تفسير سورة فصلت [46-51]


الحلقة مفرغة

قال ربنا جل جلاله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

بعد أن توعد الله الكافرين وبشر المتقين قال عن هؤلاء وعن هؤلاء: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ، وهم المؤمنون الأتقياء الذين استجابوا لربهم وأطاعوا نبيهم صلى الله عليه وسلم، فهم إنما يعملون الصالحات لأنفسهم، وهم الذين ينتفعون بذلك ويكرمون من أجل ذلك، فنفسهم خدموا ولأنفسهم قدموا.

والعكس بالعكس، وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ، أي: ومن أساء الطاعة والعقيدة وكفر بالله وأشرك به وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبه؛ فعلى نفسها جنت براقش!

وكما في الحديث القدسي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم لما زاد ذلك في ملكي شيئاً.

يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.

يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه).

وفي الحديث القدسي الآخر: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا). فالله جل جلاله لا يظلم أحداً، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلِعَبِيد وظلام صيغة مبالغة، ونفيها نفي للكل لا للمبالغة فقط، بدليل قوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]. فنفى الظلم مطلقاً، وهو عموم يخص صيغ المبالغة وغير المبالغة، فالمعنى شامل لنفي الظلم في كل أشكاله، وعلى ذلك فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها.

والله عندما يدعونا لعبادته ولطاعته ويحذرنا عقوبته فذلك منه جل جلاله رحمة وإكرام، حتى إذا جاء الإنسان يوم القيامة ووجد الخير حمد الله وشكره على أن وفقه لذلك حال حياته، فإن وجد غير ذلك فتبقى الحجة البالغة لله، والمذنب والمشرك هو الذي تمرد وعصى ودمر نفسه وأوبقها بالمخالفات وبالشرك بالله.

استئثار الله بعلم الساعة

قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ [فصلت:47].

هذه الآية أول آيات الجزء الخامس والعشرين، وقد بقي لنا من كتاب الله وبيانه وتفسيره ستة أجزاء شاكرين الله حامدين له، وكما وفقنا إلى تفسير هذا فنرجوه جل جلاله أن يعيننا على الآتي فضلاً منه وكرماً.

قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ تقديم العامل على المعمول يفيد الحصر، وعلم الساعة خاص بالله، ووقت كونها من العلم الذي استأثر الله به، فلم يخبر به ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.

فإليه يرد علم الساعة لا لأحد سواه من خلقه، وهذا قد كرره الله في مواضعه المناسبة من السور والآيات، ولا يعلم وقتها وساعتها إلا ربنا جل جلاله.

وقد جاء جبريل في صورة إنسان جميل الوجه عطر الثياب شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ودخل المسجد النبوي في المدينة المنورة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقة مع أصحابه، فأخذ يسأله: ما الإسلام؟ ونبي الله صلى الله عليه وسلم يجيب، ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ إلى أن سأله عن الساعة فأجابه صلى الله عليه وسلم: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل). أي: كما أنك أنت تجهلها وتسألني عنها فكذلك أنا لا أعلمها، ولا أعلم وقتها ولا زمنها. فعاد جبريل وأخذ يسأل عن علاماتها وعن أشراطها وعن الوقت الذي يمكن أن تأتي فيه هذه الأشراط.

وأما الأشراط فلها أشراط صغيرة وأشراط كبيرة، وأول أشراطها ظهور نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه علامة من علامات القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى)، أي: ليس بينه وبين القيامة إلا كما بين السبابة والوسطى، ولكن كم مضى منها؟ فلما كنا جاهلين بقدر ما مضى، فنحن بالآتي أجهل.

وقد أتت العلامات التي سأل عنها جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام وغيرها: مثل انتشار الفواحش، والعقوق، والتنكر للأمهات وطاعة الزوجات، واتباع اليهود والنصارى، ونفور الناس من الإسلام وطاعة ربهم، وتسلط الكفار على المسلمين نتيجة بعد المسلمين عن دينهم.

