خطب ومحاضرات
الوصايا الربانية [2]
الحلقة مفرغة
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل لنا في الطاعة خيراً وسعادة، وكتب لنا في الاستقامة عطاءً وزيادة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فها نحن نمضي مع الوصايا الربانية التي عرفنا قدرها ومقامها، ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة، وسبب السعادة، والمخرج -بإذن الله- من كل فتنة، والعصمة من كل محنة؛ لأنها هدى الله عز وجل، وأوامره ووصاياه التي بدأها بقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151].
ووصية هذا الموضوع هي الوصية التي أقرتها الفطر البشرية السوية، واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية، وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء، وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكرارً، إنها قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الأنعام:151].
إنها الوصية بالوالدين، بر الوالدين، فالإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيراً متنوعاً، وها هو تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر، وإطلاق لفظ الإحسان منكراً ومنوناً ليكون عاماً شاملاً، ليكون إحساناً في القول والفعل، وقسمات الوجه، ونظرات العين، ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة، وفي كل وقت وآنٍ، وفي كل ظرف وحال؛ لأنه إحسان مطلق، وإحسان يكون في كل أحوالهما، وفي كل أحوال أولادهما كذلك.
والفيروزآبادي في تعريفه لبر الوالدين ذكر كلاماً نفيساً فقال: هو الإحسان إلى الوالدين، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما.
غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، ولذا آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.
الحمد لله الذي شرح الصدور بالإسلام، ونور القلوب بالإيمان، وهدى البصائر بالقرآن، وجعل لنا في الطاعة خيراً وسعادة، وكتب لنا في الاستقامة عطاءً وزيادة، له الحمد سبحانه وتعالى كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثّر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه -عليه الصلاة والسلام- قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فها نحن نمضي مع الوصايا الربانية التي عرفنا قدرها ومقامها، ووقفنا على أهميتها وخطورتها، وأدركنا من قبل أنها سر النجاة، وسبب السعادة، والمخرج -بإذن الله- من كل فتنة، والعصمة من كل محنة؛ لأنها هدى الله عز وجل، وأوامره ووصاياه التي بدأها بقوله: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام:151].
ووصية هذا الموضوع هي الوصية التي أقرتها الفطر البشرية السوية، واتفقت عليها جميع الشرائع السماوية، وأقرتها وتواطأت عليها جميع المجتمعات الإنسانية، وهي التي تدل على الخلق المرضي، والعقل المهدي، والنهج السوي، وهي التي تكشف عن أصالة المعدن، وحسن الوفاء، وكريم المعاملة، إن هذه الوصية التي نتحدث عنها اليوم تكررت في كتاب الله كثيراً، وتنوع الأمر بها والحرص عليها ودوام التذكير بها في سنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وتكرارً، إنها قوله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الأنعام:151].
إنها الوصية بالوالدين، بر الوالدين، فالإحسان إلى الوالدين جاء في القرآن كثيراً متنوعاً، وها هو تقديم الجار والمجرور في ذكر الوالدين وتأخير الإحسان لإظهار الاختصاص والقصر، وإطلاق لفظ الإحسان منكراً ومنوناً ليكون عاماً شاملاً، ليكون إحساناً في القول والفعل، وقسمات الوجه، ونظرات العين، ولمسات اليدين، وكل حركة وسكنة، وفي كل وقت وآنٍ، وفي كل ظرف وحال؛ لأنه إحسان مطلق، وإحسان يكون في كل أحوالهما، وفي كل أحوال أولادهما كذلك.
والفيروزآبادي في تعريفه لبر الوالدين ذكر كلاماً نفيساً فقال: هو الإحسان إلى الوالدين، والتعطف عليهما، والرفق بهما، والرعاية لأحوالهما، وعدم الإساءة إليهما، وإكرام صديقهما.
غير أن كلامه وكلامي وكلام كل الخلق ليس بشيء مع كلام الله عز وجل ومع أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعندما كنت أبحث وأقلب رأيت أن أمسك لساني إلا من ذكر الآيات ورواية الأحاديث؛ لندرك أن القضية دين وتشريع رباني، وأنها سنة وتشريع وهدي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومهما قال القائلون أو عبر أهل العلم فإن ما جاء في الكتاب والسنة أبلغ وأعظم، ولذا آثرت أن نقف مع هذه الوصية ومكانة الوالدين وبرهما مع الآيات القرآنية العظيمة.
اقتران حقهما بحق الله جل وعلا
قال ابن عباس : (ثلاث لازمات لثلاث، وقرن بينهما فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92] فلا تتم طاعة الله إلا بطاعة الرسول وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فلا تتم إقامة الصلاة إلا بإيتاء الزكاة، وقال في شأن الله عز وجل: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] فلا يتم شكر الله إلا بشكر الوالدين.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك ويبينه ويوضحه؛ لأن المكانة عظيمة، كما في حديث أسماء رضي الله عنها في بيان الوجه الثاني، وهو الصحبة والإحسان ولو مع الكفر؛ لأن الله جل وعلا قال: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] فهل رأيت قدراً أعظم ومكانة أرفع من أن يكون إنسان على غير الإيمان والتوحيد ثم يأتي أمر الله متنزلاً بالآيات بحسن صحبته؟ فقد جاءت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (جاءت إليّ أمي وهي راغبة) قال بعض الشراح: أي: فيما عندي. تريد وصلاً من إحسان دنيوي، قالت: (فاستفيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلم يكن أحد يصنع شيئاً إلا بعد أن يعرف حكمه ومكانه في دين الله، فقالت: (يا رسول الله! إن أمي قدمت إليّ راغبة، أفأصل أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم صلي أمك) وهذا مقام عظيم.
بر الوالدين من الجهاد في سبيل الله عز وجل
وروى أنس أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ فقال: أمي. قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد) رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد، وصححه العراقي .
ففي هذا أنه قال: (أريد الجهاد ولا أقدر عليه) فدله على عمل -صلى الله عليه وسلم- يكون به من المجاهدين؛ لأنه قال في الحديث السابق: (ففيهما فجاهد).
وعن ابن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث عظيم في تقديم بر الوالدين على الأمور العظيمة والأعمال الجليلة- فقال: (أي العمل أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبادة الله. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم بر الوالدين على الجهاد.
بر الوالدين طريق من طرق الجنة
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فقال: (دخلت الجنة فسمعت قراءة، فسألت: من هذا؟ فقيل:
وكذلك جاء الحديث العظيم الذي رواه أبو هريرة وفيه يثلث النبي صلى الله عليه وسلم القول فيقول: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه. قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة) أي: لم يقم ببرهما بما يدخله الجنة؛ لأنه فرط وقصر، أو عق وجحد، والعياذ بالله.
وإذا تأملنا ذلك فإننا واجدون الصراحة والوضوح في تلك النصوص، ومن ذلك ما رواه الترمذي وابن حبان وصححه عن أبي الدرداء قال: قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).
قال بعض الشراح: (أوسط أبواب الجنة) أي: خيرها. والمقصود بالوالد الوالدان معاً الأم والأب، فهما اللذان يكون من خلالهما باب هو خير الأبواب إلى الجنة، وهو باب برهما والإحسان إليهما.
ولو مضينا لوجدنا ذلك أكثر وأظهر، فإن معاوية بن جاهمة السلمي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك ابتغي وجه الله والدار الآخرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أحية أمك؟ فقال: نعم. قال: ارجع فبرها. قال
وهكذا نرى الأمر واضحاً -كما قلنا- في رضا الله عز وجل، فقد ورد الحديث صريحاً بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد) كما رواه أهل الحديث بسند حسن.
بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب
أثر بر الوالدين في تفريج الكربات
بر الوالدين سبب في سعة الرزق وحسن الخاتمة وبركة العمر
ومن هنا كذلك جاءت الرواية الأخرى في هذا الحديث بلفظ آخر من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سره أن يمد له في عمره، ويوسع له في رزقه، وتدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه).
أثر دعاء الوالدين على الأبناء أو لهم
وثمة حديث أيضاً يوضح ذلك، وهو قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم) رواه أحمد في مسنده، وقال الذهبي : سنده قوي.
استمرار بر الوالدين بعد وفاتهما
أول هذه الوجوه: اقتران حقهما بحق الله عز وجل، وكم هي الآيات التي جاءت بالأمر بالتوحيد وثنت بالإحسان إلى الوالدين! كقوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] واقترن كذلك في قوله جل وعلا: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] فأي حق أعظم من حق يأتي تالياً مباشرة لحق الله سبحانه وتعالى؟!
قال ابن عباس : (ثلاث لازمات لثلاث، وقرن بينهما فقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المائدة:92] فلا تتم طاعة الله إلا بطاعة الرسول وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فلا تتم إقامة الصلاة إلا بإيتاء الزكاة، وقال في شأن الله عز وجل: أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14] فلا يتم شكر الله إلا بشكر الوالدين.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشير إلى ذلك ويبينه ويوضحه؛ لأن المكانة عظيمة، كما في حديث أسماء رضي الله عنها في بيان الوجه الثاني، وهو الصحبة والإحسان ولو مع الكفر؛ لأن الله جل وعلا قال: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً [لقمان:15] فهل رأيت قدراً أعظم ومكانة أرفع من أن يكون إنسان على غير الإيمان والتوحيد ثم يأتي أمر الله متنزلاً بالآيات بحسن صحبته؟ فقد جاءت أسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: (جاءت إليّ أمي وهي راغبة) قال بعض الشراح: أي: فيما عندي. تريد وصلاً من إحسان دنيوي، قالت: (فاستفيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فلم يكن أحد يصنع شيئاً إلا بعد أن يعرف حكمه ومكانه في دين الله، فقالت: (يا رسول الله! إن أمي قدمت إليّ راغبة، أفأصل أمي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: نعم صلي أمك) وهذا مقام عظيم.
