الرقابة لمن


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده وابن عبده، وابن أمته، ومن لا غنى له طرفة عين عن رحمته.

وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفًا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليمًا كثيرًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله -جلَّ وعلا- وأن نُقِّدم لأنفسنا أعمالاً تُبيض وجوهنا يوم نلقى الله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] .. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30] .. يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا [النحل:111] .. يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].

يوم يُبَعثر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور؛ يوم يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42].. وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً [الفرقان:27-28] يوم الحاقة .. يوم الطَّامة .. يوم القارعة .. يوم الزلزلة .. يوم الصاخة يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

ثم اعلموا -يا عباد الله- أن رقابة البشر على البشر قاصرة؛ بل رقابة المخلوقات على بعضها قاصرة، فالبشر يغفل ويسهو وينام، ويمرض، ويسافر، ويموت.

إذًا فلتسقط رقابة المخلوقين، ولتسقط رقابة الكائنات جميعها، وتبقى الرقابة الكاملة؛ والرقابة المطلقة، ألا وهي: رقابة الله -جلَّ وعلا-.

باري البرايا مُنشئ الخلائق     مبدعهم بلا مثال سابق

حيٌ وقيوم فلا ينام     وجلَّ أن يشبههُ الأنام

فإنه العلي في دنّوه     وإنه القريب جلَّ في علوه

علم الله المطلق

لا إله إلا الله! علم البشر علم قاصر ضعيف قليل؛ فما وراء هذه الجدران نجهل منه الكثير ولا نعلمه؛ بل لا نعلم أنفسنا التي بين جنبينا، لكن الله يعلم ذلك، ويعلم ما هو أعلى من ذلك، فما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب، ولا يابس إلا في كتاب مبين، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تُسِرهُ الآن في سريرتك، ومَن بجوارك لا يعلم ذلك؛ يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.

إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم الخبير يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19] ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء، في الليلة الظلماء، لا إله إلا هو!

هو الذي يرى دبيب الذَّر     في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر

وسامع للجهر والإخفات     بسمعه الواسع للأصوات

وعلمه بما بدا وما خفي     أحاط علمًا بالجليِّ والخفي

مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7].

مؤامرة تحت جدار الكعبة

رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل تحت جدار الكعبة قد هدأت الجفون، ونامت العيون. أرخى الليل سدوله، واختلط ظلامه، وغارت نجومه، وشاع سكونه، قاما يتذاكران، ويخططان، ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلم كثيرًا مما يعملون، استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتون مما لا يرضى من القول، تذاكرا مُصَابِهم في بدر ؛ فقال صفوان وهو أحدهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير، فقال عمير : صدقت، والله! لولا دَينٌ عليّ ليس له قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة لركبت إلى محمد حتى أقتله -صلى الله على نبينا محمد-

اغتنم صفوان ذلك الانفعال وذلك التأثر، وقال: عليَّ دَيْنُك، وعيالك عيالي لا يسعني شيء ويعجز عنهم، قال عمير : فاكتم شأني وشأنك -لا يعلم بذلك أحد- قال صفوان : أفعل.

فقام عمير وشحذ سيفه، وسمَّه، وانطلق به يغذ السير إلى المدينة ووصل إلى هناك، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين، أناخ عمير على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحًا سيفه، فقال عمر -وهو يعرفه-: عدو الله! والله ما جاء إلا لشر.

ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ، فأخذ عمر بحمائل سيفه فلببه بها -جعلها له كالقلادة- ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : أرسله يا عمر ، ثم قال: ما جاء بك يا عمير ؟ وكان له ابن أسير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت لهذا الأسير فأحسنوا به.

قال صلى الله عليه وسلم: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟

فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحي بما يضمره عمير -: اصدقني يا عمير ! ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك. فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له كذا، وقال لك كذا، وتعهد لك بدَينك وعيالك، والله حائل بيني وبينك.

قال عمير : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، والله إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.

جاء ليقتل النور، ويطفئ النور، فرجع وهو شعلة نور، اقتبسه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.