ولا تزال العلامات الكبرى وهي عشر لم يأت منها شيء، وهذه العلامات منها: الدابة، والريح الحمراء، وخروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وآخرهن خروج الدجال ، ثم لا يبقى في الأرض من يقول: ربي الله، ولا تقوم الساعة إلا على لكع ابن لكع، ولا تقوم على إنسان يقول: ربي الله. وهذه العلامات العلامات الكبرى لم يأت منها حتى واحدة، مما يدل أنه لا يزال بين الناس وبين قيام الساعة الآماد الطويلة، وأما تحديدها فالله أعلم بذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أنه إذا بدأت أشراطها تسلسلت وانفرطت وتتابعت كما تتابع حبات العقد إذا انفرط.

قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ فإذا سألك سائل: متى الساعة؟ قل: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ [طه:52]، وقل: قد سئل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر والأنبياء لما سأله سيد الملائكة جبريل عليه السلام فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: إني أستوي معك في عدم معرفتها.

ومع ذلك فإن أشراطها وعلاماتها تعطي الإنسان صفة وعلامة على قربها، وإن كان ذلك غير محدد، وقد ورد أنها تقوم في يوم الجمعة، ولكن الجمعة في الشهر أربعة أيام، وفي السنة ثمانية وأربعون جمعة.

وقوله: إِلَيْهِ أي: إلى الله. إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ .

علم الله بما يخرج من الثمرات وما في بطون الحوامل

يقول ربنا: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ، وقرئ: (ثمرة)، وهي قراءة الجمهور.

والثمرات: جمع ثمرة، وهي كل ثمرة تثمر ويستفيد منها الإنسان وغير الإنسان من بقية الحيوانات.

مِنْ أَكْمَامِهَا جمع كمة، وهي: الثمرة قبل أن تخرج من بذرتها ومن مكانها من الشجرة، فهذه الأكمام الله يعلم بها قبل خروجها، ويعلم متى ستخرج، وهل ستنضج أم لا، وهل ينتفع بها إنسان أو طائر، وهل ستكون حلوة أو مرة، وهل ستنفع أو تضر، كل ذلك يعلمه الله جل جلاله.

فقوله: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا أي: من براعيمها، وعندما تخرج من ذلك البرعم الذي يكون منطوياً عليها، وهو وعاء تلك الثمرة، وعندما تزهر وتسقط أوراق تلك الزهرة فتنظم عليها، وقبل أن تتفتح عليها وتخرج يعلم الله ذلك، وبإذنه وبعلمه يكون كل ذلك.

وقوله: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ، أي: خروج تلك الثمرات من أكمامها ومن براعمها وحمل الأنثى سواء كانت أنثى إنسان أو جان أو حيوان أو أية أنثى من إناث الكون الله يعلم حملها، وبإذنه يكون ذلك، ثم إذا وضعت، يعلم ربنا ذلك، وبعلمه وبإذنه يكون ذلك.

قال تعالى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي أي: هؤلاء المشركون الذين لا يعرفون عن الله إلا ما يعرفه الوثني والذين جعلوا له ولداً وبنتاً وصاحبة وأشركوا معه غيره من الجمادات والملائكة والجن والإنس فهؤلاء يعلمهم ربهم، وهو وحده المنفرد بالعلم وبالخلق، وبإذنه وبعلمه يكون كل شيء.

ثم يختم هذه الحجج والبراهين العقلية القاطعة بقوله: إنهم يوم القيامة سيعرضون على الكتاب ويعرضون على الله، ثم يقول لهم ربنا يوم ذاك: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ، أي: يوم يعلن ربنا يوم القيامة لأولئك المشركين الذين أشركوا بالله غيره: أين هؤلاء الشركاء؟ وما صنعوا في الخلق وفي الموت وفي الحياة؟ وكيف هم اليوم مع الآخرة؟

وإذا بالمشركين إذ ذاك عندما يبعثون ويحيون مرة ثانية ويعيشون ما أنكروه من البعث والنشور يجيبون: قَالُوا آذَنَّاكَ ، أي: أعلمناك وأسمعناك.

مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ، أي: لن يشهد أحدنا بأن لله شريكاً، أي: رجعنا عن اعتقاد ذلك وكفرنا بذلك، يقول ذلك كل من أشرك به نبياً أو جناً أو بشراً أو ملكاً، فهناك من يقول عن الملائكة: إنهم بنات الله، وهناك من أشرك مع الله جناً، ومن أشرك مع الله بشراً كـمريم وعيسى والعزير وغير أولئك.

