نماذج من أحوال السلف


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

درسنا في هذه الليلة: "نماذج من أحوال السلف".

جلس ابن مسعود رضي الله عنه عند أصحابه فقال أحدهم: [ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، ولكني أحب أن أكون من المقربين. فقال ابن مسعود رضي الله عنه: أما إن هاهنا رجلاً -يعني نفسه- يود أنه إذا مات لم يبعث] يتمنى أنه يموت ولا يبعث، وأنت تقول: تريد أن تكون من المقربين ولا تريد أن تكون من أصحاب اليمين!

يقول إدريس بن حوشب: [ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز! كأن النار لم تخلق إلا لهما] يقول: أراهما من خوفهما كأن النار خلقت لهما فقط ولم تخلق لغيرهما.

وقال عبد الرحمن بن الحارث: [كنت عند عبد الله بن حنظلة يوماً وهو على فراشه وقد عدته من علته -كان مريضاً- فتلا رجلٌ عنده هذه الآية: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] فبكى حتى ظننتُ أن نفسه ستخرج، قال: صاروا بين أطباق من النار، ثم قام على رجليه، فقيل: اجلس رحمك الله. قال: إن ذكر النار منعني الجلوس والقعود، لا أدري لعلي أكون أحدهم].

ويقول عبد الرحمن بن مهدي: [بات سفيان عندي، فكلما اشتد به الأمر جعل يبكي -سفيان الثوري رحمه الله- فقال له رجل: يا أبا عبد الله! أراك كثير الذنوب، فرفع شيئاً من الأرض وقال: والله لذنوبي أهون عندي من هذا التراب، لكني أخاف أن أسلب الإيمان قبل الموت].

انظر كيف يصف الله حالهم! يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [النور:37] .

جاء سائل إلى ابن عمر فقال ابن عمر لابنه: [أعطه ديناراً -فقير أعطه ديناراً- فلما انصرف قال ابنه: تقبل الله منك يا أبتاه. فقال ابن عمر: لو علمت أن الله تقبل مني سجدة أو صدقة درهم واحد؛ لم يكن غائب أحب إلي من الموت] أتدري ممن يتَقَبَّل الله؟ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60] الواحد منا إذا صلى العصر ضمن، وإذا صلى التراويح كأنه وصل، وإذا تصدق بمائة دينار يذكرها طوال عمره، وهذا يقول: لو علمت أن الله تقبل مني درهماً لتمنيت الموت.

ويقول الحسن البصري: يخرج من النار رجل بعد ألف عام، يا ليتني كنت ذلك الرجل، يا ليتني كنت ذلك الرجل. أي: أمكث في النار فقط ألف عام، والواحد منا كأنه أصاب الفردوس.

وسفيان الثوري كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم رحمه الله، لشدة بكائه وخوفه ووجله من ذلك اليوم.

وعن عروة بن الزبير قال: [كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة -يقول: أول بيت أزوره بيت عائشة رضي الله عنها- قال: أسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تقرأ قول الله عز وجل وتردد وتبكي: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] وتعيدها وتبكي: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] يقول: فانتظرتُها، فأطالت وهي تبكي، قال: قلتُ: أذهبت إلى السوق فأقضي حاجتي ثم أرجع، قال: فذهبت فقضيت حاجتي فرجعت وهي تردد الآية وتبكي، رضي الله عنها].

ويقول يونس بن عبيد: [دخلنا على محمد بن واسع نعوده وما يدري عني، فأخذ الناس يمدحونه ويثنون عليه، فقال محمد بن واسع: وما يغني عني ما يقول الناس إذا أُخِذ بيدي ورجلي فألقيت في النار؟!] يقول: ماذا ينفعني كلام الناس؟ هذا يمدح، وهذا يثني، وهذا يطري، وهذا يقول فيَّ ما يقول، يقول: ماذا ينفعني هذا الكلام إذا أخذ بيدي ورجلي ثم ألقيت في النار؟!

ومالك بن دينار يظل طوال الليل يقبض على لحيته ويبكي ويقول: [يا رب! قد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار ففي أي الدارين منزل مالك؟ ] يقول ذلك وهو يبكي.. تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] كلما وضع خده على الفراش بكى وقام، وكلما أراد النوم أطار ذكر النار النوم من عينيه.