ووجه آخر من العظمة أن برهما معدود من الجهاد في سبيل الله، والجهاد من أعظم الأعمال وأشرفها، وأجلها من حيث كونه بذلاً للروح وإزهاقاً لها في سبيل الله عز وجل، وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد، فقال له عليه الصلاة والسلام: (أحي والداك؟! فقال: نعم، قال: ففيهما فجاهد) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو .
وروى أنس أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه. فقال له صلى الله عليه وسلم: هل بقي من والديك أحد؟ فقال: أمي. قال: قابل الله في برها، فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد) رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في معجمه بسند جيد، وصححه العراقي .
ففي هذا أنه قال: (أريد الجهاد ولا أقدر عليه) فدله على عمل -صلى الله عليه وسلم- يكون به من المجاهدين؛ لأنه قال في الحديث السابق: (ففيهما فجاهد).
وعن ابن مسعود أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث عظيم في تقديم بر الوالدين على الأمور العظيمة والأعمال الجليلة- فقال: (أي العمل أفضل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عبادة الله. قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين. قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فقدم بر الوالدين على الجهاد.
وإذا قلنا: ما أعظم شيء نأمله ونرجوه؟ وما أعظم أمنية نفكر بها ونتعلق بها؟ فإن الجواب عند كل مؤمن ومسلم واحد، وهو دخول الجنة، ونيل رضوان الله عز وجل، فإليك طريقاً ممهداً سالكاً موصلاً إلى تلك الغايات العظيمة، وهو بر الوالدين.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل الجنة فقال: (دخلت الجنة فسمعت قراءة، فسألت: من هذا؟ فقيل:
وكذلك جاء الحديث العظيم الذي رواه أبو هريرة وفيه يثلث النبي صلى الله عليه وسلم القول فيقول: (رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه. قالوا: من يا رسول الله؟! قال: من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخل الجنة) أي: لم يقم ببرهما بما يدخله الجنة؛ لأنه فرط وقصر، أو عق وجحد، والعياذ بالله.
وإذا تأملنا ذلك فإننا واجدون الصراحة والوضوح في تلك النصوص، ومن ذلك ما رواه الترمذي وابن حبان وصححه عن أبي الدرداء قال: قال عليه الصلاة والسلام: (الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه).
قال بعض الشراح: (أوسط أبواب الجنة) أي: خيرها. والمقصود بالوالد الوالدان معاً الأم والأب، فهما اللذان يكون من خلالهما باب هو خير الأبواب إلى الجنة، وهو باب برهما والإحسان إليهما.
ولو مضينا لوجدنا ذلك أكثر وأظهر، فإن معاوية بن جاهمة السلمي قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله! إني كنت أردت الجهاد معك ابتغي وجه الله والدار الآخرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أحية أمك؟ فقال: نعم. قال: ارجع فبرها. قال
وهكذا نرى الأمر واضحاً -كما قلنا- في رضا الله عز وجل، فقد ورد الحديث صريحاً بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد) كما رواه أهل الحديث بسند حسن.
وثمة أمر آخر، وهو أن بر الوالدين من أسباب مغفرة الذنوب، فكم نصلي! وكم نستغفر! وكم ننفق نبغي مغفرة الذنب! وكل عمل صالح فيه مغفرة للذنب، غير أن ذلك ورد له اختصاص، فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! إني أصبت ذنباً كبيراً فهل لي من توبة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: هل لك من أم؟ قال: لا. قال: هل لك من خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) رواه الترمذي والحاكم بسند صحيح، ولعل هذا التوجيه موضع عجب، وأحسب أن كثيراً منا ربما لم يسمع هذا الحديث من قبل، فهو يقول: (أصبت ذنباً كبيراً) يريد طريقاً لتكفير الذنب، فيسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن أمه فيقول: إنها ليست حية. فيقول: (هل لك من خالة) والخالة بمثابة الأم، فقال: نعم. فيقول: (فبرها) أي: فسيكون برها طريقاً إلى تكفير ذنبك ومغفرة ما أصابك من أثره. وهذا ولا شك من أعظم الأمور.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الوصايا الربانية [1] | 2176 استماع |
الوصايا الربانية [3] | 1969 استماع |