فيجيب هؤلاء الملائكة والجن والإنس: آذَنَّاكَ ، أي: أسمعناك وأعلمناك، ونخبرك ربنا! وأنت الأعلم أنك لا شريك لك، فأنت الواحد المنفرد بالخلق، لا ثاني لك في ذات ولا صفات ولا في أفعال. ولكن لا ينفع هذا المشركين إذ ذاك، كما قال تعالى: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] فهذا لا ينفع والروح في الغرغرة، فكيف وقد ماتوا وانتهوا ومضت قرون بعد قرون حتى جاء البعث ورأى الناس ما آمنوا به غيباً في الحياة الدنيا واقعاً وشهوداً وحضروا إليه بالأشباح والأرواح في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون؟

قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ [فصلت:47].

هذه الآية أول آيات الجزء الخامس والعشرين، وقد بقي لنا من كتاب الله وبيانه وتفسيره ستة أجزاء شاكرين الله حامدين له، وكما وفقنا إلى تفسير هذا فنرجوه جل جلاله أن يعيننا على الآتي فضلاً منه وكرماً.

قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ تقديم العامل على المعمول يفيد الحصر، وعلم الساعة خاص بالله، ووقت كونها من العلم الذي استأثر الله به، فلم يخبر به ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً.

فإليه يرد علم الساعة لا لأحد سواه من خلقه، وهذا قد كرره الله في مواضعه المناسبة من السور والآيات، ولا يعلم وقتها وساعتها إلا ربنا جل جلاله.

وقد جاء جبريل في صورة إنسان جميل الوجه عطر الثياب شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر ودخل المسجد النبوي في المدينة المنورة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقة مع أصحابه، فأخذ يسأله: ما الإسلام؟ ونبي الله صلى الله عليه وسلم يجيب، ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ إلى أن سأله عن الساعة فأجابه صلى الله عليه وسلم: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل). أي: كما أنك أنت تجهلها وتسألني عنها فكذلك أنا لا أعلمها، ولا أعلم وقتها ولا زمنها. فعاد جبريل وأخذ يسأل عن علاماتها وعن أشراطها وعن الوقت الذي يمكن أن تأتي فيه هذه الأشراط.

وأما الأشراط فلها أشراط صغيرة وأشراط كبيرة، وأول أشراطها ظهور نبي الله صلى الله عليه وسلم، فإنه علامة من علامات القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (بعثت والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى)، أي: ليس بينه وبين القيامة إلا كما بين السبابة والوسطى، ولكن كم مضى منها؟ فلما كنا جاهلين بقدر ما مضى، فنحن بالآتي أجهل.

وقد أتت العلامات التي سأل عنها جبريل رسول الله عليه الصلاة والسلام وغيرها: مثل انتشار الفواحش، والعقوق، والتنكر للأمهات وطاعة الزوجات، واتباع اليهود والنصارى، ونفور الناس من الإسلام وطاعة ربهم، وتسلط الكفار على المسلمين نتيجة بعد المسلمين عن دينهم.

ولا تزال العلامات الكبرى وهي عشر لم يأت منها شيء، وهذه العلامات منها: الدابة، والريح الحمراء، وخروج الدجال ، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام، وآخرهن خروج الدجال ، ثم لا يبقى في الأرض من يقول: ربي الله، ولا تقوم الساعة إلا على لكع ابن لكع، ولا تقوم على إنسان يقول: ربي الله. وهذه العلامات العلامات الكبرى لم يأت منها حتى واحدة، مما يدل أنه لا يزال بين الناس وبين قيام الساعة الآماد الطويلة، وأما تحديدها فالله أعلم بذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام أخبرنا أنه إذا بدأت أشراطها تسلسلت وانفرطت وتتابعت كما تتابع حبات العقد إذا انفرط.

قال تعالى: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ فإذا سألك سائل: متى الساعة؟ قل: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ [طه:52]، وقل: قد سئل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد البشر والأنبياء لما سأله سيد الملائكة جبريل عليه السلام فقال له عليه الصلاة والسلام: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، أي: إني أستوي معك في عدم معرفتها.

ومع ذلك فإن أشراطها وعلاماتها تعطي الإنسان صفة وعلامة على قربها، وإن كان ذلك غير محدد، وقد ورد أنها تقوم في يوم الجمعة، ولكن الجمعة في الشهر أربعة أيام، وفي السنة ثمانية وأربعون جمعة.

