شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب شروط الصلاة - حديث 225-228


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وبعد:

موضوع الدرس عن الأحاديث المتعلقة باستقبال القبلة، وهي أربعة دروس.

حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة فأشكلت علينا القبلة فصلينا، فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا لغير القبلة، فنزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ).

الحديث يقول المصنف: رواه الترمذي وضعفه. ‏

تخريج الحديث ودرجته

الحديث رواه الترمذي في أبواب الصلاة، (باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم)، ثم قال الترمذي رحمه الله عقب روايته، قال: وهذا الحديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث. هكذا يقول الترمذي : وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، ذهبوا إلى أن الإنسان إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة فلا إعادة عليه وصلاته جائزة، وبه يقول ابن المبارك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . انتهى كلام الترمذي .

إذاً: الترمذي رحمه الله أعل الحديث بهذه العلة: وهي: أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان .

والحديث قد رواه غير الترمذي، رواه الطيالسي في مسنده والدارقطني وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم.

والحديث فيه علتان:

أولاهما: ما أشار إليه الترمذي فيما سبق أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان وهو ضعيف، لكن أشعث هذا قد توبع، تابعه راو اسمه عمرو بن قيس، وروايته عند الطيالسي والبيهقي، قال: حدثنا أشعث بن سعيد وعمرو بن قيس، لكن عمرو بن قيس هذا لم أقف على ترجمته، فأخشى أن يكون مجهولاً .

وفي الحديث علة أخرى أيضاً: وهو أنه أن في إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعاصم هذا ضعيف أيضاً، حتى قال فيه الإمام مالك : [ شعبتكم هذا يشدد في الرجال ويروي عن عاصم ]؛ وذلك أن شعبة قد روى عن عاصم مع أن شعبة كان متشدداً لا يروي إلا عن الشيوخ الأقوياء الثقات، ولكنه تسامح في عاصم فروى عنه، فكان مالك ينتقده ويقول: [ شعبتكم هذا يشدد في الرجال ويروي عن عاصم ]، والغريب في الأمر أن مالكاً نفسه روى عن عاصم أيضاً، وأغرب من ذلك أن شعبة سئل عن عاصم فقال: لو قيل لـعاصم : من بنى مسجد البصرة ؟ لقال: حدثنا فلان حدثنا فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بناه فلان بن فلان! يعني: شعبة يتهم عاصماً بتهمة عظيمة، أنه أقرب ما يكون إلى شدة الضعف، وربما يتهمه بما هو أعظم من ذلك، يعني: ظاهر عبارته قد يدل على شدة الوهم، يعني: لا أظن -إن شاء الله- أنه يرميه بتعمد الكذب، ومع ذلك فإنه روى عنه.

الشاهد: أن عاصماً هذا يعتبر علة أخرى في الحديث، ففيه علتان، وبناءً على ذلك فالحديث ضعيف، أقل ما يقال فيه أنه ضعيف.

شواهد الحديث

ولكن له شواهد:

أولها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو عند الدارقطني والحاكم والبيهقي، قال الحاكم بعد ما رواه قال: رواته محتج بهم غير محمد بن سالم فإنني لا أعرفه بعدالة ولا جرح، قال: وقد تأملت كتابي البخاري ومسلم فلم أجدهما خرجا في هذا الباب شيئاً.

يعني: أن البخاري ومسلماً ما خرجا في (باب من صلى لغير القبلة باجتهاده) لم يخرجا في هذا الباب شيئاً، لكن تعقب الذهبي في التلخيص كلام الحاكم وقال: قلت: محمد بن سالم هو أبو سهل واه. فدل على أنه واه، فحديثه ضعيف جداً، لكن للحديث أيضاً طريقان أخرى عن جابر، هذا طريق عن جابر الذي فيه محمد بن سالم له طريق أخرى عند الدارقطني وغيره فيها العرزمي وهو ضعيف أيضاً، وله طريق ثالث فيها جهالة.

فللحديث ثلاث طرق عن جابر : طريقان منها قابلان للتقوي والانجبار.

الشاهد الثاني للحديث أيضاً: هو راوية معاذ بن جبل رضي الله عنه بنحو حديث الباب، وفيها: ( أنهم لما استبانوا أنهم لغير القبلة شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد رفعت صلاتكم إلى الله عز وجل )، ولم يأمرهم بالإعادة.

وحديث معاذ رواه الطبراني في معجمه الأوسط كما ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد، رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وفي إسناده رجل يقال له أبو عبلة واسمه: شمر بن يقظان، هذا الرجل ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره أبو حاتم في الجرح والتعديل ولم يتكلم عليه بجرح ولا تعديل، فهو أقرب إلى المجهول .

