اجتهاد السلف في العبادة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن العنوان كما استمعتم: (اجتهاد السلف في العبادة) ومن هم السلف؟ كل من سبقنا بخير فهو سلفنا -إن شاء الله تعالى- ونتكلم عن اجتهادهم في العبادة؛ لنعرف تقصيرنا، وكل واحد منا عندما يسمع هذه الكلمات يعرف كم هو مقصر، وكم هو كسولٌ في طاعة الله، وما الذي ينبغي علينا أن نصل إليه؟

ثم بعده نرجو رحمة الله عز وجل.

اسمع إليهم -يا عبد الله- وإياك إياك أن تيأس من روح الله، فإنه من اجتهد يسر الله له السبيل: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].

ثانياً: اعلم أن كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، واعلم أن باب الرحمة مفتوح، وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، واعلم يا عبد الله! أن رحمة الله وسعت كل شيء، وهو أشد رحمة من الأم بولدها لعباده، اسمع يا عبد الله وتدبر!

تعبده في الليل

إذا ذكرنا السلف كان في مقدمتهم خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، اسمع إليه -يا عبد الله- كيف كان يتعبد ربه جل وعلا وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! يقول حذيفة: (في ليلة من الليالي صليت وراءه فاستفتح سورة البقرة، يقول: فقلت سوف يركع عند المائة فأكمل، قلت: عند المائة الثانية.. فأكمل، حتى ختم سور البقرة بركعة، يقول: ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه نحواً من ركوعه -وفي رواية-: أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة والأنعام في أربع ركعات) إنه النبي صلى الله عليه وسلم.

يدخل عليه بلال في ليلة من الليالي وقد قام حتى تفطرت قدماه، فقال: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]).

يقول علي بن أبي طالب: [ما منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد -يتحدث عن معركة بدر - ثم يقول: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم -أي: كلنا نمنا من شدة المعركة- يقول: غير رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه كان تحت شجرة يصلي ويبكي حتى الصباح].

نام الصحابة كلهم إلا هو، قائمٌ تحت شجرة يقرأ القرآن ويصلي حتى أصبح الصباح، أرأيت؟ نعم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولكن إنه العبد سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [الإسراء:1] هل قال: برسوله؟ هل قال: بنبيه؟ لا. بل قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] هذا مقام تشريف، كيف شرف الله نبيه بهذا الاسم، بأنه عبد لله عز وجل وقد أمر الله بالعبودية فقال: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61].

يقول ابن مسعود: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة إلى الصباح تبكي وترددها، لو فعلها واحدٌ منا لوجدنا عليه -أي: حزنا عليه، ليلة كلها تقوم بهذه الآية؟: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] يرددها طوال الليل، حتى سجد وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل! أخبر محمداً أنا سنرضيك في أمتك) يبكي الليل كله ويقومه بآية.. إنها العبودية.

إنه مقام عظيم لا يصله أي إنسان.. تتشقق الرجل وهو لا يشعر بها.. إنها حالٌ ترقى بالإنسان إلى درجة أنه يتلذذ بالعبادة ولا يشعر بالألم، لو تفطرت القدمان لا يشعر بهما؛ لأن قلبه متصلٌ بالخالق، إن الجسد على الأرض وإن الروح في السماء، يطير في الملكوت الأعلى، قلبه تحت العرش، كيف يتألم من هذا حاله؟!

اسمع يا عبد الله! إلى من تحته ومن بعده.

إذا ذكرنا السلف كان في مقدمتهم خير الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، اسمع إليه -يا عبد الله- كيف كان يتعبد ربه جل وعلا وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! يقول حذيفة: (في ليلة من الليالي صليت وراءه فاستفتح سورة البقرة، يقول: فقلت سوف يركع عند المائة فأكمل، قلت: عند المائة الثانية.. فأكمل، حتى ختم سور البقرة بركعة، يقول: ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه، ثم رفع رأسه نحواً من ركوعه -وفي رواية-: أنه قرأ البقرة والنساء وآل عمران والمائدة والأنعام في أربع ركعات) إنه النبي صلى الله عليه وسلم.