عباد الله! سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة في ظلمة الليل لا يعلم بها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم الغيب، حُبكت المؤامرة سرًا، من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما وهما يخططان، ويدبران، ويمكران عند باب الكعبة؟ إنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!

كم تآمر المتآمرون في ظلام الليل؟!

كم من عدو للإسلام جلس يٌخطط لضرب الإسلام وحده أو مع غيره سرًا؟! ويظن أنه يتصرف كما يشاء؛ متناسيًا أن الذي لا يخفى عليه شيء يسمع ما يقولون، ويبطل كيدهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.

أيها العبد المؤمن! لا تحزن

يا أيها العبد المؤمن: إذا لقيت عنتًا ومشقة، وسخرية واستهزاء، فلا تحزن ولا تأس، إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقال لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.

يا أيها المؤمن: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن، وضاقت نفسك، فلا تأس ولا تحزن؛ إن الله يعلم ويسمع ما تقول، وما يقال لك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11] .. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

يا أيها الشاب الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثًا يقاطعه؛ اثبت ولا تأس، واعلم علم يقين أنك بين يدي الله، يسمع ما تقول، ويسمع ما يُقال لك، وسيجزي كل امرئ بما فعل لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3].

أيها العاصي! تذكر رقابة الله

يا مرتكب المعاصي مختفيًا عن أعين الخلق: أين الله؟! أين الله؟!

ما أنت -والله- إلا أحد رجلين؛ إن كنت ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك فكيف تجترئ عليه، وتجعله أهون الناظرين إليك يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108].

يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها لا تكاد ترى الشمس معها، ثم يقول: لو عملت المعصية -الآن- من يراني؟ فيسمع هاتفًا بصوت يملأ الغابة ويقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] بلى والله!

يا منتهكًا حرمات الله في الظلمات .. في الخلوات .. في الفلوات، بعيدًا عن أعين المخلوقات: أين الله؟!

هل سألت نفسك هذا السؤال:

في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأعلمن أقوامًا من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء ، يجعلها الله هباءً منثورًا، قال ثوبان: صِفْهُم لنا؟! جلِّهم لنا؟! ألاَّ نكون منهم يا رسول الله؟ قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها}.

إلى من يملأ عينه وأذنه ويضيع وقته، حتى في ثلث الليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله؛ أين الله؟!

فقد روى الثقات عن خير الملا      بأنه عز وجل وعلا

في ثلث الليل الأخير ينزل      يقول هل من تائب فيُقْبِل

هل من مسيء طالب للمغفرة     يجد كريمًا قابلاً للمعذرة

يمنُّ بالخيرات والفضائل     ويستر العيب ويعطي السائل

فنسأله من فضله.

إن الله لا يخفي عليه شيء، فهلا اتقيته يا عبد الله!

لا إله إلا الله! علم البشر علم قاصر ضعيف قليل؛ فما وراء هذه الجدران نجهل منه الكثير ولا نعلمه؛ بل لا نعلم أنفسنا التي بين جنبينا، لكن الله يعلم ذلك، ويعلم ما هو أعلى من ذلك، فما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب، ولا يابس إلا في كتاب مبين، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تُسِرهُ الآن في سريرتك، ومَن بجوارك لا يعلم ذلك؛ يعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد مائة عام، وأنت لا تعلم ما ينطوي عليه قلبك بعد دقائق أو ساعات.

إنه العلم الكامل المطلق، علم الله السميع العليم الخبير يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [النحل:19] ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] يعلم ويسمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء، في الليلة الظلماء، لا إله إلا هو!

هو الذي يرى دبيب الذَّر     في الظلمات فوق صمِّ الصَّخر

وسامع للجهر والإخفات     بسمعه الواسع للأصوات

وعلمه بما بدا وما خفي     أحاط علمًا بالجليِّ والخفي

مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ [المجادلة:7].