هذه الطرق الثلاث الآن عندنا، صار عندنا ثلاثة أحاديث: حديث الباب الذي هو حديث عامر بن ربيعة وحديث جابر وحديث معاذ بن جبل، كلها معلة؛ ولذلك قال العقيلي في كتاب الضعفاء : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يثبت، وكذلك قال البيهقي : هذا الحديث ليس له إسناد يصح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابن القطان ضعفه.

على أن هناك من العلماء من قوى هذه الطرق بعضها ببعض كما فعل الشوكاني، فإنه قال بعد أن ساق بعض هذه الطرق في كتاب نيل الأوطار، قال: هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها.

على كل حال: الأمر في ذلك -إن شاء الله- سهل؛ لأن المسألة التي يدل عليها الحديث نستطيع أن نستدل عليها بغير هذا الحديث حتى مع ضعفه؛ لأن طرقه كلها ضعيفة وضعف بعضها أو أكثرها -فيما يظهر لي- غير قابل للانجبار، لكن المسألة -كما أشرت- المتعلقة بالحديث سيأتي الاستدلال لها بغيره.

الحافظ ابن حجر رحمه الله رأى -كما في كتاب الدراية في تخريج أحاديث الهداية - أن هذا الحديث يعارض ما صح من طريق سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، [ أن هذه الآية -وهي قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]- قال: نزلت في التطوع خاصة، تصلي حيث توجه بك بعيرك ]، فـابن حجر قال: إن هذا يعارض هذا، والرواية الأخيرة عن ابن عمر أنها نزلت في التطوع خاصة إسنادها صحيح كما يقول ابن حجر .

والواقع أنه ليس بين الروايتين تعارض، فكلام ابن حجر أنه يعارضه يشكل عليه ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن المعارضة على فرض ثبوتها هي في السبب خاصة، يعني: في سبب النزول، يعني: الجزء الذي يعارض رواية ابن عمر هو قوله: (فنزلت فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115])، أما بقية القصة فلا معارضة فيها. هذا وجه.

الوجه الثاني: أنه حتى سبب النزول ليس فيه معارضة صريحة؛ لأن قول ابن عمر : (نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115])، ليست صريحاً في أن هذا هو سبب النزول، قد يكون قوله (فنزلت) يعني أن هذا لبيان الحكم، ولا يلزم أن يكون هو سبب النزول.

الوجه الثالث: أن يقال: لا يمنع أن يجتمع الأمران معاً، فتكون الآية فيمن صلى لغير القبلة باجتهاد، وكذلك تكون الآية في التطوع على الراحلة في السفر كما سيأتي بعد قليل.

حكم استقبال القبلة

لا شك أن هذا الحديث وما بعده يتعلق بموضوع القبلة، ولذلك سأتكلم عن القبلة في الصلاة:

القبلة: هي الجهة التي يستقبلها المصلي ويتجه إليها، سميت بذلك لأنه يقابلها وتقابله فتكون قبلة له.

استقبال القبلة في الصلاة واجب بالكتاب والسنة وإجماع العلماء.

أما الكتاب: فقول الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) هذا نص في وجوب استقبال القبلة للمصلي.

وأما السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة في وجوب استقبال القبلة، منها: ( قوله صلى الله عليه وسلم للرجل المسيء لصلاته الذي جاء فصلى ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعلها ثلاثاً. ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، ثم استقبل القبلة فكبر )، وهذا اللفظ هو إحدى روايات الإمام مسلم في صحيحه، فأمره باستقبال القبلة.

ومن الأدلة على وجوب استقبال القبلة من السنة أيضاً: حديث أسامة بن زيد -وهو في الصحيحين-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت -يعني: في حجة الوداع- فكبر في نواحيه كلها ودعا ولم يصل فيه، ثم خرج فصلى في قبل الكعبة ركعتين، وقال: هذه القبلة ).

ومن الأدلة من السنة أيضاً: ما رواه البخاري وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة إلى جهة بيت المقدس، ثم صلى إليه بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم نزل عليه قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، قال: فصلينا -فكانت أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة هي صلاة العصر- فصلى معه رجال، ثم خرج رجل منهم فمر على قوم يصلون إلى بيت المقدس فقال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني صليت معه العصر إلى الكعبة. فاستداروا كما هم إلى جهة الكعبة )، استداروا من بيت المقدس إلى جهة الكعبة، فهذا الحديث دليل صريح على وجوب استقبال القبلة في الصلاة.

ومثله أيضاً حديث ابن عباس رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حين كان بـمكة يصلي إلى جهة بيت المقدس ويجعل الكعبة بين يديه )، يعني: يكون مستقبلاً للكعبة ومستقبلاً لـبيت المقدس في نفس الوقت، فيجعل الكعبة بينه وبين قبلته التي هي بيت المقدس، ( فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة ).

