خطوات عملية في أوقات المحن [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله أكرمنا بالإيمان، وأعزنا بالإسلام، وهدانا بالقرآن، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن محمداً عبد الله جل وعلا ورسوله الكريم، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون!

قد يكبر الجرح، ويكثر النزف، وتعظم البلية، وتتضاعف الرزية، ولكننا ينبغي أن نعي أن البكاء لا يشفي، وأن الدمع وحده لا يروي، وأن الحزن وإن عظم لا يغني، وأنه لابد من أن نعود إلى نفوسنا لنشحذها همة وعزيمة، وإلى قلوبنا لنملأها إيماناً ويقيناً، وإلى عقولنا لنحشوها رشداً وبصيرة وهداية، وإلى أحوالنا لنشيع فيها إصلاحاً وإحساناً واستقامة.

لابد ألا نكون متأثرين بردود الأفعال، ولا يكون كل حدث يمر، وكل مصيبة تحل سحابة صيف تنقشع فتعود العقول إلى غيها، والألسنة إلى لغوها، وتعود النفوس إلى لهوها، والأوضاع إلى حالها، لا يتغير من ذلك شيء، فلا يحصل من أثر الخير الذي نرجوه ما نؤمله من رحمة الله، وما ننتظره من نصر الله، وما نتوق إليه وندعو به من هزيمة أعداء الله؛ لأن سنن الله جل وعلا ماضية؛ ولأن قدره غالب سبحانه وتعالى.

خطوات عملية لنهضة الأمة الإسلامية، أسلفنا الحديث فيها عن الجانب الفكري في أمور أساسية مهمة: من وضوح الرؤية، وقوة العصمة، ومن معرفة الخلل، وطريق العمل، وجوانب نفسية: من المشاركة الشعورية الإسلامية، ومن روح العزة الإيمانية.

واليوم نقف مع الجانب العملي، ولئن طال حديثنا فيه فإنه جدير بذلك، ولئن قال بعض من قد يسمع حديثنا هذا: ما لك ترجع إلى البدايات الأولى؟! ما لك تذكر بالمعلوم المعروف من ديننا كأنما نحن لا نعرف ذلك؟!

فأقول: إن مشكلتنا الكبرى أننا نغالط أنفسنا ولا نصارحها، ونجاملها ولا ننصحها، وأننا كثيراً ما نبحث عن الأخطاء، ونعلق المسئوليات على هذا وذاك، ونرمي أعداءنا بفاحش القول وعظائم التهم، ولا ننظر إلى أنفسنا لنرى قصورنا، ولنعرف الوهن الذي يأتي من قبلنا، ولننظر إلى الثغرات التي يجوس الأعداء من خلالها عبرنا.

نحن نريد -كما أسلفت مرات وكرات- أن يكون ما يمر بنا من قدر الله عز وجل محركاً لنا نحو ما يريده الله جل وعلا منا، وقد ذكرنا ما يتعلق بالفكر والنفس؛ لأنه أساس المنطلق؛ ولأنه قاعدة الارتكاز؛ ولأنه نور المستقبل الذي يبصرنا بالطريق الهادي والموصل إلى مرضاة الله عز وجل.

وأما الخطوات العملية في نهضة الأمة فكثيرة؛ ولكنني أوجز المهم منها في هذه القواعد التي أحسب أننا نحتاج إلى مزيد من الحديث عنها.

أولاً: كثرة الطاعات.

ونحن نعرف أن الخير إنما يستجلب من الله بالتقرب إليه، وأن من أراد رحمته تعرض لها بطاعته، وأن من أراد مغفرته سعى إليها بمناجاته، وأنه لا يمكن أن ننال رحمة الله ولا نصره ولا عزه ما لم ننصر الله جل وعلا، ما لم نقبل عليه، ما لم نحسن صلتنا به، ما لم نعلق حبالنا به، ما لم نجعل توكلنا عليه، ما لم نفض بحوائجنا وذلنا وتضرعنا بين يديه؛ ما لم يكن أمرنا كذلك فستظل قلوبنا مشرقة ومغربة، وستظل آمالنا مخيبة ومضيعة، مرة نعلقها بمجرمين يتحدثون بألسنتنا، وفسقة يتصدرون في ديارنا، ومرة نعلقها بأعدائنا من اليهود أو النصارى، ومرة قد نظن أن في أنفسنا قوة، وأن بين أيدينا أسباباً تغنينا عن صلة الله عز وجل، فحينئذ نؤتى كما أتينا هنا وهناك، ليست بغداد ولا أفغانستان، وليس ما قبلها وما بعدها، وإنما هو هذا الأمر الذي ينبغي أن نحرص عليه.

