الروض المربع - كتاب الطهارة [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

تحدثنا عن الماء النجس، وذكرنا كيفية تطهيره، ووقفنا عند كيفية تطهيره إذا كان الماء النجس وقعت فيه نجاسة، وهذه النجاسة غير البول، والعذرة المائعة أو اليابسة التي ذابت في الماء، وقلنا: إن طريقة تطهيره على ثلاثة أحوال -ونقصد بذلك إذا كان الماء النجس كثيراً- وهذه الأحوال هي:

الحال الأولى: إضافة ماء كثير طهور.

الحال الثانية: تغير النجاسة بنفسها، يعني: تزول النجاسة حتى لا يبقى في هذا الماء لون ولا طعم ولا رائحة من النجاسة.

الحال الثالثة: بنزح النجاسة بحيث يبقى بعده طهور كثير لم يتغير بالنجاسة.

وقلنا: إذا كان الماء النجس قلتين فلا يمكن تطهيره إلا بإضافة ماء طهور، أو بتغير النجاسة بنفسها، أو بتغير الماء بنفسه، ولا نقول: بنزح؛ لأنه إذا نزح وبقي بعده قليل فإن هذا القليل عند الحنابلة ينجس بمجرد الملاقاة، وليس له قوة بحيث يطهر نفسه.

بقي عندهم حال واحدة وهي قوله: [ وإن كان النجس قليلاً أو كثيراً مجتمعاً من متنجس يسير ].

إذاً نقول: نستطيع أن نقسم على مذهب الحنابلة المتقدمين أن وقوع النجاسة في الماء له ثلاثة أحوال:

الحال الأولى: وقوع نجاسة غير البول والعذرة في الماء.

الحال الثانية: وقوع نجاسة بول أو عذرة مائعة في الماء.

الحال الثالثة: قول المؤلف: [ وإن كان النجس قليلاً أو كثيراً مجتمعاً من متنجس يسير ].

صورة المسألة: عندنا ماء نجس سواء كان هذا الماء النجس قليلاً أو كثيراً؛ لكن كيف جمع؟ جيء بقلة ماء فيها نجاسة، وهذه النجاسة بمجرد ملاقاتها لهذا الماء الذي بمقدار القلة يكون حكم نجساً، ثم جيء بقلة أخرى فيها ماء فبمجرد وقوع النجاسة في هذا الماء يكون نجساً، ولا ينظر إلى التغير، ثم جمعت القلتان، فيكون هذا الماء الكثير النجس مجتمعاً من متنجس يسير، فيكون هذا قلتين.

ولو جيء بقلة وقعت فيها نجاسة أخرى، فأضفناها فتكون ثلاث قلال، ثم جيء بقلة رابعة، ولو كانت الآن ليست نجسة فأضيفت، فيكون هذا الماء نجساً، وهو أكثر من قلتين، يقول المؤلف: هذا الماء لا يطهر بالنزح، ولو كان خمس قلال فلا يطهر بالنزح، ولا يطهر بنفسه، قالوا: لأن المتنجس من ماء يسير كل قلة منها تضعف أن تطهر نفسها؛ لأنها ماء يسير وقعت فيه نجاسة، فإذا اجتمع هذا الماء فإن كل واحدة منها تضعف أن تطهر نفسها، وبالتالي لا بد أن يكون التطهير عندهم في حالة واحدة فقط؛ وهي إضافة ماء طهور كثير مع زوال النجاسة إن كان، فأما لو لم تزل النجاسة فلا يطهر. فهذه الحال الثالثة لا يمكن التطهير فيها إلا بحالة واحدة؛ وهي إضافة ماء طهور كثير مع زوال النجاسة إن كان.

وقفنا إلى قوله: [ تنبيه! محل ما ذكر ]، وهي الحال التي نسميها الحال الثانية؛ لأننا ذكرنا ثلاثة أحوال: وقوع نجاسة غير بول وعذرة، أو وقوع نجاسة بول وعذرة، أو كان النجس قليلاً أو كثيراً مجتمعاً من متنجس يسير. وذكرنا أن وقوع النجاسة غير البول والعذرة تطهيرها على حالتين، إن كان قلتين.

وإن كان أكثر من قلتين فتطهيره على ثلاثة أحوال.