يدخل عليه بلال في ليلة من الليالي وقد قام حتى تفطرت قدماه، فقال: (يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد أنزلت عليَّ الليلة آيات، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]).

يقول علي بن أبي طالب: [ما منا فارسٌ يوم بدر غير المقداد -يتحدث عن معركة بدر - ثم يقول: ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم -أي: كلنا نمنا من شدة المعركة- يقول: غير رسول الله عليه الصلاة والسلام فإنه كان تحت شجرة يصلي ويبكي حتى الصباح].

نام الصحابة كلهم إلا هو، قائمٌ تحت شجرة يقرأ القرآن ويصلي حتى أصبح الصباح، أرأيت؟ نعم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ ولكن إنه العبد سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى [الإسراء:1] هل قال: برسوله؟ هل قال: بنبيه؟ لا. بل قال: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] هذا مقام تشريف، كيف شرف الله نبيه بهذا الاسم، بأنه عبد لله عز وجل وقد أمر الله بالعبودية فقال: وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61].

يقول ابن مسعود: (بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قمت الليل بآية واحدة إلى الصباح تبكي وترددها، لو فعلها واحدٌ منا لوجدنا عليه -أي: حزنا عليه، ليلة كلها تقوم بهذه الآية؟: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] يرددها طوال الليل، حتى سجد وبكى وقال: اللهم أمتي أمتي، اللهم أمتي أمتي، فأوحى الله إلى جبريل: يا جبريل! أخبر محمداً أنا سنرضيك في أمتك) يبكي الليل كله ويقومه بآية.. إنها العبودية.

إنه مقام عظيم لا يصله أي إنسان.. تتشقق الرجل وهو لا يشعر بها.. إنها حالٌ ترقى بالإنسان إلى درجة أنه يتلذذ بالعبادة ولا يشعر بالألم، لو تفطرت القدمان لا يشعر بهما؛ لأن قلبه متصلٌ بالخالق، إن الجسد على الأرض وإن الروح في السماء، يطير في الملكوت الأعلى، قلبه تحت العرش، كيف يتألم من هذا حاله؟!

اسمع يا عبد الله! إلى من تحته ومن بعده.

عمر وعبادته لله

يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: [لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا -ما هي الثلاث؟ دينار؟ درهم؟ قصور؟ أكل وشرب؟ لا يا عبد الله، يقول: لولا أن أحمل على الجهاد في سبيل الله] الأولى: الجهاد، يقول: هذا الذي يبقيني في الدنيا.. الجهاد في سبيل الله، أصوات الخيل، ونحن نقول الآن: سل المجاهد ما هي أحلى أيام حياتك؟ يقول: والله لو فكرت في الدنيا وتصفحت أيامها فإن أحلى أيامها تلك الليلة التي كنا نسمع فيها أصوات المدافع، وإطلاق الصواريخ، وعلى رءوسنا الطائرات، يقول: تلك كانت أحلى الليالي في الحياة، فهذا عمر كان يعيش في هذه الروح.

والثانية: [مكابدة الليل] الليل مجاهدة، يا عبد الله! إن من الناس اليوم أول ما يأتيه الليل ينام وهو لا يشعر، أمام التلفاز، أو يجالس فلانة، أو في المباريات، أو عند الأفلام، أو يستمع للأغاني، من منا في الليل يجاهد نفسه ويتعب نفسه في قيام الليل؟!

والثالثة: [مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر].

يقول هشام بن حسن: كان عمر يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، يقرأ القرآن فيبكي حتى يختنق من شدة البكاء، فيسقط على الأرض، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً، هل به مرض؟ لا. إنه القرآن.. إنها العبادة.. إنه الخوف من الله جل وعلا.