وأقولها في البدهيات وفي الأصول والأساسيات؛ لأنها التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا يقل أحد: إن هذا أمر نعرفه؛ فإن تقصيرنا فيه ظاهر، وأقولها من بدايتها ومن أولها، ومن ألفها وبائها حتى ننتهي إلى يائها: حافظ على أداء الفرائض من الصلوات، قال تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، هذه العبادة والشعيرة والركن والفريضة، هي صلة العبد بربه كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى مسلم في صحيحه من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله) .

من أسباب ضعفنا هجر الصلوات

ولعلي أقولها صريحة: من أعظم أسباب ضعفنا وذلنا أنه قد كثر فيما بيننا هجر الصلوات، وعدم أدائها بالكلية، فضلاً عن التفريط والتقصير والتأخير، وغياب القلب، وذهاب العقل في أثناء أدائها، فإذا كانت هذه الركيزة وتلك الفريضة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من آخر ما يحل من عرى الدين، فكيف بنا بعد ذلك نسأل: أين نصر الله الغائب المرتقب؟! أين العز والتمكين الذي تتوق إليه النفوس؟! إنه أمر واضح وبين.

احرص على شهود الجماعات، أين هذه الجموع الغفيرة في الصلوات؟ ومع النداء والأذان؟ وفي الصفوف الأولى؟

كيف نريد أن نتقدم لمواجهة أعدائنا ونحن لا نبادر ونتقدم لطاعة ربنا؟

كيف نتنافس في ميادين الجهاد في قتال عدونا ونحن لا نتنافس في السبق إلى مرضاة ربنا، وأداء فرائضه سبحانه وتعالى؟!

إنه لابد لنا أن نعي وعياً عميقاً أن هذا مرتبط بذاك، وأنه مقدمة له، وأنه سبب معين عليه، وأنه الذي يكون بإذنه سبحانه وتعالى بداية لما يأتي بعده من الخير: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، والله جل وعلا قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور:56]، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]، بصيغة الجمع والجماعات التي بترت إلا من رحم الله، حتى قال ابن مسعود مقالته في عهده وزمانه، محذراً ومنبهاً ومذكراً بالعهد الأول الذي بناه وعلمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقول ابن مسعود؟

(من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله تعالى جعل لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم تصلون في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).

كيف نواجه أعداءنا ونستنزل نصر ربنا وفينا نفاق؟! أخبر ابن مسعود بأنه كان أمراً واضحاً جلياً معلوماً عند جيل الصحابة (وما يتخلف عنها إلا رجل معلوم النفاق)، ويخبرنا أنها من سنن الهدى، وأن تركها ترك لسنن الهدى، وأن ترك سنن الهدى مقدمة للضلال والغي والانحراف الذي تلفعت به أمتنا ردحاً من الزمن، وما يزال فئام من أبناء الإسلام يعيشون في ظلامه وغياهبه، ويدرجون في ضلالاته ومتاهاته، بعيداً عن هدى الله، بعيداً عن الصلة بالله، بعيداً عن طاعة الله، بعيداً عن بيوت الله، بعيداً عن الأخوة في الله، بعيداً عن استماع آيات الله.

كيف نرشد؟ كيف نصلح؟ كيف نستطيع أن نقوى ونعز؟ كيف نستطيع أن نجابه ونقاوم وفينا مثل هذا الخلل الأعظم الكبير؟!

إنه خطاب قد قاله الله جل وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وتواصى ويتواصى بذلك كل أهل الإسلام في كل زمان ومكان، ولعلي أعيد ما قلته: قد يقول القائل: ما لنا نتحدث في هذه الأصول، وتلك البدهيات المعروفة؟

وأقول: هل أغنى عرفانها والعلم بها عن التحقق والالتزام بها؟

أين نحن من ذلك ونحن لا نرى إلا خللاً وضعفاً وتقصيراً وتفريطاً وابتعاداً عن كل هذه الأمور الأساسية المهمة؟!

أهمية جهاد النفس على إقامة الصلوات

ولعلي أشير إشارة قد أكثرت من الحديث فيها من قبل: لئن لم يقو أحدنا أن يغالب راحته، وأن يجاهد نفسه، ويخرج في غلس الليل ليشهد صلاة الفجر، مبكراً إليها، مقدماً بين يديها سنتها التي هي خير من الدنيا وما فيها، فكيف نزعم أننا نستطيع أن نجاهد أعداءنا، وأن نصنع كذا وكذا!