الآن عندنا وقوع نجاسة بول أو عذرة، وهذا التقسيم على مذهب الحنابلة المتقدمين والمتوسطين، أما المتأخرون فإنهم لا يفرقون بين البول والعذرة وبين سائر النجاسات، وهذا بناءً على القول المرجوح، وإلا فالراجح: أن النجاسة عين خبيثة متى ما زالت زال حكمها، سواء كان الماء قليلاً أو كثيراً، مجتمعاً من متنجس يسير، أو من غير مجتمع، وسواء كان بولاً أو عذرة، أو غير بول أو عذرة، هذا على القول الراجح، وقلنا: هذا هو مذهب الحنفية، ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. محل ما ذكر إن لم تكن النجاسة بول آدمي أو عذرته، فتطهير ما تنجس بهما من الماء إضافة ما يشق نزحه إليه ].

الآن طريقة تطهير الماء النجس الذي وقع فيه بول آدمي أو عذرته كما يقول: (فتطهير ما تنجس بهما من الماء إضافة ما يشق نزحه إليه)، وقد مر معنا أن وقوع النجاسة التي هي البول أو العذرة على الماء تنجسه، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وهذا مذهب الحنابلة المتقدمين.

يقولون: ولا يكون طاهراً أو طهوراً بمجرد ملاقاته بول آدمي أو عذرته، ولو كثيراً إلا في حالة واحدة؛ إذا كان مما يشق نزحه، وقلنا في شرحنا: (مما يشق نزحه)، كمصانع طريق مكة، وهي المجابي، والجب الذي يكون تحت الأرض التي نسميها البير، العوام يقولون: جاء نجم أو شهاب فضرب الأرض، فوقع ماء، وتكون حفراً فليست بئراً قد حفرت بطريقة معتادة، ولكنه جبال، يقولون: هذا يشق نزحه، ما نستطيع، فالأصل أن وقوع نجاسة البول أو العذرة فيه لا تنجسه؛ لأنه يشق نزح هذه النجاسة، إلا إذا كان قد تغير بلون أو طعم أو ريح، فكيف يطهر هذا؟ قالوا: (فتطهير ما تنجس بهما من الماء إضافة ما يشق نزحه إليه)، يعني: نأتي بشيء يشق نزحه يعني: لو وضعناه يشق إخراجه؛ لأن الدخول فيه صعب.

وهذا كما قلت: إن الإنسان أحياناً يلتزم بقواعد لا يستطيع أن ينفك عنها، ويدخل في التزامات ربما لا يكون مقتنعاً بها، ولأجل هذا قال الغزالي : وددت لو أن مذهب الشافعي كمذهب مالك ؛ لمشقة الحاجة، ولما يثار فيها من الوسواس، والأصل أنه لا فرق بين البول والعذرة، ولا بين سائر النجاسات، والأصل أن النجاسة -كما هي اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية و ابن سعدي و شيخنا ابن باز وشيخنا محمد بن عثيمين وغيرهم من المشايخ- هي خبيثة متى ما زالت زال حكمها، سواء كان الماء قليلاً أو كثيراً، إلا أنه إذا كان الماء قد وقعت فيه نجاسة -وهو قدر الإناء- فالأولى أن يتجنبه الإنسان؛ لأن الغالب أن النجاسة تؤثر فيه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو نزح يبقى بعده ما يشق نزحه، أو زوال تغير ما يشق نزحه بنفسه ].

هذه الحال الثالثة في التغير: أو زال تغير بنفسه، فإنهم يقولون: يطهر، إذا نزح بإضافة ماء يشق نزحه، أو نزح يبقى بعده ما يشق نزحه.

الحال الثالثة: أو زوال تغير ما يشق نزحه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن شك في نجاسة ماء أو غيره من الطاهرات ].

المؤلف بعد أن انتهى من مسألة كيفية تطهير الماء النجس شرع في مسألة وقوع الاشتباه في ماء طهور ونجس، وقبل الشروع في هذا يجب أن تعلم أن الحنابلة يرون أن تطهير الماء النجس إنما هو في الماء فقط، وأما وقوع النجاسة في المائعات غير الماء فإنه لا يطهر أبداً، فلو كان عندك قلتان من العسل، أو كان عندك قلتان من زيت الزيتون، فوقعت فيه فأرة، فماتت فيه، فإنهم يرون أن هذا الزيت فسد، فلا يطهر لا بنزح ولا بإضافة زيت زيتون كثير عليه، ولا بالتغير بنفسه، فيقولون: لا يمكن تطهيره، ولا ينفع لا في شرب، ولا في أكل، ولا في أي شيء، وإنما يكون في حكم الماء المتنجس، واستعماله يكون على قاعدة استعمال الماء المتنجس، ويرون أن هذا لا يستعمل؛ لأنهم يجوزون -أي: الحنابلة- اليابس، يعني: وقوع ثوب يابس فإنه يجوز استعماله، أما المائع فلا.

