خطب ومحاضرات
خطوات عملية في أوقات المحن [1]
الحلقة مفرغة
الحمد لله منه المبتدى وإليه المنتهى، وهو في كل خير يرتجى، ومن كل شر وضر إليه الملتجأ، نحمده سبحانه وتعالى، هو المحمود على كل حال وفي كل آن، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، بعثه الله إلى الناس أجمعين، وأرسله رحمة للعالمين، وهدى به من الضلالة، وبصر به من الغواية، وكثرنا به من بعد قلة، وأعزنا به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وكان أسبقنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، وكان أبعدنا عنه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون! (خطوات عملية في أوقات المحن) ذلك ما يسأل عنه الناس، ويريدون معرفته، ويعزمون على الأخذ به، وهو موضوع حديثنا اليوم؛ لأننا في هذا المقام ينبغي أن نذكر أنفسنا ونذكر إخواننا بأن مقام الخطبة مقام عظيم، لابد فيه من أن تتوفر كثير من الصفات، ولكننا نشير إلى أهمها.
أولاً: المقصد الأعظم؛ فإن هذا المنبر ليس لمناظرة سياسية، ولا لمظاهرة إعلامية، إنما هدفه الأعظم ومقصده الأكبر: الإخلاص لله عز وجل، وابتغاء رضوانه وإن سخط الناس، وقصد وجهه سبحانه وتعالى دون الالتفات إلى الناس.
وثانياً: الهدي الأقوم، والاقتداء بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، كيف كان في خطابته وفي تأثيره وفي وضوحه وفي صراحته، وكيف كان في علاجه لأمراض الأمة، وتناول شئونها العامة والخاصة، وكيف كان ذلك دائماً ناشئاً عنده صلى الله عليه وسلم من معايشته لأصحابه وأمته، ومن معرفته العظيمة الواضحة الجلية لحاجتها.
وأمر ثالث: مراعاة المصالح والمفاسد، والأخذ بالحكمة والبصيرة.
أما والناس يريدون -كما يقولون- كذا وكذا، فليس هذا مثل وسائل الإعلام يقدم ما يطلبه الجمهور، فنسأل الله عز وجل أن يجعل لهذه المنابر إخلاصاً لله كاملاً، ومتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم تامة، وحكمة فيها بالغة.
هذه الخطوات نذكرها حتى نفهم ونفقه، وربما نؤكد ونكرر ونزيد ونعيد لأهمية مثل هذه المعاني، ولست أطيل؛ وإنما أؤكد وأركز على المهم من هذه المعاني التي لابد لنا منها.
وضوح الرؤية وقوة العصمة
لابد أن نكون على بصيرة واعية، ووضوح تام، وبينة فاصلة من أمر ديننا، وكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لسنا في شك من أي قضية وحقيقة قرآنية أو نبوية، لسنا نبحث هنا وهناك، لسنا نقبل ما يروج من الشائعات، وما يكون له صدى واسع ودوي كبير من الأخبار أو الأقوال أو المقالات؛ لأننا كما قال الحق عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، بينة من الله واضحة، آيات أنوارها ساطعة، أحكام أدلتها باهرة، لابد أن تكون معرفتنا بذلك ووضوح رؤيتنا فيه حتى في سنن الله الماضية، وفي حكمته البالغة التي نقرؤها في آيات كتابه، ونرى تطبيقها في واقع الحياة؛ كل ذلك له أهميته.
ومن ذلك لا يمكن حينئذ أن يكون شك ولا ارتياب، ولا حيرة ولا اضطراب، إذ هذه هي البينة الواضحة، والرؤية التي ليس فيها غبش مطلقاً، قال تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يونس:105].
قال الله جل وعلا في خطابه لرسوله ليخاطب البشرية كلها والناس أجمعين: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:104-106].
ثم من بعد آيات قليلة يعود الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:108-109].
