أسماء الله الحسنى - البصير


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

الاسم الثاني والثلاثون من أسماء ربنا الحسنى، وهو الاسم الذي يرد مقروناً بالسميع في غالب آي القرآن: وهو البصير.

فهذا الاسم المبارك ورد في القرآن اثنتين وأربعين مرة:

قال تعالى: وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[البقرة:265].

وقال تعالى: وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[آل عمران:15] .

وقال تعالى: إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ[الملك:19].

والبصر في اللغة: حاسة الرؤية, أو حس العين, والجمع: أبصار. يقال: رجل بصير. أي: مبصر، وهو خلاف الضرير.

و(بصير) على وزن (فعيل) من البصر, ومعنى هذا الاسم في حق الله تعالى أنه الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسموات، لا تخفى عليه خافية, بل إن أخفى ما يكون مما يغيب عن أعين الناس يراه الله عز وجل، فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى جميع أعضائها الباطنة والظاهرة, ويرى سريان القوت في أعضائها الدقيقة, ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها, بل يرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة, وأصغر من ذلك.

فسبحان من حارت العقول في عظمته ولطفه جل جلاله, قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ[غافر:19], ويعلم تقلبات الأجفان, وحركات الجنان، قال تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[الشعراء:218-220] .

وقال تعالى: وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ[المجادلة:6], أي: مطلع ومحيط جل جلاله على كل شيء.

ونحن نؤمن بهذا الاسم من أسماء ربنا جل جلاله, وأنه بصير بجميع المبصرات, ما كان في الضياء والنور, وما كان في الخفاء والظلمة, ما كان بالليل وما كان بالنهار, ما كان في الخلوة, وما كان في الجلوة, بل ربنا جل جلاله بصره محيط بالجنين وهو في بطن أمه.

إذا آمنا بهذا الاسم (البصير)؛ فلهذا الإيمان آثار:

إثبات صفة البصر لله تعالى

أولها: إثبات هذه الصفة لله عز وجل, أي: إثبات صفة البصر؛ لأنه وصف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه جل جلاله, وفي القرآن الكريم تحدث الله عز وجل عن نفسه بأن له عيناً؛ وذلك بقوله لـموسى عليه السلام: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي[طه:39]، ويقول في آية أخرى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا[القمر:14]، ويقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا[الطور:48]، ويقول لــنوح عليه السلام: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا[هود:37], هو جل جلاله يصف نفسه بذلك.

وأهل الحق وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أئمة الهدى كانوا يجرون هذه الصفات على ظاهرها، لا يكيفونها ولا يمثلونها, وفي الوقت نفسه لا ينفونها ولا يعطلونها. يعني: لا يمثلون الله بخلقه؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء، وفي الوقت نفسه لا ينفون, فلا يقولون: ليس لله بصر, أو ليس لله عين, بل يمرونها على ما جاءت, ويفوضون الكيفية للعالم بها جل جلاله.

وهي من صفات الكمال في حق ربنا؛ ولذلك الله عز وجل دائماً يمثل المؤمن بالبصير, والكافر بالأعمى؛ قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ[الرعد:16].

وقوله: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ[هود:24].

وكذلك إبراهيم عليه السلام لما أخذ يعظ أباه قال له: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا[مريم:42].

والله عز وجل يخاطب المشركين الذين يعبدون الأصنام فيقول لهم: أَلَهمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا[الأعراف:195] يعني: هذه الأصنام: أَلَهمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا[الأعراف:195].

يعني: يا من تعبدون هذه الأصنام! إن لكم أرجلاً وأيد وأعيناً وآذاناً، فأنتم أيها العابدون! خير من هذه المعبودات.

قال الله عز وجل عن عجل بني إسرائيل: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا[طه:89].

فهذه الصفات: السمع والبصر والكلام والقدرة والإرادة والحياة والعلم, كلها من صفات كمال ربنا جل جلاله, فنثبتها على ظاهرها, ولا نكيفها ولا نمثلها.

الإيمان والتسليم لأقدار الله تعالى

ثانياً: عليك أن تعلم أيها المسلم! أن الله تعالى بصير بأحوال عباده, خبير بمن يستحق الهداية منهم ممن لا يستحقها, بصير بمن يصلحه المال ومن لا يصلحه إلا الفقر؛ ولذلك يختم الله عز وجل دائماً الآيات التي تتحدث عن المال وقسمته بهاتين الصفتين: (خبيراً بصيراً) يقول الله عز وجل: وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى:27].

