رحل الرجل


الحلقة مفرغة

باسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:

فلقد مر عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى على مقبرة بعد أن صلى بالناس صلاة العيد، فبعد أن مر على المقبرة قال لمن حوله: امكثوا، وكان معه الوزراء والأصحاب، فذهب إلى المقبرة، وأخذ ينظر إلى القبور، فقال قولته المشهورة:

رأيت القبور فناديتها     فأين المعظم والمحتقر

تفانوا جميعاً فما مخبر     وماتوا جميعاً ومات الخبر

فيا سائلي عن أناس مضوا     أما لك في ما مضى معتبر

ثم سقط على ركبته، وأخذ ينادي: يأيها الموت! ماذا فعلت بالأحبة؟ وأخذ يبكي رحمه الله.

أتذكر فلاناً كان صاحباً وقريباً لك في يوم من الأيام، كان يلعب معنا، ويجلس معنا، ويدرس معنا، وفي العمل معنا.. أين هو الآن؟ أين ذهب؟

يوم من الأيام فتحت الجريدة فإذا اسم فلان صاحب لك قد توفي وفارق الحياة.. سبحان الله! وإذا رجل اتصل عليك ذاك اليوم فرفعت السماعة وكلمته، فقال: أتعرف فلاناً؟ فقلت: كيف لا أعرفه وقد كنت قبل أيام معه. قال: إنه قد ذهب وفارق الدنيا سبحان الله!

ماذا كان يعمل، وبم كان يحلم؟ كان يحلم أن يدرس ويحصل على الشهادة.. كان يحلم بالزواج وإنجاب الأبناء.. كان يحلم بالسيارات.. بالأثاث.. بالقصور.. بالبيوت.. بالسفر.. بالدنيا؛ ولكن! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] ذائقة: كأنه شربها في الصباح، إلى هذه الدرجة كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] المصيبة هي: هل هناك من يستأذنك؟ هل هناك من يخبرك؟ أم أنه حادث سيارة وانتهى الأمر، أو لعلها نومة لا تستيقظ منها ولا تدري هل تخبر أهلك؟ وماذا تريدون إذا رجعت من العمل أو من المدرسة؟ فإذا بك لا ترجع، لا تعلم لعلها السفرة الأخيرة، لعلها وأنت تلعب أو تسبح أو تنام أو أنت ساجد أو قائم أو راكع! لا نعرف! أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78] والله لو كنت في أفضل الأماكن، وحولك الأطباء قد تجمعوا ليرجعوا لك الروح.. إنها النهاية.

ولو أنا إذا متنا تركنا     لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا     ونسأل بعده عن كل شي

أيها الأخ العزيز! أريد منك في هذه اللحظات أن تتخيل نفسك وقد جاءك ملك الموت، ولنبدأ معاً هذه الرحلة.

يا أخي الكريم: لعلك في هذه اللحظة تلتفت فإذا بملك الموت جالس عند رأسك، ونعرف حينها إن كنت عبداً صالحاً، هل صليت الصلاة، وحافظت على الواجبات، وهل إن عصيت الله تبت، وإن أذنبت رجعت واتقيت الله وأتبعت السيئة الحسنة؟

إن كنت من هؤلاء وجاءك ملك الموت، فإذا بك تنظر إلى ملائكة بيض الوجوه مد البصر من حولك، لعل الأم تبكي، ولعل الزوجة تبكي، ولعل الأب يبكي، ولعل الطبيب يأتي ويحاول أن يداويك ويرجع لك الروح؛ لكن كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26-27] ينادون: من يداوي هذا؟ أرأيت إن أتتك السكتة؟ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27] كأن القارئ قد خنقته العبرة، وكأنه قد تردد هل من راق؟ أي: من يداويه وهو يعلم أنها النهاية وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاق [القيامة:28].

أخي الكريم! لو كانت هذه اللحظة قد أتتك هل أنت مستعد؟ حاسب نفسك.. هل صليت الصلوات الخمس في بيت الله بخشوعها وأركانها وواجباتها، أم أنك لا تعرف بما صلى الإمام في صلاة العشاء أم أن الفجر ليس في جدولك؟ لا نعرف.