نبقى على ثوابتنا، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا؛ لأن الله جل وعلا قد قال: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، ونوقن أيضاً في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين، كما كسر الكياسرة، وقصر القياصرة، وأغرق فرعون، فإن ظلمة اليوم من الغزاة المعتدين أمريكان أو بريطانيين عاقبتهم ولو بعد حين إلى ذل وهوان، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة، قد تكون لهم جولة، وقد يكون لهم نصر في دائرة أو ميدان، فهل يعني ذلك أن يدب اليأس إلى النفوس؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار؟!
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ببصيرته النافذة، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته قبل بدئها، ألم يكن في يوم بدر قد قال: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم: هذا مصرع
ولقد كانت كسرة في يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام؟ هل استسلم لليأس؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوته؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه وانقضت أيامه وزالت دولته؟
لم يكن من ذلك شيء، بل خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يليه ليلاقوا عدوهم؛ ليثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب، وأنها لم تبلغ النفوس، وأنها لم تخالط العقول، وأنها لم تغير الشعور، ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية بقدر ما كان يريد تثبيت الروح والقوة والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم.
وهكذا كان في كل واقعة عليه الصلاة والسلام، يوم بدأت حنين بما بدأت به من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر، واختلاط الرؤية، وتضارب جيش المسلمين، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر؛ ثبت عليه الصلاة والسلام، وأي شيء كان يقول؟
بعض الذين كانوا من مسلمة الفتح لم يثبت الإيمان في قلوبهم، قال بعضهم: بطل اليوم سحر محمد. لم يكن عندهم وضوح رؤية، لم يكن عندهم صدق إيمان بعد، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلت كارثة؟ كلا؛ ينبغي ألا يكون ذلك، لقد قالها عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن
ويوم كسر المسلمون في بغداد في محرم من عام (656هـ)، وكان ما كان من قتل ثمانمائة ألف وألف ألف كما ذكر ابن كثير، واستحر القتل أربعين يوماً، وسالت الميازيب من دماء المسلمين، وبلغ نتن جيفهم إلى بلاد الشام؛ قامت الأمة من كبوتها، ونهضت من وهدتها، واستعادت عزيمتها؛ لأن كتابها بين يديها؛ لأن سنة نبيها صلى الله عليه وسلم أمامها؛ لأن القوة المولدة موجودة، بقي أن نوصلها بنا، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها.
وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان في يوم الجمعة عام ثمانية وخمسين وستمائة من الهجرة، أي: بعد أقل من ثلاثة أعوام؛ نهض المسلمون، وواجهوا التتار، وكسروهم، وهزموهم، وتتبعوهم حتى لم يبق منهم أحد.
وذلك ما ينبغي أن نعرفه، فليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد، ولا في جولة واحدة، ولا في دولة واحدة، فإن رأينا ذلك كذلك، وخسرنا الجولة، أو ذهبت الدولة كأنما نسينا كل شيء! كلا.. ينبغي أن ندرك أننا نواجه أعداءنا على مدى طويل من الزمان كما فعلوا وكما يفعلون، وأننا نواجههم في كل الميادين قتالية وفكرية وخلقية وعقدية كما يفعلون:
قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعم سوف يثور
قطعوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور
قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور
كامن ثأري بأعماق الثرى وغداً سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور
تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور
وذلك ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا: أن يبقى ولاؤنا لله، ولعباد الله، ولدين الله، وأن يبقى بغضنا لأعداء الله، وتربصنا بهم الدوائر، وشحذ هممنا للقائهم، وتغذية أبنائنا ورضاع ذلك مع لبانهم؛ فإنها ليست جولة واحدة..
إن اغتصاب الأرض لا يخفينا
فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور
والعطش الطويل لا يخفينا
فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور
هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور
قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور
أبقوا الجذور للإيمان في قلوبكم فسوف تبسق شجرته، وتينع ثمرته، ويعظم ظله ويشمخ بإذن الله عز وجل رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة وإن عظمت، وإن تضخمت، وإن هول الناس هولها.. وعظموا أمرها!