دخل العلاء على عطاء السلمي وقد غُشي عليه، فقال لامرأته أم جعفر: ما باله؟ ما الذي جرى له؟ فقالت: سجرت جارتنا تنوراً فنظر إليه فخر مغشياً عليه.. نظر إلى التنور فتذكر نار الآخرة فأغمي عليه ولم يستطع أن يقوم من مكانه.

يروى عن الحسن بن صالح أنه قام ليلة كاملة بقوله تعالى: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2] فغُشي عليه، فلم يختمها حتى الفجر.

إذا ما الليل أظلم كابدوه     فيُسْفِرُ عنهمُ وهمُ ركوعُ

أطار الخوفُ نومَهم فقاموا     وأهل الأمن في الدنيا هجوعُ

وهذا محمد بن المنكدر بكى في الليل فجاء أهله يرحمونه، فأرسلوا إليه أبا حازم ، فجاء أبو حازم إليه يقول له: ما الذي جرى؟ أبكيت أهلك؟ أبكيت الجيران يا أبا عبد الله؟ قال: قرأت قوله تعالى: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] يقول: وما أدري لعلي أكون منهم، فبكى محمد مرة أخرى، وبكى معه أبو حازم ، فجاء أهله وقالوا: جئنا بك لترحمه فأثقلت عليه وشققت عليه.. وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47] يحسب أنه قرأ القرآن، وأنه تصدق، وأنه صلى الله عليه وسلم، ثم وصل إلى الجنة، فإذا أتى يوم القيامة وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].

شرب عبد الله بن عمر ماءًَ بارداً، فأخذ يبكي واشتد بكاؤه، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت قول الله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] قال: فعلمتُ أن أهل النار يشتهون في النار الماء -وهو يشرب الماء- فينادون في النار: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ [الأعراف:50] ثم اشتد بكاؤه مرة أخرى.. من هو؟ إنه ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

يقول مالك بن دينار: [البكاء على الخطيئة يحط الخطايا كما يحط الريح الورق اليابس] .

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها      لنفسي من نفسي عن الناس شاغلُ

في ليلة من الليالي فزع الحسن البصري من النوم، فأخذ يبكي، فبكت زوجته وبكى أهل البيت كلهم، حتى سئل فقال: ذكرت ذنباً لي فبكيت. في النوم تذكر أنه أذنب ذنباً واحداً، ونحن إذا نمنا على الفراش ماذا نتذكر؟! كم هي الذنوب! وكم هي المعاصي! وكم هي الخطايا! والمصيبة أن العين لا تدمع، وأن القلب لا يخشع، وأن النفس لا تمتثل لأمر الله.

كان عمر بن عبد العزيز يصلي ذات ليلة، فوصل إلى قوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:71-72] فجعل يبكي حتى الصباح.

وقبل أن يموت عمر بن عبد العزيز قيل له: إنك مسموم يا عمر! فقال: أيقول الناس فيَّ هذا؟ قالوا: نعم. فنادى غلاماً له -وهذا الغلام هو الذي سقاه السم قبل أن يموت- فقال لذلك الغلام: ما الذي حملك على أن تسقيني السم. قال: أعطيت ألف دينار على أن أقتلك. فقال له عمر -بينه وبينه-: ائت بهذه الألف وضعها في بيت المال ثم اذهب ولا يراك أحد. قتله فرحمه فعفا عنه قبل الموت.

وروي عن تميم الداري أنه قرأ ليلة من الليالي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [الجاثية:21] فتوقف وأخذ يبكي حتى الصباح.

وقيل أن عطاء السلمي سئل: ما هذا الحزن؟ لم كل هذا الحزن والبكاء والخشوع؟ فقال للسائل: ويحك! الموت في عنقي، والقبر بيتي، وفي القيامة موقفي، وعلى جسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يُصنع بي، ثم تسأل لماذا أحزن؟! إذا كان هذا القبر بيتي، ويوماً من الأيام سوف أرد على الصراط، أُخبرت أني سوف أرده ولم أُخبر أنني سوف أجوز عليه، وفي القيامة موقفي ثم تقول لم تحزن!!