أخي الكريم! كم تلفظت بكلمة حرام في هذه الليلة أو في ذلك اليوم؟

أخي الكريم! ماذا أديت من حقوق الله في بر الوالدين وصلة الرحم وطلب العلم والدعوة إلى الله؟ كم زلة وقعت منك هذا اليوم.. كن صادقاً مع نفسك.

أخي الكريم! إذا خدعت فإنك لا تخدع إلا نفسك.

نبدأ إلى تلك الرحلة.. رحلة الرجل الصالح الذي تاب إلى الله، نعم. يذنب، ولكنه يندم، ويخاف ويوجل القلب، ويرجع إلى الله، ويتبعها الصالحات.

هذا الرجل يأتيه ملك الموت وهو مستعد وجاهز، تخرج روحه كما تسيل القطرة من فيّ السقاء، هل يحس ويتألم بها؟ لعل الجسد يتألم أما الروح فلا، تخرج الروح كما تسيل القطرة، فيأخذها ملك الموت، فتخرج كأطيب ريح وجدت على وجه الأرض، فتصعد إلى السماء الدنيا فيفتح لها، هذه روح شريفة، مرغ جبهته لله، باراً بوالديه، واصلاً أرحامه، متصدقاً في سبيل الله، يصلي الصلوات الخمس، يعف عن الحرام، إن زل رجع إلى الله وتاب، تفتح له أبواب السماء كلها إلى السماء السابعة ثم ترجع إلى جسده، وهو الآن في حفرة ضيقة؟ يسمع أناساً يمشون فوقه، يسمع قرع نعالهم، فالأمر سريع، لعلها ساعات قليلة؛ بل لعلها دقائق، والناس لا يزالوا حوله، ولا ندري لعلهم قد صفوا صفوفاً يعزي بعضهم بعضاً، ولعل أباه يبكي عليه فوق قبره، ولعل الإخوان يقولون: مسكين فارق الدنيا! مسكين لم يتمتع بشبابه! مسكين ذهب ولم يكمل دراسته! ولم يرَ الزوجة! ولم يرَ ابنه في بطن أمه! ولم يفعل ولم يفعل!

حال المؤمن في قبره

أيُّ مسكين ذلك الذين يجلس فإذا به بملكين أسودين أزرقين ينتهرانه فيقولان له: من ربك؟ فيجيب إجابة المستيقظ: ربي الله.. ما دينك؟ ديني الإسلام؛ لأنه عندما كان يسمع: الله أكبر! كان الله عنده أكبر من كل شيء، وعندما كان يسمع: الصلاة خير من النوم، رمى الفراش وهب مسرعاً إلى المسجد، وعندما كان يخر ساجداً لله فيقول: سبحان ربي الأعلى، كان في قلبه أن الله هو الأعلى من كل شيء في قلبه وفي حياته، وإن سأل فلا يسأل إلا عن شيء هو موافق لشرع الله، شراء السيارة حرام أم حلال.. وما حكم الشرع فيه؟ هذه الصلاة هل هي بدعة أو سنة وما حكم الشرع فيها؟ كان لا يسأل إلا عن دين الله؛ ولهذا إذا سئل: ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟

فيقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، وجاء في بعض الروايات: فيفتح له باب إلى النار، فينظر إلى النار، فيقال له: هذا مكانك لو عصيت الله، نار يأكل بعضها بعضاً، سوداء مظلمة، ثم يغلق الباب ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مكانك، انظر لعلك لا زلت فوق رأسه في المقبرة، وبعضهم يمشي عليه وهو ينظر إلى قصره في الجنة، ينظر إلى الأنهار والأشجار، ثم يغلق الباب، فيقول: ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة، فيأتيه رجل طيب الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والله ما علمتك إلا سريعاً لطاعة الله بطيئاً إلى معصيته.

نعم. تعصي الله؛ لكنك تخاف؛ كل الناس يخطئون ويعصون لكنك إن عصيت فلا تحرص على المعصية.. إن عصيت الله فإنك ترجع بعد المعصية؛ تندم.. تتوب.. تخر ساجداً لله.. تبكي.. تستغفر الله.. تنكسر وتنطرح بين يديه.

