بر الوالدين


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.

أما بعــد:

أيها الإخوة الكرام: أيها الأخ المستمع! أيتها الأخت المستمعة! حديثي إليكم في هذه الليلة عن بر الوالدين، ولا أظن مثلي يستحق أن يتكلم بهذه الكلمات، ولا أظن أني أهل.. لهذا الموضوع، ولكن من باب: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2].

بر الوالدين مقام عظيم، وأظن أن من سمع هذه القصص والحكايات واعتبر فسوف يتهم نفسه بالعقوق، ولا أظن أحداً -أيها الإخوة- سوف يسمع هذه القصص وتلك العبر، إلا وسوف يتهم نفسه بكبيرة من الكبائر، بل هي بعد الإشراك بالله جلَّ وعلا، ألا وهي عقوق الوالدين، بل لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؟ قال: (الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فهو خير حتى من الجهاد في سبيل الله، والعقوق شر من الفرار يوم الزحف.

رجل يطوف بأمه على ظهره

وهذا رجل يماني يطوف بالبيت، يحمل أمه العجوز على ظهره، ويطوف بها بالبيت، من منا يفعل هذا؟ ومن منا يتصور هذا قبل أن يفعله؟ يحمل أمه على ظهره ثم يطوف حول البيت، هل وصلنا بالبر إلى هذا المستوى؟ هل وصلنا بطاعة الوالدين وحبهما إلى هذه الدرجة؟ يحملها على ظهره فيطوف بالبيت، فيرى ابن عمر ذلك الرجل الصحابي الفقيه، فقال له: [يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ -تراني بهذا الفعل جزيت حق أمي وأرجعت لها الحقوق- فقال له ذلك الرجل العالم ابن عمر: لا. ولا بزفرة من زفراتها]، ولا بطلقة من طلقاتها حين وضعتك من بطنها.

مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت.

واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.

قصة عاق يفضل زوجته على أمه

فهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات، يقول: دخل عليَّ في المحل رجل ومعه زوجته، وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير، أربعة دخلوا في المحل، يقول: وأخذت زوجته تشتري من المحل، وتشتري من الذهب، وتأخذ من المجوهرات، ثم قال له هذا الرجل للبائع: كم حسابك؟ فقال له -وأنا أخبركم بالعملة التي ذكر بها الشيخ-: عشرون ألف ريال ومائة، فقال هذا الرجل: ومن أين جاءت هذه المائة؟ نحن حسبناها عشرين ألف، من أين هذه المائة ريال؟ من أين جاءت؟ قال: أمك العجوز اشترت خاتماً بمائة ريال، قال: أين هذا الخاتم؟ قال: هو ذا، فأخذ ابنها الخاتم ثم رماه إلى البائع، وقال: العجائز ليس لهن الذهب، ثم لما سمعت العجوز تلك الكلمات، بكت وذهبت إلى السيارة، فقالت زوجته: يا فلان! ماذا فعلت؟ لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا.

لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد.

يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].

وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟!

إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟!

يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها.

يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي.

يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة).

شاعر يصف عقوق ابنه

واسمع إلى القصة الثانية: واسمع -يا عبد الله- إلى هذا العقوق، لتعلم أن ما خفي أعظم.

في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال:

تغمط حقي ظالماً ولوى يدي      لوى يده الله الذي هو غالبه

فبكى وأبكى كل من في المجلس.

أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟!

أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟!

أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟!

اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً      تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل

إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت      لشكواك إلا ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي      طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنني      لأعلم أن الموت حتم مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي      إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة      كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذلم ترع حق أبوتي      فعلت كما الجار المجاور يفعل

يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة.

عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!