فإذا بزغ الصبح وأذن الفجر وطلع الصباح، وأشرقت الشمس؛ رأيتَ هؤلاء الذين بكوا في الليل وظلوا قياماً لله عز وجل يصيح بهم صائح الجهاد: حيَّ على الجهاد! يا خيل الله اركبي! إلى الجهاد والمعارك! رأيت الذي يبكي في الليل ويقوم ويصلي ويسجد يركب الفرس ويذهب ويسرع إلى الجهاد في سبيل الله.

فاسمع -يا عبد الله- إلى صفحة أخرى من صفحات سلفنا الصالح في الجهاد في سبيل الله وفي قتالهم الأعداء والكفار.

خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول

خالد بن الوليد .. أظن أن كل المسلمين قد سمعوا به، ما من صغير ولا كبير إلا طرب من سماعه، سيف الله، يقول قبل الموت رضي الله عنه: [شهدت مواقع كثيرة، ودخلت مائة حرب ليست حرباً واحدة، وما من موضع في جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، ولقد طلبت الموت من مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على الفراش، وما من شيء أرضى عندي بعد لا إله إلا الله -أكثر شيء يرجوه في الدنيا بعد لا إله إلا الله- قال: من ليلة شديدة البرودة في سرية من المهاجرين بتها والسماء تنهل علي بالمطر، وأنا أنتظر حتى أغير على الكفار؛ فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد].

لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو     نصب المنايا حولنا أسوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي      خلق الوجود وقدر الأقدارا

نفوسنا يا رب فوق أكفنا     نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

كنا نرى الأصنام من ذهب     فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

ألب أرسلان وشجاعته

وهذا ألب أرسلان -اسمع إلى هذا الرجل ماذا فعل- سمع أن الروم قد حشدوا ستمائة ألف من الجيش، أكثر من نصف مليون جنود وعسكر وجيش، معهم الأسلحة، إذا رأيتهم تخاف من منظرهم، قد غطوا الجبال والسهول والوديان والأراضي، فسمع ألب أرسلان بهؤلاء، فقال لأصحابه وكانوا عشرين ألفاً -عشرون ألفاً ماذا يفعلون أمام ستمائة ألف من الكفار؟!- فقال لهم: ماذا تفعلون؟ الموت محتم لكم، إما أن نموت بكرامتنا وإما أن نموت بذلنا.

قالوا: اذهب أينما تذهب، فنحن خلفك، فسار بالجيش وهم عشرون ألفاً، كلهم رجال شجعان يمشون خلفه، فعدهم في الطريق فإذا خمسة آلاف قد رجعوا، فصاروا خمسة عشر ألفاً، فلما اقترب من جيش الكفار عد أصحابه فإذا هم اثنا عشر ألفاً، رجع ثلاثة آلاف ولم يبقَ إلا اثنا عشر ألف فارسٍ شجاعٍ، كلهم قد وضع نفسه على كفيه، يريد الموت قبل أن يطلب الحياة، وقفوا أمام ستمائة ألف من النصارى الروم، وقد صفوا عشرين صفاً لا يُرى أولهم من آخرهم، وملكهم خلف هذه الصفوف، فقال ألب أرسلان لجيشه: إني قد عزمت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال.

قالوا: ولم؟ قال: لأن في هذه الساعة يوم الجمعة كل المسلمين يدعون أن يعز الله دينه؛ فأحببت أن تصيبني دعوة المسلمين. قالوا: افعل ما تفعل، فلما زالت الشمس صلى وقام في الناس يدعو والناس يؤمنون خلفه، فاقترب الصفان، فقال لمن خلفه: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة.. ستمائة ألف أمام اثني عشر ألفاً! قال: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة، ولا ترموا بسهم حتى أكون أولكم رمياً، قالوا: افعل ما تفعل، فكبر وكبر الناس خلفه، فاخترقوا الصف الأول والثاني والثالث، وعشرين صفاً اخترقوها حتى وصلوا إلى ملكهم، فأسروه وقتلوا من حوله، ورفعوا رأس أحدهم على رمح، فقال قائل منهم: قتل الملك قتل الملك.