يقول: والله ما علمتك إلا بطيئاً إلى معصية الله، سريعاً إلى طاعته، فيجلس عنده، فيقال له: نم نومة العروس، فيأتيه من ريح الجنة ويفرش له من فراش الجنة مد بصره.

خروج المؤمن من قبره إلى المحشر

الله أكبر! الناس فوقه يظنونه في حفرة ضيقة.. ونحن المساكين وليس هو.. نحن في عذاب وليس هو، فقد فتح له في قبره مد بصره، وفرش له من الجنة، وتأتيه رائحة من الجنة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يبكون وهم يخرجون من المقبرة، وهو يدعو الله أن تقوم الساعة، ينام نومة ثم يستيقظ.. على ماذا؟ يستيقظ حين يسمع صيحة فوقه؛ فإذا بالقبر ينشق، ثم إذا به يخرج يستمع إلى الناس وهم يبكون، والبعض منهم يدعو ثبوراً، والبعض منهم يضرب نفسه، حتى يقول المجرمون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]؟ فيرد عليهم: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52] هذا الذي كنا نقرأه في كتاب الله.. هذا الذي كنا نسمع به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقال لهم: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فيقف تحت ظل العرش.. أرأيت! الأمر سريع، يقف تحت ظل عرش الرحمن.. إنه من السبعة الأصناف.. من هم؟ رجل قلبه معلق بالمساجد، نشأ في عبادة الله، شاب أتته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، الشهوة تدعوه، كان عنده قوة وجرأة لكنه يخاف الله، فإن كان من هؤلاء السبعة, فيكون تحت ظل عرش الرحمن.

إن الأمر -أيها الإخوة- حق وصدق وليس بالهزل.. كم يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، أما هو فيقف كما بين صلاة الظهر والعصر، أرأيت الأمر كم هو؟ إنه لحظات، بالأمس كان في الدنيا فمات، ثم نام في القبر، ثم استيقظ، ثم يؤتى إلى الرحمن -إن كان يحاسب- فتعرض عليه أعماله عرضاً.. عبدي! أتذكر ذنبك؟ أتذكر تلك الليلة وذلك اليوم؟ قبل أن تلتزم كم كنت تفعل وتفعل.. لا تصلي الصلوات، تذكر يا فلان، لكنه التزم بشرع الله، وغير حياته، وإن عصى الله ستر على نفسه، يقول الله له تلك الكلمات العظيمة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فإذا بالكتاب يعطى باليمين، ومن شدة الفرح يولي إلى الناس، فيقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] كنت متأكداً منه هذا اليوم، كنت أشعر أن هناك يوم قيامة، وكنت مصدقاً وواثقاً به، لهذا كانت آمالي كلها رجاء ذلك اليوم، والخوف من ذلك اليوم.. أيها الناس اقرءوا كتابيه! ماذا ترون؟ فيرون صلاة الفجر، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والتحميد والذكر، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وصحبة الصالحين.. ماذا يرون؟ عمرة وحج وجهاد وأذان وصلاة واستغفار.

اقرءوا كتابيه، إن كانت معصية سترها الله، بل لعل الله عفا عنها ومحاها، اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، إلى أين يذهب؟ الأمر سريع ونراه قريباً، يحشر مع زمرة لعلها كانت معه في الدنيا أو تساويه في الدرجات يوم القيامة وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73].

أخي الكريم! لم لا ترجو أن تتوب إلى الله، تخيل نفسك وأنت تمشي إلى الجنة! هل يحتاجون إلى مشي طويل؟ لا، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90] تقترب منهم الجنة فإذا بهم قد انتظروا عند أبوابها، ولها ثمانية أبواب مغلقة، ما بين مصراعيها مسيرة أربعين سنة.. تخيل عظمها! يخرج منها ريح يوجد من مسيرة كذا وكذا، ويتقدمهم أفضلهم عليه الصلاة والسلام.. من هو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي كنت طالما أسأل عن سنته وهديه، وأحب أن أقتفي أثره.. كيف كان يقرأ.. يصلي.. يتوضأ.. كيف كان يعلم الناس؟ كل هديه أسأل عنه، الآن رأيته بعيني يتقدم الناس، فيقدم على حلقة من حلقاتها، فيطرق الباب -والأمر حقيقة فادعُ الله أن تكون منهم- فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد -انظر إلى التواضع- فيقول له الملك: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فإذا بالباب يفتح والناس ينظرون).