والراجح وهو الرواية الأخرى عند الحنابلة، وهو أيضاً اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، على أن وقوع النجاسة لا فرق فيها بين الماء وغيره من المائعات، بمعنى: أنه يمكن تطهيره -وإن كان الماء تطهيره أسرع- ودليل الجواز ما ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تقع في الدهن، أو في السمن، فقال صلى الله عليه وسلم: ( ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم )، هذه طريقة التطهير بالنزح.

وأما رواية: ( إن كان مائعاً فاجتنبوه، وإن كان يابساً فألقوها وما حولها ) فهذه الرواية منكرة، أنكرها البخاري وغير واحد من أهل العلم، والآن الحمد لله هناك طرق جديدة في تطهير مثل هذه المائعات.

الشك في طهارة ونجاسة الماء وغيره

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن شك في نجاسة ماء أو غيره من الطاهرات ].

يعني: عندنا إناءان: إناء طهور، وإناء نجس، ولكننا لا نعلم أيهما الطهور، وأيهما النجس.

قوله: (أو غيره) يعني: غيره من الطاهرات، مثال ذلك: عندنا ثوب نظيف، وثوب وقعت فيه نجاسة، لا نعلم أي الثوب الذي وقعت فيه نجاسة، هذا هو الاشتباه.

يقول المؤلف: [ أو شك في طهارته -أي: طهارة شيء- علمت نجاسته ].

طريقتها عندي ثوب أنا أعلم أنه طاهر، فوجدت فيه بقعة، فهذه البقعة التي وقعت بهذا الثوب شككت فيها هل هي نجسة أم لا؟ فأبني في هذه الحال على اليقين، فالأصل أن الثوب طاهر.

أو العكس: ثوب نجس، وشككت هل غسل أم لا؟ ولم أر هذه النجاسة، ولا أدري، فإن الحنابلة يقولون: الأصل النجاسة، وقل مثل ذلك في الماء، فإذا كنت تعلم أن الماء طهور، فوقع فيه شيء كروثة، وشككت في هذه الروثة ما تدري من أين، هل هي روثة حمار أو روثة ما يؤكل لحمه؟ فنقول: ما هو الأصل عندك في هذا الماء؟ قال: الأصل عندي أن الماء طهور، قلنا: لا تؤثر؛ لأنك تبني على اليقين، وهذه قاعدة مهمة في الشرع؛ وهي استصحاب الحالة المعلومة المتيقنة واطراح الشك المظنون، والقاعدة: أن اليقين لا يزول بالشك، وأن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين مثله.

قال المؤلف رحمه الله: [ أو شك في طهارته أي: طهارة شيءٍ علمت نجاسته قبل الشك بنى على اليقين الذي علمه قبل الشك، ولو مع سقوط عظم أو روث شك في نجاسته ].

يعني: وقوع هذه الروثة أو وقوع هذا العظم، ما يدري هل هو عظم من ميتة، أم من مذبوح، وهل من حمار أو من بعير ونحو ذلك؟ والأصل أنه يبني على استصحاب الحال المعلومة المتيقنة.

قال المؤلف رحمه الله: [ لأن الأصل بقاؤه على ما كان عليه ].

هذه معروفة عند العلماء، يسمونها استصحاب البراءة الأصلية؛ استصحاب الحال، وهذا فيما إذا شك في النجاسة، فنقول: ابن على الأصل، وهو البراءة؛ لكن إذا كان عنده أن الأصل النجاسة، فنقول: ابن على الأصل، وهو استصحاب الحال وهي النجاسة.

هذا اليقين عند الحنابلة لا فرق فيه بين الماء، ولا بين غيره من المائعات، في حين أنهم قالوا: إن ثمة فرق في تطهير الماء إذا وقعت فيه نجاسة من غيره من المائعات، وقلنا: إن الراجح أنه لا فرق.