فاضطربت صفوف المشركين الكفار، وفروا وذلوا وهربوا، فقتلهم المسلمون شر قتلة، فأُسر ذلك الملك النصراني الرومي، فأتي به إلى ألب أرسلان وهو جالس على سريره، فأتي به وهو مربوط بالحبال، فقيل له: ماذا نفعل فيه؟ فقال ألب أرسلان لذلك الرومي: لو كنت في مكاني ماذا كنت تفعل؟ قال: أقتلك. فقال ذلك المسلم الشجاع المقدام: أنت أذل عندي من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه في المسلمين. فذهبوا به بالحبال مربوطاً كي يبيعوه من ضمن الأسرى، كلما مروا على ملأ لم يشترِه أحد بأبخس الأثمان، ولم يشتره أحد، حتى جاءوا في آخر الجيش على رجل عنده كلب -أجلكم الله- فقال ذلك الرجل المسلم: لو بعتموه لي بهذا الكلب اشتريته -ملك النصارى تبيعوه بهذا الكلب!- فأتي به إلى ألب أرسلان فقالوا: يريد أحد المسلمين أن يشتريه بكلب، فقال الملك: لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، فالكلب ينفع وهذا الرجل لا ينفع، أعطوه لهذا الرجل مع هذا الكلب.. يقول الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

لقد انطلق حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أولئك السلف حتى وصل إلى قلوبهم: (إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ).

أحد المهاجرين في إحدى الغزوات حمل على المشركين حتى اخترق الصفوف، فأصيب بالسهام والنبال والسيوف والرماح، فقال بعض الناس: ما بال هذا الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقال أبو أيوب الأنصاري: [نحن والله أعلم بهذه الآية إذ نزلت، نزلت فينا معشر الأنصار، قاتلنا مع رسول الله وتركنا الأموال والضياع والأولاد، وقاتلنا مع رسوله، فلما أعز الله دينه وفشا الإسلام رجعنا بيننا وبين أنفسنا فقلنا: لو أصلحنا ضياعنا ومزارعنا وأموالنا، فأنزل الله فينا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]].

وقام أبو بكر في الناس خطيباً فقال: [أيها الناس! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة] .

حتى قال بعضهم:

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن     على شرجع يُعلى بخضر المطارف

يا رب! إن جاءت ساعة الوفاة فلا تجعلني أموت على فراش أخضر.

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن     على شرجع يُعلى بخضر المطارف

ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة     يصابون في فج من الأرض خائف

عصائب من شيبان ألَّف بينهم     تقى الله نزّالون عند التزاحف

إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى     وصاروا إلى موعود ما في المصاحف

أناس يحبون الموت كما تحبون الحياة! أتعرف لم يا عبد الله؟ لأن الموت لا يصيبهم إلا كقرصة نملة، فإذا مات فإنه يغفر له من أول قطرة دم، يغفر له جميع الذنوب، أما إذا بعث فإنه يؤمن الفزع الأكبر وفتنة القبر، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم.

عبد الله: أولئك يتمنون الشهادة كما يتمنى أولئك الحياة!

عبد الله بن المبارك وجهاده في سبيل الله

أسمعت بـابن المبارك؟ أظنك سمعت به، هذا الرجل كان عالماً فقيهاً، كان يعلم الناس، وكان عابداً، وكان زاهداً، وفي يوم من الأيام ذهب إلى المعركة، ذهب إلى الجهاد، فلما رأى الغزو والقتال والمعارك والشهادة في سبيل الله، ولما رأى الحياة الحقيقية، قال في نشوة: [إنا لله وإنا إليه راجعون على أعمار أفنيناها، وأيام قطَّعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة خلفنا!] وتركنا أبواب الجنة مفتوحة خلفنا.

