الروض المربع - كتاب الطهارة [18]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

نسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين, وأن يمنحنا وإياكم رضاه, والعمل بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالتقوى.

أيها الإخوة! وصلنا إلى باب الغسل من كتاب الروض المربع, فلنقرأ.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب الغسل: بضم الغين الاغتسال: أي استعمال الماء في جميع بدنه على وجه مخصوص. وبالفتح الماء أو الفعل، وبالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره ].

(باب الغسل)، يعني بذلك: باب الأحكام المتعلقة بالغسل, وقوله: (بضم الغين), يعني: بذلك الاغتسال، وهو استعمال الماء في جميع البدن على وجه مخصوص.

وقوله: (على وجه مخصوص), يفيد أن الغسل قسمان:

القسم الأول: الاغتسال الكامل، وله صفة أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة في أمره عليه الصلاة والسلام الحائض إذا طهرت كيف تغتسل، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنها تتوضأ وضوءها للصلاة, ثم تغسل سائر جسدها, ثم تغسل رأسها حتى تبلغ به أصول شعرها, وهذا هو الصفة المخصوصة.

القسم الثاني: الغسل المجزئ، وهو أيضاً لا بد فيه من اشتمال الماء على سائر البدن؛ جاء في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب موقوفاً ومرفوعاً, والصواب وقفه: ( إن تحت كل شعرة جنابة, ألا فبلوا الشعر وأنقوا البشرة ), وهذا يدل على استيعاب سائر البدن بالماء, ثم المضمضة والاستنشاق على مذهب الحنابلة والحنفية خلافاً للشافعية والمالكية, وهذا معنى على وجه مخصوص: إما غسل كامل, وإما غسل مجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عمران بن حصين حينما نزل الماء أو جاءه الماء، قال للذي أصابته جنابة: ( خذ هذا فأفرغه عليك ).

اعلم أن مدار هذا الباب -أعني باب الغسل- على أحاديث:

أولاها: ما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما الماء من الماء ), وهل هذا الحكم منسوخ أم لا؟ خلاف عند أهل العلم, والأقرب -والله تبارك وتعالى أعلم- أن هذا الحديث نسخ بعض أحكامه وبقيت بعض الأحكام, فنسخ حال اليقظة؛ حيث إنه كان الرجل يأتي امرأته ويجامعها بيد أنه يكسل, يعني: لا ينزل, فكان يؤمر بأن يتوضأ, وهذا نسخ بحديث آخر -وهو المدار الآخر- حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان فقد وجب الغسل ) وحديث عائشة في الصحيحين: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ), وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة: ( وإن لم ينزل ) فهذا ناسخ لبعض أحكام حديث: ( إنما الماء من الماء ).

وأما حال النوم، وهو ما يسمى بالاحتلام فإن حديث: ( إنما الماء من الماء ), باق حكمه, فلا يؤمر بالاغتسال إلا أن يرى الماء, فلو رأى احتلاماً ولم ير بللاً فلا يغتسل، وقد حكاه ابن المنذر إجماعاً, ودليل النسخ -كما سوف يأتي- ما رواه سلمة بن الأكوع أنه قال: إن الفتيا التي يفتون ( إنما الماء من الماء ) إنما ذلك كان أول الإسلام.

إذاً: عندنا ثلاثة أحاديث: حديث أبي هريرة وحديث عائشة وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص .

الحديث الأول حديث: ( إنما الماء من الماء ), والحديث الآخر حديث أبي هريرة : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ... ), الحديث الثالث هو حديث عائشة وهو: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ), وهناك بعض الروايات أشارت فقط.

الحديث الآخر حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا فضخت الماء فعليك الاغتسال, وإن لم تفضخ الماء فليس عليك اغتسال ), وفي رواية ( إذا حذفت الماء فعليك الاغتسال ).

يقول المؤلف: (وبالفتح الماء), يعني: الغسل أو الفعل, يعني: حال ما يفعله الإنسان, وبالكسر الغسل؛ وهو ما يغسل به الإنسان من رأسه ونحو ذلك؛ من خطم ومن صابون ونحو ذلك, والخطم شجر معروف عند العوام؛ يستفاد منه في غسل الرأس أو غسل بعض الأشياء التي أحياناً يصعب إزالتها.

قال المؤلف رحمه الله: [ وموجبه ستة أشياء؛ أحدها: خروج المني من مخرجه دفقاً بلذة، لا إن خرج بدونها من غير نائم ونحوه ].

