خطب ومحاضرات
تفسير سورة فصلت [52-54]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت:52].
أي: قل لهم يا محمد! من بعد المناظرة وقيام الحجة، أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ ، أي: إن كان هذا القرآن كلام الله حق وكان الإسلام ديناً أتى به الله وأوحى به إلى نبيه وعبده صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكيف سيكون حالكم؟
مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ، أي: من أضل من المشاقة ومن المخالف ومن شق عصا الطاعة والتوحيد والإيمان والاستسلام لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكتابه؟
فإذا وجد أن القرآن حق وهو حق، ووجد أن القرآن كلام الله الحق وهو كذلك؛ فكيف سيكون حاله؟ فهل هناك أضل ممن قد شق الطريق وعصا الطاعة والتوحيد فهو في شقاق بعيد، وقد أبعد في الكفر وأغرق فيه، وزاد كفراً على كفر، وأصبح كفره مضاعفاً مركباً؛ لأنه لم يبن على مجرد قول، بل بني على ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج فيها يده لم يكد يراها.
وهناك الجهل البسيط والجهل المركب.
فالجهل البسيط: أن يكون جاهلاً ويعلم نفسه جاهلاً، فإذا علم تعلم. وهناك المشرك شركاً بسيطاً وشركاً معقداً مركباً.
فالشرك البسيط: هو أن يكون عن جهل، فإذا علمته وأفهمته وذكرت له شيئاً عن الله وعن كتابه وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أعطاك سمعه وعينه، وأما ذاك إذا ذكرت له ذلك ازداد شركاً وكفراً وإلحاداً وأصر عليه وأتى بشبهات شياطين الجن والإنس وقال: لا آخرة ولا رسالات. فهذا كفره مركب.
ومن كان كفره كفراً مركباً لا يكاد يرجى منه خير، ولا ترجى هدايته يوماً كبعض مشركي مكة مثلاً. وكان عمر والرعيل الأول كذلك، ولكن كان شركهم مبنياً على دين قومهم ولم يأت بعد رسول يعلمهم ولا كتاب يفهمون عنه، فعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرضوا ما شاء الله أن يعرضوا، ثم أعطوه آذانهم، فإذا بهم يكتشفون أن هذا الكلام لا يقوله مفتر ولا كذاب ولا ساحر، وإنما هو كلام عن المصحف ومن نور المصحف، فإذا بهم يبادرون بالإسلام، فيصبحون بعد الإيمان سادة الأرض وسادة الأقوام كما كانوا سادتهم في الجاهلية.
وأما كفر أبي لهب وأبي جهل فكان كفراً مركباً، وكانا يعتقدان أن محمداً كذا وكذا، وأن الدين الحق هو ما أتى به آباؤهم وأجدادهم، وقاوموا النبي عليه الصلاة والسلام ودعوا إلى هجرانه وإلى مقاطعته وإلى قتله وإلى سجنه، وحاولوا أن يؤلبوا عليه جزيرة العرب بما فيها من يهود ونصارى فعادوا بالخذلان وبالخسران وماتوا على الكفر، ولم يهتد أحد منهم؛ لأن شركهم كان مركباً ومعقداً.
إذاً: فقول ربنا جل جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ، أي: قل يا محمد! لهؤلاء: أن يجعلوها مناظرة واحتمالاً، فإن اكتشفوا بعد فوات الأوان يوم القيامة والبعث الذي أنكروه، ووجدوا أنك رسول الله حقاً، وأن القرآن كلام الله الحق؛ فكيف سيكون حالهم؟
فلا يوجد أضل ولا أكثر ضلالاً وغواية وظلماً ومصيبة على نفسه قبل أن يكون على غيره ممن هو في شقاق بعيد، أي: ممن كان في شقاق وفي نزاع وقد شق عصا الموحدين والمؤمنين، وأبعد في الكفر بعد أن أصبح بعيداً عن أن يكون مؤمناً يوماً!
المعنى الإجمالي للآية
هذه الآية من الآيات العظيمة، فالله تعالى يقول للمؤمنين المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم وقت النزول القرآني: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53] السين للتسويف القريب، وكل آت قريب.
يقول تعالى للمشركين وللمؤمنين ليزداد المؤمن إيماناً، وعسى أن يهتدي الكافر بما يرى من العلامات والآيات الواضحات على صدق الإسلام والقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ .
أي: سنريهم من الآيات البينات ومن الحجج القاطعات ومن الأدلة العقلية التي لا ينكرها إلا من فقد عقله قبل أن يفقد دينه، وسنريهم ذلك رأي العين، وإحساس البشرة وسماع الأذن وعيشة الواقع، والآفاق جمع أفق، وهي النواحي والأقاليم والقارات ونواحي الكون، ويشمل ذلك السماء والأرض والجبال والوهاد وكل ما سيتجدد مما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؛ بدليل قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ ، وما أراهم إياه وقت نزول القرآن فقد تم ووقع ورأوه فآمن به من آمن؛ بناء على شهودهم له ووقوعه بين أيديهم، فآمنوا من أجله وذلك هو المعجزة النبوية القرآنية لهؤلاء؛ لكي يؤمنوا ويسلموا ويتأكدوا بأن الإسلام حق، وفي هذه الآية يتكلم الله عن الحاضرين ومن سيأتي في المستقبل، فقال: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ، أي: في عموم الكون من السماوات والأرض.
وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، أي: كذلك سيريهم هذه المعجزات في أنفسهم مما لم يكن في العصر النبوي، بدليل بداية الآية (سنريهم).
وقال: (نريهم) ولم يقل: نريكم؛ لأن هذا كان بعد أولئك الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام من الجيل الأول.
قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أي: حتى يتبين لأولئك الذين سيعاصرون هذه الآيات البينات والمعجزات الواضحات في الآفاق وفي السماوات والأرض وفي أنفسهم أنه الحق.
و(حتى) غائية، أي: ستكثر تلك العلامات والآيات؛ حتى يتبين لهم ويظهر بالدليل العقلي القاطع لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد، أَنَّهُ الْحَقُّ .
والضمير إما أن يعود للقرآن -أي: أن القرآن حق- أو للنبي عليه الصلاة والسلام -أي: حتى يتبين له أنه جاء بالحق وبالرسالة الحق وبأنه نطق بالحق- أو للإسلام -أي: أن الإسلام حق وجاء بالحق ومن عند الحق.
قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، استفهام استنكاري، أي: أولم يكف هؤلاء وقد رأوا قدرة الله وآيات وحدانيته وقدرته أن يكون الله شهيداً على أحقية القرآن والرسالة المحمدية والإسلام؟ وكفى بذلك شاهداً وحقاً، ولكن الله جعل للكافرين ما يزيدهم إيقاناً وإيماناً.
ذكر بعض ما تحقق مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب
وكل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام من نشر الإسلام وبلوغه المشارق والمغارب وركوب البحار وخوضها في المشرق والمغرب، وانتشار الإسلام واتباع الناس له ولنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، كل ذلك قد أخبر عنه عليه الصلاة والسلام ووقع كما أخبر به.
بل وأخبر عما يحصل في السماء من طيران ومن صواريخ ومن تقارب الزمان وتقارب المشارق والمغارب، مما أشار إليه القرآن إشارات وفهمها ذوو الألباب، ولو قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الناس يوماً سيركبون الحديد وسيسير هذا الحديد ويطير بقليل من الماء لقالوا: جن محمد وأتى بالهذيان الذي لا يعقل، وهم قالوا عنه: مجنون وهو لم يقل هذا.
وهذا ما أشار إليه الكتاب الكريم في قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، فقد قال حبر القرآن ابن عباس: (ما) عطف، فكان من جنس المركوبات كما ذكر، وكان الأمر كذلك. ولم ندرك هذا إلا نحن في عصرنا، فرأينا الحديد يطير في الأجواء بمياه أخذت من الأرض كمياه الآبار والعيون ونحوها، وهو لم يزد على كونه ماء، فمرة نسميه بترولاً ومرة نفطاً، وهو على كل اعتبار ماء لم نصنعه ولم نسع إليه، ولكنه ماء في أعماق الأرض على بعد عدة كيلومترات وأميال، وهذا الماء هو عصب الحياة اليوم، ولو أوقفت جزيرة العرب ودول العرب البترولية هذا الماء لشلت قوة أعدائها ووجودهم، ولو أوقفته البتة واستدامت على ذلك لما مشت سيارة ولا طارت طائرة ولا مخر البحر باخرة، ولما قاتلت دبابة ولا نزلت جنود ولا حضروا لقتال ولا شيء، وصحيح أن عندهم بترولاً ولكنه قليل لو صرفوه وشغلوه لما زاد على شهرين أو ثلاثة، ثم يصبحون مقطوعي الصلة حتى بين مدنهم الداخلية.