حلم والدة ولؤم ولد

واسمع إلى هذه القصة، التي لولا أنها ذكرت في جريدة وتواترت على ألْسنة بعض الناس -والله- ما ذكرتها ولا قصصتها ولا كنت أظن أن من الناس من يفعل هذا، وسوف أتصرف في ذكرها فاسمعها -يا عبد الله- وعها لتعلم أن هذا الشر مستطير، وأن هذا الفعل يوشك أن يؤذن لهذه المجتمعات بالعقوبة، وأن ينزل الله عز وجل عليها عذابه، بسبب ما يفعله كثير من الناس.

يقول الراوي: إنه خرج مع أسرته إلى شاطئ البحر، فلما وصل -هو وعائلته- يقول: رأينا عجوزاً على بساط على الشاطئ لوحدها، يقول: فجلسنا على الشاطئ، فتعشينا في الليل، يقول: ثم بعد العشاء تسامرنا، وأخذنا نلهو ونتحدث حتى حلَّ منتصف الليل، يقول: وأردنا الرجوع، فلما أردنا الرجوع قلت في نفسي: سبحان الله! ما بال هذه العجوز جالسة لوحدها؟! لم يأتها أحد، ولم يقربها أحد، يقول: فلما قفلنا جئتها، فقلت لها -اسمع إلى هذا الخبر، واسمع إلى هذا العقوق- فقلت لها: يا أماه! خيراً إن شاء الله، أنت لوحدك وليس معك أنيس ولا جليس، فقالت هذه العجوز: إن ابني أتى بي إلى هنا، وقال لي: أن عنده عملاً سوف يذهب إليه ثم يرجع.

فقال لها: يا أماه! الوقت متأخر فهلا رجعت معنا؟ قالت: لا. سوف أنتظر ابني ولو تأخر، فقد أخبرني أنه: سوف يتأخر وسوف يرجع.

قال: يا أماه! لكن الوقت متأخر جداً ولا أحد في هذا المكان. قالت: لن أرجع حتى يرجع ابني، وعدني أنه سوف يرجع، وأعطاني هذه الورقة. قال: وما هذه الورقة؟ فقالت: اقرأها تعرف ما فيها.

فقرأتها فإذا في هذه الورقة: يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أن يأخذ العجوز إلى دار الرعاية.

لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه، فهذه في الكلمات فكيف إذا كانت في الأفعال؟! يرميها على شاطئ البحر ويقول: يرجى ممن عثر على هذه العجوز أن يأخذها إلى دار الرعاية.

اسمع هذه الأم، والشاعر يتكلم بلسانها، وكأنها تقول:

لا تسبوا ولدي ما كنت     رغم الغدر خصمه

لا تسبوه مهما فعل.

إن لي في قلبه حباً      وليس الحب تهمه

هو طفلي وأنا      أضمنه مذ كان لحمه

هو في الليل سميري      وأنيسي في الملمه

فإذا خاف سكبت الأمن      كي أذهب همه

وإذا عاد تداعيت له      صوتاً ونغمه

فأناغيه بلحن      وأناجيه بكلمه

ولدي ما عقني بل      فعله بر ورحمه

جاء بي للبحر كي      أنعم في رمل ونسمه

فدعوه ولا تسيئوا      الظن فيه بالمذمه

واذهبوا للدار بي      ما الدار للأبناء وصمه

غاب عني لم يغب      إلا لأمر قد أهمه

هو مشغول      وللمشغول أعذار وحرمه

وسيأتي ولدي للدار      إن أنهى المهمه

ولدي أعرفه      من ذا الذي ينكر أمه

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء:23-24].

أهذا هو جناح الذل أن ترميها في دار الرعاية؟!

أهذا هو جناح الذل أن ترميها على البحر؟!

أهذا جناح الذل أن تطردها لأجل الزوجة؟!

أهذا جناح الذل أن تتركها في البيت لوحدها، وتذهب مع زوجتك لبيت فاخر، وتسكن مع الزوجة، وتلهو مع الأولاد، وقد تركتها بين أربعة جدران؟!

أهذا هو البر أم هذا هو العقوق بعينه يا عبد الله؟! (رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه، قيل: من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار).