أولاً: وضوح الرؤية، وقوة العصمة:
لابد أن نكون على بصيرة واعية، ووضوح تام، وبينة فاصلة من أمر ديننا، وكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، لسنا في شك من أي قضية وحقيقة قرآنية أو نبوية، لسنا نبحث هنا وهناك، لسنا نقبل ما يروج من الشائعات، وما يكون له صدى واسع ودوي كبير من الأخبار أو الأقوال أو المقالات؛ لأننا كما قال الحق عز وجل في خطابه لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، بينة من الله واضحة، آيات أنوارها ساطعة، أحكام أدلتها باهرة، لابد أن تكون معرفتنا بذلك ووضوح رؤيتنا فيه حتى في سنن الله الماضية، وفي حكمته البالغة التي نقرؤها في آيات كتابه، ونرى تطبيقها في واقع الحياة؛ كل ذلك له أهميته.
ومن ذلك لا يمكن حينئذ أن يكون شك ولا ارتياب، ولا حيرة ولا اضطراب، إذ هذه هي البينة الواضحة، والرؤية التي ليس فيها غبش مطلقاً، قال تعالى: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يونس:105].
قال الله جل وعلا في خطابه لرسوله ليخاطب البشرية كلها والناس أجمعين: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:104-106].
ثم من بعد آيات قليلة يعود الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ليصرح بها أمام الناس كلهم والخليقة جمعاء قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [يونس:108-109].
نبقى على ثوابتنا، ونعرف عاقبتنا وخاتمتنا؛ لأن الله جل وعلا قد قال: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، ونوقن أيضاً في وضوح رؤيتنا أن الدائرة على الكافرين، كما كسر الكياسرة، وقصر القياصرة، وأغرق فرعون، فإن ظلمة اليوم من الغزاة المعتدين أمريكان أو بريطانيين عاقبتهم ولو بعد حين إلى ذل وهوان، فلا ينبغي أن تكون هناك عجلة، ولا ينبغي أن تكون هناك حيرة، قد تكون لهم جولة، وقد يكون لهم نصر في دائرة أو ميدان، فهل يعني ذلك أن يدب اليأس إلى النفوس؟ وهل يعني ذلك أن الكفر ظهر على الإيمان؟ وهل يعني ذلك أن نتشكك في حقائق القرآن؟ وهل يعني ذلك أن تضطرب الآراء وتحتار؟!
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ببصيرته النافذة، وكان قد أعلن عن نتائج كثير من معاركه وغزواته قبل بدئها، ألم يكن في يوم بدر قد قال: (والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم: هذا مصرع
ولقد كانت كسرة في يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه، فأي شيء صنع عليه الصلاة والسلام؟ هل استسلم لليأس؟ وهل شك أصحاب محمد في نبوته؟ وهل ظنوا أن الإسلام قد ذهبت ريحه وانقضت أيامه وزالت دولته؟
لم يكن من ذلك شيء، بل خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي يليه ليلاقوا عدوهم؛ ليثبتوا أن الهزيمة لم تصل إلى القلوب، وأنها لم تبلغ النفوس، وأنها لم تخالط العقول، وأنها لم تغير الشعور، ذلك هو الذي كان يقصده رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يقصد مجرد المواجهة المادية بقدر ما كان يريد تثبيت الروح والقوة والفهم المعنوي لأصحابه رضوان الله عليهم.
وهكذا كان في كل واقعة عليه الصلاة والسلام، يوم بدأت حنين بما بدأت به من ارتداد بعض الأصحاب في أول الأمر، واختلاط الرؤية، وتضارب جيش المسلمين، ونزول السهام والنبال عليهم كوقع المطر؛ ثبت عليه الصلاة والسلام، وأي شيء كان يقول؟
بعض الذين كانوا من مسلمة الفتح لم يثبت الإيمان في قلوبهم، قال بعضهم: بطل اليوم سحر محمد. لم يكن عندهم وضوح رؤية، لم يكن عندهم صدق إيمان بعد، فهل نقول مثل ذلك إن وقعت واقعة أو حلت كارثة؟ كلا؛ ينبغي ألا يكون ذلك، لقد قالها عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن
ويوم كسر المسلمون في بغداد في محرم من عام (656هـ)، وكان ما كان من قتل ثمانمائة ألف وألف ألف كما ذكر ابن كثير، واستحر القتل أربعين يوماً، وسالت الميازيب من دماء المسلمين، وبلغ نتن جيفهم إلى بلاد الشام؛ قامت الأمة من كبوتها، ونهضت من وهدتها، واستعادت عزيمتها؛ لأن كتابها بين يديها؛ لأن سنة نبيها صلى الله عليه وسلم أمامها؛ لأن القوة المولدة موجودة، بقي أن نوصلها بنا، وأن نرجع إليها لنشحن أنفسنا بها.
