خطب ومحاضرات
تفسير سورة فاطر [27-30]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27].
ألم تر يا محمد ويرى معك قومك، والرؤية هنا: رؤيا العلم والبصيرة، ورؤيا الإدراك والوعي والفهم والاطلاع.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً [فاطر:27]، أي: أنزل من السماء كتلاً يدمج بعضها لبعض وإذا بالغيث ينزل على الأرض التي يريد الله غوثها، وإكرام أهلها، وإذا بهذا الماء الواحد الذي ينزل من سماء واحدة ويسقي تربة واحدة إذ بآثاره مختلفة، تختلف في الثمار، وتختلف في الأرض، وتختلف في الإنسان والدواب.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا [فاطر:27]، أنبت الله بهذا الماء في الأرض ثمرات مختلفة ألوانها: بين أبيض وأحمر وأصفر وأسود، بين ثمار مرة وثمار حلوة وأخرى حامضة، وبين ثمار حمراء ودكناء وبيضاء وسوداء ومن كل شكل، والماء الذي سقيت به واحد، والسحب التي صبت غيثها واحدة، فمن الذي غيرها فجعل ألوانها مختلفة! وطعومها مختلفة! ولذائذها مختلفة! وأشكالها مختلفة بين مشمشة تكاد لا تصل في حجمها إلى أنملتين إلى بطيخة تزن الأرطال.. كل ذلك والماء الذي سقيت به واحد، والساقي واحد، ومع ذلك اختلفت الألوان واختلفت الطعوم، واختلفت اللذائذ، واختلفت الأشكال، أليس هذا وحده كافياً في الدلالة على قدرة الله؟ أليس هذا وحده كافياً في الدلالة على إرادة الله الواحدة الذي لا شريك له؟ من الذي صنع ذلك؟ هل بوسع أحد في الأرض أن يدعي أنه صنع ذلك؟ وهؤلاء الذين أشركوا دون الله مع الله هل ادعوا ذلك؟ هل قالوا: الصنم الفلاني هو الذي أحيا.. هو الذي أمطر.. هو الذي رزق.. هو الذي أمات؟! ما ادعوا ذلك ولم يدعوه، ولا وجود لهذا.
قال تعالى: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا [فاطر:27].
جدد: جمع جدة، والجدة: الطريق، أي: خلق من الجبال طرقاً، وهذه الطرق تارة بيضاء، وتارة حمراء، ونحن أولاء نرى الجبال ونرى الرمال ونرى التربة فنرى بعضها حمراء، وبعضها سوداء، وبعضها بلقاء بين البياض وبين السواد، وبعضها بيضاء خالصة، نرى هذا في الرمال، ونراه في التراب، ونراه في الطرائق بين الجبال، ولعل (جدة) التي أسيلت في تفسيرها كتب ومؤلفات وحبر ومداد ليست إلا اسم طريق كانت من الطرق بين مكة والمدينة، فخيم فيها من خيم في سابق الزمان، فقالوا عنها جدة أي: الطريق، أما أنها جدة حواء كما يقول البعض زاعمين أن قبر حواء في تلك الطريق فهذا غير صحيح، لا خلاف أن جدة: من التجديد، ولكن القريب والمعنى اللغوي، والأرض أرض العرب والجزيرة جزيرة العرب، وهم يتكلمون بلغتهم التي نشأ عليها صلى الله عليه وسلم، فكان أفصح العرب وأبلغ العرب، وبلسانه ولسان العرب نزل القرآن الكريم، يدل على أن الجدة: الطريق.
فقوله: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ [فاطر:27]، أي: وجعل من الجبال طرقاً يقطع بها شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وقرى ومدائن، وبراري وقفاراً، جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ [فاطر:27]، بيض: جمع بيضاء، وحمر: جمع حمراء، مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا [فاطر:27]، فهذه الطرق مختلف ألوانها فبعضها ذات لون أبيض، والبعض الآخر ذات لون أحمر، والأخرى ذات لون أسود ولون بين بين، كما جعل من الطعوم ومن الثمرات ألواناً وأشكالاً وطعوم ولذائذ، كذلك خلق في الجبال وفي الترب.