صلى يوماً بالناس فقرأ سورة يوسف فوصل إلى قول الله جل وعلا: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فتوقف، وأخذ يبكي، حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف، ولم يستطع أن يتم الصلاة، عمر يبكي من هذه الآية؟! عمر في يوم من الأيام وأد بنته وكان يسجد للصنم، أما اليوم فإنه يبكي من هذه الآية، ما السبب؟ إنها العبودية لله جل وعلا، إنه حب الله سبحانه وتعالى، إنه الخوف من عذابه تبارك وتعالى.

وقفة مع عثمان وعبادته

عثمان؛ إنه الخليفة الثالث الراشد رضي الله عنه، كان يقوم الليل كله فيختم القرآن.

إياك أن تقول: خلاف السنة، ثم إن كان خلاف السنة، فأين نحن من السنة؟

أين نحن من قيام الليل؟

أين نحن من قراءة القرآن؟

أين نحن من الخشوع؟

أسألك بالله: متى قمت الليل؟

بعضكم يجيب يقول: من رمضان إلى اليوم، واقترب رمضان الآخر.

كم مرة قمت الليل؟

هل تصلي الوتر؟

كم مرة من المرات قمت آخر الليل ورفعت يديك لله عز وجل؟

كان عثمان من شدة اللذة ينسى نفسه.. يختم القرآن في ليلة واحدة، إنه عثمان الذي قال ابن عباس في قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ [الزمر:9] ذاك عثمان، قانت ماذا يفعل؟

سهران على التلفاز.. قانت في المجالس يشرب الشاي والقهوة؟ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

ثبات عباد بن بشر في صلاته

اسمع يا عبد الله إلى عباد بن بشر! انظر إلى باقي الأصحاب، وبقية السلف! هذا عباد بن بشر رضي الله عنه أحد الصحابة، يقوم حارساً للنبي صلى الله عليه وسلم هو وعمار على ثغر المسلمين، فيأتيه أحد المشركين في الليل وهو يصلي، فيراه أحد المشركين فيرميه بسهم وهو يصلي، فنزع السهم ورماه وأكمل صلاته، فرماه السهم الآخر، فنزع السهم ثم أكمل صلاته، ورماه بالسهم الثالث، فأتم صلاته وخففها، فانتبه عمار فقال له: ويحك لِـمَ لَـمْ توقظني؟ قال: والله لقد كنت أقرأ سورة وخشيت أن أقطعها، والذي نفسي بيده لولا أني كنت على ثغرٍ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان خروج نفسي أحب إليَّ من أن أقطع هذه السورة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] بعض الناس يطمئن قلبه بسماع أغنية فلان أو فلانة، أو بمجلس طرب، أو أمام التلفاز، أو في ملاعب الكرة، يقول: هنا يطمئن قلبي! بئس القلب الذي مات وقسا، وران عليه ما ران، أما قلوب المؤمنين إذا سمعت ذكر الله اطمأنت واستبشرت، وانشرح الصدر بذكر الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

عبادة عبد الله بن عمر بن الخطاب

ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه كان إذا قام الليل صلى -كل يصلي الليل إلا قليلاً منه ينامه- كان يقوم الليل ثم يسأل نافع بعد الركعتين، فيقول له: يا نافع! -مولاه- أسحرنا؟ فيقول: لا بعد، فيصلي، وبعد الركعتين يسأله: يا نافع! أسحرنا؟ فيصلي.. وهكذا حتى الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام قال له: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل).

جرب قيام الليل يا عبد الله! أنصحك نصيحة هذه الليلة اعزم القيام وإياك أن تبدأ بقوة وحماس فتصلي نصف الليل ثم في اليوم الثاني لا تصلي شيئاً، ابدأ قليلاً قليلاً وعود النفس.. ابدأ هذه الليلة بثلاث ركعات.. ربع ساعة.. نصف ساعة، ابدأ شيئاً قليلاً، وفي اليوم الثاني زد، وفي الثالث زد، وعوِّد النفس حتى تقوم ثلث الليل، وخير القيام قيام داود.

يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: [لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا -ما هي الثلاث؟ دينار؟ درهم؟ قصور؟ أكل وشرب؟ لا يا عبد الله، يقول: لولا أن أحمل على الجهاد في سبيل الله] الأولى: الجهاد، يقول: هذا الذي يبقيني في الدنيا.. الجهاد في سبيل الله، أصوات الخيل، ونحن نقول الآن: سل المجاهد ما هي أحلى أيام حياتك؟ يقول: والله لو فكرت في الدنيا وتصفحت أيامها فإن أحلى أيامها تلك الليلة التي كنا نسمع فيها أصوات المدافع، وإطلاق الصواريخ، وعلى رءوسنا الطائرات، يقول: تلك كانت أحلى الليالي في الحياة، فهذا عمر كان يعيش في هذه الروح.

والثانية: [مكابدة الليل] الليل مجاهدة، يا عبد الله! إن من الناس اليوم أول ما يأتيه الليل ينام وهو لا يشعر، أمام التلفاز، أو يجالس فلانة، أو في المباريات، أو عند الأفلام، أو يستمع للأغاني، من منا في الليل يجاهد نفسه ويتعب نفسه في قيام الليل؟!

والثالثة: [مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر].

يقول هشام بن حسن: كان عمر يمر بالآية في ورده فتخنقه العبرة، يقرأ القرآن فيبكي حتى يختنق من شدة البكاء، فيسقط على الأرض، ثم يلزم بيته حتى يعاد يحسبونه مريضاً، هل به مرض؟ لا. إنه القرآن.. إنها العبادة.. إنه الخوف من الله جل وعلا.

صلى يوماً بالناس فقرأ سورة يوسف فوصل إلى قول الله جل وعلا: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86] فتوقف، وأخذ يبكي، حتى سُمع نشيجه من وراء الصفوف، ولم يستطع أن يتم الصلاة، عمر يبكي من هذه الآية؟! عمر في يوم من الأيام وأد بنته وكان يسجد للصنم، أما اليوم فإنه يبكي من هذه الآية، ما السبب؟ إنها العبودية لله جل وعلا، إنه حب الله سبحانه وتعالى، إنه الخوف من عذابه تبارك وتعالى.

عثمان؛ إنه الخليفة الثالث الراشد رضي الله عنه، كان يقوم الليل كله فيختم القرآن.

إياك أن تقول: خلاف السنة، ثم إن كان خلاف السنة، فأين نحن من السنة؟

أين نحن من قيام الليل؟

أين نحن من قراءة القرآن؟

أين نحن من الخشوع؟

أسألك بالله: متى قمت الليل؟

بعضكم يجيب يقول: من رمضان إلى اليوم، واقترب رمضان الآخر.

كم مرة قمت الليل؟

هل تصلي الوتر؟

كم مرة من المرات قمت آخر الليل ورفعت يديك لله عز وجل؟

كان عثمان من شدة اللذة ينسى نفسه.. يختم القرآن في ليلة واحدة، إنه عثمان الذي قال ابن عباس في قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ [الزمر:9] ذاك عثمان، قانت ماذا يفعل؟

سهران على التلفاز.. قانت في المجالس يشرب الشاي والقهوة؟ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

اسمع يا عبد الله إلى عباد بن بشر! انظر إلى باقي الأصحاب، وبقية السلف! هذا عباد بن بشر رضي الله عنه أحد الصحابة، يقوم حارساً للنبي صلى الله عليه وسلم هو وعمار على ثغر المسلمين، فيأتيه أحد المشركين في الليل وهو يصلي، فيراه أحد المشركين فيرميه بسهم وهو يصلي، فنزع السهم ورماه وأكمل صلاته، فرماه السهم الآخر، فنزع السهم ثم أكمل صلاته، ورماه بالسهم الثالث، فأتم صلاته وخففها، فانتبه عمار فقال له: ويحك لِـمَ لَـمْ توقظني؟ قال: والله لقد كنت أقرأ سورة وخشيت أن أقطعها، والذي نفسي بيده لولا أني كنت على ثغرٍ أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لكان خروج نفسي أحب إليَّ من أن أقطع هذه السورة: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] بعض الناس يطمئن قلبه بسماع أغنية فلان أو فلانة، أو بمجلس طرب، أو أمام التلفاز، أو في ملاعب الكرة، يقول: هنا يطمئن قلبي! بئس القلب الذي مات وقسا، وران عليه ما ران، أما قلوب المؤمنين إذا سمعت ذكر الله اطمأنت واستبشرت، وانشرح الصدر بذكر الله جل وعلا: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].

ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن أبيه كان إذا قام الليل صلى -كل يصلي الليل إلا قليلاً منه ينامه- كان يقوم الليل ثم يسأل نافع بعد الركعتين، فيقول له: يا نافع! -مولاه- أسحرنا؟ فيقول: لا بعد، فيصلي، وبعد الركعتين يسأله: يا نافع! أسحرنا؟ فيصلي.. وهكذا حتى الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام قال له: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل).

جرب قيام الليل يا عبد الله! أنصحك نصيحة هذه الليلة اعزم القيام وإياك أن تبدأ بقوة وحماس فتصلي نصف الليل ثم في اليوم الثاني لا تصلي شيئاً، ابدأ قليلاً قليلاً وعود النفس.. ابدأ هذه الليلة بثلاث ركعات.. ربع ساعة.. نصف ساعة، ابدأ شيئاً قليلاً، وفي اليوم الثاني زد، وفي الثالث زد، وعوِّد النفس حتى تقوم ثلث الليل، وخير القيام قيام داود.

عبادة علي بن الفضيل بن عياض

اسمع يا عبد الله إلى الفضيل بن عياض! وأنا أظن أن أكثركم قد سمع بـالفضيل بن عياض الذي يسمى بعابد الحرمين، هذا الرجل من عبادته أنه كان إذا ذكر عنده الله أو سمع القرآن ظهر عليه من الحزن والخوف ويبكي حتى يرحمه من بحضرته، له ولد اسمه علي كان إذا صلى علي خلفه س وهو إمام في الصلاة، كان لا يرتل القرآن، لأنه يخاف على ابنه، لأن ابنه لا يتحمل القرآن، فكان إذا رأى ابنه خلفه قرأ القرآن قراءة عادية، وفي يومٍ من الأيام دخل ابنه في الصلاة، ولم يكن الفضيل يعلم أن ولده خلفه، فرتل الآيات، ووصل إلى قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] سمع ابنه يبكي، فخفف الصلاة، وبعد الصلاة وجد ابنه على الأرض، فحملوه ولكن فاضت الروح إلى بارئها: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

نعم! إنهم صالحون يخافون من ذلك اليوم.. يخاف أن يبدو له شيء آخر، أين أولئك الغافلون؟ أين الذين لا يصلون الفجر حتى تطلع الشمس؟ أين الذين قطعوا الأرحام؟ أين الذين نظروا للنساء وتمتعوا بالنظر إليهن؟ أين سماع الأغاني والطرب؟ أين هم؟ إن الصالحين يخافون إذا لقوا الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

عبادة سفيان الثوري

سفيان الثوري رحمه الله يقول عنه عطاء: ما لقيته إلا باكياً، فقلت له: لماذا تكثر من البكاء؟

-واسمع للإجابة ثم ضعها في قلبك وتفكر فيها، واجلس دقائق معدودة فكر في هذه الكلمات- قال سفيان الثوري: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله كتب أنني في النار، أخاف أن الله في اللوح المحفوظ حكم علي أنني من أهل جهنم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].

أكثر أحيانه يرى كأنه في سفينة يخشى الغرق، دائماً يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، تجده باكياً، ويدعو بهذا الدعاء.