وفي اليوم الخامس والعشرين من شهر رمضان في يوم الجمعة عام ثمانية وخمسين وستمائة من الهجرة، أي: بعد أقل من ثلاثة أعوام؛ نهض المسلمون، وواجهوا التتار، وكسروهم، وهزموهم، وتتبعوهم حتى لم يبق منهم أحد.
وذلك ما ينبغي أن نعرفه، فليست مواجهتنا لأهل الكفر والعدوان في ميدان واحد، ولا في جولة واحدة، ولا في دولة واحدة، فإن رأينا ذلك كذلك، وخسرنا الجولة، أو ذهبت الدولة كأنما نسينا كل شيء! كلا.. ينبغي أن ندرك أننا نواجه أعداءنا على مدى طويل من الزمان كما فعلوا وكما يفعلون، وأننا نواجههم في كل الميادين قتالية وفكرية وخلقية وعقدية كما يفعلون:
قطفوا الزهرة قالت من ورائي برعم سوف يثور
قطعوا البرعم قالت غيره ينبني في رحم الجذور
قلعوا الجذر من التربة قالت إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذور
كامن ثأري بأعماق الثرى وغداً سوف يرى كل الورى
كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبور
تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهور
وذلك ينبغي أن نستحضره في رؤيتنا: أن يبقى ولاؤنا لله، ولعباد الله، ولدين الله، وأن يبقى بغضنا لأعداء الله، وتربصنا بهم الدوائر، وشحذ هممنا للقائهم، وتغذية أبنائنا ورضاع ذلك مع لبانهم؛ فإنها ليست جولة واحدة..
إن اغتصاب الأرض لا يخفينا
فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور
والعطش الطويل لا يخفينا
فالماء يبقى دائماً في باطن الصخور
هزمتم الجيش إلا أنكم لم تهزموا الشعور
قطعتم الأشجار من رءوسها وظلت الجذور
أبقوا الجذور للإيمان في قلوبكم فسوف تبسق شجرته، وتينع ثمرته، ويعظم ظله ويشمخ بإذن الله عز وجل رغم أنف كل قوى الأرض قاطبة وإن عظمت، وإن تضخمت، وإن هول الناس هولها.. وعظموا أمرها!
ثانياً: معرفة الخلل، وطريق العمل:
لا ينبغي أن نخادع أنفسنا، ما الذي آل بنا إلى هذا الأمر؟ ما الذي جعل عجزنا واضحاً فاضحاً؟ ما الذي جعل ذلنا ظاهراً بيناً؟ ما الذي جعل خلافنا مؤسفاً محزناً؟ ما الذي حل بنا؟
نعم! ذلك كيد من أعدائنا، وهل يتصور من الأعداء إلا ذلك؟ لكننا نريد أن نكاشف أنفسنا.. أن نضع النقاط على الحروف.. أن نقرأ آيات القرآن الكريم: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
انتبه إلى هذه المعاني! ولقد جاءت صريحة واضحة، ليس فيها مداراة ولا مجاملة، خوطب بها سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وصفوة البشر من أصحابه رضوان الله عليهم في حادثة واحدة، في معصية ومخالفة واحدة، في يوم أحد جاء الخطاب الرباني: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا [آل عمران:165]؟! كيف وقع هذا؟! كيف حل بنا هذا؟! كيف وبيننا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف ونحن ننصر دين الله؟!