الله أكبر! هل تظن أنك سوف تتخيل كيف يفتح الباب وماذا يكون داخل الباب؟ مهما تخيلت، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] كم هو الأمر؟ سريع ولن ندخل في تفاصيل الجنة، ولكن لمحة سريعة.

أيُّ مسكين ذلك الذين يجلس فإذا به بملكين أسودين أزرقين ينتهرانه فيقولان له: من ربك؟ فيجيب إجابة المستيقظ: ربي الله.. ما دينك؟ ديني الإسلام؛ لأنه عندما كان يسمع: الله أكبر! كان الله عنده أكبر من كل شيء، وعندما كان يسمع: الصلاة خير من النوم، رمى الفراش وهب مسرعاً إلى المسجد، وعندما كان يخر ساجداً لله فيقول: سبحان ربي الأعلى، كان في قلبه أن الله هو الأعلى من كل شيء في قلبه وفي حياته، وإن سأل فلا يسأل إلا عن شيء هو موافق لشرع الله، شراء السيارة حرام أم حلال.. وما حكم الشرع فيه؟ هذه الصلاة هل هي بدعة أو سنة وما حكم الشرع فيها؟ كان لا يسأل إلا عن دين الله؛ ولهذا إذا سئل: ماذا تقول في الرجل الذي بعث فيكم؟

فيقول: هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، وجاء في بعض الروايات: فيفتح له باب إلى النار، فينظر إلى النار، فيقال له: هذا مكانك لو عصيت الله، نار يأكل بعضها بعضاً، سوداء مظلمة، ثم يغلق الباب ويفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مكانك، انظر لعلك لا زلت فوق رأسه في المقبرة، وبعضهم يمشي عليه وهو ينظر إلى قصره في الجنة، ينظر إلى الأنهار والأشجار، ثم يغلق الباب، فيقول: ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة! ربِ أقم الساعة، فيأتيه رجل طيب الثياب، حسن الوجه، طيب الرائحة، فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، والله ما علمتك إلا سريعاً لطاعة الله بطيئاً إلى معصيته.

نعم. تعصي الله؛ لكنك تخاف؛ كل الناس يخطئون ويعصون لكنك إن عصيت فلا تحرص على المعصية.. إن عصيت الله فإنك ترجع بعد المعصية؛ تندم.. تتوب.. تخر ساجداً لله.. تبكي.. تستغفر الله.. تنكسر وتنطرح بين يديه.

يقول: والله ما علمتك إلا بطيئاً إلى معصية الله، سريعاً إلى طاعته، فيجلس عنده، فيقال له: نم نومة العروس، فيأتيه من ريح الجنة ويفرش له من فراش الجنة مد بصره.

الله أكبر! الناس فوقه يظنونه في حفرة ضيقة.. ونحن المساكين وليس هو.. نحن في عذاب وليس هو، فقد فتح له في قبره مد بصره، وفرش له من الجنة، وتأتيه رائحة من الجنة، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، يبكون وهم يخرجون من المقبرة، وهو يدعو الله أن تقوم الساعة، ينام نومة ثم يستيقظ.. على ماذا؟ يستيقظ حين يسمع صيحة فوقه؛ فإذا بالقبر ينشق، ثم إذا به يخرج يستمع إلى الناس وهم يبكون، والبعض منهم يدعو ثبوراً، والبعض منهم يضرب نفسه، حتى يقول المجرمون: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]؟ فيرد عليهم: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52] هذا الذي كنا نقرأه في كتاب الله.. هذا الذي كنا نسمع به في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقال لهم: أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فيقف تحت ظل العرش.. أرأيت! الأمر سريع، يقف تحت ظل عرش الرحمن.. إنه من السبعة الأصناف.. من هم؟ رجل قلبه معلق بالمساجد، نشأ في عبادة الله، شاب أتته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، الشهوة تدعوه، كان عنده قوة وجرأة لكنه يخاف الله، فإن كان من هؤلاء السبعة, فيكون تحت ظل عرش الرحمن.