أمية الكناني يعاتب الفاروق

واسمع إلى أمية الكناني؛ فهذا الرجل كان شيخاً كبيراً، وكان رئيساً لقومه، وكان له ابن اسمه كلاب، هذا الابن كان باراً بوالديه -بأبيه وأمه- وكان صالحاً، فذهب إلى المدينة، وجاء إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألهم عن أفضل ما يقرب إلى الجنة؟ فأخبروه بالجهاد -الجهاد في سبيل الله- فذهب إلى والده، وكان باراً به ومحسناً إليه، وكان يخدم والديه من الصباح إلى المساء، ويقدمهما على زوجته وأولاده، فرفض أبوه في البداية، فلم يزلْ به حتى رضي أبوه، ثم ذهب إلى الجهاد، وكان أبوه في كل يوم يتذكر ابنه، ويتذكر حاله مع ابنه، وفي يوم من الأيام رأى أبوه حمامة على الشجرة، فنظر إليها، وبجنبها فرخها، فنظر إليها كيف تحنو على فرخها، فتذكر ابنه، وأخذ يقول ذلك الشعر، اسمع إلى الأب الذي يتذكر ابنه البار، فقال:

لمن شيخان قد نشدا كلاباً     كتاب الله لو قبل الكتابا

إذا هتفت حمامة بطن وجٍّ      على بيضاتها ذكرا كلاباً

إلى أين تركه يا عبد الله؟ تركه للجهاد، ونحن نخاطب من ترك أباه وترك أمه لأجل عمل دنيوي، أو لأجل زوجة وأولاد، أو لأجل معصية يسافر إليها.

تركت أباك مرعشة يداه      وأمك ما تسيغ لها شرابا

تلفظ مهده شفقاً عليه      وتجنبه أباعرها الصعابا

فإنك والتماس الأجر بعدي      كباغ الماء يتبع السرابا

ثم جاء إلى الخليفة، من هو الخليفة؟ إنه عمر بن الخطاب، جاء إليه هذا الأب وهذا الشيخ الكبير فدخل على عمر فهل تعرف ماذا قال لـعمر؛ لأنه الذي أرسله للجهاد؟ قال:

فلو فلق الفؤاد شديد وجد     لهم سواد قلبي بانفلاق

سأستعدي على الفاروق رباً     له دفع الحجيج إلى بساق

وأدعو الله مجتهداً عليه      ببطن الأخشبين إلى دقاق

إذا الفاروق لم يردد كلاباً      على شيخين هامهما زواقِ

ولما سمع عمر هذه الأبيات بكى، وأرجع الولد من الجهاد، فسأله؟ وقال له: ما شأنك وأبوك؟ فأخبره ببره بأبيه، وكيف كان يحلب لهما، ويطعمهما، ويسقيهما، ويخدمهما من الصباح إلى المساء، فلما سمع بحاله، أمره بالرجوع إلى والده، فنادى عمر والده الشيخ الكبير، وكان قد عمي من شدة البكاء، فأدخله في مجلسه، فأمر ابنه كلاباً أن يحلب له، فحلب له.

فقال عمر لهذا الشيخ الكبير: ماذا يسرك من الدنيا؟

قال: لا شيء، وأي خير أرجوه من الدنيا، قال: بل ترجو شيئاً؟

قال: أرجو أن أضم ولدي ضمة وأشمه وأقبله قبل الموت.

فقال له عمر: اشرب من هذا اللبن، فشرب من اللبن، ثم قال لـعمر: يا أمير المؤمنين! إني أجد في اللبن رائحة ولدي كلاب .