فكثير من الآيات يختمها بهاتين الصفتين: أنه جل جلاله خبير, وأنه جل جلاله بصير؛ ولذلك لو أن الله تعالى أغناك, أو أنه أفقرك فاعلم بأنه ما يختار لك إلا الخير, وما عليك إلا أن تتعامل مع قدر الله بشرع الله.

الاستحياء من الله تعالى

ثالثاً: إذا أيقنت أن الله بصير فاستح من ربك جل جلاله, استح من ربك أن يراك حيث نهاك؛ ولذلك يا معشر الشباب! ورد في بعض الآثار: بأن ابن آدم: إذا أغلق بابه وأرخى ستره, وجعل يعبث بذكره, فإن الله عز وجل يقول له: (يا ابن آدم! أجعلتني أهون الناظرين إليك؟). يعني: إنك خفت من أبيك وأمك, ومن أخيك وأختك, وخفت من جيرانك, وخفت من الناس, بل وربما لو كان معك في غرفتك حيوان بهيم لما تجرأت أن تفعل المعاصي، وأنت يا مسلم! على يقين بأن الله عز وجل يراك, وأن الله عز وجل مطلع عليك, ومع ذلك تفعل ذلك: ( أجعلتني أهون الناظرين إليك؟ ).

ولذلك كل إنسان منا تحدثه نفسه بمعصية عليه أن يتذكر هذه الكلمة: (أجعلتني أهون الناظرين إليك؟).

ولذلك فإن نبينا صلى الله عليه وسلم بين أن الإيمان كل الإيمان أن يعتصم العبد بالله في الخلوة إذا عرضت عليه المعصية، قال صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة: ( ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله ), يعلم بأن الله عز وجل يراه على تلك الحال.

الرضا والطمأنينة في قلب المؤمن

رابعاً: الإيمان بأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء, يفيض على قلب المؤمن طمأنينة وصبراً واحتساباً حين يناله من أعداء الله الأذى والابتلاء, يقيناً منه بحكمة الله. يعني: لو أن المؤمن تسلط عليه عدوه, كافراً كان أو منافقاً أو فاسقاً فنال منه ما نال سباً أو شتماً أو أذى حسياً أو إصابة في المال أو غير ذلك, فهذا المؤمن على يقين بأن الله مطلع على تلك الحال, وأنه سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية, وأنه يدافع عن الذين آمنوا؛ ولذلك لا يجزع.

وانظروا إلى حال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, يخرج إلى الطائف يدعو إلى الله, فيرد عليه القوم أقبح الرد, يقول له أحدهم: يا محمد! أما وجد ربك غيرك ليرسله؟!

ويقول له آخر: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله قد أرسلك.

فيطلب منهم صلى الله عليه وسلم أن يكتموا عليه, وأن يسكتوا عنه ليخرج, فيقولون: لا, لا ندعك فيغرون به السفهاء والصبيان يرجمونه بالحجارة, حتى أدموا عقبيه الشريفتين عليه الصلاة والسلام.

يأوي إلى بستان لــشيبة بن ربيعة ثم يتضرع إلى الله عز وجل: ( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي, وقلة حيلتي, وهواني على الناس, يا أرحم الراحمين! أنت رب العالمين وأنت ربي, إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري, إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي, غير أن عافيتك هي أوسع لي, أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة, من أن ينزل بي غضبك, أو يحل علي سخطك, لك العتبى حتى ترضى, ولا حول ولا قوة إلا بك ).

يقول هذا الكلام عليه الصلاة والسلام ثقة بربه جل جلاله, أنه يرى وأنه يسمع, وأنه مطلع, وأنه شهيد, وأنه محيط, وأنه عليم سبحانه وتعالى؛ ولذلك ما جزع لما أصابه عليه الصلاة والسلام, بل لما نزل عليه ملك الجبال قال له: ( يا محمد! إن الله أمرني أن أطيعك, إن شئت أطبقت على أهل مكة الأخشبين، قال: بل أصبر عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله وحده ).

أسأل الله أن يهدينا سواء السبيل. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.