مدى قبول إخبار العدل بالنجاسة المشكوك فيها

قال المؤلف رحمه الله: [ وإن أخبره عدل بنجاسته، وعين السبب لزم قبول خبره ]، بمعنى: أنه لو كان عنده ماء طهور، فوجد روثة، لا يعلم من أين، فنقول: الأصل البراءة؛ لكن لو أخبره عدل بنجاسته، كأن يقال له: هذا الماء نجس، وأن حماراً مر على مائك ووقعت فيه روثة من هذا الحمار، الآن بين السبب وعينه، فيلزم قبوله، لا يقول: لا، لم يتأثر، بل يلزمك قبوله.

وقالوا أيضاً وهي الرواية الأخرى: ولو لم يبين السبب، فلو قيل له: هذا بول أو عذرة، أو روثة حمار، ولم يبين السبب، فيلزمه قبوله، إن كان مستور الحال ليس عدلاً، وبين السبب، فلا شك أن قبوله واجب؛ لأن الأصل أن المسلم لا يكذب، أما إن لم يبين السبب فلربما كان ذلك عن اجتهاد، وكثيرون هم الذين يجتهدون أحياناً من غير علم ولا بيان سبب، ففي هذه الحال لا نزيل اليقين المعلوم واستصحاب الحال بدعوى، والدعاوى ما لم يقم عليها بينات فأصحابها أدعياء.

أما إن أخبره عدل ويعلم أن مثله لا يتحدث إلا عن علم، فحينئذٍ يلزمه قبوله.

وهل يلزم السؤال؟

يعني: رأى ناساً عند الماء، فسأل: يا ناس! هل هذه الروثة من حمار؟ أتعلمون؟ هل يلزم السؤال؟ نقول: لا يلزم السؤال؛ بل نص الحنابلة على الكراهة بالسؤال، كما روى مالك و البيهقي أن عمر رضي الله عنه مر هو وصاحبه -في بعض الروايات عمرو بن العاص - فوقع عليهم ماء من ميزاب، فقال صاحب عمر : يا صاحب الميزاب! من أين هذا الماء؟ قال عمر : لا تخبرنا بذلك، يعني: أن هذا من التكلف؛ لكنهم قالوا: إذا كان الشخص يعلم نجاسة ذلك الماء فيجب إخباره، أما من لم يعلم فإنه يسكت، فحينئذٍ عندنا حالتان: حال سؤال، فلا يجب السؤال، وحال علم من غيره، فإن كان يعلم النجاسة وجب الإخبار، والله أعلم.

اشتباه الطهور بالنجس

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما إن لم يمكن تطهير النجس ].

الآن عندنا إناءان: إناء طهور، وإناء نجس، يقول الحنابلة: (وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما)؛ قالوا: لأنه لا يمكن اجتناب النجاسة إلا بترك الجميع، ولو قلنا بأنه يتوضأ من هذا مرة ومن هذا مرة، فيكون قد توضأ قطعاً بنجس، وهنا يرى الحنابلة أنه لا يمكن التحري، فأخذوا بناءً على الأصل؛ وهو أنه يجتنب.

والقول الثاني وهو مذهب الشافعية والحنفية، ورواية عند الإمام أحمد اختارها ابن تيمية : أنه إذا أمكن التحري فواجب لأدلة منها:

أولاً: لما جاء في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتحري في قوله: ( فإذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى، فليتحر الصواب وليبن عليه ).

الدليل الثاني: قالوا: إن الشريعة قد قامت على اليقين، أو غلبة الظن، وغلبة الظن كثيرة في الشريعة، ولو لم نأخذ بغلبة الظن لتركنا أحكاماً كثيرة، ولا شك أن هذا القول أرجح.

ودليل الحنابلة في قولهم: (وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما)، هو حديث: (إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فوجدت مع كلبك كلباً غيره، فلا تأكله، لأنك لا تدري أكلبك قد صاد أم كلب غيرك، وإذا أرسلت سهمك وذكرت اسم الله، فوقع على ماء فوجدته غريقاً فلا تأكل؛ لأنك لا تدري أسهمك قد قتله أم لا)، قالوا: وهنا نقول: يجتنب كهذا.

والجواب على هذا أن نقول: إنه ثمة فرق بين اشتباه الطهور بالنجس، وبين تعارض المبيح والمحظور؛ لأن الأكل الأصل فيه الحرمة، والمياه الأصل فيها الحل والطهورية، فنبني على اليقين هنا، ونبني على اليقين هنا، أو نتحرى؛ لأنه ليس عندنا يقين فنتحرى في المياه، وهذا هو الراجح والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن اشتبه طهور بنجس حرم استعمالهما إن لم يمكن تطهير النجس بالطهور ].