والأحاديث في وجوب استقبال القبلة كثيرة جداً لا تحصر، لعل منها حديث الباب نفسه الذي سيأتي، حديث عامر بن ربيعة الثاني في قوله: ( غير أنه لا يصلي إليها المكتوبة )، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي المكتوبة إلى الكعبة.

وأما الإجماع على وجوب استقبال القبلة، وأنها شرط لصحة الصلاة؛ فقد نقل هذا الإجماع طائفة كبيرة من أهل العلم، وممن نقل الإجماع على ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر، وكذلك القرطبي صاحب التفسير وابن رشد في بداية المجتهد والنووي رحمه الله في المجموع .

أما الشوكاني في نيل الأوطار فقد حكى الإجماع على وجوب استقبال القبلة، لكنه كأنه -رحمه الله- ينازع في الشرطية، يعني: يقول: هو واجب، لكن ينازع في كونه شرطاً لصحة الصلاة، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه؛ فإن العلماء قبله نقلوا الإجماع على شرطية استقبال القبلة، والصحيح أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، كما نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر والقرطبي وابن رشد والنووي وغيرهم من أهل العلم، فمن صلى لغير القبلة فصلاته باطلة، ويجب عليه الإعادة إلا في الحالات التي سوف أذكرها الآن.

استقبال القبلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

فيما يتعلق بتشريع استقبال القبلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي عليه السلام في مكة يستقبل بيت المقدس، وكانت هذه قبلة الأنبياء قبله، وظل هكذا صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعض الأنصار لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه قام أحدهم -وهذا جاء في رواية حسنة الإسناد- وهو أسعد بن زرارة في طريقه في المدينة إلى مكة وقال: لقد رأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر -يعني: ما أود أن أستدبر القبلة وأستقبل بيت المقدس فأجعل القبلة في ظهري- فصلى إلى جهة الكعبة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها، يعني: كان الواجب عليك ألا تستقبل الكعبة، بل أن نستقبل بيت المقدس ؛ لأن هذا الحكم لم ينسخ بعد.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مكث يستقبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، كما ثبت في حديث البراء وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ثم كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يستقبل الكعبة، فكان يقلب بصره في السماء ينتظر نزول الوحي عليه بتغيير القبلة وتعديلها، فنزل قول الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فصلى عليه السلام أول صلاة إلى الكعبة وكانت صلاة العصر، ثم انتشر هذا الحكم بين أصحابه، وغضب اليهود لذلك غضباً شديداً، وقالوا: لا يترك من أمورنا أمراً إلا غيره، ما ولاه عن قبلته التي كان عليها؟! فنزل قول الله عز وجل: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، فرد الله تعالى كيد اليهود في نحورهم.

الحالات التي يسقط فيها وجوب استقبال القبلة في الصلاة

فيما يتعلق باستقبال القبلة هو شرط -كما ذكرت- يسقط في أربع حالات:

الحالة الأولى: التنفل في السفر، فإن المسافر له أن يتنفل -يصلي النافلة- على أي جهة كان، كما سيأتي تفصيله بعد قليل إن شاء الله تعالى.

الحال الثانية: هي حال الخوف، إذا كانوا في حرب أو قتال فإنه يسقط عنهم استقبال القبلة إذا احتاجوا إلى استدبارها أو جعلها ذات اليمين أو ذات الشمال؛ لقول الله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، يعني: فصلوا رجالاً قائمين قياماً على أرجلكم أو ركباناً على رواحلكم. قال ابن عمر رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري -: [ فإن كان خوف هو أشد من ذلك صلوا قياماً قائمين على أقدامهم أو ركباناً على رواحلهم مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها ]. قال مالك : قال نافع : لا أعلم ابن عمر رضي الله عنه روى هذا إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( تصلون قياماً أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها )، ومن المعلوم أن المقاتل في حال المعركة الذي يصلي وهو واقف أو وهو راكب على راحلته أو على دبابته أو على طيارته أو على غيرها مما يحتاج إليه في الحرب؛ أنه يحتاج إلى أن يستقبل القبلة أو يستدبرها أو يجعلها ذات اليمين أو ذات الشمال، فأذن له بذلك حال الخوف.

الحالة الثالثة التي يباح للإنسان فيها عدم استقبال القبلة: هي حال العجز، إذا عجز عن استقبال القبلة، وذلك كالمأسور إلى غير القبلة، إنسان مأسور أو مصلوب إلى غير القبلة وجهه إلى الشرق مثلاً وظهره إلى القبلة، ومثله المريض إذا كان مضطجعاً إلى غير القبلة لا يستطيع أن يقعد ولا أن يقوم ولا أن يستقبل القبلة، فإن ذلك يسقط عنه؛ لقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، فإنه لا يلزمه إلا ما يقدر عليه.