وَغَرَابِيبُ سُودٌ [فاطر:27]، غرابيب: جمع غربيب، وفي قوله: (غرابيب سود) مقدم ومؤخر والتقدير: سود غرابيب، يقال: هذا أسود غربيب، أي: أسود شديد السواد، والغربيب: اسم من أسماء الغراب، والمعنى: أنه بلغ من شدة سواده أن أصبح كلون الغراب، فمن الجبال جبال سود شديدة السواد، ومن الطرق إليها، ومن الطرق منها، ومن الطرائق التي تربط بين القارات والأقاليم والمدائن والقرى منها بيضاء، ومنها سوداء شديدة السواد حتى كأنها الغراب.
والتقديم والتأخير في اللغة العربية كثيراً ما يكون، وهو يفهم من السياق ممن يفهم اللغة العربية كما يجب، ولذا ينبغي على كل مسلم أن يجيدها، فلا يفهم كتاب الله، ولا تفهم سنة رسول الله، ولا تفهم الشريعة إلا بلغة العرب، والترجمات لا تغني أبداً عن لغة العرب، ولذلك من يعتمد الترجمة كان علمه ناقصاً ضائعاً، ولذا نجد من يعتمد على الترجمة يؤمن بأشياء لا حقيقة لها في نفس الأمر.
ومن هنا: من لم يعلم من المسلمين العربية إذا كتب عن الإسلام كتاباً في الفقه أو غيره من علوم الشريعة تجده يكثر من الأخطاء، ويكثر منه تفسير الآية والحديث وتفسير كلام العرب بما يقلب المعنى رأساً على عقب، وهذا ما وقع فيه جماعة المستشرقين من اليهود والنصارى الذين يتعلمون لغة العرب على كبر، ويعتمدون الترجمة، فيكثر ضلالهم ويكثر جهلهم، ويكثر تغييرهم وتبديلهم وتحريفهم لآيات كتاب الله، ولأحاديث رسول الله، ولم تؤخذ العربية إلا من العرب، ولم يفهم الإسلام إلا ممن يعرف العربية معرفة أهلها.
ومن هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الخلافة في قريش)، وفيه إشارة إلى أنه لم يؤتمن على كتاب الله وبيانه ومعانيه، ولن يؤتمن على شريعة الله كتاباً وسنة وفقهاً إلا عربي أو رجل عالم بلغة العرب منذ الطفولة، حتى أصبح كأهلها العلماء المبرزين فيها، المطلعين على ظواهرها وخفاياها، وعلى جميع ما يتعلق بها من استعارة وبياناً وبلاغة، عبارات ومفردات، وإلا كثر خطؤه، فإذا كثر خطؤه كثر افتراؤه في الأحكام التي ما أنزل الله بها من سلطان نتيجة فهمه الخاطئ.
قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [فاطر:28].
فليست الألوان في الثمار مختلفة فقط، ولا في الطعوم فقط، ولا في الطرائق والجبال والتربة فقط، ولكنها في الإنسان والدواب والأنعام، فمن الناس الأبيض، ومن الناس الأسود، ومن الناس الأحمر، ومن الناس بين بين.
فالبيض البهم يقول العرب عنهم: مقشرون، وهي ألوان الروم، والعرب فيهم حمرة وسمرة، والهنود ألوانهم تزيد على الحمرة بقليل، وهكذا الألوان تجدها بيضاء صافية، وسوداء غربيبة، وبين الأبيض والأحمر والأسود ذلك خلق الله، فالله لم يجعل الخلق بألوانهم، ولا بأنسابهم، ولا بأحسابهم، ولا بآبائهم وأجدادهم، ولكن إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]. (كلكم أبناء آدم وآدم من تراب)، فالفضل الذي يتفاضل به الناس بطاعة الله وطاعة رسوله، ولسنا نحن المسلمين كأولئك في أمريكا الذين يفاضلون بين الناس بألوانهم، فنحن نؤمن أن تلك جاهلية من الجاهليات، وضلال من الضلالات، وعجيب لأمر الناس عندما يسمعون لهؤلاء في حضارتهم المزيفة، ودينهم الباطل، ولغتهم الفاسدة وعقولهم المرتدة المريضة.
