شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - مقدمة -1


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: ‏

تعريف الصلاة في اللغة

قال المصنف رحمه الله: [ كتاب الصلاة ].

وأجدني مضطراً إلى مقدمة وسوف أسرع فيها حتى نكسب الوقت، وهي تتعلق بالصلاة قبل الدخول في باب المواقيت.

فالصلاة في اللغة: هي الدعاء، ومن ذلك قول الشاعر الأعشى :

وصهباء طاف يهوديها وأبرزها وعليها ختم

وقابلها الريح في دنها وصلى على دنها وارتسم

يعني: دعا هذا اليهودي الخبيث لخمره ألا تفسد ولا تحمر، هذا معنى قوله: (وصلى على دنها وارتسم)، فكل مصل فهو داع، وكل داع فهو مصل.

ومنه أيضاً قول الأعشى :

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً

قوله: (عليكِ مثل الذي صليت) يحتمل أن يكون: صلي لي مرة ثانية، ادعي لي مثلما دعيتِ، (عليكِ مثل الذي)، أو أنه يقول: أدعو لكِ بمثل ما دعوت لي به.

عليكِ مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً

هذا معنى الصلاة في اللغة: الدعاء والاستغفار، وقد جاء هذا المعنى في القرآن والسنة، فمنه في القرآن قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] يعني: ادع لهم إذا أتوك بالزكاة، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103]، ولذلك روى البخاري في صحيحه : عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل بني فلان، وإنه أتاه أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى ) .

ومنه أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل )، فلا يفهم من هذا قول الذين يأخذون اللفظ بظاهره (إن كان صائماً فليصل) يعني: إذا قرب الطعام قام يصلي، كما حكي عن بعضهم أنه سمع هذا الحديث ففهمه خطأ، فلما قدمت المائدة قام واستقبل القبلة وقال: الله أكبر، فلما سألوه عن ذلك قال: هذا امتثال لقول الرسول عليه السلام: ( من كان صائماً فليصل )!

المعنى الصحيح: فإن كان صائماً فليدع، يعني: يدعو لأهل الطعام دون أن يلزمه أن يفطر ليأكل من طعامهم.

تعريف الصلاة في الشرع

أما الصلاة في الشرع فهي: عبادة ذات أقوال وأعمال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، واشتقاق العبادة الشرعية -تسميتها صلاة- لأنها مشتملة على الدعاء المخصوص، الذكر، هذا هو القول الراجح عند جمهور اللغويين وغيرهم من أهل التحقيق، وفي ذلك أقوال طويلة لا داعي للإطناب بها في أصل اشتقاق الصلاة.

فالقول الأقرب أن الصلاة مشتقة من الدعاء، يعني: أصل المعنى اللغوي هو الدعاء؛ لأن الصلاة مشتملة على هذا الدعاء، وهذه العبادة المعروفة بهذا التعريف كانت مفروضة على من قبلنا من الأمم، لكن ليس بهذه الهيئة ولا في هذه الأوقات كما دل على ذلك القرآن والسنة، فكان من قبلنا يؤمرون بالصلاة لكن على غير هذه الهيئة وفي غير هذه الأوقات.

حكم الصلاة

وهى ثابتة الوجوب مفروضة بأوقاتها الخمسة وصفتها المعروفة في الكتاب والسنة والإجماع:

فأما الكتاب فقد ذكر الله تبارك وتعالى الصلاة على سبيل الأمر بها والحث عليها ومدح فاعليها في نحو مائة موضع من القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] إلى غير ذلك، وأمر الله تعالى بها، وذم تاركيها كما في قوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ [مريم:59].

وبين عقوبة من تركها، كما في قوله تعالى: إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:39-43].

ومدح فاعلها، كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، وكما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، وكما في قوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:22] إلى غير ذلك من أوجه ذكرها في القرآن الكريم.

أما في السنة النبوية فالأحاديث الواردة في ذلك أكثر من أن تحصر، ومنها: حديث ابن عمر رضي الله عنه -وهو متفق عليه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان )، ومثل حديث أنس وطلحة بن عبيد الله ومعاذ بن جبل وغيرهم، والأحاديث في هذا الباب -كما أسلفت- كثيرة جداً، وسيمر أيضاً شيء آخر منها.

وكذلك الإجماع؛ فإن الأمة أجمعت على وجوب الصلوات الخمس من لدن الصحابة إلى يوم الناس هذا، لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين من أهل القبلة.