ومثل ذلك لو كان الإنسان في طائرة، مثلاً: مسافر في طائرة أو راكب في سفينة إلى غير القبلة ولا يستطيع أن يستقبل القبلة، مثل أن يكون بعضهم يميل إذا وقف واستقبل القبلة ويصاب بتعب، وربما يحصل له ضرر أو لا يقدر على ذلك أصلاً، كما إذا كان الإنسان في طائرة أحياناً ويخشى من خروج الوقت ولا يستطيع أن يقوم، ربما تكون الطائرة -مثلما يقولون أحياناً- في حالة تتطلب من الراكب أن يظل في مكانه وأن يشد الحزام، قد يكون هناك -كما يقولون- مطبات هوائية أحياناً أو في حالة نزول أو صعود، ولا يستطيع أن يؤجل الصلاة؛ لأنه لو أخرها لخرج الوقت، ولا يستطيع أن يستقبل القبلة.

فنقول في هذه الحال: إذا عجز فإنها تسقط عنه ويصلي حيث كان بقدر ما يستطيع، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

الحالة الرابعة: هي حال الجهل، إذا كان الإنسان في حال غيم أو سفر ولا يعرف القبلة تحرى ثم صلى، إنسان ما يعرف النجوم ولا مهب الريح، ولا يعرف مجرى الأنهار ولا يعرف، وليس في بلد مسلمين ليسألهم، وليس في البلد محاريب حتى يصلي إليها، طبعاً هذا في العصر الحاضر ربما يكون حالات قليلة باعتبار أنه تقدمت الوسائل وأصبح هناك إمكانية لمعرفة القبلة في كل مكان من خلال البوصلة وغيرها من علامات معرفة القبلة وبعض الساعات وسواها، لكن نفترض وجود هذه الحالة، فالإنسان صلى واجتهد وصلى بحسب ما يستطيع، ثم بان له بعد ذلك أنه صلى لغير القبلة، فهذا لا حرج عليه كما سيأتي تفصيله.

إذاً: هناك أربع حالات يسقط عن الإنسان فيها وجوب استقبال القبلة.

وتستثنى من القول بشرطية استقبال القبلة.

ترجمة الراوي

أما فيما يتعلق بحديث الباب حديث عامر بن ربيعة: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة)؛ فأول ما يتعلق به راوي الحديث عامر بن ربيعة، هذا من الصحابة القدماء الإسلام، من الأولين، من المهاجرين الأولين، شهد بدراً وما بعدها وهاجر الهجرة الأولى إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة، وله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث عدة، منها الحديث الآتي في الصحيحين في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على الراحلة.

ومن عجيب قصص عامر بن ربيعة رضي الله عنه أنه لما أكثر الناس من الطعن على عثمان رضي الله عنه في آخر خلافته قام ليلة فصلى -صلى من الليل- ثم اضطجع، فأتاه آت في منامه فقال له: قم فصل وسل الله تعالى أن يقيك من الفتنة، فقام فصلى وسأل الله عز وجل أن يقيه من الفتنة. قال ابن حجر رحمه الله -بل الرواية في موطأ مالك - قال: فما خرج من بيته إلا جنازة رضي الله عنه وأرضاه، وكان موته قبيل مقتل عثمان رضي الله عنه أو مع مقتله أو بعده بيسير، وحماه الله تعالى وكفاه شر الفتنة التي ثارت في أواخر خلافة عثمان رضي الله عنه وأرضاه.

وأما الكلام على الحديث من حيث الصحة وعدمها فسبق الكلام عليه.

ما يلزم من تبين له أنه يصلي إلى غير القبلة

وأما المسائل المتعلقة بالحديث فعندنا مسألة واحدة تقريباً، وهي مسألة من خفيت عليه القبلة لسفر أو غيم فاجتهد ثم صلى ثم تبين أنه صلى لغير القبلة، فما حكمه؟

أولا: لو استبان له وهو في الصلاة، هذه الحالة المتفق عليها، لو استبان له وهو في الصلاة جهة القبلة فماذا يصنع؟ بعدما صلى ركعة تبينت له القبلة.

يتحول إليها، هذا أمر متفق عليه أنه يتحول إلى القبلة ويكمل صلاته إليها، هذا لا إشكال فيه.

حكم من صلى ثم تبين له أنه صلى إلى غير القبلة وأقوال العلماء فيه

الحالة الثانية: لو لم يعلم إلا بعد انقضاء الصلاة؛ فإن في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول: صحة صلاته ولا إعادة عليه

القول الأول: أنه لا قضاء عليه، لا إعادة عليه بل صلاته صحيحة بحالها، وهذا مذهب جماهير أهل العلم، هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وهو قول للشافعي رحمه الله اختاره بعض الشافعية كـالمزني، وهو مذهب داود الظاهري وأكثر أهل العلم، يقولون: لا إعادة عليه.