يقول المؤلف: (وموجبه), يعني: أسباب الغسل ستة, والضبط بهذا العدد لم يعرفه المؤلف بنص عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما عرفه بالاستقراء, وبما يحفظه ويعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله تعالى, على الخلاف بصحة الاستقراء من عدمه, وسوف تعلم أن هذا الاستقراء بناء على اختيار المؤلف, وإلا فإن المسألة ليس فيها إجماع, والأقرب أنها ليست ستة كما سوف يأتي بيانه.

الموجب الأول: خروج المني من مخرجه

هنا ذكر المؤلف أول الموجبات وهو: (خروج المني من مخرجه), خروج المني من مخرجه وهو الفرج، بإجماع أهل العلم على أن خروجه موجب للغسل, وحكي الإجماع غير واحد من أهل العلم, كابن قدامة وابن المنذر وابن هبيرة وغيرهم, وقول المؤلف: (من مخرجه) يفيد أن خروج المني من غير مخرجه المعتاد ليس فيه غسل, وهذا قول عامة أهل العلم خلافاً للشافعية.

وخروج المني من مخرجه لا يوجب الغسل إلا بشرطين:

الشرط الأول: أن يخرج دفقاً, ومعنى الدفق هو الانصباب والاندفاع, وقد جاءت رواية تبين هذا: ( إذا حذفت الماء ), والحذف هو الرمي, بأن يحصل خروج المني دفقاً، يعني: غلبة ودفعاً ورمياً.

والشرط الثاني: بلذة, فإن ذلك موجب للغسل؛ لحديث علي رضي الله عنه: ( إذا فضخت الماء فاغتسل, وإن لم تكن فاضخاً فلا تغتسل ), والحديث رواه الإمام أحمد وإسناده لا بأس به إن شاء الله, وصححه ابن خزيمة وابن حبان .

ويقول المؤلف: إن هذا الحكم -وهو الدفق واللذة- حال اليقظة وليس حال النوم, وحال اليقظة يخرج بذلك النائم, والمغمى عليه, وأما السكران فقد قالوا: إنه مثل اليقظان، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ فلو خرج من يقظان لغير ذلك، كبرد ونحوه من غير شهوة لم يجب به غسل، لحديث علي يرفعه: ( إذا فضحت الماء فاغتسل، وإن لم تكن فاضخاً فلا تغتسل ) رواه أحمد .

والفضخ هو خروجه بالغلبة، قاله إبراهيم الحربي . فعلى هذا يكون نجساً وليس بمذي، قاله في الرعاية. وإن خرج المني من غير مخرجه كما لو انكسر صلبه فخرج منه لم يجب الغسل ].

يقول المؤلف: (فلو خرج من يقظان لغير ذلك), يعني: لغير شهوة ولم يكن ذلك عن دفق فإن ذلك فلا يوجب الغسل, مثل أن يكون بعض الناس فيه مرض, فأحياناً بسبب مرض بالبروستات -كما يعرفه الأطباء- يخرج منه مني, وليس ودياً؛ لأن الودي يخرج قبل البول أو أثناء البول, أو بعد البول، ولكن المني أحياناً يخرج ولو من غير بول, فيقول المؤلف: إن خرج من غير دفق ومن غير شهوة, ولم يذكر المؤلف الدفق, يقول: لأن العبرة بالشهوة, فمتى وجدت الشهوة وخرج فلا بد أن يكون دفقاً, والأمر إنما هو نوع توضيح وزيادة عبارة.

على كل حال لو خرج بلا شهوة فإن الحنابلة يقولون: لا يوجب الغسل, وليس مذياً, ويأمرونه بغسل ثيابه؛ لأنه نجس, هذا المذهب؛ أن المني إن خرج بشهوة فهو طاهر, وإن خرج بلا شهوة فهو نجس, والذي -يظهر والله تبارك وتعالى أعلم- أن المني ليس بنجس؛ لأنه ليس ثمة فرق بين خروجه بشهوة وخروجه من غيرها؛ لأن تعليق خروجه بشهوة من عدمها إنما هو مناط في حق المغتسل وليس في حق الطهارة؛ فخروجه بشهوة أو من غير شهوة إنما هو موجب للاغتسال من عدمه، لكن لا علاقة له بطهارته من عدمه, فإذا انتقل فإن الراجح أنه لا يوجب الغسل, ولكن لو خرج وجب عليه الاغتسال ولو لم يكن بشهوة؛ لأن أصل هذا الماء إنما هو بسبب شهوة سابقة, ومع ذلك خرج بلا شهوة, وهو طاهر.