بعض المعجزات الدالة على قدرة الله
وهذا سنتحدث عنه بالتفصيل بعون الله ومشيئته في سورة الشورى وهي الآتية بعد هذه، والتي يقول الله فيها: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى:29]، فهذه الآية فيها من الغرائب والعجائب والمعجزات ما لو كانت وحدها لكفت أن يؤمن المشرك، وأن يعود للإسلام المرتد.
فهذا العقل الصغير الذي لا يزيد على كتلة لحم، ولو زال لمات الإنسان هو موضع التفكير والذهن والعمل مع القلب وهذه الاكتشافات تزيد المؤمن إيماناً والكافر كفراً وجحوداً، فقد قالت الشيوعية والماسونية واليهودية وفرق الكفر التي أخذت تنتشر في الأرض بواسطة الجامعة والكتاب والأقلام وأساتذة السوء والشر وأصبحت تأله الإنسان؛ قالت: الإنسان هو الإله والرب! نقول: وكيف يموت الرب؟! فهذا الإنسان الذي سموه رباً يمرض كما يمرض الناس ويهرف كما يهرف الناس، ويصاب بالجنون كما يصاب الغير!
ومن الآيات العظيمة أيضاً: أدوات التدمير والخراب على كل أشكالها، فهذه القنبلة الذرية التي لا تتجاوز بيضة الحمام ضربت بها مدينتان في أرض اليابان فدمرت المدينتين، فأصبح عاليها سافلها، ومات بكل قنبلة ما يزيد عن مائتي ألف إنسان، وهذه القنبلة الآن طوروها وزادوا فيها من أنواع التدمير ما لو رميت على نيويورك وفيها اثنا عشر مليوناً لدمرتها وأصبح عاليها سافلها.
وأخطر من ذلك ما يسمى بالقنبلة الهيدروجينية وأنواع السلاح التي تسمم الجو، فلا تكاد تصيب إنساناً إلا ويجن ويصرع وكأنه لم يكن حياً يوماً ما.
وأيضاً هذه المخترعات الطبية التي تقتل بالنفس وبالسمع وبالنظر وتخدر الأعضاء وكأن الإنسان شرب خمراً أو أكل حشيشاً، حتى أن الجيش على كثرته تجده قد ارتمى بعضه على بعض، فلا يرد يداً ولا يقاوم ولا يعارض.
وما من دمار اخترع إلا واخترع مقابله؛ ليعارضه ويقاومه، وهكذا الأمر سيزداد إلى ما قاله ربنا: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، أي: فأصبحت كأنها لم تكن بالأمس، وكأنها لم توجد، وهذه ظنون وأوهام.
وقال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ [الذاريات:21]، أي: في الإنسان وفي خلقه، فمثلاً: إذا فقد الإنسان عقله فإنه لا يستطيع أن يشتريه، ولا يستطيع أن يرده الطبيب، هيهات هيهات.
عجز الإنسان وحقيقة الاكتشاف
ثم كل هذا الذي نراه ونرى عجائبه وغرائبه يقولون: ليس خلقاً ولكنه تركيب! وليس اختراعاً ولكنه اكتشاف! والاكتشاف يعني: أن هناك نافذة عليها ستار، فإذا أزيل الستار رأيت ما وراء النافذة، فلو جاء إنسان وأخذ الرداء وكشفه وعرف أن خلفه كذا وكذا من بساتين أو بحار أو ناس فهو لم يزد على كشف الستار، وهكذا هي أسرار الكون والطبيعة، فهي كما خلقها الله، جاءوا فاكتشفوها، وعلموا أن في أجوائها ما يسمى أثيراً وما يسمى هيدروجين، وأن الطائرة تستطيع أن تحلق إذا كانت بقوة دافعة قدرها كذا كذا، ووزنها كذا كذا.