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، تشهده الملائكة، وينام عنه مئات الآلاف، بل أحسب أنهم ملايين من المسلمين، يصب الأذان سمعه في ضوء الفجر، ولا يصب في آذان كثيرة قد بال فيها الشيطان كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن ذاك الذي لا يصلي حتى يوقظه حر الشمس، قال: (ذاك رجل قد بال الشيطان في أذنيه) ، أخبر أهل العلم في شرح هذا الحديث بأن المراد: أنه تمكن منه تمكناً حتى جعله موضعاً لقاذوراته ونفاياته.

أفلسنا -أنا وأنت- قد نكون من هذا الصنف في بعض الأحوال؟ وأن بعضاً من المسلمين لم يعد في قائمة حياته وبرنامجه اليومي أن يصلي صلاة الفجر في وقتها، فضلاً عن أن يؤديها في جماعة، وأن وقت الدوام والعمل أو السفر والارتحال أعظم عند كثير من الناس من طاعة الله، وعبادة الله، وأداء فريضة الله، ثم نشكو من بعد ذلك، ولا نطلب الشفاعة التي نلتمسها في طاعة الله عز وجل، ولا نطلب الوقاية والحماية التي أخبر بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم .

الصوم قوة معنوية وتربوية في مواجهة الصعاب

وهذا باب واسع، زد من الصيام؛ فإنه عبادة وتربية، وطهارة وتزكية، إنه قوة إيمانية، إنه قدرة على مواجهة صعوبات الحياة، وتهذيب شهوات النفس، إنه ضرب من ضروب القوة المعنوية المهمة، والاستعلاء الإيماني الفريد، والقدرة على حزم الأمر، وإمضاء الإرادة، وشحذ الهمة، ونحن نحتاج إلى ذلك حاجة عظيمة؛ لأن الصيام جنة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه شفيع لأصحابه يوم القيامة مع القرآن؛ ولأنه كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً) لم لا نجعل هذا ديدناً لنا؟ لم لا نجعل من هذه الأحداث رداً لنا إلى مزيد من الطاعات؟

أليس قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، وقام به، وعمله، وانتدب إليه، واتبعه عليه أصحابه فكان كثيرون منهم يدمنون ويديمون ويواصلون الصوم في كثير من الأيام وخاصة فضائلها، فكانوا حينئذ خفافاً لينطلقوا إلى طاعة الله، وليلحقوا بالصفوف في الجهاد في سبيل الله؟

ونحن إذا جاء هذا النداء، وقد ملئت بطوننا، وثقلت أجسامنا، وعظمت شهواتنا، وشغلت بهذه الملذات أفكارنا، فلا نكاد ننطلق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38].

ينبغي أن ندرك أن ضعفنا من قلة عبادتنا، والصوم عبادة فيه الخفة والقوة المحلقة نحو مرضاة الله سبحانه وتعالى، جاء في حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الصيام جنة من النار كجنة أحدكم من القتال، قال: وصيام حسن صيام ثلاثة أيام من الشهر) رواه ابن خزيمة في صحيحه. فلا أقل من أن نحرص على هذا فيكون لنا منه زاد.

إنفاق الأموال في نصرة المسلمين

والثالث ما نذكره في كثرة الطاعات: الإنفاق في مصارف المسلمين ونصرتهم.

ولئن كان هذا الإنفاق سبباً من أسباب المادة فإنه قبل ذلك سبب من الأسباب المعنوية الإيمانية التي يُمحص بها الإيمان، والتي تبتلى بها النفوس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة : (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجتمع في قلب عبد: الإيمان والشح. وقال الله جل وعلا: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

إنها النفوس المرتبطة بالأموال، المتعلقة بالملذات، كيف نستطيع تهذيبها؟

كيف نستطيع أن نجعل فيها تعظيم أمر الله، ونصرة دين الله، وإعانة عباد الله قبل أن تكون مسخرة لشهوات البطون والفروج والملذات والترف والنعيم؟

ما بالنا ننفق أموالنا في شهواتنا، ولا يكاد أحدنا تجود نفسه إلا بأقل القليل على مضض وتردد إذا دعي للإنفاق في سبيل الله، ويقول: أريد الجهاد في سبيل الله، ولا يجاهد بماله ليكون ضرباً من ضروب الجهاد كما روى أبو داود والنسائي في سننهما من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)؟ ونعلم كثيراً من الآيات التي تقدم الأموال على الأنفس، فهل جاهدنا بأموالنا؟

وهل جعلنا ما هو فرض علينا أولاً، وما هو زائد على الفرض لننصر ديننا، ونعلي راية ديننا، أم أننا ما زلنا نبخل بذلك؟

هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].