واحتجوا بأدلة كثيرة، منها: حديث الباب إن صح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن صلاتكم رفعت إلى الله عز وجل ) والآية نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، فدل على أن صلاتهم صحيحة ولا إعادة عليهم.

من الأدلة: حديث البراء بن عازب المتفق عليه -وقد سردته قبل قليل- وفيه: ( أن ملأً من الأنصار من بني سلمة كانوا يصلون جهة بيت المقدس، فجاءهم رجل وقال لهم: أشهد أنني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهة الكعبة، فاستداروا كما هم فصلوا إلى الكعبة )، فهؤلاء القوم أول صلاتهم هل كانوا إلى القبلة الشرعية أم إلى غيرها؟

كانوا إلى غيرها؛ لأن القبلة نسخت، فأول صلاتهم وقع إلى بيت المقدس، مع أن القبلة كانت نسخت آنذاك، يعني: قبل هذا بوقت كانت نسخت، بحيث الرسول عليه السلام صلى العصر إلى الكعبة، وهم صلوا أول العصر إلى بيت المقدس، فاستداروا كما هم، وما معنى استدارتهم؟ كيف استداروا؟

معنى ذلك أن الإمام بدل أن كان في أول المسجد أصبح أين؟ بدل أن كان في أول المسجد أصبح في آخره، هذا معنى الاستدارة، والجماعة كذلك التفوا التفافاً كاملاً وسووا الصفوف، والنساء -مثلاً إذا افترضنا أن المسجد فيه نساء- بدل كون النساء في آخر المسجد رجعن وصرن في أوله، فالاستدارة ترتب عليها حركة كثيرة لا شك فيها، لكنها لمصلحة الصلاة، ثم سووا صفوفهم إلى جهة الكعبة وأكملوا صلاتهم ولم يقطعوا الصلاة، مع أن أولها وقع لغير القبلة.

فدل هذا على أن من صلى إلى غير القبلة باجتهاده وأن هذا مبلغ علمه أنه لا إعادة عليه.

ومن الأدلة أيضاً: أن من صلى إلى غير القبلة باجتهاده صلى كما أمر بحسب ما يستطيع، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، بذل جهده في معرفة القبلة وتحريها بالوسائل التي يستطيعها، ثم صلى، فمن أدى الصلاة في وقتها كما أمر فالأصل أنه لا إعادة عليه، ومن قال بوجوب الإعادة فعليه الدليل.

ومن الأدلة أو الحجج على أنه لا إعادة عليه: أنه معذور بجهله بالقبلة الحقيقية، فلا إعادة عليه، وكذلك أنه عاجز، والشرط يسقط بالعجز.

فهذه الأدلة كلها تدل على أنه لا إعادة عليه فيما صلى، هذا القول الأول.

القول الثاني: أن عليه القضاء

القول الثاني: وهو القول الصحيح عند الشافعية: أنه يقضي، وهذا القول -أيضاً- نسب أنه رواية عن الإمام أحمد وقال به بعض المالكية، أنه يقضي، وحجة الشافعية في القول بالقضاء قالوا: إن هذا الشرط لا يسقط بحال، فهو شرط أخطأ فيه فيلزمه الإعادة، قالوا: مثلما لو أنه صلى بغير وضوء ثم بعدما صلى تذكر أنه غير متوضئ هل تجزئه صلاته؟ لا تجزئه صلاته، لابد أن يعيدها، قالوا: مثله أيضاً ما لو صلى قبل دخول الوقت ثم تبين أنه صلى قبل دخول الوقت، هل تجزئه صلاته؟ لا تجزئ، لابد أن يعيد، قالوا: فكذلك لو صلى لغير القبلة ثم تبين أنه لغير القبلة يلزمه أن يعيد الصلاة.

ويرد على استدلال الشافعية أن يقال بالفرق بين القبلة وبين ما ذكروا.

فأما بالنسبة لمن صلى على غير وضوء فهل نقول: إنه عاجز عن الوضوء؟ هل هو عاجز؟ ليس بعاجز، كان بإمكانه أن يتوضأ ولو على سبيل الاحتياط، فليس عاجزاً عن إدراك الشرط. هذا الجواب.

أما قولهم بالوقت لمن صلى قبل الوقت؛ فنقول: إن الذي صلى قبل الوقت لم يكن مخاطباً بالصلاة، حين صلاها ولا مأموراً بها، فوقعت صلاته على غير أمر الشارع، لم يكن الشارع أمره بهذه الصلاة، فلما دخل الوقت بدأ الأمر الآن، فوجب عليه أن يصلي؛ لأنه لم يصل في الوقت المأمور، والله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].