وبدءوا هذا بخاطرة، بل بشيء جاء بالصدفة، فقد كان أحدهم جالساً ولعله كان حشاشاً، ثم جعل ماء على إبريق صغير ليشرب كأس قهوة أو شاي، وإذا بالماء قد اشتد غليانه، ثم هذا الغليان دفع الغطاء فصوت الغطاء عندما زال، فرآه محمولاً على البخار، وأخذ يفكر ما الذي حمل هذا الغطاء؟ لم لا يسقط؟ إلى أن عرف أن ذلك بسبب البخار؛ إذاً: البخار فيه قوة، فجرب ماء أكثر فصعد أكثر، فجرب ماء أكثر فصعد أكثر، فكان ما يسمى بعصر البخار، وهو عصر البواخر والمعامل والآلات التي تذهب وتتحرك بالبخار.
ثم اكتشف البترول وكان معروفاً، ولكنهم لم يكونوا يعرفون له معنى، وبعضهم كان يشغله في الإضاءة كما نشغل الزيت والشمع في الإضاءة، وأما معرفتهم أن فيه قوة دافعة ودافقة، فهذا حدث أيضاً بالصدفة، ثم تزايد وتزايد والله هو الذي خلق ذلك وصنعه، وهو الذي وفقنا لاكتشافه وصنعناه بالعقل وبالتدبير وبالفكر الذي خلقه الله.
ديننا دين القراءة والعلم
فهذا القلم الضعيف الهزيل الذي يكتب علوم الأولين والآخرين، وهذه القراءة التي اكتشفت فيها الحروف ومعاني الحروف منذ آماد، هو الاختراع الذي لم يأت بعده مثله قط، وهذا الحرف الذي لا يزيد على شرطة مستطيلة أو مربعة أو مسلسلة أو مثلثة أو مستديرة، وكل دائرة من هذه الدوائر تدل على معنى من المعاني سجل به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلوم الأوائل والأواخر وما كان وما يكون. والذي أتى بهذا كان أمياً، والأمي إذا رآك على كتاب قال: هذا مسكين، يؤذي بصره ويضيع وقته، ولا يرى في ذلك إلا ألاعيب أرجل الدجاج وأيدي الأطفال. والأمر ليس كذلك، فهو الأمر الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ليأمر به أمته، قال تعالى: اقْرَأْ .
فالإسلام ابتدأ أول ما ابتدأ بالعلم وبالقراءة وبالقلم، وقد أعلى الله شأن العلم في كتابه، وجعل العلماء في الدرجة الثانية بعد الأنبياء، وأشاد في كتابه بهم وأشاد بهم النبي عليه الصلاة والسلام، وما جعل ورثته وخلفاءه إلا العلماء.
وقال ربنا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وقد قرئ: (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء)، وذلك لما يحملون في صدورهم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والحكمة التي تنفع الناس مدة وجودهم على هذا الكوكب الأرضي.
قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، وقد أرانا وأطلعنا وسيطلع الذين يأتون بعدنا على أكثر مما أرانا.
والآفاق جمع أفق، وهي نواحي العالم، وهي السماء والأرض.
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي: حتى يظهر ويتأكد ويعلم ذلك بالدليل والبرهان من يستطيع ذلك، فمن هداه الله ووفقه سيفهم ذلك، ومن غطى الران على قلبه فلا يزيده ذلك إلا جهلاً وظلاماً، كأولئك الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام رأوا أنواره المتلألئة وصدقه الذي ينبئ عنه وجهه قبل أن يتكلم، ورأوا معجزاته، وقد مضى على وجوده في الأرض أربعون عاماً وليس له علم ولا قراءة ولا معرفة، وقد كان على خلق كريم، فلم يعرف بكذبة ولا بغدرة ولا بسجدة لغير الله، إلى أن أمره الله بعبادته، ومع ذلك فإنك تجد البعض مثل أبي لهب وأبي جهل وعقبة بن أبي معيط وكل من لم يسلم لم يدخل حب النبي بين جنبيه.
ومن هنا قال أحد الناس للمقداد بن عمرو بن الأسود رضي الله عنه: ليتنا أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيناه ونصرناه، فقال له: لا تقل ذلك، فقد تدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤمن به، وقد أكرمك الله الآن، فآمنت به وبكتابه وصدقت برسالته، فأنت أفضل وأكرم من الكثيرين ممن رأوه ولم يؤمنوا به، ولم يصدقوه. وهذا كلام حق.
وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أي: أولم يكف ربك؟ فهو فاعل جر بالحرف، ولكن معنى الفاعلية لم يزل، والمعنى: أولم يكفك أيها السامع! أن يكون ربك شاهداً على صدق القرآن وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق الحق وضياع الباطل وأوهامه، وأنها من وحي الشياطين، وأنها تضر أصحابها ولا تنفعهم.
قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
هذه الآية من الآيات العظيمة، فالله تعالى يقول للمؤمنين المعاصرين لنبينا صلى الله عليه وسلم وقت النزول القرآني: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت:53] السين للتسويف القريب، وكل آت قريب.
يقول تعالى للمشركين وللمؤمنين ليزداد المؤمن إيماناً، وعسى أن يهتدي الكافر بما يرى من العلامات والآيات الواضحات على صدق الإسلام والقرآن ومحمد عليه الصلاة والسلام: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ .
أي: سنريهم من الآيات البينات ومن الحجج القاطعات ومن الأدلة العقلية التي لا ينكرها إلا من فقد عقله قبل أن يفقد دينه، وسنريهم ذلك رأي العين، وإحساس البشرة وسماع الأذن وعيشة الواقع، والآفاق جمع أفق، وهي النواحي والأقاليم والقارات ونواحي الكون، ويشمل ذلك السماء والأرض والجبال والوهاد وكل ما سيتجدد مما لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؛ بدليل قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ ، وما أراهم إياه وقت نزول القرآن فقد تم ووقع ورأوه فآمن به من آمن؛ بناء على شهودهم له ووقوعه بين أيديهم، فآمنوا من أجله وذلك هو المعجزة النبوية القرآنية لهؤلاء؛ لكي يؤمنوا ويسلموا ويتأكدوا بأن الإسلام حق، وفي هذه الآية يتكلم الله عن الحاضرين ومن سيأتي في المستقبل، فقال: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ ، أي: في عموم الكون من السماوات والأرض.
وَفِي أَنْفُسِهِمْ ، أي: كذلك سيريهم هذه المعجزات في أنفسهم مما لم يكن في العصر النبوي، بدليل بداية الآية (سنريهم).
وقال: (نريهم) ولم يقل: نريكم؛ لأن هذا كان بعد أولئك الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام من الجيل الأول.
قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أي: حتى يتبين لأولئك الذين سيعاصرون هذه الآيات البينات والمعجزات الواضحات في الآفاق وفي السماوات والأرض وفي أنفسهم أنه الحق.
و(حتى) غائية، أي: ستكثر تلك العلامات والآيات؛ حتى يتبين لهم ويظهر بالدليل العقلي القاطع لمن كان له عقل أو ألقى السمع وهو شهيد، أَنَّهُ الْحَقُّ .
والضمير إما أن يعود للقرآن -أي: أن القرآن حق- أو للنبي عليه الصلاة والسلام -أي: حتى يتبين له أنه جاء بالحق وبالرسالة الحق وبأنه نطق بالحق- أو للإسلام -أي: أن الإسلام حق وجاء بالحق ومن عند الحق.
قال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، استفهام استنكاري، أي: أولم يكف هؤلاء وقد رأوا قدرة الله وآيات وحدانيته وقدرته أن يكون الله شهيداً على أحقية القرآن والرسالة المحمدية والإسلام؟ وكفى بذلك شاهداً وحقاً، ولكن الله جعل للكافرين ما يزيدهم إيقاناً وإيماناً.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة فصلت [26-30] | 2649 استماع |
تفسير سورة فصلت [30-32] | 2270 استماع |
تفسير سورة فصلت [41-46] | 2068 استماع |
تفسير سورة فصلت [46-51] | 1872 استماع |
تفسير سورة فصلت [37-40] | 1759 استماع |
تفسير سورة فصلت [1-6] | 1678 استماع |
تفسير سورة فصلت [9-14] | 1548 استماع |
تفسير سورة فصلت [15-20] | 1499 استماع |
تفسير سورة فصلت [19-25] | 1215 استماع |
تفسير سورة فصلت [33-36] | 1036 استماع |