نعم -يا عبد الله- إن العلم من أفضل أنواع النافلة، إن العلم جهاد، يكفيه شرفاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) ولكن صاحب الجهاد يصاب بنشوة، يصاب بحياة، يشم رائحة الجنة وهو على الأرض، يمشي ويستنشق عبيرها، فلهذا يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! ضيعنا العمر وضيعنا الحياة، وهذه هي الحياة الحقيقية؛ فكتب رسالة للفضيل بن عياض الذي جاور الحرم، الذي جلس عند بيت الله ليعبد الله، كتب له رسالة يقول فيها:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا     لعلمت أنك بالعبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه     فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل     فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا     رهج السنابك والغبار الأطيب

نعم، أنتم لكم الطيب.. لكم العبير.. لكم البخور.. لكم الفرش.. لكم الدنيا..

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا     رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا     قول صحيح صادق لا يكذب

لا يجمعان غبار خيل الله في     أنف امرئ ودخان نار تلهب

بسر بن أرطأة وقتاله للنصارى

وهذا بسر بن أرطأة، يرى أن جيش الإسلام كلما تقدم كُسِر، وكلما تقدم كُسِر، ما الذي يحصل؟ يأتي كمين من النصارى ولا يدرى أين هذا الكمين! فرجع جيش المسلمين وتحصنوا، فخرج هذا الرجل على فرسه، فرأى إحدى الكنائس وبجوارها براذين من براذين النصارى الفرسان، وعلم أن هذا الكمين مختبئ في تلك الكنيسة، فماذا سيفعل هذا الرجل؟ ربط فرسه عند الكنيسة، ودخل داخل الكنيسة لوحده، وأغلق الباب خلفه، ولما رآه النصارى تعجبوا: ماذا يفعل هذا الرجل؟! فرفع السيف وأخذ يقاتلهم لوحده في الكنيسة، فقتل ثلاثة، وأصيب بمقتلة، وبحث عنه المسلمون فلم يجدوه، فوجدوا فرسه عند الكنيسة، وسمعوا جلبة داخل الكنيسة، فعلموا أنه داخل الكنيسة يقاتل لوحده، فكسروا الباب، ودخلوا عليه وهو يقاتل وهو يمسك بأمعائه، قد شج بطنه وسقطت أمعاؤه فأمسكها بيده وهو يقاتل النصارى بسيفه بيده اليمنى، فأخذوا يقاتلون معه حتى قتلوا النصارى وأسروا من أسروا منهم، فلما جيء به وأرجعت أمعاؤه إلى بطنه وعولج، قال النصارى: ننشدكم بربكم إلَّا أخبرتمونا من هذا؟ قالوا: هذا بسر بن أرطأة، قالوا: والله ما ولدت النساء مثله، والله ما ولدت النساء مثله.

نعم يا عباد الله! إنه سمع قول الله عز وجل: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ [آل عمران:142] بغير جهاد! بغير صبر! وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142] .

من ذا الذي رفع السيوف ليـرفع اسمك     فوق هامات النجوم منارا

كنا جبالاً في الجبال وربما     صرنا على موج البحار بحارا

بمعابد الإفرنج كان أذاننا     قبل الكتائب يفتح الأمصارا

لم تنسَ أفريقيا ولا صحراؤها     سجداتنا والأرض تقذف نارا

وكأن ظل السيف ظل حديقة     خضراء تنبت حولنا الأزهارا

قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال لأصحابه: (وددتُ أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل، ثم أحيا، ثم أقتل) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران:145] .

أيها الأخ الداعية إلى الله: لماذا يمنعك الخوف؟ لماذا تفكر في الموت؟ لماذا دائماً يرهبك هذا العذاب وهذا السجن وهذا الطرد وهذا القتل وهذا الزحف؟ لماذا تخاف من هذا كله؟ ألم تعلم أن الموت مكتوب وأن هذه الجيوش وهذه الأسلحة لن تقدم في موتك ولا ثانية واحدة؟

نماذج من الصحابة للجهاد في سبيل الله

البراء بن مالك في يوم اليمامة، أتعرف ماذا فعل؟ قال لأصحابه: احملوني على حصنهم واقذفوني فيه، فيُحمل فيرمى في الحصن لوحده، فيقتُل منهم ويقاتل حتى قتل منهم عشرة لوحده في الحصن، حتى فتح الباب للمسلمين ودخلوا فوجدوا فيه أكثر من ثمانين ضربة وطعنة.