قال المؤلف رحمه الله: [ وحكمه كالنجاسة المعتادة ].

يقول: (حكمه حكم النجاسة المعتادة), والأقرب أن المني طاهر بأي مخرج كان، هذا الذي يظهر والله أعلم؛ لأنه أصل مادة الإنسان, وقد قال ابن عباس: إنما المني بمنزلة البساق والمخاط, وإنما يكفيك أن تميطه عنك ولو بأذخرة, والحديث رواه البيهقي ، وروي مرفوعاً، والصواب وقفه.

البلل الذي يراه المستيقظ من نومه

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن أفاق نائم أو نحوه يمكن بلوغه، فوجد بللاً .. ].

يقول المؤلف: (إن أفاق نائم ونحوه), ونحو النائم المغمى عليه, وبعضهم يقول: المجنون, والمجنون له شهوة, وربما تزوج, فالأقرب هو النائم والمغمى عليه ومن في حكمهما.

يقول: (يمكن بلوغه, كابن عشر سنين أو اثنتي عشرة سنة), هذا يمكن بلوغه, أما دون العشر فلا, هكذا قال المؤلف؛ لأن خروجه دون العشر مع النوم يعلم أن مثله لا يحصل منه شهوة, فلم يعلق به حكم؛ جرياً على العادة, والعادة محكمة.

يقول المؤلف: (فوجد بللاً), يعني: هذا الرجل الذكر أو الأنثى الذي يمكن منه البلوغ من عدمه إذا وجد بللاً يقول المؤلف: إن هذا الحكم يختلف, وهم علقوا على إمكان البلوغ وهو ابن عشر, هكذا قالوا, وينبغي أن يقيد ذلك بعشر إذا كان ذكراً, وأما إن كان أنثى فبتسع سنين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن ( الجارية إذا بلغت تسع سنين فهي امرأة ), ومن المعلوم أن المرأة ربما تبلغ وهي بنت تسع سنين, ويحصل منها الاحتلام, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قالت له أم سلمة : ( أو تحتلم المرأة يا رسول الله؟ قال: نعم, فمن أين يكون الشبه ), ولهذا نقول: كابن عشر أو اثنتي عشرة سنة في حق الذكر, أو تسع في حق النساء.

قال المؤلف الله: [ فإن تحقق أنه مني اغتسل فقط ولو لم يذكر احتلاماً ].

يقول: إن تحقق لك أن هذا البلل مني وجب عليك الاغتسال سواء تذكرت احتلاماً أم لم تتذكر, فمتى ما تحققت أن هذا البلل هو مني وجب عليك الاغتسال فقط, ولا تؤمر بإزالة هذا؛ لأنه طاهر, سواء تذكرت احتلاماً أو لم تتذكر, رأيت احتلاماً أو لم ترى, وتحقق كونه منياً يعرف بعلامات, منها كثرته ورائحته حيث إن رائحته كرائحة الطلع أو كرائحة صفار البيض, فالغالب أن المذي ليس كثيراً, ولكن المني أكثر, والغالب أن المذي لا يكون له جرم, ولكن المني يكون منتشراً وله جرم, فإذا تحقق لك ذلك فاغتسل، ولا تقل: لم أرى احتلاماً, ومعنى الاحتلام هو تذكر إتيان الرجل أهله، أو حصول شهوة حال النوم.

هذه الحالة الأولى, وهو تحقق أن يكون منياً, فيأمرك الشرع بأن تغتسل، سواء تذكرت احتلاماً أو لم تتذكر, لحديث: ( إنما الماء من الماء ).

لحالة الثانية: قال المؤلف رحمه الله: [ وإن لم يتحققه منياً، فإن سبق نومه ملاعبة أو نظر أو فكر أو نحوه أو كان به أبردة لم يجب الغسل ].