إن الأمر -أيها الإخوة- حق وصدق وليس بالهزل.. كم يقف الناس؟ خمسين ألف سنة، أما هو فيقف كما بين صلاة الظهر والعصر، أرأيت الأمر كم هو؟ إنه لحظات، بالأمس كان في الدنيا فمات، ثم نام في القبر، ثم استيقظ، ثم يؤتى إلى الرحمن -إن كان يحاسب- فتعرض عليه أعماله عرضاً.. عبدي! أتذكر ذنبك؟ أتذكر تلك الليلة وذلك اليوم؟ قبل أن تلتزم كم كنت تفعل وتفعل.. لا تصلي الصلوات، تذكر يا فلان، لكنه التزم بشرع الله، وغير حياته، وإن عصى الله ستر على نفسه، يقول الله له تلك الكلمات العظيمة: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فإذا بالكتاب يعطى باليمين، ومن شدة الفرح يولي إلى الناس، فيقول: هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20] كنت متأكداً منه هذا اليوم، كنت أشعر أن هناك يوم قيامة، وكنت مصدقاً وواثقاً به، لهذا كانت آمالي كلها رجاء ذلك اليوم، والخوف من ذلك اليوم.. أيها الناس اقرءوا كتابيه! ماذا ترون؟ فيرون صلاة الفجر، وقيام الليل، وقراءة القرآن، والتسبيح والتهليل والتحميد والذكر، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، وصحبة الصالحين.. ماذا يرون؟ عمرة وحج وجهاد وأذان وصلاة واستغفار.

اقرءوا كتابيه، إن كانت معصية سترها الله، بل لعل الله عفا عنها ومحاها، اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ [الحاقة:19-20]، إلى أين يذهب؟ الأمر سريع ونراه قريباً، يحشر مع زمرة لعلها كانت معه في الدنيا أو تساويه في الدرجات يوم القيامة وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً [الزمر:73].

أخي الكريم! لم لا ترجو أن تتوب إلى الله، تخيل نفسك وأنت تمشي إلى الجنة! هل يحتاجون إلى مشي طويل؟ لا، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90] تقترب منهم الجنة فإذا بهم قد انتظروا عند أبوابها، ولها ثمانية أبواب مغلقة، ما بين مصراعيها مسيرة أربعين سنة.. تخيل عظمها! يخرج منها ريح يوجد من مسيرة كذا وكذا، ويتقدمهم أفضلهم عليه الصلاة والسلام.. من هو؟ إنه محمد صلى الله عليه وسلم، ذلك الذي كنت طالما أسأل عن سنته وهديه، وأحب أن أقتفي أثره.. كيف كان يقرأ.. يصلي.. يتوضأ.. كيف كان يعلم الناس؟ كل هديه أسأل عنه، الآن رأيته بعيني يتقدم الناس، فيقدم على حلقة من حلقاتها، فيطرق الباب -والأمر حقيقة فادعُ الله أن تكون منهم- فيقول الملك: من أنت؟ فيقول: (أنا محمد -انظر إلى التواضع- فيقول له الملك: بك أمرت ألا أفتح لأحد قبلك، فإذا بالباب يفتح والناس ينظرون).

الله أكبر! هل تظن أنك سوف تتخيل كيف يفتح الباب وماذا يكون داخل الباب؟ مهما تخيلت، مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] كم هو الأمر؟ سريع ولن ندخل في تفاصيل الجنة، ولكن لمحة سريعة.


استمع المزيد من الشيخ نبيل العوضي - عنوان الحلقة اسٌتمع
رسالة إلى كل من ابتلي بمس أو سحر أو عين 2683 استماع
فرصة للتوبة 2630 استماع
فصة برصيصا 2597 استماع
التوحيد 2594 استماع
قصة الفاروق الحلقة السادسة 2528 استماع
العبادة في رمضان 2486 استماع
الوقت وأهميته 2467 استماع
دعاة الفساد 2460 استماع
لنخرج العباد من عبادة العباد 2456 استماع
لقاء مع الشيخ المغامسي 2437 استماع