يقول ثابت البناني رحمه الله: كنا نتبع جنازة فلا نرى سفيان -أي: الثوري - إلا متقنعاً باكياً متفكراً، يقول: هذه حاله، كلما رأيناه يبكي، نراه يخفي وجهه في الجنازة، ويجلس على زاوية ثم يأخذ يبكي، يتفكر في أحوال الموتى، اسمع إلى قول الشاعر ماذا يقول، وتفكر يا عبد الله:

يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ     ما الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ

عاين بقلبك إن العين غافلةٌ     عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ

سوداء تزفر من غيضٍ إذا سعرت     للظالمين فما تبقي ولا تذرُ

لو لم يكن لك غير الموت موعظة     لكان فيه عن اللذات مزدجرُ

عبادة ثابت البناني

ثابت البناني: يقول عنه جعفر: بكى ثابت حتى كادت عينه أن تذهب -أي: يعمى- فجاءوا بالطبيب قالوا: أدرك هذا الرجل سوف يصاب بالعمى، سوف تذهب عيناه، فقال له الطبيب: أعالجه على أن يطيعني قال: وما هو؟ قال: إذا أردت بقاء عينيك فلا تبكِ، فقال ثابت رحمه الله: وما خيرهما إن لم تبكيا؟ إذا كانت العين لا تبكي من خشية الله فما فائدتها؟ عينٌ لا تبكي من خشية الله لا خير فيها.. عينٌ لا تتأثر لما تسمع من آيات النار وآيات جهنم وأهوال القيامة ولا تدمع فلا خير فيها، يقول الله عن الصالحين: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109].

عبادة زياد بن جرير

يقول حفص بن حميد: واسمع إليهم يا عبد الله ثم حاسب نفسك، وانظر إلى حالك وحالهم- قال لي زياد بن جرير: اقرأ، قال: فأخذت أقرأ القرآن حتى وصلت إلى قول الله جل وعلا: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:1-3] قال: فإذا به يبكي كما يبكي الصبي، فقلت: مالك؟ قال: فعل هذا برسول الله: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ [الشرح:2-3] يقول: كيف بنا نحن؟! وزر رسول الله الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر عليه الصلاة والسلام أنقض ظهره، ماذا نعمل نحن يا عباد الله؟!

عبادة الفضيل بن عياض

وهذا الفضيل بن عياض، يقول عنه إسحاق بن إبراهيم: كانت صلاته بالليل أكثر ذلك قاعداً لا يتحمل القيام، كان يقعد في الليل فيصلي، تُلقى له حصيرة في المسجد -الآن تخيل حال هذا الرجل- فيصلي من أول الليل ساعة، حتى تغلبه عينه فيلقي نفسه على الحصيرة في المسجد، فينام قليلاً ثم يقوم: فإذا غلبه النوم نام، ثم يقوم فيصلي ثم ينام، ثم يقوم فيصلي، حتى يطلع الفجر، ثم يقول لمن حوله: أشد العبادة ما يكون هكذا: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17].

تأتي بنت فتقول لأبيها: يا أبت! الناس ينامون وأنت لا تنام؟! لم لا تنام يا أبي فكل الناس ينامون في الليل إلا أنت؟ فيقول: يا بنية! حر النار أذهب عن أبيك حب النوم: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

يقول محمد بن واسع: [أدركت رجالاً -لعلهم تابعين أو صحابة- كان الرجل له وسادة واحدة مع امرأته: قد بل ما تحت خده من دموعه وزوجته لا تشعر به] يبكي على وسادة واحدة في الليل وزوجته لا تعرف ذلك، لا يأتيه النوم من البكاء، أتعرف لمَ؟ إن الجواب في قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] النوم لا يأتيهم.

قال بعضهم: عجباً لمن كانت النار تسعر تحته، والجنة تزين فوقه كيف ينام؟! ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، وما رأيت مثل النار نام هاربها، كيف ينام هذا الرجل؟!

النار يا عبد الله! تحتك تتسعر، والجنة تزين وقد أزلفت للمتقين، والحور العين تنتظرك! فكيف تنام الليل كله؟!: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16].

عبادة داود الطائي

تقول أم سعيد ابنة علقمة: كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، وكنت أسمع حنينه عامة الليل.

تقول: أسمع بكاءه في الليل.

ماذا تسمع الآن في بيوت المسلمين؟ مر بالقرب منها فماذا تسمع فيها؟ الأغاني، والطرب، والتلفاز، والبث المباشر.