ليس أحد بأعز على الله عز وجل من أن يمضي فيه أمره، وأن تجري عليه سنته: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ [التوبة:111]، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا -كما في الصحيح- بأنه: (من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا) ألست تكفل يتيماً قد مات والده مجاهداً مستشهداً في سبيل الله؟

ألست تعين حينئذ على مواجهة أعداء الله؟ ما بالنا ننفق أموالنا لنقوي أعداء الله، ولنجعل الأموال في أيديهم ليستعينوا بها على حرب الإسلام وأهله؟

نداء نقوله بالعقل والقلب، وقبل ذلك بالدين والشرع: المدخنون كم ينفقون من الأموال؟ هذا ينفق قليلاً وهذا ينفق قليلاً، وإذا بنا نقول وتقول الأرقام: إن عشرات البلايين من الريالات تنفق في بلدنا هذا على هذا الدخان! أفهذا عقل عند من يرون أنهم مستهدفون من أعدائهم؟! أفهذا تصرف حكيم عند من يقولون: إنهم يريدون أن يطوروا أحوالهم وينصروا أمتهم؟!

وانظر إلى ما وراء ذلك من السرف والترف في الزواج وفي غيره! وانظر إلى الإنفاق في البذخ وفي غير هذه الأبواب المعروفة التي يشعر المرء كأن شيئاً منها لم يتغير، وكأن ما جرى وما قد يجري لا يخصنا، ولا يغير من واقعنا شيئاً.

هل غيرنا بعض ما نصرفه على كماليات لا فائدة منها ولا حاجة إليها، فضلاً عن محرمات ومكروهات وموبقات نصرف فيها الأموال، لندفعها إلى أيدي الأعداء، ولنشتري منهم، ولنأخذ منهم هذه المهلكات والمدمرات؟

ثم نقول بعد ذلك: إننا أمة مستهدفة، ونريد أن نواجه أو نقاوم! ذلك أمر عجيب! بخل في الطاعات، وسرف في المحرمات، ولسنا نريد أن نقول: كونوا كما كان أسلافنا، لسنا نريد أن نذكر بـعثمان يوم جهز جيش العسرة، وسخر كل ما بيده في خدمة دينه، ونصرة أمته، وإعلاء إسلامه، ومواجهة أعدائه: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [الحديد:10]، مجرد التقدم في هذا الباب يجعل هناك فرقاً في المراتب، واختلافاً في الدرجات، وينبغي لنا أن ندرك هذا وأن نعرفه.

ولعلي هنا أختم بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وهو يجمل لنا هذه الجوانب التي ذكرتها؛ قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث أحلف عليهن: لا يجعل الله من له سهم في الإسلام كما لا سهم له، وإن أسهم الإسلام ثلاثة: الصلاة، والصوم، والزكاة) هذه الأسهم أين حظنا منها؟ وأين نصيبنا؟

أول هذه الخطوات العملية: كثرة الطاعات؛ فإنها بداية التصحيح.

ولعلي أقولها صريحة: من أعظم أسباب ضعفنا وذلنا أنه قد كثر فيما بيننا هجر الصلوات، وعدم أدائها بالكلية، فضلاً عن التفريط والتقصير والتأخير، وغياب القلب، وذهاب العقل في أثناء أدائها، فإذا كانت هذه الركيزة وتلك الفريضة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها من آخر ما يحل من عرى الدين، فكيف بنا بعد ذلك نسأل: أين نصر الله الغائب المرتقب؟! أين العز والتمكين الذي تتوق إليه النفوس؟! إنه أمر واضح وبين.

احرص على شهود الجماعات، أين هذه الجموع الغفيرة في الصلوات؟ ومع النداء والأذان؟ وفي الصفوف الأولى؟

كيف نريد أن نتقدم لمواجهة أعدائنا ونحن لا نبادر ونتقدم لطاعة ربنا؟

كيف نتنافس في ميادين الجهاد في قتال عدونا ونحن لا نتنافس في السبق إلى مرضاة ربنا، وأداء فرائضه سبحانه وتعالى؟!