لقد كان ذلك والرسول معهم والصحب هم الصفوة المختارة، فهل تجاوزتهم سنة الله؟ وهل لم يمض عليهم قدر الله؟
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] كلام واضح، ومحاورة صريحة نفتقدها، ونداري أنفسنا، ونغالطها، ونرمي بالتبعة على الحكام، أو نلبسها على العلماء، أو ندفع بها نحو الأعداء، وكأننا من كل ذلك برآء، وكأننا مطهرون ليس فينا نقص ولا عيب، وكأننا لسنا سبباً من أسباب هذا البلاء، وكأننا لسنا طريقاً من طرق تسلط الأعداء!
ولقد تنزلت الآيات في يوم أحد والجراح ما زالت نازفة، والحزن ما زال في القلوب يعصرها، وفي النفوس يفريها ويؤلمها، ومع ذلك جاء الوضوح القرآني والمنهج الرباني، فهل نحن قادرون على أن نقول: نحن أصحاب الأخطاء، ونحن جزء من البلاء، ونحن الذين ركنا في بلادنا وديارنا وأوضاعنا وأحوالنا إلى الأعداء؟! هل نقولها؟
ينبغي أن نقولها، وينبغي ألا نلتفت يمنة ويسرة، أن ننظر إلى ذوات أنفسنا، أن ننظر في المرآة إلى أحوالنا، أن نكشف خللنا، فإذا عرفنا مصدر الخلل يمكن أن نعرف مصدر الإصلاح والعمل، وذلك أمره بين.
إذا شكا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمر يسير ومخالفة واحدة، فكيف نحن نسأل اليوم: لم يجري ذلك؟! ولم يحل بنا ذلك؟! ألسنا نرى معاصي تبلغ إلى درجة الكفر بنبذ دين الله، والاستهزاء بكتاب الله، والتعدي على شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم تقع في ديار المسلمين وبلسان عربي مبين؟ ألسنا نرى فسقاً وفجوراً مما تعلمون؟!
وهذه مرة أخرى في وصف أحد: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152] أي: تقتلونهم قتلاً قوياً سريعاً، وذلك في أول المعركة، حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
لـابن القيم كلمات كثيرة، انتخبت منها واحدة يقول فيها: من آثار المعاصي والذنوب، قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو، وضيق الصدر، والابتلاء بقرناء السوء، وطول الهم والغم، وظنك العيش، وكسف البال.
كل ذلك يتولد عن المعصية والغفلة عن ذكر الله كما يتولد الزرع عن الماء.
لم لا نبحث في ذلك كما كان يعرفه ويتشربه سلفنا الصالح؟
روى ابن مسعود -يروى عنه موقوفاً ومرفوعاً-: (إن العبد ليحرم العلم بالذنب يصيبه).
كانوا يرون أن خفاء المسألة أو نسيان النص إنما هو بسبب الذنب.
ومن مقالات السلف: كان أحدنا يجد أثر الذنب في خلق زوجه ودابته.
إذا رأى من زوجته خلقاً سيئاً اتهم نفسه أنه قد قصر أو أساء، فابتلاه الله بذلك، ففي أدق الدقائق وأبسط الأمور كانوا يعرفون ويوقنون أنها من الأسباب، فيبدءون أولاً بعلاج أنفسهم.
لله در أبي هريرة رضي الله عنه حيث يقول لنا: ما بالك تبصر القذاة في عين أخيك ولا تبصر الجذع في عين نفسك!.
نحن بصيرون بالبحث والتنقيب والاستخراج لعيوب الناس، ونحن أعمى الناس عن عيوبنا، وأغفل الناس عن تقصيرنا، إن كنا نريد في هذه المحن والفتن أن نخرج منها بخير فليكن معرفة تقصيرنا وتفريطنا أول ما نبدأ به، ونحن نعلم أن طريق العمل كما قال الله جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
نسأل الله عز وجل أن يقوي قلوبنا، وأن يعز نفوسنا، وأن يربطنا به، وألا يجعل لنا إلى سواه حاجة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطوات عملية في أوقات المحن [2] | 1999 استماع |
خطوات عملية في أوقات المحن [3] | 999 استماع |