عباد الله! ما الذي تغير؟ إن حب الله تغير وقل في القلوب إلا من رحم الله.. محبة الله قلت في قلوب الناس، ذكر الله أصبح في الألسنة قليل حتى أن بعضهم يقوم للصلاة وهو كسلان: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142] وكأنه إذا دخل بيت الله دخل في سجن! وكأنه إذا قرأ القرآن يمل حتى ينتهي من المصحف، وإن كان عليه ورد قال: متى أنتهي من هذا الورد؟ سبحان الله! أصبحت عبادة الله سجن لبعض الناس.

قبل قليل ولا أكتمكم خبراً جئت من الطائرة إلى هذا المكان فرأيت أمراً عجباً، ركبت في الطائرة وفيها بعض المسلمين وأكثرهم لعلهم نصارى من أشكالهم وهيئاتهم، وأول ما ركبنا الطائرة وطارت كان هناك معنا بعض الخليجيين، والله الذي لا إله غيره فزعوا من مقاعدهم ورجعوا إلى الخلف -انظر ما الذي جرى- كل منهم يأتي بكأسٍ من خمر ليشربها، لم يصدق أن الطائرة تطير، كأنه في قيد محبوس، يتمنى أن يتخلص من هذا القيد ليشرب كأساً.. مسكين لا يعلم أن هذا هو الحبس الحقيقي.. هذا هو السجن.. الأسر أسر الشهوة، العبودية إما لله وإما للشيطان، والشهوة إما في حلال أو في حرام، أنت عبدٌ، إما أن يأسرك هواك، وإما أن تعبد الله جلَّ وعلا وهذه هي الحرية الحقيقية! أنك لا تعبد إلا الله، ولا تقدم قولاً على غير الله، ولا تتلذذ إلا بطاعة الله جلَّ وعلا.

عبادة عامر بن عبد الله بن الزبير

عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام يروى عنه أنه في حالة الاحتضار قبل الموت سمع الأذان لصلاة المغرب، فقال لأولاده: احملوني، قالوا: يا أبتِ! أنت معذور وتحتضر فاجلس وصلِّ في البيت، قال: لا إله إلا الله! أسمع الأذان ولا أجيب، احملوني إلى الصلاة، فحملوه إلى المسجد وهو في صلاة المغرب، وفي السجدة الأخيرة سلم الروح إلى خالقها.

انظر للعبادة! انظر للذة! انظر كيف أكرمه الله جلَّ وعلا!

عودة إلى عبادة ثابت البناني

انظر إلى جعفر بن سليمان يروي عن ثابت البناني الذي كادت عيناه أن تذهبا، اسمع إليه حين قرأ قول الله جلَّ وعلا: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة:1-7] يقول: تأكله إلى فؤاده وهو حينئذٍ، هكذا يبلغ بهم العذاب ثم انفجر بالبكاء، وأبكى الذين حوله جميعاً، أخذ يتفكر بأنه لا يموت يصل النار إلى القلب، تأكل النار قلبه وهو حي يشعر بالنار ولا يموت: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56].

ما طريق هذه النار يا عبد الله؟! بداية هذه النار: الشهوات.. نظر إلى امرأة.. استماع للأغاني.. نوم عن الصلاة.. أكل الربا.. ظلم الناس.. الغيبة والنميمة.. الاستهزاء على خلق الله جل وعلا.. أكل الحرام.. استماع الحرام، هذه هي بداية النار، هذه أبوابها.

لا تقل: أنا -الحمد لله- أقول: لا إله إلا الله، اعلم أن ممن يقول: لا إله إلا الله تصيبه النار، ومنهم من يمكث في النار سنين طويلة، ينسى ثم يخرج من النار كل موحد.

يا عبد الله! الأمر ليس بهين، يؤتى في النار إلى الرأس والأقدام ثم تلصقان فينكسر ظهره: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ [الرحمن:41] يؤخذ برأسه وقدمه فيكسر ظهره ثم يرمى في النار، هل تخيلت هذا يا عبد الله؟! يأكل طعاماً فيغص به فلا يستطيع بلعه ولا إخراجه.. يأكل الشوك من شدة الجوع!