كما أن الفقهاء يفرقون بين فعل المأمور وترك المحظور، فلذلك قالوا: إن من استقبل غير القبلة باجتهاده ثم تبين له ذلك فلا إعادة عليه، لكن من صلى على غير وضوء فقد ترك أمراً أمر به فيجب عليه أن يعيد الصلاة.

والصحيح قول الجمهور: أن من صلى بحسب اجتهاده ثم تبين أنه لغير القبلة أنه لا إعادة عليه، هذا هو الصحيح.

القول الثالث: يعيد إذا علم قبل خروج الوقت

القول الثالث: إن تبين له ذلك خلال الوقت أعاد، وإن لم يعلم إلا بعد خروج الوقت فلا إعادة عليه، وحجة أو مأخذ هؤلاء يقولون: إن علم وهو في وقت الصلاة ما خرج الوقت بعد فإن الأمر لا يزال قائماً في حقه، يعني: لا يزال مطالباً بالصلاة ووقتها لم يخرج، فيجب أن يوقعها حيث أمر، أما إذا خرج الوقت فإن الأمر قد زال وانتهى، وهذا القول ذكره الصنعاني في سبل السلام ولم ينسبه لأحد، ووجدته في بعض الكتب منسوباً للإمام مالك استحباباً، يعني: أن مالكاً يقول: أستحب له إن علم وهو في الوقت أن يعيد، لكن لا يلزم بالإعادة. هذا كل ما في حديث عامر بن ربيعة .

الحديث رواه الترمذي في أبواب الصلاة، (باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في الغيم)، ثم قال الترمذي رحمه الله عقب روايته، قال: وهذا الحديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث. هكذا يقول الترمذي : وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان يضعف في الحديث، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، ذهبوا إلى أن الإنسان إذا صلى في الغيم لغير القبلة ثم استبان له بعدما صلى أنه صلى لغير القبلة فلا إعادة عليه وصلاته جائزة، وبه يقول ابن المبارك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه . انتهى كلام الترمذي .

إذاً: الترمذي رحمه الله أعل الحديث بهذه العلة: وهي: أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان .

والحديث قد رواه غير الترمذي، رواه الطيالسي في مسنده والدارقطني وابن ماجه وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم.

والحديث فيه علتان:

أولاهما: ما أشار إليه الترمذي فيما سبق أشعث بن سعيد أبو الربيع السمان وهو ضعيف، لكن أشعث هذا قد توبع، تابعه راو اسمه عمرو بن قيس، وروايته عند الطيالسي والبيهقي، قال: حدثنا أشعث بن سعيد وعمرو بن قيس، لكن عمرو بن قيس هذا لم أقف على ترجمته، فأخشى أن يكون مجهولاً .

وفي الحديث علة أخرى أيضاً: وهو أنه أن في إسناده عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعاصم هذا ضعيف أيضاً، حتى قال فيه الإمام مالك : [ شعبتكم هذا يشدد في الرجال ويروي عن عاصم ]؛ وذلك أن شعبة قد روى عن عاصم مع أن شعبة كان متشدداً لا يروي إلا عن الشيوخ الأقوياء الثقات، ولكنه تسامح في عاصم فروى عنه، فكان مالك ينتقده ويقول: [ شعبتكم هذا يشدد في الرجال ويروي عن عاصم ]، والغريب في الأمر أن مالكاً نفسه روى عن عاصم أيضاً، وأغرب من ذلك أن شعبة سئل عن عاصم فقال: لو قيل لـعاصم : من بنى مسجد البصرة ؟ لقال: حدثنا فلان حدثنا فلان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بناه فلان بن فلان! يعني: شعبة يتهم عاصماً بتهمة عظيمة، أنه أقرب ما يكون إلى شدة الضعف، وربما يتهمه بما هو أعظم من ذلك، يعني: ظاهر عبارته قد يدل على شدة الوهم، يعني: لا أظن -إن شاء الله- أنه يرميه بتعمد الكذب، ومع ذلك فإنه روى عنه.

الشاهد: أن عاصماً هذا يعتبر علة أخرى في الحديث، ففيه علتان، وبناءً على ذلك فالحديث ضعيف، أقل ما يقال فيه أنه ضعيف.

ولكن له شواهد:

أولها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وهو عند الدارقطني والحاكم والبيهقي، قال الحاكم بعد ما رواه قال: رواته محتج بهم غير محمد بن سالم فإنني لا أعرفه بعدالة ولا جرح، قال: وقد تأملت كتابي البخاري ومسلم فلم أجدهما خرجا في هذا الباب شيئاً.