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [فاطر:28]، فمن الإنسان كذلك، ومن الدواب كذلك، ومن الحمير والبغال والجمال كذلك تجد الأحمر، وتجد الأبيض، وتجد الأسود، وتجد الأدهم، وتجد الأبلق وهو ما بين بين، كل ذلك خلق الله، والأنعام من الشاة والبعير والغنم وما إلى ذلك تجدها كذلك بيضاء، أو سوداء، أو حمراء، أو بلقاء بين بين، كل ذلك خلق الله، فهل استطاع أحد من الخلق أو من الشركاء المزيفين الذين عبدهم المشركون دون الله أو مع الله أن يخلقوا مثل ذلك؟! هيهات هيهات، وأنى لهم ذلك وهم أعجز من أن يخلقوا ذباباً، بل إن يسلبهم الذباب شيئاً ما استنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب.
فمعنى قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ [فاطر:28].
أي: كما من الثمار، وكما من الطرائق، وكما من الجبال والتربة والرمال، أشكال وألوان من بين جميع الألوان، إما الصافية كالسواد الكامل، أو البياض الكامل، أو الأحمر، وما بينها من الأبلق والأدهم؛ كذلك الناس، وكذلك الدواب، وكذلك الأنعام، كالجبال والثمار، (كذلك) أي: وكذلك عباد الله من العلماء الراسخين في العلم ومن المتعلمين.
كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
أي: وكذلك العلماء، وكذلك أهل العلم، فمنهم العالم الراسخ في العلم، ومنهم العالم الذي هو إلى الابتداء من البداية والوسط أقرب، ومنهم المتعلم طالب العلم ومنهم الذي يدعي الطلب والعلم وهو بعيد عن ذلك بعد السماء عن الأرض، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
وأعلا مراتب العلماء وأعلا منازلهم: من يخشى الله، أي: العالم الراسخ في العلم، أي: العالم الكامل في العلم هو الذي يخشى الله.
وقرئ: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ [فاطر:28] أي: (كذلك) كما الثمار وكما الجدد والطرائق والجبال والتربة والرمال اختلفت ألوانها من بيضاء وسوداء وحمراء وبين بين.
كذلك طالب العلم منه الطالب المبتدئ ومنه الواصل إلى مراتب العلماء، قالوا هذا ليربطوا بين إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] وبين الآية.
أما إذا وقفنا على (كذلك) ينصرف المعنى إلى ما تقدم ذكره.
فالعلماء منهم العالم الكامل العلم، ومنهم العالم الوسط، ومنهم العالم المبتدئ، ومنهم طالب العلم، وطلب العلم كذلك مراحل ودرجات فمنهم من لا يزال في الدراسة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية أو الجامعية أو أخذ بأعلى الشهادات، ومع ذلك حتى لو تخرج بأعلاها فإنه يعتبر قد ابتدأ في مراتب العلماء، فيبقى المران وتبقى الدربة ويبقى الرسوخ في العلم، وأعلا ذلك خشية الله، وخوف عذابه وخوف نقمته وخوف عدم قبوله للطاعة والعبادة من هذا العالم الذي يخشى الله.
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
فإن حفظ القرآن عن ظهر قلب، وحفظ الآلاف الآلاف من الأحاديث، وحفظ الآلاف الآلاف من الأراجيز والمقطعات والقصائد المطولة والمختصرة، لكنه لم يكن عالماً يخشى ربه، ويقف حيث أمره ربه، فإن علمه يكون وبالاً عليه سيحاسب عليه يوم القيامة، وليس من علم كمن لم يعلم.
قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] كلا، لن يستووا، والعلم لا يتم إلا بالعمل كما قال علي كرم الله وجهه: (لا علم إلا بعمل، ولا عمل إلا بتفقه) أي: بتعلم وإدراك وفهم للنصوص، وما سوى ذلك فصناعة من الصناعات يرتزق بها صاحبها كما يرتزق المحترف بحرفته كالنشار والحداد والبناء، والعلم دخل تحته جميع معاني الاطلاع، فيكون العالم عالماً بالإلهيات، بأن الله جل جلاله المتصف بكل كمال، والمنزه عن كل نقص، وأنه هو الخالق البارئ المحيي المميت، أنزل كتبه على أنبيائه، وختم كتبه بالقرآن الكريم، فهو إذا قرأه تدبره وتفهم معانيه وعمل بما فيه، وإذا حضر مجلساً أصغى بأذنيه وببصره وبجميع حواسه، وقديماً قالوا: النظر مخطاف السمع، فنحن نديم النظر في المتكلم لنسمع جيداً هل قال صواباً، هل فهمت معانيه ومراميه وماذا يريد أن يقول.