يقول بعض السلف: إن الجوع في النار مثل عذاب النار، إذا سال فروج الزواني تسابق أهل النار ليأكلوها من شدة الجوع: يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:17].

عبد الله! هذه هي النار، يجوع أهل النار فيأكلون طعاماً ذا غصة لا يستطيع أن يخرجه ولا يبتلعه، فيستغيث بالماء فيأتيه ماء، قال تعالى عنهم: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] يؤتى بماء كالمهل فعندما يقرب رأسه ليشرب تسقط فروة رأسه قبل أن يشرب، فإن شرب تقطعت الأمعاء، وخرج الماء من دبره: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29].

ثم تأتي فتسألني: لمَ كل هذا القيام؟ ولم هذا الصيام؟ ولمَ كثرة قراءة القرآن؟ ولمَ كانوا يبكون؟ لعلك عرفت لمَ كل ذلك، إذا عرفت فانتبه، واستقم على طاعة الله.

اسمع يا عبد الله إلى الفضيل بن عياض! وأنا أظن أن أكثركم قد سمع بـالفضيل بن عياض الذي يسمى بعابد الحرمين، هذا الرجل من عبادته أنه كان إذا ذكر عنده الله أو سمع القرآن ظهر عليه من الحزن والخوف ويبكي حتى يرحمه من بحضرته، له ولد اسمه علي كان إذا صلى علي خلفه س وهو إمام في الصلاة، كان لا يرتل القرآن، لأنه يخاف على ابنه، لأن ابنه لا يتحمل القرآن، فكان إذا رأى ابنه خلفه قرأ القرآن قراءة عادية، وفي يومٍ من الأيام دخل ابنه في الصلاة، ولم يكن الفضيل يعلم أن ولده خلفه، فرتل الآيات، ووصل إلى قول الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] سمع ابنه يبكي، فخفف الصلاة، وبعد الصلاة وجد ابنه على الأرض، فحملوه ولكن فاضت الروح إلى بارئها: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

نعم! إنهم صالحون يخافون من ذلك اليوم.. يخاف أن يبدو له شيء آخر، أين أولئك الغافلون؟ أين الذين لا يصلون الفجر حتى تطلع الشمس؟ أين الذين قطعوا الأرحام؟ أين الذين نظروا للنساء وتمتعوا بالنظر إليهن؟ أين سماع الأغاني والطرب؟ أين هم؟ إن الصالحين يخافون إذا لقوا الله جل وعلا: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].

سفيان الثوري رحمه الله يقول عنه عطاء: ما لقيته إلا باكياً، فقلت له: لماذا تكثر من البكاء؟

-واسمع للإجابة ثم ضعها في قلبك وتفكر فيها، واجلس دقائق معدودة فكر في هذه الكلمات- قال سفيان الثوري: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقياً، أخاف أن الله كتب أنني في النار، أخاف أن الله في اللوح المحفوظ حكم علي أنني من أهل جهنم: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].

أكثر أحيانه يرى كأنه في سفينة يخشى الغرق، دائماً يقول: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم، تجده باكياً، ويدعو بهذا الدعاء.

يقول ثابت البناني رحمه الله: كنا نتبع جنازة فلا نرى سفيان -أي: الثوري - إلا متقنعاً باكياً متفكراً، يقول: هذه حاله، كلما رأيناه يبكي، نراه يخفي وجهه في الجنازة، ويجلس على زاوية ثم يأخذ يبكي، يتفكر في أحوال الموتى، اسمع إلى قول الشاعر ماذا يقول، وتفكر يا عبد الله:

يا غافلاً عن منايا ساقها القدرُ     ما الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ

عاين بقلبك إن العين غافلةٌ     عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ

سوداء تزفر من غيضٍ إذا سعرت     للظالمين فما تبقي ولا تذرُ

لو لم يكن لك غير الموت موعظة     لكان فيه عن اللذات مزدجرُ