أسمعت بـأنس بن النضر؟ شم رائحة الجنة على الأرض وقال: واهٍ لريح الجنة يا سعد! إني أجدها من دون أحد.

أسمعت بـعمير بن الحمام الذي قاتل فرمى التمرات وقال: إنها لحياة طويلة حتى آكل هذه التمرات. فقاتل حتى قتل.. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].

إن رأيتَهم في الجهاد فهم الأوائل.

وإن رأيتَهم في الدعوة إلى الله فهم الدعاة.

وإن رأيتَهم في الصدقة فهم أول الناس يتصدقون.

إن رأيتهم في الليل فهم البكاءون المصلون الساجدون الراكعون.

خالد بن الوليد .. أظن أن كل المسلمين قد سمعوا به، ما من صغير ولا كبير إلا طرب من سماعه، سيف الله، يقول قبل الموت رضي الله عنه: [شهدت مواقع كثيرة، ودخلت مائة حرب ليست حرباً واحدة، وما من موضع في جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء، ولقد طلبت الموت من مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على الفراش، وما من شيء أرضى عندي بعد لا إله إلا الله -أكثر شيء يرجوه في الدنيا بعد لا إله إلا الله- قال: من ليلة شديدة البرودة في سرية من المهاجرين بتها والسماء تنهل علي بالمطر، وأنا أنتظر حتى أغير على الكفار؛ فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد، فعليكم بالجهاد].

لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو     نصب المنايا حولنا أسوارا

ندعو جهاراً لا إله سوى الذي      خلق الوجود وقدر الأقدارا

نفوسنا يا رب فوق أكفنا     نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

كنا نرى الأصنام من ذهب     فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

وهذا ألب أرسلان -اسمع إلى هذا الرجل ماذا فعل- سمع أن الروم قد حشدوا ستمائة ألف من الجيش، أكثر من نصف مليون جنود وعسكر وجيش، معهم الأسلحة، إذا رأيتهم تخاف من منظرهم، قد غطوا الجبال والسهول والوديان والأراضي، فسمع ألب أرسلان بهؤلاء، فقال لأصحابه وكانوا عشرين ألفاً -عشرون ألفاً ماذا يفعلون أمام ستمائة ألف من الكفار؟!- فقال لهم: ماذا تفعلون؟ الموت محتم لكم، إما أن نموت بكرامتنا وإما أن نموت بذلنا.

قالوا: اذهب أينما تذهب، فنحن خلفك، فسار بالجيش وهم عشرون ألفاً، كلهم رجال شجعان يمشون خلفه، فعدهم في الطريق فإذا خمسة آلاف قد رجعوا، فصاروا خمسة عشر ألفاً، فلما اقترب من جيش الكفار عد أصحابه فإذا هم اثنا عشر ألفاً، رجع ثلاثة آلاف ولم يبقَ إلا اثنا عشر ألف فارسٍ شجاعٍ، كلهم قد وضع نفسه على كفيه، يريد الموت قبل أن يطلب الحياة، وقفوا أمام ستمائة ألف من النصارى الروم، وقد صفوا عشرين صفاً لا يُرى أولهم من آخرهم، وملكهم خلف هذه الصفوف، فقال ألب أرسلان لجيشه: إني قد عزمت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال.

قالوا: ولم؟ قال: لأن في هذه الساعة يوم الجمعة كل المسلمين يدعون أن يعز الله دينه؛ فأحببت أن تصيبني دعوة المسلمين. قالوا: افعل ما تفعل، فلما زالت الشمس صلى وقام في الناس يدعو والناس يؤمنون خلفه، فاقترب الصفان، فقال لمن خلفه: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة.. ستمائة ألف أمام اثني عشر ألفاً! قال: إذا أنا حملت فاحملوا معي دفعة واحدة، ولا ترموا بسهم حتى أكون أولكم رمياً، قالوا: افعل ما تفعل، فكبر وكبر الناس خلفه، فاخترقوا الصف الأول والثاني والثالث، وعشرين صفاً اخترقوها حتى وصلوا إلى ملكهم، فأسروه وقتلوا من حوله، ورفعوا رأس أحدهم على رمح، فقال قائل منهم: قتل الملك قتل الملك.