يقول المؤلف: (إن لم يتحققه منياً), يعني: لم يتأكد أنه مني, فلم يكن له رائحة, ولم يكن كثيراً, فإن المؤلف يقول: (نظرت), فكأنه يسألك، فيقول: هل سبق نومك ملاعبة مع زوجتك؟ أو كنت تنظر إلى شيء؟ أو كنت تفكر في مثل هذه الحال؟ أو نحو ذلك من الأشياء, فإن حصل مثل هذا, يعني: ملاعبة أو مداعبة أو فكر أو نظر فوجدت بللاً، ولم تتحققه منياً فإن الغالب أن يكون مذياً, بالذال, الغالب أن يكون مذياً, قال: لأن الغالب أن الإنسان إذا داعب أو تفكر فإن المذي يخرج حال فتور الشهوة, أو كان زمن برد, فالغالب أن البرد يحصل معه انتشار, فالمؤلف يقول: إن المذي أحياناً يخرج حال فتور الشهوة, فلربما حال فتورها وأنت نائم خرج من ذكرك بعض الشيء ولم تتحقق كونه منياً أم لا، فيجب عليك أن تغسل أو تنضح ثوبك، وتغسل ذكرك كما مر معك في حكم خروج المذي, وهو غسل الذكر والوضوء ونضح الثياب.

قال المؤلف رحمه الله: [ وإلا اغتسل، وطهر ما أصابه احتياطاً ].

يقول: (وإلا), يعني: إن لم يتحققه منياً، ولم يسبق ذلك ملاعبة أو مداعبة أو فكر, ولم يتذكر احتلاماً فإن المؤلف يقول: يغتسل ويطهر ما أصابه من ثوبه احتياطاً, يغتسل احتياطاً أن يكون منياً, ويطهر ما أصابه من ثيابه احتياطاً أن يكون مذياً.

إذاً: الأحوال ثلاثة:

الحال الأولى: أن يتحققه منياً, سواء تذكر احتلاماً أم لا, فإن العلماء يقولون: يغتسل.

الحال الثانية: أن يتحقق أنه ليس بمني, فحينئذ لا يكون منياً, ولكن يغسل ما أصاب ثوبه ويغسل ذكره ويتوضأ, فيكون مذياً.

الحال الثالثة: أن يجهل, يعني: لا يعلم هل هو مني أو مذي, فيقال لك: هل سبقه ملاعبة أو تفكر ونحو ذلك؟ فإن سبق ذلك فهذا مذي, وإن لم يسبق فمحل خلاف, ذهب المؤلف إلى الاحتياط؛ وهو الاغتسال وغسل ما أصاب من الثوب لاحتمال أن يكون منياً فيأخذ أحكام المني, واحتمال أن يكون مذياً فيأخذ أحكام المذي, وقيل: لا يجب؛ لأن الأصل براءة الذمة, بعض العلماء يقول: يغتسل احتياطاً, وبعضهم يقول: لا يغتسل؛ لأن الأصل براءة الذمة.

وفيه إشكال لو قلنا إن الأصل براءة الذمة؛ لأن خروجه خارج عن الأصل, فلا يقال: إن الأصل براءة الذمة؛ لأنك تقول: هو ماء داخل باطن الثياب، وليس خارجه, فهو قطعاً إما أن يكون منياً, وإما أن يكون مذياً, وكلاهما خارج عن الأصل, والأصل هو البراءة, وأما هذا فهو خارج عن الأصل, فإذا ألحقته بأيهما فقد أخرجته عن الأصل, فلا نقول: هو باق على الأصل, ولهذا يظهر -والله أعلم- أنه يغتسل وأن يغسل ما أصاب من ثيابه على مذهب الحنابلة, فإن قيل: عمن أخذتم هذا؟ قلنا: عن محمد صلى الله عليه وسلم, وذلك بقوله: ( وإذا رميت بسهمك فوقع الصيد بالماء فلا تأخذه؛ لأنك لا تدري: أسهمك قتله, أم مات غريقاً ), كما في حديث أبي ثعلبة الخشني , فهذا يفيد وجود أمرين خارجين عن الأصل, الأصل سلامته، لكنه خرج عن الأصل بالوفاة, ولكننا لا ندري هذه الوفاة بسهم أو بالماء, فأمر العبد أن يترك هذا الأمر احتياطاً, ونحن نقول: نحن برؤيتنا هذا البلل خرجنا عن الأصل، ولكن أشكل علينا: هل هو مني فنغتسل, أو هو مذي فنتنظف ونغسل الذكر, والاحتياط فيهما هو فعل أحدهما, ولعل هذه المسألة من المسائل التي تفعل جميعها, خلافاً لمن قال عندما قال الحنابلة: إذا اختلط ماء طاهر وطهور يتوضأ من هذا وهذا, حيث قال بعضهم: لا يمكن أن يوجد هذا في الشرع, فلعل هذا منها, والله تبارك وتعالى أعلم.