فقال له عمر: هو ذا ابنك يا فلان! فضمه وقبله، وأخذا يبكيان، فبكى عمر، وأبكى من حوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا [الأحقاف:16] يعني البارين بآبائهم، يعني من كان باراً بوالدته وباراً بأبيه اسمع إلى جزائه: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16]. هل فكرت أخي الكريم أن تدخل على أمك فتقبل رأسها وتطلب العفو منها؟ أو أن تدخل على أبيك فتقبل رأسه ويده وتطلب الصفح منه؛ وتطلب منهما أن يغفرا لك؟

هل فكرت -يا عبد الله- وحاسبت نفسك لو لقيت الله بهذا الجرم العظيم؛ جرم العقوق، وهو كبيرة من الكبائر؟ هل فكرت كيف تلقى الله به؟

عبد الله: هلا ذهبت هذه الليلة إلى أمك قبل أن تنام، وإلى أبيك قبل أن ينام، فقبلت رأسيهما، ثم طلبت الصفح والعفو منهما؟

رجل يرفض زيارة أمه حين وفاتها

اسمع إلى هذا العاق وكم هم العاقون! وكم هم المجرمون بحق والديهم! هذا العاق رمى أمه في دار العجزة، ويكفيك أخي الكريم أن تزور دور العجزة ولو مرة واحدة؛ لتسمع أخبار العاقين وأحوالهم، هذا الرجل رمى أمه العجوز في دار العجزة، وظل سنوات لم يزرها، وزمناً طويلاً لم يعرفها، حتى الاتصال لم يتصل بها، وحانت ساعة وفاتها، وأخذت في الاحتضار، فبكت ونادت المسئولين، وقالت لهم: اتصلوا بولدي، اتصلوا بولدي، اتصلوا بولدي، أريد أن أضمه قبل أن أموت، أريد أن أقبله، أريد أن أعانقه قبل الموت.

ولدها مهما فعل تحبه، ولدها -والله- مهما عقها ومهما فعل بها فإن في قلب الأم حباً لولدها مهما فعل.

قالت: أريد أن أضمه وأقبله قبل الموت، فاتصلوا بولدها، فقالوا له: إن أمك تحتضر، وتريد أن تراك وتقبلك، فقال هذا المجرم: ليس عندي وقت، وقتي ضيق، وعندي أعمال وتجارات وعقارات، ما عندي وقت، ثم أغلق الهاتف، ثم ماتت هذه الأم ولم تر ولدها، ماتت ساخطة عليه، فاتصل المسئولون بالولد فقالوا له: يا فلان! لقد ماتت أمك، لقد ماتت أمك العجوز، فماذا تظنونه يقول؟ قال: أكملوا الإجراءات وادفنوها.

لأمك حق لو علمت كثير      كثيرك يا هذا لديه يسير

فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي      لها من جواها أنة وزفير

وفي الوضع لو تدري عليها مشقة      فمن غصص منها الفؤاد يطير

وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها       وما حجرها إلا لديك سرير

نسيت فهل -يا عبد الله- وهي تغسل النجاسات من عليك؟! وهل نسيت -يا عبد الله- سهرها وأنت نائم؟!

وهل نسيت -يا عبد الله- مشقتها في المشي لأنك في بطنها؟! وهل نسيت -يا عبد الله- صراخها، وبكاءها وسهرها عليك؟! فهل نسيت هذا لأجل زوجة أو تجارة أو أصحاب؟! تباً لهؤلاء كلهم إذا كانوا سبباً للعقوق!

وكم غسّلت عنك الأذى بيمينها       وما حجرها إلا لديك سرير

وتفديك مما تشتكيه بنفسها       ومن ثديها شرب لديك نمير

وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها      حناناً وإشفاقاً وأنت صغير

فضيعتها لما أسنت جهالة      فطال عليك الأمر وهو قصير

فآهٍ لذي عقل ويتبع الهوى      وآهٍ لأعمى القلب وهو بصير

لعن الله من لعن والديه، لعن الله من لعن والديه.

وهذا رجل يماني يطوف بالبيت، يحمل أمه العجوز على ظهره، ويطوف بها بالبيت، من منا يفعل هذا؟ ومن منا يتصور هذا قبل أن يفعله؟ يحمل أمه على ظهره ثم يطوف حول البيت، هل وصلنا بالبر إلى هذا المستوى؟ هل وصلنا بطاعة الوالدين وحبهما إلى هذه الدرجة؟ يحملها على ظهره فيطوف بالبيت، فيرى ابن عمر ذلك الرجل الصحابي الفقيه، فقال له: [يا ابن عمر! أتراني جزيتها؟ -تراني بهذا الفعل جزيت حق أمي وأرجعت لها الحقوق- فقال له ذلك الرجل العالم ابن عمر: لا. ولا بزفرة من زفراتها]، ولا بطلقة من طلقاتها حين وضعتك من بطنها.