يعني: عندنا مثلاً: إناءان نعرف أن أحدهما نجس والآخر طهور؛ لكن ما ندري أيهما؟ فنقول: نأخذ هذا بذلك فنجمعهما، إذا كان يمكن تطهيره، مثل: ماء كثير طهور بماءٍ نجس، ويمكن تطهيرهما بزوال تغيره بنفسه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن أمكن بأن كان الطهور قلتين فأكثر، وكان عنده إناء يسعهما، وجب خلطهما واستعمالهما ولم يتحر. أي: لم ينظر أيهما يغلب على ظنه أنه الطهور فيستعمله، ولو زاد عدد الطهور، ويعدل إلى التيمم إن لم يجد غيرهما ].

قول المؤلف: إن اشتبه طهور بنجس، ولم يعلم أي الطهور، فإنه يجتنبه ولا يتحرى، هذا رد على الشافعية، حيث قالوا: لا يتحرى، والصحيح أنه يتحرى.

قال المؤلف: (ولو زاد عدد الطهور، ويعدل إلى التيمم) يعني: الآن عدوله إلى التيمم مع الاشتباه كالعجز عن استعمال الماء، العدول إلى التيمم مع الاشتباه كفقد الماء الطهور؛ ولهذا قال: (ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا يشترط للتيمم إراقتهما ولا خلطهما ].

قول المؤلف: إن اشتبه طهور بنجس، فعند الحنابلة يحرم استعمالهما، فصار مجرد الاشتباه كالعدم من وجود الماء الطهور، يقول المؤلف: إنه لا يلزم من التيمم خلط هذين الماءين، ولا إراقتهما؛ حتى نعلم يقيناً بعدم وجود ماءٍ طهور؛ لأن مجرد الاشتباه كافٍ بقولنا: أنه ليس ثمة ماء طهور موجود، ولا شك أننا إذا حرمنا استعمال هذا الماء، فكأنه ليس عندنا ماء طهور، ولا يلزم بالإراقة ولا الخلط؛ لأنه يمكن معرفة النجس من الطهور بعد ذلك، ولا شك أن إراقتهما إفساد لهما، والراجح أيضاً أنه يتحرى ولا يترك.

لو أراد أن يتحرى ولم يستطع، ما عرف شيئاً، يعني: تقول له: تحر، فيقول: ما عندي تحري ما أعرف، مرة أقول هذا، ومرة أقول هذا، فما الحكم؟ بعض العلماء يرون أنه يتركه، ويتيمم، وبعض العلماء يقولون: يأخذ بما ترتاح إليه نفسه، ويطيب خاطره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس )، وهذا أمره واسع، فالناس بعضهم فيه وسوسة، وبعضهم ليس فيه وسوسة، ولو قيل بالاجتناب في هذه الحالة لم يكن بعيداً، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ لأنه غير قادر على استعمال الطهور أشبه ما لو كان الماء في بئر لا يمكنه الوصول إليه، وكذا لو اشتبه مباح بمحرم فيتيمم إن لم يجد غيرهما، ويلزم من علم النجس إعلام من أراد أن يستعمله ].

وهذا كله مر معنا وشرحناه.

اشتباه الطهور بالطاهر

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وإن اشتبه طهور بطاهر أمكن جعله طهوراً به أم لا، توضأ منهما وضوءاً واحداً ].

يقول المؤلف: عندنا إناء طهور، وإناء طاهر، وهذا التقسيم بناءً على مذهب الحنابلة، وإلا على القول الراجح لا يلزم.

قول المؤلف: (وإن اشتبه طهور بطاهر) ما الواجب؟ يقول: (توضأ منهما وضوءاً واحداً)، كيف؟ يقول: (من هذا غرفة، ومن هذا غرفة)، يعني: أنك تأخذ الغرفة من أحد الإناءين فتتمضمض وتستنشق، ثم تأخذ من الآخر فتتمضمض وتستنشق، ثم تأخذ من هذا فتغسل وجهك، ثم تأخذ من الآخر وتغسل وجهك، وهلم جرا.