إنه لابد لنا أن نعي وعياً عميقاً أن هذا مرتبط بذاك، وأنه مقدمة له، وأنه سبب معين عليه، وأنه الذي يكون بإذنه سبحانه وتعالى بداية لما يأتي بعده من الخير: قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم:31]، والله جل وعلا قال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور:56]، وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ [الحج:35]، وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء:162]، بصيغة الجمع والجماعات التي بترت إلا من رحم الله، حتى قال ابن مسعود مقالته في عهده وزمانه، محذراً ومنبهاً ومذكراً بالعهد الأول الذي بناه وعلمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا يقول ابن مسعود؟

(من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن؛ فإن الله تعالى جعل لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم تصلون في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).

كيف نواجه أعداءنا ونستنزل نصر ربنا وفينا نفاق؟! أخبر ابن مسعود بأنه كان أمراً واضحاً جلياً معلوماً عند جيل الصحابة (وما يتخلف عنها إلا رجل معلوم النفاق)، ويخبرنا أنها من سنن الهدى، وأن تركها ترك لسنن الهدى، وأن ترك سنن الهدى مقدمة للضلال والغي والانحراف الذي تلفعت به أمتنا ردحاً من الزمن، وما يزال فئام من أبناء الإسلام يعيشون في ظلامه وغياهبه، ويدرجون في ضلالاته ومتاهاته، بعيداً عن هدى الله، بعيداً عن الصلة بالله، بعيداً عن طاعة الله، بعيداً عن بيوت الله، بعيداً عن الأخوة في الله، بعيداً عن استماع آيات الله.

كيف نرشد؟ كيف نصلح؟ كيف نستطيع أن نقوى ونعز؟ كيف نستطيع أن نجابه ونقاوم وفينا مثل هذا الخلل الأعظم الكبير؟!

إنه خطاب قد قاله الله جل وعلا في كتابه، وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، وتواصى ويتواصى بذلك كل أهل الإسلام في كل زمان ومكان، ولعلي أعيد ما قلته: قد يقول القائل: ما لنا نتحدث في هذه الأصول، وتلك البدهيات المعروفة؟

وأقول: هل أغنى عرفانها والعلم بها عن التحقق والالتزام بها؟

أين نحن من ذلك ونحن لا نرى إلا خللاً وضعفاً وتقصيراً وتفريطاً وابتعاداً عن كل هذه الأمور الأساسية المهمة؟!

ولعلي أشير إشارة قد أكثرت من الحديث فيها من قبل: لئن لم يقو أحدنا أن يغالب راحته، وأن يجاهد نفسه، ويخرج في غلس الليل ليشهد صلاة الفجر، مبكراً إليها، مقدماً بين يديها سنتها التي هي خير من الدنيا وما فيها، فكيف نزعم أننا نستطيع أن نجاهد أعداءنا، وأن نصنع كذا وكذا!

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، تشهده الملائكة، وينام عنه مئات الآلاف، بل أحسب أنهم ملايين من المسلمين، يصب الأذان سمعه في ضوء الفجر، ولا يصب في آذان كثيرة قد بال فيها الشيطان كما أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عندما أخبر عن ذاك الذي لا يصلي حتى يوقظه حر الشمس، قال: (ذاك رجل قد بال الشيطان في أذنيه) ، أخبر أهل العلم في شرح هذا الحديث بأن المراد: أنه تمكن منه تمكناً حتى جعله موضعاً لقاذوراته ونفاياته.

أفلسنا -أنا وأنت- قد نكون من هذا الصنف في بعض الأحوال؟ وأن بعضاً من المسلمين لم يعد في قائمة حياته وبرنامجه اليومي أن يصلي صلاة الفجر في وقتها، فضلاً عن أن يؤديها في جماعة، وأن وقت الدوام والعمل أو السفر والارتحال أعظم عند كثير من الناس من طاعة الله، وعبادة الله، وأداء فريضة الله، ثم نشكو من بعد ذلك، ولا نطلب الشفاعة التي نلتمسها في طاعة الله عز وجل، ولا نطلب الوقاية والحماية التي أخبر بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم في حديث جندب بن عبد الله عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم) رواه مسلم .




استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
خطوات عملية في أوقات المحن [1] 1956 استماع
خطوات عملية في أوقات المحن [3] 997 استماع