رجلان من قريش يجلسان في جوف الليل تحت جدار الكعبة قد هدأت الجفون، ونامت العيون. أرخى الليل سدوله، واختلط ظلامه، وغارت نجومه، وشاع سكونه، قاما يتذاكران، ويخططان، ويدبران، وظنا أن الحي القيوم لا يعلم كثيرًا مما يعملون، استخفوا من الناس ولم يستخفوا من الله الذي يعلم ما يبيتون مما لا يرضى من القول، تذاكرا مُصَابِهم في بدر ؛ فقال صفوان وهو أحدهم: والله ما في العيش بعد قتلى بدر خير، فقال عمير : صدقت، والله! لولا دَينٌ عليّ ليس له قضاء وعيال أخشى عليهم الضيعة لركبت إلى محمد حتى أقتله -صلى الله على نبينا محمد-

اغتنم صفوان ذلك الانفعال وذلك التأثر، وقال: عليَّ دَيْنُك، وعيالك عيالي لا يسعني شيء ويعجز عنهم، قال عمير : فاكتم شأني وشأنك -لا يعلم بذلك أحد- قال صفوان : أفعل.

فقام عمير وشحذ سيفه، وسمَّه، وانطلق به يغذ السير إلى المدينة ووصل إلى هناك، وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في نفر من المسلمين، أناخ عمير على باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحًا سيفه، فقال عمر -وهو يعرفه-: عدو الله! والله ما جاء إلا لشر.

ودخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ، فأخذ عمر بحمائل سيفه فلببه بها -جعلها له كالقلادة- ثم دخل به على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : أرسله يا عمر ، ثم قال: ما جاء بك يا عمير ؟ وكان له ابن أسير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جئت لهذا الأسير فأحسنوا به.

قال صلى الله عليه وسلم: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبَّحها الله من سيوف! وهل أغنت عنا شيئًا؟

فقال صلى الله عليه وسلم وقد جاءه الوحي بما يضمره عمير -: اصدقني يا عمير ! ما الذي جاء بك؟ قال: ما جئت إلا لذاك. فقال صلى الله عليه وسلم: بل قعدت مع صفوان في الحجر في ليلة كذا، وقلت له كذا، وقال لك كذا، وتعهد لك بدَينك وعيالك، والله حائل بيني وبينك.

قال عمير : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، والله إني لأعلم أنه ما أتاك به الآن إلا الله، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق، والحمد لله الذي هداني للإسلام.

جاء ليقتل النور، ويطفئ النور، فرجع وهو شعلة نور، اقتبسه من صاحب النور صلى الله عليه وسلم.

عباد الله! سمعتم المؤامرة تحاك تحت جدار الكعبة في ظلمة الليل لا يعلم بها أحد حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يعلم الغيب، حُبكت المؤامرة سرًا، من الذي أعلنها؟ من الذي سمعهما وهما يخططان، ويدبران، ويمكران عند باب الكعبة؟ إنه الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء!

كم تآمر المتآمرون في ظلام الليل؟!

كم من عدو للإسلام جلس يٌخطط لضرب الإسلام وحده أو مع غيره سرًا؟! ويظن أنه يتصرف كما يشاء؛ متناسيًا أن الذي لا يخفى عليه شيء يسمع ما يقولون، ويبطل كيدهم فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين.

يا أيها العبد المؤمن: إذا لقيت عنتًا ومشقة، وسخرية واستهزاء، فلا تحزن ولا تأس، إن الله يعلم ما يقال لك قبل أن يقال لك، وإليه يرد كل شيء، لا إله إلا هو.

يا أيها المؤمن: إذا جُعلت الأصابع في الآذان، واستُغشيت الثياب، وزاد الإصرار والاستكبار، وكثر الطعن، وضاقت نفسك، فلا تأس ولا تحزن؛ إن الله يعلم ويسمع ما تقول، وما يقال لك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11] .. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].

يا أيها الشاب الذي وضع قدمه على أول طريق الهداية فسمع رجلاً يسخر منه، وآخر يهزأ به، وثالثًا يقاطعه؛ اثبت ولا تأس، واعلم علم يقين أنك بين يدي الله، يسمع ما تقول، ويسمع ما يُقال لك، وسيجزي كل امرئ بما فعل لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3].