لماذا لا نتوضأ من هذا ابتداءً ثم إذا انتهينا توضأنا من الآخر؟ قالوا: لأنه لو توضأ ابتداءً فيمكن أن يكون هذا هو الطهور، ويمكن أن يكون غيره، فيكون وهو يبدأ الوضوء يكون متردداً وشاكاً، والأصل هو عدم التردد والشك، وقالوا برد آخر، لكن فيه نوع من التكلف والإشكال.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ توضأ منهما وضوءاً واحداً، ولو مع طهور بيقين، من هذا غرفة ومن هذا غرفة، ويعم بكل واحدة من الغرفتين المحل، وصلى صلاة واحدة، قال في (المغني والشرح): بغير خلاف نعلمه ].

يعني: بغير خلاف أنه يصلي صلاة واحدة؛ لأن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين، كما عند أبي داود من حديث ابن عمر .

اشتباه الثياب الطاهرة بالثياب النجسة والمباحة بالمحرمة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فإن احتاج أحدهما للشرب تحرى وتوضأ بالطهور وتيمم، ليحصل له اليقين، وإن اشتبهت ثياب طاهرة بثياب نجسة يعلم عددها، أو اشتبهت ثياب مباحة بثياب محرمة يعلم عددها ].

يقول المؤلف: إن اشتبهت ثياب طاهرة بثياب نجسة يعلم عدد النجس منها، مثلاً: عندنا واحد وثلاثون ثوباً، نعلم أن ثلاثين ثوباً منها نجسة، وواحد ليس بنجس؛ لكني لا أستطيع أن أعرف من هو الطاهر منها، فإن المؤلف يقول: صلى في كل ثوب بعدد النجس وزاد؛ يعني: يصلي إحدى وثلاثين صلاة؛ قالوا: لأنه في هذه الحال يجزم أنه صلى في ثوب طاهر، وهذا يخالف ما قرروا أن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين، وإذا صلى المرء باجتهاد كما أمره الله فلا يعيد إلا بدليل، ولا دليل.

ثم إن مثل هذا إصر وأغلال قد رفع الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أخف منها، فهذا من باب أولى، والقاعدة هي: رفع الحرج عن هذه الأمة مقصد من مقاصد الشرع.

ويقولون أيضاً: لو اشتبه مباح بمحرم، المحرم مثل: ثوب مغصوب، عند الحنابلة يرون أن الثوب المغصوب لا يصح الصلاة فيه، وعلى قول عامة أهل العلم يصح الصلاة فيه مع الإثم؛ لأن النهي هنا ليس عائداً على ماهية العبادة؛ ولكن على أمر خارج عنها.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس من الثياب، أو المحرم منها، ينوي بها الفرض احتياطاً، كمن نسي صلاة من يوم، وزاد على العدد صلاة ليؤدي فرضه بيقين، فإن لم يعلم عدد النجسة أو المحرمة لزمه أن يصلي في كل ثوب صلاة حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر، ولو كثرت ].

يعني: لو أن عنده خمسين ثوباً، ولكنه لا يعلم مقدار النجس منها، ولا مقدار الطاهر، فإننا نقول: هذا الاشتباه يلزمك أن تصلي خمسين صلاة، وهذا من الشدة التي لم ينزل الله بها من سلطان؛ ولهذا نقول: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] قالوا: البرهان عندنا هو أنه يجب أن يخرج من عهدة الطلب، وبراءة ذمته بيقين، قلنا: لكن هذا اليقين لا يجوز أن يكون فيه مشقة وحرج على الناس، ولما كان المذي يشق على الناس خفف الشارع عنه، فأمر بالنضح، ومن المعلوم أن اليقين هنا لم تزل النجاسة فيه، ومن المعلوم أن من حدثه دائم اليقين فيه أن النجاسة أيش؟ باقية، ومع ذلك خفف الشارع فيه، ولم يأمر بالوضوء إلا لكل صلاة، مما يدل على أن رفع الحرج في الشريعة أصل لا يجوز إبطاله إلا بيقين، ولا يقين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا تصح في ثياب مشتبهة مع وجود طاهر يقيناً، وكذا حكم أمكنة ضيقة، ويصلي في واسعة حيث شاء بلا تحر ].

يعني: عنده بقع ما يدري من أين، وهذه بناءً -كما قلت- على تقسيمات عند الحنابلة، وأما على القول الراجح فإن اشتبه طهور بنجس تحرى، وإن اشتبه طهور بطاهر، فإن هذا لا يكون بناءً على القول الراجح. أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.