فاضطربت صفوف المشركين الكفار، وفروا وذلوا وهربوا، فقتلهم المسلمون شر قتلة، فأُسر ذلك الملك النصراني الرومي، فأتي به إلى ألب أرسلان وهو جالس على سريره، فأتي به وهو مربوط بالحبال، فقيل له: ماذا نفعل فيه؟ فقال ألب أرسلان لذلك الرومي: لو كنت في مكاني ماذا كنت تفعل؟ قال: أقتلك. فقال ذلك المسلم الشجاع المقدام: أنت أذل عندي من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه في المسلمين. فذهبوا به بالحبال مربوطاً كي يبيعوه من ضمن الأسرى، كلما مروا على ملأ لم يشترِه أحد بأبخس الأثمان، ولم يشتره أحد، حتى جاءوا في آخر الجيش على رجل عنده كلب -أجلكم الله- فقال ذلك الرجل المسلم: لو بعتموه لي بهذا الكلب اشتريته -ملك النصارى تبيعوه بهذا الكلب!- فأتي به إلى ألب أرسلان فقالوا: يريد أحد المسلمين أن يشتريه بكلب، فقال الملك: لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، لَلْكلب أشرف من هذا الرجل، فالكلب ينفع وهذا الرجل لا ينفع، أعطوه لهذا الرجل مع هذا الكلب.. يقول الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

لقد انطلق حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أولئك السلف حتى وصل إلى قلوبهم: (إذا رضيتم بالزرع، وتبايعتم بالعينة، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ).

أحد المهاجرين في إحدى الغزوات حمل على المشركين حتى اخترق الصفوف، فأصيب بالسهام والنبال والسيوف والرماح، فقال بعض الناس: ما بال هذا الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة؟ فقال أبو أيوب الأنصاري: [نحن والله أعلم بهذه الآية إذ نزلت، نزلت فينا معشر الأنصار، قاتلنا مع رسول الله وتركنا الأموال والضياع والأولاد، وقاتلنا مع رسوله، فلما أعز الله دينه وفشا الإسلام رجعنا بيننا وبين أنفسنا فقلنا: لو أصلحنا ضياعنا ومزارعنا وأموالنا، فأنزل الله فينا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]].

وقام أبو بكر في الناس خطيباً فقال: [أيها الناس! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة] .

حتى قال بعضهم:

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن     على شرجع يُعلى بخضر المطارف

يا رب! إن جاءت ساعة الوفاة فلا تجعلني أموت على فراش أخضر.

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن     على شرجع يُعلى بخضر المطارف

ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة     يصابون في فج من الأرض خائف

عصائب من شيبان ألَّف بينهم     تقى الله نزّالون عند التزاحف

إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى     وصاروا إلى موعود ما في المصاحف

أناس يحبون الموت كما تحبون الحياة! أتعرف لم يا عبد الله؟ لأن الموت لا يصيبهم إلا كقرصة نملة، فإذا مات فإنه يغفر له من أول قطرة دم، يغفر له جميع الذنوب، أما إذا بعث فإنه يؤمن الفزع الأكبر وفتنة القبر، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم.

عبد الله: أولئك يتمنون الشهادة كما يتمنى أولئك الحياة!




استمع المزيد من الشيخ نبيل العوضي - عنوان الحلقة اسٌتمع
رسالة إلى كل من ابتلي بمس أو سحر أو عين 2684 استماع
فرصة للتوبة 2631 استماع
فصة برصيصا 2599 استماع
التوحيد 2595 استماع
قصة الفاروق الحلقة السادسة 2530 استماع
العبادة في رمضان 2487 استماع
الوقت وأهميته 2468 استماع
دعاة الفساد 2461 استماع
لنخرج العباد من عبادة العباد 2457 استماع
لقاء مع الشيخ المغامسي 2439 استماع