انتقال المني من محله

يقول: (إن انتقل المني) يعني: بعض الناس ربما يستدعي خروج المني كمن يستمني بيد زوجته ثم يتوقف، ويحس أن الماء انتقل من صلبه, فإن المذهب عند الحنابلة يقولون: إن انتقل من صلبه أو أحس بانتقاله فإنه يجب عليه الغسل وإن لم يخرج شيء, هذا من مفردات الحنابلة؛ قالوا: لأن الأصل في الجنب هو البعد والمباعدة, فإذا أحس بانتقاله فقد باعد محله, وصدق عليه اسم الجنب.

والقول الثاني وهو قول عامة أهل العلم, واختيار ابن قدامة : أن مجرد الانتقال مع عدم خروج الماء لا يوجب الاغتسال؛ لحديث: ( إنما الماء من الماء ), وحديث: ( إذا فضخت فاغتسل ), وهذا واضح, ثم إن وجوب الاغتسال بدعوى أنه باعد محله عنه: ليس اشتقاق الجنب بانتقال الماء عن محله بأولى من تسمية الجنب باجتنابه الصلوات, واجتنابه العبادة, واجتنابه الماء.

قال المؤلف رحمه الله: [ ويحصل به البلوغ ونحوه مما يترتب على خروجه ].

يقول المؤلف: كل حكم تعلق بإنزال المني فيصدق عليه انتقاله؛ كل حكم تعلق بإنزال المني من بلوغ ومن فطر وإفساد صوم يحصل بانتقال المني, هذا المذهب, والراجح -كما مر-أن العبرة بخروج المني.

الاغتسال لخروج المني بعد الاغتسال

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن خرج المني بعده -أي: بعد غسله لانتقاله- لم يعده؛ لأنه مني واحد فلا يوجب غسلين ].

هذا واضح, لكن على القول الراجح أنه لا يجب الاغتسال إلا بالخروج إن خرج بلا شهوة هل يؤمر بالاغتسال؟ نقول: نعم يؤمر بالاغتسال؛ لأن هذا المني إنما جاء عقب شهوة سابقة فيؤمر بالاغتسال, وقال بعضهم: إنما نص أحمد على الاغتسال بمجرد الانتقال؛ لأنه يرى أن مجرد الانتقال لازم منه الخروج ولو بعد حين, فكأنه أمره تنشيطاً لبدنه, وإلا فإن الخروج حاصل ولو بعد زمن.

على كل حال أحياناً لا يخرج شيء, والعبرة بحصول الخروج, فعلى هذا فإن أحس بانتقاله ولم يخرج ثم خرج بعد أمرناه بالاغتسال؛ لحديث ( إنما الماء من الماء ).

الموجب الثاني: الإيلاج

قال المؤلف رحمه الله: [ والثاني: تغيب حشفة أصلية أو قدرها إن فقدت وإن لم ينزل في فرج أصلي؛ قبلاً كان أو دبراً وإن لم يجد حرارة ].

يقول المؤلف: (الثاني -من موجبات الغسل- تغيب حشفة أصلية), وقوله: (أصلية), يعني: أن هذا الذكر أصلي؛ ليخرج بذلك الخنثى المشكل الذي له آلتان: آلة أنثى وآلة ذكر, ولا يعلم أيهما الأصلي, هكذا أراد المؤلف, والآن في هذا الزمن في الطب لا يوجد خنثى مشكل, إلا من عاش في البراري ولم يعلم حاله, وهو نادر.

يقول المؤلف: (تغيب حشفة أصلية أو قدرها إن فقدت), يعني: الحشفة, كمن يكون مجبوباً حشفته, وإن لم ينزل لحديث أبي هريرة : ( إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان فقد وجب الغسل، وإن لم ينزل ).

يقول المؤلف: (في قبل أصلي), سواء كان قبلاً أو دبراً, والعلماء حينما يذكرون هذا لا يقصدون حل ذلك من عدمه, إنما يقصدون الوقوع لا الجواز, يعني: جواز الوقوع لا جواز الفعل.

قال المؤلف رحمه الله: [ فإن أولج الخنثى المشكل حشفته في فرج أصلي ولم ينزل أو أولج غير الخنثى ذكره في قبل الخنثى فلا غسل على واحد منهما إن لم ينزل ].