يعني: أن البخاري ومسلماً ما خرجا في (باب من صلى لغير القبلة باجتهاده) لم يخرجا في هذا الباب شيئاً، لكن تعقب الذهبي في التلخيص كلام الحاكم وقال: قلت: محمد بن سالم هو أبو سهل واه. فدل على أنه واه، فحديثه ضعيف جداً، لكن للحديث أيضاً طريقان أخرى عن جابر، هذا طريق عن جابر الذي فيه محمد بن سالم له طريق أخرى عند الدارقطني وغيره فيها العرزمي وهو ضعيف أيضاً، وله طريق ثالث فيها جهالة.

فللحديث ثلاث طرق عن جابر : طريقان منها قابلان للتقوي والانجبار.

الشاهد الثاني للحديث أيضاً: هو راوية معاذ بن جبل رضي الله عنه بنحو حديث الباب، وفيها: ( أنهم لما استبانوا أنهم لغير القبلة شكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: لقد رفعت صلاتكم إلى الله عز وجل )، ولم يأمرهم بالإعادة.

وحديث معاذ رواه الطبراني في معجمه الأوسط كما ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد، رواه الطبراني في معجمه الأوسط، وفي إسناده رجل يقال له أبو عبلة واسمه: شمر بن يقظان، هذا الرجل ذكره ابن حبان في الثقات، وذكره أبو حاتم في الجرح والتعديل ولم يتكلم عليه بجرح ولا تعديل، فهو أقرب إلى المجهول .

هذه الطرق الثلاث الآن عندنا، صار عندنا ثلاثة أحاديث: حديث الباب الذي هو حديث عامر بن ربيعة وحديث جابر وحديث معاذ بن جبل، كلها معلة؛ ولذلك قال العقيلي في كتاب الضعفاء : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه يثبت، وكذلك قال البيهقي : هذا الحديث ليس له إسناد يصح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ابن القطان ضعفه.

على أن هناك من العلماء من قوى هذه الطرق بعضها ببعض كما فعل الشوكاني، فإنه قال بعد أن ساق بعض هذه الطرق في كتاب نيل الأوطار، قال: هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضاً فتصلح للاحتجاج بها.

على كل حال: الأمر في ذلك -إن شاء الله- سهل؛ لأن المسألة التي يدل عليها الحديث نستطيع أن نستدل عليها بغير هذا الحديث حتى مع ضعفه؛ لأن طرقه كلها ضعيفة وضعف بعضها أو أكثرها -فيما يظهر لي- غير قابل للانجبار، لكن المسألة -كما أشرت- المتعلقة بالحديث سيأتي الاستدلال لها بغيره.

الحافظ ابن حجر رحمه الله رأى -كما في كتاب الدراية في تخريج أحاديث الهداية - أن هذا الحديث يعارض ما صح من طريق سعيد بن جبير عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، [ أن هذه الآية -وهي قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115]- قال: نزلت في التطوع خاصة، تصلي حيث توجه بك بعيرك ]، فـابن حجر قال: إن هذا يعارض هذا، والرواية الأخيرة عن ابن عمر أنها نزلت في التطوع خاصة إسنادها صحيح كما يقول ابن حجر .

والواقع أنه ليس بين الروايتين تعارض، فكلام ابن حجر أنه يعارضه يشكل عليه ثلاثة أمور:

الأمر الأول: أن المعارضة على فرض ثبوتها هي في السبب خاصة، يعني: في سبب النزول، يعني: الجزء الذي يعارض رواية ابن عمر هو قوله: (فنزلت فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115])، أما بقية القصة فلا معارضة فيها. هذا وجه.

الوجه الثاني: أنه حتى سبب النزول ليس فيه معارضة صريحة؛ لأن قول ابن عمر : (نزلت: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115])، ليست صريحاً في أن هذا هو سبب النزول، قد يكون قوله (فنزلت) يعني أن هذا لبيان الحكم، ولا يلزم أن يكون هو سبب النزول.

الوجه الثالث: أن يقال: لا يمنع أن يجتمع الأمران معاً، فتكون الآية فيمن صلى لغير القبلة باجتهاد، وكذلك تكون الآية في التطوع على الراحلة في السفر كما سيأتي بعد قليل.

لا شك أن هذا الحديث وما بعده يتعلق بموضوع القبلة، ولذلك سأتكلم عن القبلة في الصلاة:

القبلة: هي الجهة التي يستقبلها المصلي ويتجه إليها، سميت بذلك لأنه يقابلها وتقابله فتكون قبلة له.

استقبال القبلة في الصلاة واجب بالكتاب والسنة وإجماع العلماء.

أما الكتاب: فقول الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144]، فقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) هذا نص في وجوب استقبال القبلة للمصلي.