مهما فعلت -يا عبد الله- ومهما أحسنت إليها، فإنك -يا أخي الكريم- لن تصل إلى حقها ولو فعلت ما فعلت.

واسمع إلى القصة الأولى، وسوف نسرد هذه القصص ونتلوها ببعض العبر، وأرجو منك أخي الكريم أن ترعي لي سمعك وتنتبه، فهذه القصص ليست من نسج الخيال بل هي من واقعنا وواقع من قبلنا، ثم اعلم -يا عبد الله- بأن القصص غير هذه كثيرة وكثيرة، وغير هذه الحكايات أكثر، بل إنني استحيت من ذكر بعض القصص، وخجلت من ذكرها، لما فيها من وقاحة وعقوق وأنزه هذا المسجد وأنزه سمعك الطيب عن سماع مثل هذه القصص.

فهذه قصة يرويها أحد بائعي المجوهرات، يقول: دخل عليَّ في المحل رجل ومعه زوجته، وخلفه أمه العجوز تحمل ولده الصغير، أربعة دخلوا في المحل، يقول: وأخذت زوجته تشتري من المحل، وتشتري من الذهب، وتأخذ من المجوهرات، ثم قال له هذا الرجل للبائع: كم حسابك؟ فقال له -وأنا أخبركم بالعملة التي ذكر بها الشيخ-: عشرون ألف ريال ومائة، فقال هذا الرجل: ومن أين جاءت هذه المائة؟ نحن حسبناها عشرين ألف، من أين هذه المائة ريال؟ من أين جاءت؟ قال: أمك العجوز اشترت خاتماً بمائة ريال، قال: أين هذا الخاتم؟ قال: هو ذا، فأخذ ابنها الخاتم ثم رماه إلى البائع، وقال: العجائز ليس لهن الذهب، ثم لما سمعت العجوز تلك الكلمات، بكت وذهبت إلى السيارة، فقالت زوجته: يا فلان! ماذا فعلت؟ لعلها لا تحمل ابنك بعد هذا.

لعلها لا تحمل لنا الابن، كأنها أصبحت خادمة، فعاتبه بائع المجوهرات، ثم ذهب إلى السيارة، وقال لأمه: خذي الخاتم إن كنت تريدين، خذي هذا الذهب إن أردتيه، فقالت أمه: لا والله لا أريد الذهب، ولا أريد الخاتم، ولكني أردت أن أفرح بالعيد كما يفرح الناس، فقتلت سعادتي فسامحك الله، فسامحك الله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء:23] فبعد التوحيد والعبادة، ماذا يا رب: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ [الإسراء:23] لأن وقت الكبر أحوج ما يكونان إلى الأبناء، إلى الولد.

يا عبد الله! هذا وقت الحاجة، وهنا ترد الجميل، وهنا تحسن إليهما كما أحسنا إليك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] هل سمعت بكلمة أصغر من أف؟ إنك تستجيب ولكن بتأفف، تقول لك أمك: افعل، تفعل ولكنك متأفف، فهذا عقوق، وهذه كبيرة من الكبائر: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23] أي: أنك تشير بيديك إشارة، كأنك متضايق منهما، فتستجيب ولكن لا ترد عليهما بالكلام، ولكنها إشارة تدل على أنك تنهرهما: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:23-24].