لأن الخنثى إذا أولج بقبل أصلي فإن هذا ليس أصلياً, ولو أن ذكراً أصلياً أولج في قبل خنثى مشكل فلا يجب الغسل؛ لأن أحدهما في كل صورة ليس أصلياً, لكن إن حصل إنزال وجب الغسل بالإنزال لا بغيره.

قال المؤلف رحمه الله: [ ولا غسل إذا مس الختان الختان من غير إيلاج ].

قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا مس الختان الختان ), ليس معناه على ظاهره, ولكن مقصوده إذا تغيبت الحشفة في قبل المرأة, وإلا فمن المعلوم أن مس ختان الذكر بختان الأنثى لا يحصل فيه إيلاج؛ لأن ختان المرأة هي إزالة الجلدة التي كهيئة عرف الديك وتكون أعلى قبلها, وهي ليست في مكان مخرج الذكر, بخلاف الرجل فإن حشفته القلفة التي تكون من أسفل فتقطع, وهذا مراد أهل العلم، وقد نقلوا الإجماع أن مس الختان الختان ليس على ظاهره، ولكن المقصود هو الإيلاج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا جاوز الختان الختان ).

قال المؤلف رحمه الله: [ ولا بإيلاج بعض الحشفة ].

يعني: لو أنه أولج بعض حشفته فلا يلزمه غسل؛ لأنه لا يصدق عليه أنه جاوز ختانه ختان المرأة, والشارع إنما قال: ختان المرأة، دليل على أن المرأة تختتن, وقيل: إن ذلك كناية من الشارع.

قال المؤلف رحمه الله: [ ولو كان الفرج من بهيمة أو ميت أو نائم أو مجنون أو صغير يجامع مثله، وكذا لو استدخلت ذكر نائم أو صغير أو نحوه ].

يقول المؤلف: إن الفرج سواء كان فرج بهيمة أو ميت, أما الميت فلا إشكال إن شاء الله, فلو أن رجلاً اغتصب امرأة مثلاً وأماتها ثم جامعها وجب عليه الاغتسال؛ لأنه يصدق عليه أنه غيب حشفته في قبل أصلي, وأما لو كانت بهيمة فالذي يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه لا يجب الاغتسال؛ لأن البهيمة كما قال أبو حنيفة : ليست بمنصوص عليها ولا في معنى المنصوص, وهو قول محمد بن شهاب الزهري وغيرهما.

أما إذا كان نائماً أو مجنوناً أو صغيراً يجامع مثله أو يجامع مثله -كلاهما صحيح؛ لأنك إذا بنيته للفاعل صار ذكراً, وإذا بنيته للمفعول صار أنثى- وجب الغسل، وكذلك إذا استدخلت ذكر نائم أو صغير ونحوه وجب عليها الاغتسال، ووجب على النائم كذلك إذا كان يجامع مثله, أو يجامع مثله.

نقف عند هذا والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الاغتسال من الإيلاج في فرج بهيمة أو ميت أو صغير

قال المؤلف رحمه الله: [ ولو كان الفرج من بهيمة أو ميت أو نائم أو مجنون أو صغير يجامع مثله، وكذا لو استدخلت ذكر نائم أو صغير أو نحوه ].

يقول المؤلف: أن الفرج سواء كان فرج بهيمة أو ميت, أما الميت فلا إشكال إن شاء الله, فلو أن رجلاً اغتصب امرأة مثلاً وأماتها، ثم جامعها قسوة في قلبه، نقول: يجب عليه الاغتسال؛ لأنه يصدق عليه أنه غيب حشفته في قبل أصلي, وأما لو كانت بهيمة فالذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أنه لا يجب الاغتسال؛ لأن البهيمة كما قال أبو حنيفة : ليست بمقصود، وليست في معنى المنصوص, وهو قول محمد بن شهاب الزهري وغيرهما.

طيب، أما إذا كان نائماً أو مجنوناً أو صغيراً يجامع مثله أو يجامع مثله -كلاهما صحيح؛ لأنك إذا بنيته للفاعل صار ذكراً, وإذا بنيته للمفعول صار أنثى- وجب الغسل، وكذلك إذا استدخلت ذكر نائم أو صغير ونحوه وجب عليها الاغتسال، ووجب على النائم كذلك إذا كان يجامع مثله, أو يجامع مثله.

نقف عند هذا والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على محمد.