أما ما عرف عند بعض المتصوفة الذين يقولون: إن الواحد منهم إذا بلغ مرحلة معينة سقطت عنه التكاليف فهؤلاء ليسوا من أهل القبلة، بل هم خارجون عن الإسلام ولا عبرة بهم، وكذلك ما يعرف في هذا الزمن عند من يسمون بالقرآنيين، وهم فئة ضالة مرتدة يوجدون في عدد من البقاع، وأكثر وجودهم في شبه القارة الهندية، ولا يؤمنون إلا بالقرآن، لا يؤمنون بالسنة، ولذلك لا يقولون بوجوب الصلوات الخمس، بل يوجبون ثلاث صلوات فقط: قبل طلوع الشمس وقبل غروبها وفي الليل، أخذاً بقوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ [طه:130]، فيوجبون ثلاث صلوات، فهؤلاء أيضاً ليسوا من أهل القبلة، وهم مرتدون كفار خارجون عن الإسلام.

أما المسلمون فهم مجمعون على وجوب الصلوات الخمس.

مكانة الصلاة في الإسلام

والصلاة آكد أركان الإسلام العملية، وهي أعظم الشعائر الظاهرة، ولذلك فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بصورة لم تفرض فيها غيرها من الشعائر، وذلك أنها فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، حيث عرج به إلى السماء ففرضت عليه خمسون صلاة ثم خففت إلى خمس، كما في حديث الإسراء المتفق عليه، وهذا دليل على فضلها وعظمها، وأن الإنسان لو أمضى وقته كله في الصلاة ما بلغ أداء شكر نعمة الله جل وعلا، ولذلك فرضت خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس، قال الله عز وجل: ( هي خمس وهي خمسون ) يعني: خمس في العدد وخمسون في الأجر ( ما يبدل القول لدي )، ( هي خمس وهي خمسون، لا يبدل القول لدي ).

فضل الصلاة

وقد ورد في فضل الصلوات الخمس أحاديث كثيرة:

منها: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال صلى الله عليه وسلم: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا ).

وروى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غمر جار بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر ) والحديث متفق عليه.

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من صلى البردين دخل الجنة ) الحديث متفق عليه. والمقصود بالبردين: صلاة الفجر وصلاة العصر.

حديث أبي هريرة الذي قبله: ( الصلوات الخمس ورمضان إلى رمضان ) هذا الحديث رواه مسلم وليس متفقاً عليه.

حكم جاحد وجوب الصلاة

هناك أحكام متعلقة بفرضية الصلاة لابد من الإشارة إليها، وهي أحكام مهمة جداً، من ذلك ما يتعلق بالإقرار بوجوبها، فمن أنكر أو جحد وجوب الصلاة فهو كافر مرتد بالإجماع لا خلاف في ذلك، من أنكر أو جحد وجوب الصلاة فهو مرتد إجماعاً، لا خلاف في ذلك؛ وذلك لأنه مكذب لله جل وعلا، ومكذب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومكذب لإجماع الأمة المحمدية التي أجمعت على وجوب الصلاة.

هذا حتى لو أدى الصلوات، فلو أن إنساناً يصلي -مثلاً- كل الأوقات ويقول: أنا أصلي لأنني لمست أثر الصلاة في تهذيب الروح والوجدان، ولمست أثرها في ضبط الأوقات بحيث يتحول الوقت إلى أجزاء مقسمة ما بين وقت وآخر، ولأن أداء الصلاة بالنسبة لي يحفظ مكانتي الاجتماعية، فأنا -مثلاً- مسئول أو لي مكانة، ولو لم أصل لاهتزت مكانتي عند الناس وعند المجتمع، إلى غير ذلك من الوسائل، فهو محافظ على الصلاة لكن لا يقول بوجوبها فما حكمه؟ كافر إجماعاً، لا يعذر في ذلك إلا من كان جاهلاً بوجوبها بحكم أنه حديث عهد بالإسلام، مسلم جديد ما عرف أن الصلاة واجبة، فهذا لا يقال بكفره حتى يعلم وتقام عليه الحجة ويبين له الحكم، ومثله من كان نشأ بعيداً في بادية بعيدة أو في مناطق نائية وما بلغهم العلم ولا يوجد عندهم علماء ولا وعاظ ولا دعاة ولا مرشدون ولا كتب، فمثله يتوقع منه الجهل بوجوب الصلاة، فهذا لا يكفر حتى تقام عليه الحجة ويبين له أن الصلاة واجبة، فإذا أصر على عدم الالتزام بوجوبها فإنه يكفر حينئذ، وهذا الشرط اتفق عليه أهل العلم، أنه لا يقال بتكفيره إذا كان مثله يعذر بالجهل.

من نام عن الصلاة أو نسيها

النقطة الثانية فيما يتعلق بفرضية الصلاة: أن تاركها لعذر لا شيء عليه، بل عليه القضاء فقط، يعني: إنسان نام عن الصلاة أو نسيها، فهذا يلزم بأدائها إذا ذكرها، ولذلك في الحديث المتفق عليه: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك ) .

هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.