وقوله: إِلَيْهِ أي: إلى الله. إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ .

يقول ربنا: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا ، وقرئ: (ثمرة)، وهي قراءة الجمهور.

والثمرات: جمع ثمرة، وهي كل ثمرة تثمر ويستفيد منها الإنسان وغير الإنسان من بقية الحيوانات.

مِنْ أَكْمَامِهَا جمع كمة، وهي: الثمرة قبل أن تخرج من بذرتها ومن مكانها من الشجرة، فهذه الأكمام الله يعلم بها قبل خروجها، ويعلم متى ستخرج، وهل ستنضج أم لا، وهل ينتفع بها إنسان أو طائر، وهل ستكون حلوة أو مرة، وهل ستنفع أو تضر، كل ذلك يعلمه الله جل جلاله.

فقوله: وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا أي: من براعيمها، وعندما تخرج من ذلك البرعم الذي يكون منطوياً عليها، وهو وعاء تلك الثمرة، وعندما تزهر وتسقط أوراق تلك الزهرة فتنظم عليها، وقبل أن تتفتح عليها وتخرج يعلم الله ذلك، وبإذنه وبعلمه يكون كل ذلك.

وقوله: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ، أي: خروج تلك الثمرات من أكمامها ومن براعمها وحمل الأنثى سواء كانت أنثى إنسان أو جان أو حيوان أو أية أنثى من إناث الكون الله يعلم حملها، وبإذنه يكون ذلك، ثم إذا وضعت، يعلم ربنا ذلك، وبعلمه وبإذنه يكون ذلك.

قال تعالى: وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي أي: هؤلاء المشركون الذين لا يعرفون عن الله إلا ما يعرفه الوثني والذين جعلوا له ولداً وبنتاً وصاحبة وأشركوا معه غيره من الجمادات والملائكة والجن والإنس فهؤلاء يعلمهم ربهم، وهو وحده المنفرد بالعلم وبالخلق، وبإذنه وبعلمه يكون كل شيء.

ثم يختم هذه الحجج والبراهين العقلية القاطعة بقوله: إنهم يوم القيامة سيعرضون على الكتاب ويعرضون على الله، ثم يقول لهم ربنا يوم ذاك: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي ، أي: يوم يعلن ربنا يوم القيامة لأولئك المشركين الذين أشركوا بالله غيره: أين هؤلاء الشركاء؟ وما صنعوا في الخلق وفي الموت وفي الحياة؟ وكيف هم اليوم مع الآخرة؟

وإذا بالمشركين إذ ذاك عندما يبعثون ويحيون مرة ثانية ويعيشون ما أنكروه من البعث والنشور يجيبون: قَالُوا آذَنَّاكَ ، أي: أعلمناك وأسمعناك.

مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ، أي: لن يشهد أحدنا بأن لله شريكاً، أي: رجعنا عن اعتقاد ذلك وكفرنا بذلك، يقول ذلك كل من أشرك به نبياً أو جناً أو بشراً أو ملكاً، فهناك من يقول عن الملائكة: إنهم بنات الله، وهناك من أشرك مع الله جناً، ومن أشرك مع الله بشراً كـمريم وعيسى والعزير وغير أولئك.

فيجيب هؤلاء الملائكة والجن والإنس: آذَنَّاكَ ، أي: أسمعناك وأعلمناك، ونخبرك ربنا! وأنت الأعلم أنك لا شريك لك، فأنت الواحد المنفرد بالخلق، لا ثاني لك في ذات ولا صفات ولا في أفعال. ولكن لا ينفع هذا المشركين إذ ذاك، كما قال تعالى: لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام:158] فهذا لا ينفع والروح في الغرغرة، فكيف وقد ماتوا وانتهوا ومضت قرون بعد قرون حتى جاء البعث ورأى الناس ما آمنوا به غيباً في الحياة الدنيا واقعاً وشهوداً وحضروا إليه بالأشباح والأرواح في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون؟

قال تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [فصلت:48].