وأما السنة: فقد وردت أحاديث كثيرة في وجوب استقبال القبلة، منها: ( قوله صلى الله عليه وسلم للرجل المسيء لصلاته الذي جاء فصلى ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فعلها ثلاثاً. ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها فعلمني. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ، ثم استقبل القبلة فكبر )، وهذا اللفظ هو إحدى روايات الإمام مسلم في صحيحه، فأمره باستقبال القبلة.

ومن الأدلة على وجوب استقبال القبلة من السنة أيضاً: حديث أسامة بن زيد -وهو في الصحيحين-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت -يعني: في حجة الوداع- فكبر في نواحيه كلها ودعا ولم يصل فيه، ثم خرج فصلى في قبل الكعبة ركعتين، وقال: هذه القبلة ).

ومن الأدلة من السنة أيضاً: ما رواه البخاري وغيره عن البراء بن عازب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مكة إلى جهة بيت المقدس، ثم صلى إليه بعد الهجرة ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم نزل عليه قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، قال: فصلينا -فكانت أول صلاة صلاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة هي صلاة العصر- فصلى معه رجال، ثم خرج رجل منهم فمر على قوم يصلون إلى بيت المقدس فقال: أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني صليت معه العصر إلى الكعبة. فاستداروا كما هم إلى جهة الكعبة )، استداروا من بيت المقدس إلى جهة الكعبة، فهذا الحديث دليل صريح على وجوب استقبال القبلة في الصلاة.

ومثله أيضاً حديث ابن عباس رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حين كان بـمكة يصلي إلى جهة بيت المقدس ويجعل الكعبة بين يديه )، يعني: يكون مستقبلاً للكعبة ومستقبلاً لـبيت المقدس في نفس الوقت، فيجعل الكعبة بينه وبين قبلته التي هي بيت المقدس، ( فلما هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثم صرف إلى الكعبة ).

والأحاديث في وجوب استقبال القبلة كثيرة جداً لا تحصر، لعل منها حديث الباب نفسه الذي سيأتي، حديث عامر بن ربيعة الثاني في قوله: ( غير أنه لا يصلي إليها المكتوبة )، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي المكتوبة إلى الكعبة.

وأما الإجماع على وجوب استقبال القبلة، وأنها شرط لصحة الصلاة؛ فقد نقل هذا الإجماع طائفة كبيرة من أهل العلم، وممن نقل الإجماع على ذلك الإمام الحافظ ابن عبد البر، وكذلك القرطبي صاحب التفسير وابن رشد في بداية المجتهد والنووي رحمه الله في المجموع .

أما الشوكاني في نيل الأوطار فقد حكى الإجماع على وجوب استقبال القبلة، لكنه كأنه -رحمه الله- ينازع في الشرطية، يعني: يقول: هو واجب، لكن ينازع في كونه شرطاً لصحة الصلاة، وهذا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه؛ فإن العلماء قبله نقلوا الإجماع على شرطية استقبال القبلة، والصحيح أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة، كما نقل الإجماع على ذلك ابن عبد البر والقرطبي وابن رشد والنووي وغيرهم من أهل العلم، فمن صلى لغير القبلة فصلاته باطلة، ويجب عليه الإعادة إلا في الحالات التي سوف أذكرها الآن.

فيما يتعلق بتشريع استقبال القبلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي عليه السلام في مكة يستقبل بيت المقدس، وكانت هذه قبلة الأنبياء قبله، وظل هكذا صلى الله عليه وسلم، حتى إن بعض الأنصار لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه قام أحدهم -وهذا جاء في رواية حسنة الإسناد- وهو أسعد بن زرارة في طريقه في المدينة إلى مكة وقال: لقد رأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر -يعني: ما أود أن أستدبر القبلة وأستقبل بيت المقدس فأجعل القبلة في ظهري- فصلى إلى جهة الكعبة، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه بذلك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها، يعني: كان الواجب عليك ألا تستقبل الكعبة، بل أن نستقبل بيت المقدس ؛ لأن هذا الحكم لم ينسخ بعد.

ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم مكث يستقبل بيت المقدس ستة عشر شهراً، كما ثبت في حديث البراء وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ثم كان صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يستقبل الكعبة، فكان يقلب بصره في السماء ينتظر نزول الوحي عليه بتغيير القبلة وتعديلها، فنزل قول الله عز وجل: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، فصلى عليه السلام أول صلاة إلى الكعبة وكانت صلاة العصر، ثم انتشر هذا الحكم بين أصحابه، وغضب اليهود لذلك غضباً شديداً، وقالوا: لا يترك من أمورنا أمراً إلا غيره، ما ولاه عن قبلته التي كان عليها؟! فنزل قول الله عز وجل: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:142]، فرد الله تعالى كيد اليهود في نحورهم.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع