الوصايا الربانية [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله الرحيم الرحمان، الكريم المنان، ذو الفضل والجود والإحسان، حبب إلينا الإيمان، وكره لنا الكفر والفسوق والعصيان، أحمده سبحانه وتعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.

وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، علم الهدى، ومنار التقى، ختم الله به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله إلى الناس كافة أجمعين، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وكثر به من بعد قلة، وأعز به من بعد ذلة، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد:

فها نحن نواصل حديثنا في الوصايا الربانية التي جاءت في سورة الأنعام، وقد سلف لنا الحديث عن التوحيد والنهي عن الشرك، ومر بنا أمر بر الوالدين وأهميته وآثاره الدنيوية والأخروية، ووصية اليوم عظيمة مهمة، لها أثرها في النفوس والقلوب، ولها أثرها في الأمن والأمان، ولها أثرها في العرض والشرف والأنساب، قال جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151] والفواحش: كل ما فحش وزاد عن الحد بحيث يكون في غاية الذم والقبح. وذلك يتناول المعاصي والذنوب الكبيرة في جملتها، ما كان منها ظاهراً -أي: في الجوارح قولاً أو فعلاً كقذف أو زنا- وما كان منها باطناً بالقلب، سواءٌ أكان كفراً وشركاً، أم استكباراً، وغير ذلك من أدواء القلوب.

وسياق الآيات فيما مضى يبين لنا أن النهي مختص بأمور بعينها، كما مر في الشرك وفي بر الوالدين، وكما يأتي في النهي عن أموال اليتامى وعن عدم الوفاء والقيام بالميزان والقسط، ومن هنا ذكر أهل التفسير أن من المعاني الظاهرة للفواحش اختصاصها بالزنا -أعاذنا الله وإياكم منه ومن القرب منه-؛ لأن السياق يحدد أموراً بعينها ومحرمات بذاتها، فغلب بعض أهل التفسير اختصاص هذه الفواحش في الآية بالزنا، وكل ما زاد عن حده فإنه داخل في عموم ذلك، وقد ذكر كثير من أهل التفسير عند هذه الآية ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كانوا في الجاهلية لا يرون بأساً بالزنا في السر، ويستقبحونه في العلانية، فحرم الزنا في السر والعلانية) وذلك فيه دلالة على هذا المعنى الذي غلبه بعض أهل التفسير.

ووقفتنا الأولى في قوله جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا [الأنعام:151] والنهي عن القرب مبالغة في النهي عن الفعل؛ لأنه إذا قيل: لا تقترب من هذا المكان فلا شك أنه من باب الأولى أنك لا تصل إليه ولا تدخل فيه، ومعنى ذلك -كما هو معلوم- أن المعنى ترك كل ما يقرب من الزنا ويوصل إليه، ويهيج النفوس والشهوات إليه، ويبعث الفكر فيه، ويعلق النظر به، ويرعي السمع ويصغيه إليه؛ لأن كل الجوارح تتأثر وتفضي إلى القلب حتى ينعقد العزم وتتوجه الإرادة من بعد لفعل ما تأثر به ذلك القلب، فالعين تنظر، لكن الأثر يكون في القلب ميلاً وشهوة إلى ما رأت العين، والأذن تسمع، والقلب يميل ويهفو، وكذلك كل ما يتعلق بفعل الإنسان يعود أثره على قلبه ونفسه ميلاً وتوجهاً.

وهنا ننظر إلى التشريع الحكيم في ديننا العظيم، وفي هدي رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، فكل جارحة من الجوارح وكل عمل من الأعمال يعلق القلب بهذه الفاحشة الكبيرة ورد النهي عنه، وجاء المنع به؛ لأن غير ذلك يعد غير قابل للتطبيق، فلو كنت قد فتحت الأبواب والنوافذ على مصراعيها فلابد أن تدخل إليك القاذورات من كل جانب، فإن أردت الحفظ والصيانة، وإن أردت الوقاية والحماية فلابد أن تغلق الأبواب، وذلك هو ما وردت به الآيات، كقوله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30] وجاء الأمر كذلك للنساء في قوله سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]، وورد الحديث كذلك في سنن الترمذي بسند حسن عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (يا علي ! لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة) وعندما سأل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة أو الفجاءة قال: (اصرف بصرك) رواه النسائي.

وكذلك وردت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن هذا النظر وما يؤدي به إلى أمور من العظائم والمحرمات، وأكبرها وأبشعها وأقبحها الوقوع في فاحشة الزنا.

ونحن اليوم نرى واقعاً لا يتفق مع هذا من وجوه عدة، وأخطرها وأعظمها تحليل الحرام، فإن كثيرين من الناس اليوم لا يرون النظر إلى العورات محرماً، بل ويطلقون عبارات تدل على جواز مثل هذا وتهوينه في النفوس والقلوب، فمن قائل: العين بحر. أي: لا ساحل لها تنظر متى شاءت وكيفما شاءت، ومن قائل: النظر إلى الجمال عبادة، وهو معنىً قبيح من يقصدونه في النظر إلى العورات والمحرمات، وجعلوا تلك المحرمات عبادات، ومن جهة ثانية وجود وكشف العورات، حتى إن من يريد أن يغض بصره يجد عناءً ومشقة، حيث تفجؤك العورات المكشوفة في الطرقات والأسواق، بل وفي المعاهد والجامعات، وتفجأك العورات المكشوفة المثيرة على الشاشات، وعلى الصفحات؛ إذ لا تكاد ترى اليوم مجلة -وإن قالت: إنها علمية أو ثقافية- إلا وفي صدرها أو في صفحاتها الكبرى داخلية أو خارجية صوراً للنساء باديات الشعور أو النحور أو غير ذلك، وهذا من بعد يجعل قلب الإنسان إذا دخل في هذا الميدان يعلق، فإن النظرة إن لم تصرفها أثرت في القلب فصار يطلبها ويكررها، ويجيل النظر بحثاً عنها، كما قال الشاعر:

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً لقلبك أتعبتك المناظر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر

لأن الإنسان إذا فطم نفسه فطمت، وإذا علقها بما تحبه من الشهوات وما تميل إليه من الملذات تعلقت وأبت أن تفطم.

إننا لنرى أموراً في هذه الأيام عجيبة، فإن القنوات الفضائية العربية المنطلقة من البلاد الإسلامية والممولة من المسلمين ترى فيها عجباً، فلم يعد الأمر اليوم مقتصراً على امرأة تظهر بادية الوجه والشعر، بل ولا ظاهرة اليدين والذراعين، بل ولا مكشوفة كاملة إلا ما يغطي السوءتين؛ لأن ذلك اليوم قد صار من الأمور المعتادة، إذ اليوم تأتي هذه العورات مع اللقاءات والكلمات والقبلات والمعانقات، وغير ذلك من الأمور التي لم يعد باقياً منها إلا ممارسة الفواحش على هذه القنوات، أعني القنوات العربية المسلمة باعتبار ملاكها ومموليها، ولا أريد أن أذكر إحصاءات وأرقاماً، فإن الأمور مفزعة إلى أقصى ما يمكن تصوره، ولكن أذكر منها اثنتين:

الأولى: في دراسة لخمسمائة فيلم من الأفلام التي تعرض كانت النسبة أن نحو اثنين وسبعين في المائة مما يعرض في هذه الأفلام مركز في مناظر وحوارات الحب والجنس والجريمة، أي: ثلاثة الأرباع. فأين ما يزعمونه من معالجة المشكلات؟ وأين هي الثقافة في تلك الأفلام والمسلسلات؟ وأين وأين مما يقال ويدعى؟ ونحن نعلم ذلك ونقرأ عنه، وربما ابتلينا به فشاهدناه كذلك.

الثانية: وفي دراسة أخرى على مائة فيلم وجد أن فيها بنسبة ثمانية وتسعين في المائة لقطات أو كلمات مما يثير الغرائز الجنسية، ويهيج هذه المعاني الساقطة.

ونحن عندما نقول ذلك ننتقل إلى وجوه أخرى كثيرة، ونحن نعلم ما يدور في مجتمعاتنا وديارنا الإسلامية اليوم، حتى الأذن المصغية قد جاء النهي عن إصغائها إلى ما يثير هذه الكوامن، فالله جل وعلا في سياق الأمر الوارد والتوجيه الوارد لأمهات المؤمنين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -وهن الطاهرات العفيفات المؤمنات القانتات العابدات- ورد الأمر إليهن بقوله: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] لا يقلن كلاماً متكسراً متأنثاً فيه الإغواء والإغراء، والتهييج والإثارة، حتى لا يؤدي ذلك إلى الفتنة وإثارة الشهوة.

نحن نعلم اليوم ما يبث من الأغاني الماجنة التي تدعو صراحة وبكل بجاحة ووقاحة إلى ارتكاب المحرمات والفواحش بشكل لا يحتاج إلى استنباط ولا تحليل، وكلها في جملتها لا تكاد تخرج عن الحب والغرام والعشق والهيام، وهي تدعو إلى اللقاء والعناق وإلى الانتقال والانقطاع عن الناس لأجل ذاك الحبيب أو تلك المعشوقة كما يقولون. ومن أراد التأكد فليطلع على الدراسات العلمية الإعلامية على تلك الأغنيات، وكم رصد فيها من الكلام والحركة التي كلها تصنف بالمقاييس العلمية لا الدينية، أي: لسنا نحن الذين نقول: وجه أو كفان أو شعر أو غير ذلك، وإنما قالوها بالمقاييس العلمية العادية التي لا تعتبر لأحكام الشريعة اعتباراً، وذكروا ما ذكروا في ذلك.

ثم نزيد الأمر ونأتي بأمور أخرى؛ فإن التشريع الحكيم قد أوردها وذكرها، فنهى عن الرائحة التي تكون مثيرة أيضاً، وقد جاء ذلك عن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأن من الناس من إذا ذكرت ذلك له قال: ما هذا التشدد، وما هذا التضييق؟! ولمَ أنتم تفكرون بالتفكير والهوس الجنسي كما يقولون؟ فليستمعوا إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليجترئوا إن كانوا قد خلت قلوبهم من الإيمان بأن يوجهوا مثل هذه التهم -والعياذ بالله- إلى سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي قال ولسنا نحن، ولأنه هو الذي حذر ونبه ولسنا نحن، وهو يبلغ عن رب العزة والجلال، فأين يمضي أولئك الذين يقولون تلك الأقاويل ويطلقون تلك التهم على عوارمها ولا يدرون أنهم يجترئون على الله جل وعلا وتشريعه وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه؟! قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة) لماذا؟ لأن تلك الرائحة منها قد تلفت النظر إليها، وقد تعلق القلوب بها، وقد تكون سبباً للفتنة.

وفي الحديث الآخر الذي رواه النسائي في سننه والإمام أحمد في مسنده من رواية أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة استعطرت فخرجت على قوم ليجدوا ريحها فإنها زانية) والمقصود بذلك ليس حكم الزنا المعروف، فإنه لا يثبت بذلك، ولكن إشارة النبي صلى الله عليه وسلم تفهم من وجوه، وهي أن الزنا المعروف هو زنا الفرج، لكن ثمة زناً للنظر وللعين وللأذن، حتى للرائحة، أو إشارة إلى أن مثل هذا اليسير قد يدعو إلى غيره حتى يصل الأمر إلى الوقوع في الفاحشة.

هناك إحصائية تجارية علمية تقول لنا: إن عاماً واحداً قبل بضع سنوات كانت الأموال التي صرفت على العطور عموماً نسائية ورجالية في عام واحد في دول الخليج بلغت سبعمائة وتسعة وتسعين مليون دولار، أي: ما يعادل ثلاثة مليار من الريالات السعودية. ونحن لا نقول: إن العطور محرمة. لكن ذلك يمثل نوعاً من الإسراف، ويمثل أيضاً في الاستخدام نوعاً من التجاوزات لدى بعض الناس، وهو كذلك نمط استهلاكي لا يبلغ أن يصل إلى مثل هذا الحد المخيف من الأموال المنفقة.

وإذا جئنا إلى تكملة تلك الاحصاءات في هذا الشأن لنرى كيف تصب في خانة في جملتها تدعو أو تروج أو تقرب إلى الوقوع في المعاصي فإننا نكملها لنرى أن هذه الاحصائية تقول لنا: إن الإنفاق في ذلك العام كان على صبغات الشعر بنحو أربعة ملايين دولار. أي: خمسة عشر مليون ريال، وكلها تنفق لصبغات شعر ليصبح مرة أشقر ومرة أغبر ومرة أحمر، ولست أدري كيف يكون ذلك أيضاً يبلغ مثل هذا الحد!

ويضاف إلى ذلك أن المستهلك في ذلك العام بلغ ستمائة طن من أحمر الشفاة، وتأمل كم يكون الطن؛ لأن أحمر الشفاة خفيف، فكم الذي استهلك منه؟! أليس ذلك يدعونا إلى النظر والتأمل؟! وكيف تنفق هذه الأموال بهذه الأقدار ونحن نعلم أن جزءاً منها على أقل تقدير ينشأ عنه الممارسة المحرمة الخاطئة؟! وكم نحن اليوم في مشكلة كبرى في هذه القضية الخطيرة؟! ألسنا اليوم نشكو ونعلم يقيناً زيادة نسبة الانحرافات الخلقية، والفواحش، والخلوات التي يضبط فيها الشباب والشابات؟! ألسنا نعلم اليوم ونقرأ أحداثاً عن كون هروب الفتيات متزايداً في كل عام؟! ألسنا نسمع ونعلم ما قيل وذكر ونشر عن اعتداء الشباب على الفتيات، والصور التي نقلت عبر الأجهزة والآلات؟! إلى أين يبلغ الحد والمدى؟! لا يعلم ذلك إلا الله؛ لأنه بقدر الاخلال والنقض لما حرم الله وعدم الالتزام بما شرع الله بقدر ما يكون من الآثار الوخيمة الوبيلة.

أقف وقفة مع دراسة أرجو أن تضع بعدها يديك على قلبك، وربما على رأسك، وأن تنتبه لما وراءك في بيتك، إنها دراسة لها أيضاً بضع سنوات، أجريت على مجموعة من الطالبات والفتيات بلغ عددهن خمسة آلاف، ورصدت هذه الدراسة أحوالهن قبل دخول الفضائيات وبعدها، وإليك هذه الأرقام المخيفة المفزعة التي تحتاج منا -كما قلت- إلى التدبر الخطير.

هناك أولاً نسبة كانت تبلغ تسعة وثمانين في المائة قبل دخول الفضائيات لديهن حرص على العلم والتعليم والتفوق في المجال الدراسي، وست وسبعون في المائة كان رأيهن الحذر والمنع من الاختلاط، وكانت لدى هذه الشريحة نسبة خمسة في المائة من أمراض الأعراض النسائية واضطراب الدورة الشهرية وغير ذلك، ثم ماذا بعد تلك القنوات؟ زادت الأمراض تلك إلى أن وصلت إلى نحو ثلاثة وعشرين في المائة من أفراد العينة، واسمح لي أن أذكر بعض الألفاظ مما لا أذكره ولا أستحسن ذكره في مثل هذا المقال، فإن سبع عشرة في المائة من تلك العينة من الفتيات أفدن أنهن أصبحن يمارسن العادة السرية بعد مشاهدة الفضائيات، وأن خمساً وثمانين في المائة من مشاهداتهن تتعلق بالمشاهد الجنسية والأفلام الجنسية، وأن ستاً في المائة فقط أفدن بمتابعة البرامج الثقافية والترفيهية، ولم يرد إلا صفر لمتابعة البرامج العلمية!

لست أنا ولا أنت من يقول ذلك، بل يقوله الدارسون والباحثون بالاحصاءات والاستبيانات الميدانية، وبعد ذلك يقولون لنا: إنكم تبالغون، وإنكم تهولون، وإنكم منغلقون، لماذا لا تفتحون الأجواء لتعلم الثقافة والفكر والانفتاح؟ ولست أدري أين هي الثقافة في العورات المكشوفة، والأرداف المهتزة، والكلمات المحمومة وغير ذلك؟! فأين هي الثقافة في العري والرقص والمجون والفنون المزعومة؟! إن هذه الثقافة بالفعل في جملتها تدور حول ذلك، وما هو متضمن فيها أو منفرد عنها مما يدخل في تثقيف أو علم قليل في كثير، تذهب فائدته ويُلغى أثره، ولا يبقى إلا أثر ذلك الفساد المحموم والإثارة المغرية التي وصلت في بلادنا هذه إلى ما رأيناه وقرأنا عنه في الاعتداء وسط الطرقات، وفتح أبواب السيارات، ونزع وجذب الفتيات أمام الناس في الطرقات، هل كنا نصدق أن ذلك يبلغ إليه أمرنا؟!!

هناك ما يسمى باليوم العالمي لمكافحة الإيدز، ذلك المرض الذي نقول -وسنظل نقول-: إنه عقوبة ربانية لكل من شذ عن الفطرة السوية، وتنكب وارتكب المحرمات الشرعية.

تقول الاحصاءات: إن خمسة وأربعين مليوناً من البشر مصابون بالمرض أو حاملون له، وإن عشرين مليوناً من البشر قد ماتوا بسببه من قبل، وإن الأعوام الماضية تسجل زيادة يبلغ معدلها في العام ما بين ثلاثة مليون ونصف إلى أربعة مليون، وإن خمساً وتسعين في المائة من الحالات في البلدان النامية وضعوا تحتها خطوطاً حمراء، وأن كل يوم يسجل نحو ستة آلاف حالة جديدة، وقد رصدت الحالات أيضاً في بلادنا وديارنا.

أما الأسباب فإنها مباشرة في الدراسة العلمية:

الرقم الأول: الممارسات الجنسية التي يسمونها غير الآمنة، ونحن نسميها الآثمة المحرمة، وبعد ذلك يقولون: نحتاج إلى التثقيف والتوعية، ونحتاج إلى أخذ الاحتياطات الصحية! بدلاً من أن يقولوا: أوقفوا هذا الفساد والعهر والمجون، أوقفوا هذا الشذوذ الذي بلغ إلى ممارسة الفاحشة مع الحيوانات والبهائم. وهذا واقع معلن عنه، وله جمعيات ونوادٍ وعضويات وبطاقات، وهذا هو الأمر الذي نستيقنه؛ لأننا نوقن بقوله جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً [طه:124].

إننا لم نبلغ ذلك، ونسأل الله أن لا نبلغه ولا قريباً منه، لكنني أقول: ما بلغناه اليوم كنا قبل أعوام لا نتصور أن نبلغه، فالخرق يتسع على الراقعين، بل الراقعون يحجبون عن قول كلمة الحق أو التحذير، ونحن اليوم نرى ذلك في كل ما يهيج ويدعو إلى هذا، وكأن صدى هذه الآية غائب، فأين هذه الآية: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151]؟ ليتها تكتب في كل سوق، وفي كل متجر، وفي كل معهد؛ لأننا نحتاج إلى أن نعود إلى الأخلاق، وأن نعود إلى العفة، وأن نعود إلى الطهارة، وأن نعود إلى البصر الذي يغض والأذن التي تمسك عن سماع الحرام، وغير ذلك مما هو معلوم.

وإذا مضينا فإننا نرى صوراً كثيرة، فعمل المرأة لا أحد من أهل العلم والعقل والبصيرة وفهم هذا الدين يقول: إنه محرم في كل وجه وفي كل صورة. وإن ذلك يمثل -كما يقولون- ضيقاً في الفكر وتحجراً في الرأي، وتشدداً في التعامل، كلا، لكننا نقول: أتجعلون أصل حياة المرأة مبنياً على العمل؟ وتقولون: إن المرأة التي لا تعمل -أي: خارج المنزل- معطلة، وأكثر من نصف المجتمع معطل؟

خذوا -أيها القوم- ما يقوله من تتغنون بهم في الغرب، فهذه دراسة أمريكية على المرأة ربة الأسرة القابعة في بيتها التي تزعمون أنها مقيدة ومكبوتة وأنها معطلة، هذه الدراسة تقول: إنها بالتحليل العلمي تقوم بسبع عشرة وظيفة، فهي طاهية، وهناك من تعمل طاهية، وهي ممرضة؛ لأنها تمرض أبناءها، وهناك مهنة ممرضة، وهي خادمة لأنها تخدم، وهي مدبرة منزل، وتلك وظيفة، وهي كذا وكذا، حيث عدوا سبع عشرة وظيفة، وقالوا: إن عدد الساعات التي تعملها قد تصل في اليوم إلى تسع عشرة ساعة، فأعطوني امرأة تعمل في دوام تسع عشرة ساعة! وعندما قدروا المبالغ المالية قالوا: إن جملة أجرها في العام ينبغي بموجب هذا التحليل أن يصل إلى خمسمائة ألف دولار (نصف مليون دولار). فكل واحد يقرر لزوجته هذا المبلغ الآن؛ لأنها تقوم بهذه الوظائف.

ثم انظر إلى العمل التي تقوله الدراسات في بلادنا العربية، فنحو ألفين وخمسمائة امرأة عاملة في بلد عربي كبير أجريت عليهن دراسة، فقالت هذه الدراسة: إن نحو سبعين في المائة يتعرضن للمضايقات في الأعمال بسبب الاختلاط بالرجال، وإن من هذه المضايقات أربعاً وخمسين في المائة منها تأخذ أشكالاً جنسية، وسبع عشرة في المائة هي عبارة عن تحرش جنسي!

وأما في بعض الدول الخليجية فأجريت دراسة عن سبب عمل المرأة، فوجد أن خمساً وثلاثين في المائة من العينة كان سبب عملها إرادتها لتحقيق الذات؛ إذ ليس ثمة حاجة، ولكن تريد أن تقول: إني امرأة عاملة. وتريد أن لا يقال لها: إنك في البيت معطلة. أو: إنك زيادة عدد لا قيمة لك ولا فائدة، وأربع وثلاثون في المائة قلن: إنهن يعملن لشغل أوقات الفراغ، وأربع وعشرون في المائة قلن: إنهن يعملن لأجل الكسب والإعانة على مصاعب الحياة.

وعندما نأتي إلى التحليل نجد دراسات أخرى تقول لنا: إن نحو أربعين في المائة مما تحصله المرأة من أجرها ينفق على ملابسها وزينتها عند خروجها لعملها، فنحو الثلث أو أكثر قد ذهب منها في غير فائدة، وكثير من الدراسات التي أجريت على العاملات في الخليج قالت: إن نسبة أكثر من خمسة وسبعين في المائة من أولئك النساء لدى كل واحدة منهن خادمة في البيت أو أكثر لاحتياجها، فستنفق أيضاً راتباً عليها.

وقالت دراسة في اليابان: إن إجمالي ما يعود من اقتصاد المرأة على الاقتصاد العام لا يزيد عن عشرة في المائة؛ لأن المال الذي تحصله المرأة تنفقه كثيراً على أمور تخصها مباشرة، ولا يوظف فيما قد يكون من تنمية اقتصادية عامة.