وضل عنهم: ابتعد عنهم وبعد وتاه وضاع ما كانوا يدعون من قبل؛ إما لأنها أخشاب وجمادات انتهت وبليت، وإما لأنهم ملائكة وبشر وجن تركوهم ولم يهتموا بهم في دار الدنيا ولم يعترفوا لهم بذلك، وسيسأل الله عيسى عليه السلام: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116].

فيتبرأ عيسى عليه السلام منهم، وهذا زيادة في تفحيش من زعموا أن عيسى رباً وإلهاً، وهذا في دار الدنيا قبل الآخرة عندما ينزل من السماء الدنيا، ونزوله من العلامات الكبرى لقيام الساعة وقربها، كما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويهدم الكنائس والبيع، ولا يترك إلا دين محمد صلى الله عليه وسلم دين الإسلام، وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شريعة منه، بدليل أنه سيتبرأ منهم حال وجوده بينهم، وسيهدم الكنائس؛ لأنه لا يعترف بها، ولأنها قائمة على الأصنام والأوثان وعلى أن الله ثالث ثلاثة، ويقتل الخنزير؛ لأنه شعارهم يأكلونه دون غيرهم، وسيجبرهم على الإسلام بحد السيف، إما الإسلام وإما الموت، وإذ ذاك سيعم الإسلام الأرض ولن يبقى إلا مؤمن موحد، ولن يبقى من المعابد إلا المساجد بيوت الله التي يرفع فيها اسمه ويذكر الله فيها كثيراً، لا تلك المعابد التي تدعو إلى الشركاء وإلى الأوثان والأصنام.

قال تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ [فصلت:48].

(ظنوا) بمعنى: تيقنوا ولا حاجة لهذا، فإن (ظنوا) معناها: غلب ظنهم بأنهم سيعودون إلى الدار الدنيا، وسيتمنون على الله أن يعيدهم إلى الدنيا، فإذا عجزوا ولم تكن لهم هذه الأمنية صاحوا: ليتنا كنا تراباً، ولكن هيهات، لن يعودوا تراباً ولا إلى الدنيا؛ لأن الدنيا قد انتهت وفنيت ولا وجود لها، لأنها عند قيام القيامة تصبح كالعهن المنفوش، وتدكدك الجبال والسماوات، وتهلك الأرض وكل من عليها.

و مَحِيصٍ : فرار. قال تعالى: وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي: يظنون أنه لا مفر لهم من النار ولا مهرب لهم من عذاب الله، وأنه لابد منه، ويظنون ذلك واقعاً بهم، ويتمنون أنهم تستجاب دعوتهم وتحقق رغبتهم في العودة إلى الدنيا؛ ليعودوا للعبادة، ولو ردوا لعادوا لما نهوا، ولما انتهوا عما هم فيه، كما أخبر الله عنهم.

قال تعالى: لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ [فصلت:49].

الكلام هنا على الإنسان الكافر، لا يَسْأَمُ أي: لا يمل من طلب الخير، وهي الدنيا والحظوظ والمال والنساء والأولاد ودوام العافية والصحة، هذا لا يمل منه ولا يسأم من طلبه والضراعة فيه.

وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ، أي: وإن أصيب بمرض من موت أولاد أو هلاك مال أو ذل وهوان، أو أي شيء يصيبه من الشر فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ، أي: ييأس من روح الله ورحمته، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فلا يضرع إلى الله ضراعة الموحد المؤمن؛ ليرفع عنه ما ابتلاه به، وإنما هو كما قال الله: فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ يقنط من الدعاء ومن الرجاء؛ لأنه بنى كيانه ووجوده على الشرك والكفر وتعلق بالشركاء، وهيهات، فهم ما نفعوا أنفسهم حتى ينفعوه، وإنما هو يتعلق بالأوهام والأباطيل التي لا تنفع، وإنما هي أوهام متوهمة لا حقيقة لها في الواقع.

ويئوس وقنوط على صيغة فعول، وهي من صيغ المبالغة، أي: كثير اليأس والقنوط والملل والتبرم في حياته، ويتمنى لو كان هذا الشر قضى على حياته وعلى وجوده؛ لعله يستريح من ذلك الذل والمرض والضياع، ولكن هيهات هيهات، فالكافر ما لم يؤمن ويتوب فستبقى حاله في الدنيا في ضلال وفي بوار، وفي الآخرة في عذاب مقيم دائم.