممت له؛ لأن الصلاة على الميت لا تصح إلا بعد اغتساله، ويكون اغتساله مثل دخول الوقت، فإن لم يوجد ماء أصلاً لا للمصلي، وليس ثمة ماء أيضاً للميت يُمم لعذر، فلو لم يوجد الماء، وتيمم المصلي قبل الميت أيضاً لا يصح حتى ييمم الميت، لماذا كل هذا؟ قالوا: لأن الصلاة على الميت لا تصح إلا باغتساله أو تيممه، فإذا لم يغسل فيكون تيمم المصلي قبل أوانه، هذا هو مراد المؤلف.

يقول المؤلف: (أو ذكر فائتة وأراد فعلها) معلوم أن الفريضة تصلى ولو في وقت النهي، فإذا ذكرها تيمم لها، أما النافلة: فلو أنه صلى فريضة الفجر، ثم أحدث فتيمم قبل ارتفاع الشمس قيد رمح فليس له أن يصلي؛ قالوا: لأنه تيمم لسنة قبل وقتها؛ لأن وقتها يبدأ من ارتفاع الشمس قيد رمح.

قال المؤلف رحمه الله: [ أو أبيحت نافلة؛ بألا يكون في وقت نهي عن فعلها ].

كما مر معنا بألا يكون وقت نهي عن فعلها، فلو أنه تيمم قبل ارتفاع الشمس قيد رمح ما نفعه ذلك على مذهب الحنابلة، والقول الراجح: أن التيمم رافع كالماء والله أعلم.

تعذر الماء لعدمه أو زيادة ثمنه

قال المؤلف رحمه الله: [الشرط الثاني: تعذر الماء، وهو ما أشار إليه بقوله: وعدم الماء حضراً كان أو سفراً].

إذا عدم الماء سواء كان مسافراً أو حاضراً فإنه يجوز له أن يتيمم، سواء كان السفر قصيراً أم طويلاً، فإذا جاز للمقيم فالمسافر من باب أولى؛ لأن مشقته أعظم من مشقة الحاضر.

قال المؤلف رحمه الله: [قصيراً كان أو طويلاً، مباحاً كان أو غير مباح، فمن خرج لحرث أو احتطاب ونحوهما ولا يمكنه حمل الماء معه ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته فله التيمم ولا إعادة عليه].

مثال ذلك: لو ذهب شخص هو وأسرته إلى مكان بعيد، وحضر وقت صلاة المغرب، وهو يريد أن يتعشى، وقد صنع طعاماً، فلو دخل البلد لقطع عمله؛ لأنه لا بد أن يخرج وأولاده، ويشق عليه إغفال الطعام، فلو أنه ذهب ودخل البلد وتوضأ انقطعت حاجته لما هو متشوف لأجله، فإنه في هذه الحال يجوز له أن يتيمم، وأنا ضربت مثالاً واقعياً، وقل مثل ذلك في الاحتطاب: إذا كان يريد أن يحتطب، ومن المعلوم أن الاحتطاب أو الاحتشاش لا ينقطع، الاحتشاش باقي، والحطب باقي، لكن دخوله للبلد وصلاته يقطع عليه حاجته، فيجوز له أن يتيمم، أما إذا لم يكن ثمة حاجة أصلاً مثل الذين يخيمون في روضة إخريم أو في غيرها من الأماكن فلم يجد ماءً فنقول: ادخل البلد؛ لأن المسافة قصيرة، واحمل الماء؛ لأن بقاءك هنا سوف يستمر، وليس ثمة حاجة تفوت بدخولك فيما لو دخلت البلد.

قال المؤلف رحمه الله: [ أو زاد الماء على ثمنه أي: ثمن مثله في مكانه؛ بأن لم يبذل إلا بزائد كثيراً عادة ].

يقول المؤلف: إذا زاد ثمن الماء، مثل لو ذهبوا للبر، ومعهم مال، فرأوا رجلاً يبيع الماء، فقالوا: بكم؟ فبالغ في الثمن، فلا يلزمهم الشراء؛ لأنه زائد عن مثله في مكانه، فأما إذا كان المكان الذي وجدوه يُباع بهذا الثمن، وإن كان هو أعلى مما كان في بيوتهم أو بلدانهم، فإنهم يؤمرون بشرائه. الآن البنزين خارج البلد أكثر من البلد، والمشروبات الغازية وغيرها خارج البلد أعلى من البلد؛ فنقل الماء والمجيء به إلى المكان المعين ربما يشق، فإذا كان كذلك فهو مأمور أن يشتريه، والله تبارك وتعالى أعلم. وجزاكم الله خيراً.