وبعد ذلك لا نقول هذا، وإن كان يقوله أهل العلم والاقتصاد والتحليل والخبرة، ولا نقول: إن كل امرأة يجب أن تكون في بيتها ولا يجوز خروج امرأة للعمل، ولكنا نقول: تعمل في ميدان يناسبها، وبضوابط شرعية تحفظها، ولمدة بحسب الحاجة، حتى تعود إلى مملكتها، فهل تريدون أن تبقى المرأة عاملة حتى تبلغ الستين لتتقاعد كما يتقاعد الرجل؟! اتقوا الله.

وقد جاءت الاحصاءات بأن أكثر من ثمانين في المائة يقلن: إن العمل يشكل لهن جهداً مضاعفاً؛ لأنها ستعود إلى بيتها، وسيكون لها عمل مع أبنائها ومع أسرتها ومع شئون منزلها، ولا يكون ذلك كذلك حتى في بلاد أخرى.

تقول الاحصاءات: إن اليابانيين الرجال لا يقضون إلا عشرة في المائة من الوقت في مجال خدمات المنزل، وأما تسعون في المائة منه فهو للنساء، فلعل اليابانيين يلحقون بنا ركب المتخلفين؛ لأنهم جعلوا مهمة التربية ومهمة رعاية الأسرة للمرأة، فنحن تخلفنا لذلك، ولعلهم يلحقون بنا ويصيرون متخلفين عند أولئك الذين يقولون هذه المقالات.

أيها المؤمنون! أيها المسلمون! أيها الغيورون! إن الخطر داهم، وإن المشكلة عظيمة، وإن الخرق الذي يتسع يوشك أن لا يمكن رقعه أو رتقه، وهذا حديث ابن مسعود في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا أحد أغير من الله تعالى، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وفي حديث الشيخين أيضاً أن سعداً رضي الله عنه قال -ولعل بعض الناس ممن ذكرت وصفهم يعترضون على سعد ، ويتهمونه بتهم مما أسلفت القول فيها-: (لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح) فمالك يا سعد ؟! هل أنت من المتعصبين؟ وهل أنت من غير المنفتحين؟ وهل أنت من الذين لا يقدرون حرية المرأة؟ ولا أريد أن أسلسل القول، فإن الصحابة وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم وأجل من أن يوصف أحد منهم بمنقصة ولو كانت صغيرة، فلما بلغ ذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (أتعجبون من غيرة سعد ؟! والله إني لأغير منه، والله أغير مني، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن) وهذا حديث يدلنا على أن المعنى أن نكون غيورين على أعراضنا، قائمين بأمر الله عز وجل في حفظها وسترها وصونها، ولا أريد أن أتوسع وإن كان الأمر يحتاج، فإن تلك المشكلات أدت إلى تأخر في الزواج، وإلى كثرة العوانس، وجاء من بعد ذلك كثرة الطلاق، وأصبحت الأحوال الاجتماعية متوترة توتراً عجيباً، حتى إنه صار من المعلوم المنتشر في وسائل الإعلام أن نسب الطلاق قد بدأت تتجاوز ثلاثين في المائة من نسب الزواج، أي: كل ثلاث حالات زواج ربما تنتهي واحدة منها بالطلاق، ومعنى ذلك ما معناه مما نعرفه من الآثار الوخيمة.

ومن هنا كذلك نجد الأحاديث في مثل هذا المعنى عظيمة وكثيرة، والحديث يطول، والآية ظاهرة: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأنعام:151].

نسأل الله عز وجل أن يسلم قلوبنا وأعيننا وأبصارنا من الفواحش وما يدعو إليها، وأن يطهرنا ويطهر مجتمعاتنا رجالاً ونساءً شيباً وشباناً مما يدعو إلى تلك الفواحش ويقرب إليها.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
الوصايا الربانية [2] 2689 استماع
الوصايا الربانية [1] 2176 استماع