وكم وكم يا عبد الله من الرجال في هذه الأيام يقدمون الزوجة على الأم! يأتي إلى البيت بهدية، وتنظر الأم وترى بعينيها، لمن هذه الهدية؟ إنها للزوجة، يدخل الغرفة ويغلق الباب فيعطيها لزوجته، أين حق الأم؟ نسي الأم، فما تذكرها، يشتري لزوجته الملابس، ويسكنها أفخم الأثاث، ويلبسها أغلى الذهب والمجوهرات، ولكن أين أمه؟ لقد نسيها، منذ متى عرفت زوجتك يا عبد الله؟! كم أحسنت إليك الزوجة؟!

إن أمك قبل أن توجد على وجه الأرض كانت تحسن إليك، وكانت ترأف بك وكانت ترحمك وتشقى لأجلك قبل أن تنزل على وجه الأرض، أنسيتها -يا عبد الله- حينما تزوجت ولم تذكر حقها؟!

يا عبد الله! كم وكم من الرجال من يأخذ زوجته في سفر، وفي رحلة، وفي نزهة، ولا يكلف نفسه أن يقول لأمه: أتريدين الذهاب معنا؟ هلا سافرت معنا! فتجده لا يريدها.

يقول: الأم تضايقني، ولا تجعلني أرتاح مع زوجتي.

يقول ابن عباس رضي الله عنه: [إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من بر الوالدة] يقول: ما في الدنيا عمل أكثر قربة إلى الله من بر الوالدة: (الزم قدميها فثم الجنة).

واسمع إلى القصة الثانية: واسمع -يا عبد الله- إلى هذا العقوق، لتعلم أن ما خفي أعظم.

في السير أن أحد الأعراب وفد على الخليفة يبكي، فقال له: ما بك؟ قال: أصبت في ولدي بأعظم من كل مصيبة. قال: وما هي؟ -تخيل شيخاً كبيراً يبكي، وتخيل رجلاً كبيراً في السن يبكي بين يدي الخليفة- قال: ربيت ولدي، سهرت ونام، وأشبعته وجعت، وتعبت وارتاح، فلما كبر وأصابني الدهر واحدودب الظهر، تغمط حقي، ثم بكى بكاءً مراً، وقال:

تغمط حقي ظالماً ولوى يدي      لوى يده الله الذي هو غالبه

فبكى وأبكى كل من في المجلس.

أيعقل أن يكون في الأولاد من يأخذ المال من أبيه ظلماً؟!

أيعقل أن تصل الوقاحة في الشخص أن يظلم والده؟!

أيعقل أن يكون هناك في الناس عقوق مثل هذه العقوق؟!

اسمع ماذا يقول الشاعر على لسان الأب كأنه يخاطب ابنه، وكن أنت كأن أباك يخاطبك بهذه الكلمات، فاسمعها وعها يا عبد الله:

غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً      تُعلُّ بما أجري عليك وتنهل

إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت      لشكواك إلا ساهراً أتململ

كأني أنا المطروق دونك بالذي      طرقت به دوني فعيني تهمل

تخاف الردى نفسي عليك وإنني      لأعلم أن الموت حتم مؤجل

فلما بلغت السن والغاية التي      إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

جعلت جزائي غلظة وفظاظة      كأنك أنت المنعم المتفضل

فليتك إذلم ترع حق أبوتي      فعلت كما الجار المجاور يفعل

يا ليتك عاملت أباك كما يفعل الجار! يا ليتك جعلته كالصاحب! كم وكم من الناس من يزعمون الصلاح ومن يتظاهرون بالإسلام، ومن يتمسكون ببعض السنة؛ يحسن إلى صاحبه، ويعامل أصدقاءه بأحسن معاملة، فإذا جاء لأبيه وإذا جاء لأمه، اسمع لكلمات العقوق، واسمع للرفض، إذا قالت له أمه: أريد زيارة فلانة؟ قال: ألا يوجد غيري في البيت؟! اذهبي إلى فلان، ليذهب بك فلان، سبحان الله! أما إذا قال له صاحبه، وصديقه وجاره وخليله، فإنه لا يتأفف ولا يتردد، بل يستجيب أيما استجابة.

عبد الله: أسمعت بعقوق كهذا؟! أسمعت في الناس من يفعل مثل هذه الأفعال؟!