يا مرتكب المعاصي مختفيًا عن أعين الخلق: أين الله؟! أين الله؟!

ما أنت -والله- إلا أحد رجلين؛ إن كنت ظننت أن الله لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك فكيف تجترئ عليه، وتجعله أهون الناظرين إليك يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ [النساء:108].

يدخل بعض الناس غابة ملتفة أشجارها لا تكاد ترى الشمس معها، ثم يقول: لو عملت المعصية -الآن- من يراني؟ فيسمع هاتفًا بصوت يملأ الغابة ويقول: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] بلى والله!

يا منتهكًا حرمات الله في الظلمات .. في الخلوات .. في الفلوات، بعيدًا عن أعين المخلوقات: أين الله؟!

هل سألت نفسك هذا السؤال:

في الصحيح من حديث ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأعلمن أقوامًا من أمتي يوم القيامة يأتون بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء ، يجعلها الله هباءً منثورًا، قال ثوبان: صِفْهُم لنا؟! جلِّهم لنا؟! ألاَّ نكون منهم يا رسول الله؟ قال: أما إنهم إخوانكم، ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، لكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها}.

إلى من يملأ عينه وأذنه ويضيع وقته، حتى في ثلث الليل الآخر، يملأ ذلك بمعاصي الله؛ أين الله؟!

فقد روى الثقات عن خير الملا      بأنه عز وجل وعلا

في ثلث الليل الأخير ينزل      يقول هل من تائب فيُقْبِل

هل من مسيء طالب للمغفرة     يجد كريمًا قابلاً للمعذرة

يمنُّ بالخيرات والفضائل     ويستر العيب ويعطي السائل

فنسأله من فضله.

إن الله لا يخفي عليه شيء، فهلا اتقيته يا عبد الله!

يعسُّ عمر -رضي الله عنه- ليلة من الليالي، ويتتبع أحوال الأمة، وتعب واتكأ على جدار، فإذا بامرأة تقول لابنتها: امذقي اللبن بالماء ليكثر عند البيع، فقالت البنت: إن عمر أمر مناديه أن ينادي: ألا يشاب اللبن بالماء، فقالت الأم: يا ابنتي قومي إنكِ بموضع لا يراكِ فيه عمر ولا مناديه، فقالت البنت المستشعرة لرقابة الله: يا أماه! أين الله؟ والله ما كنت لأطيعه في الملا وأعصيه في الخلا.

ويمر عمر مرة أخرى بامرأة أخرى تغيب عنها زوجها منذ شهور في الجهاد في سبيل الله -عز وجل- قد تغيبت في ظلمات ثلاث: في ظلمة الغربة والبعد عن زوجها، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة قعر بيتها، وإذا بها تنشد وتقول وتحكي مأساتها:

تطاول هذا الليل وازورَّ جانبه     وأرَّقني ألا حبيب ألاعبه

فو الله لولا الله لا رب غيره     لحُرِّك من هذا السرير جوانبه

من الذي راقبته في ظلام الليل، وفي بُعْد عن زوجها، وفي هدأة العيون؛ والله ما راقبت إلا الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. أنْعِم بها من مراقبة، وأنْعِم بها من امرأة!

وأعرابية أخرى يراودها رجل على نفسها -كما أورد ابن رجب - ثم قال لها: لا يرانا أحد إلا الكواكب. فقالت: وأين مكوكبها يا رجل؟! حالها: أين الله يا رجل؟ أتستخفي من الناس ولا تستخفي من الله وهو معك، إذ تبيت ما لا يرضى من القول!


استمع المزيد من الشيخ علي بن عبد الخالق القرني - عنوان الحلقة اسٌتمع
صور وعبر 2803 استماع
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا 2674 استماع
هلموا إلى القرآن 2497 استماع
الإكليل في حق الخليل 2496 استماع
أرعد وأبرق يا سخيف 2410 استماع
هكذا علمتني الحياة [2] 2408 استماع
أين المفر 2328 استماع
اسألوا التاريخ 2276 استماع
حقيقة الكلمة 2243 استماع
الأمر بالمعروف 2202 استماع