أخرج الدارمي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، إن الله وملائكته وأهل سماواته وأهل أراضيه والحيتان في البحار لتصلي على العالم الذي يعلم الناس الخير).
فهذا هو الذي يحرص على أن يتعلم الخير ويعلمه لغيره، ولن يحرص على نشر الخير والعلم والمعرفة والدين والأخلاق الفاضلة إلا من يخشى الله، ومن لم يخش الله ليس بعالم، بل هو إلى علم إبليس أقرب منه إلى علم العلماء.
وهناك قراءة غريبة وشاذة قرأ بها الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز ، وقيل: قرأ بها كذلك الإمام أبو حنيفة ، وهي قوله: (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماء) أي: إنما يخشى ربُّنا من عباده العلماء، أي: العلماء الصالحين المتقنين، العلماء بالله وبدينه وكتابه وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، وفسروا هذه الخشية بأنها استعارة، معناها: يجلهم ويعظمهم، أي: يجعلهم أجلاء في عيون الناس، مهابين عندهم ومعظمين، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من أسر سريرة ألبسه الله رداءها)، فالعالم يلبسه الله رداء خشيته، ورداء علمه ومعرفته، ويلبسه رداء سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال عليه الصلاة والسلام: (العلماء ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم).
وقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام للعالم المخلص بنضرة النعيم والرفاهية في الغنى عن الناس وجمال التقاطيع وحلاوة المنطق، وبالقبول وإقبال الخلق عليه، قال عليه الصلاة والسلام كما في الحديث المتواتر: (نضر الله) دعا له بنضارة النعيم، كما قال سبحانه: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:24] يصف بذلك أهل الجنة، إذا رأيتهم رأيت النعيم في وجوههم -أي: انشراحاً- وتجد الواحد منهم يكاد يبتسم وهو ليس بمبتسم، ولكن أساريره منشرحة ومتفتحة وذلك من نضرة النعيم ورضا الله عنه ورحمته به، وتجد ذاك المغضوب عليه مكفهر الوجه، عليه علامات الغضب والبؤس والشقاء، وتلك صفة أهل النار، فقد وصف الله وجوههم بقوله: عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41] فتجد وجوههم وكأنها مغبرة بأنواع التراب والأوساخ والأزبال، يكاد يأكلك العابس ببصره حقداً على دينك وصلاحك، وحقداً على النضرة التي تعيش فيها، وهذا الحديث من المعجزات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، ورب مبلغ أوعى من سامع).
من صفات المحدثين وناقلي السنة النبوية، أنهم يكثرون من الصلاة على رسول الله عليه الصلاة والسلام عند كل نقل لحديثه أو شرح لسنته أو كلام شريعته أو تشبع بأخلاقه، فيكون لسان الواحد منهما رطباً بذكر الله والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فلا تكاد تجد واحداً هكذا إلا وعليه نضارة الوجه، ونضارة النعمة حتى ولو كان شيخاً عمره تسعون سنة فما فوق، فتجد وجهاً متلألئاً، وما ذاك إلا ببركة الدعاء النبوي، قال تعالى: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26] لما قام به من نشر السنة ونشر الدين، ينشرها بين الخلق، ويبين مفاهيمها ومعانيها ويثبت ألفاظها، ويحقق ما تدعو إليه.
فقوله تعالى: (إنما يخشى اللهُ من عباده العلماءَ إن الله عزيز غفور) هي قراءة عمر بن عبد العزيز -كما قلت- وقراءة الإمام أبي حنيفة ، وفسروا ذلك بأن الله يجله ويعظمه، يجله برداء العلم والخشية فيجله الناس ويهابونه ويعظمونه، ويستفيدون من حكمته ومن علومه ومعارفه، فيزداد وإياهم تقىً ورفعة عند الله ودرجات وحسنات.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28] أي: إن الله عزيز وغافر، لن يناله جبار ولا طاغية، ولا صنم يُعبد من دون الله أو معه، فهو العزيز الذي لا يغالب، ومن تأله على الله يكذبه، وهو الغفور يغفر ذنوب المؤمنين، قال تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] فيغفر الذنوب للعالم الصالح ويغفر الذنوب لكل مسلم، قال تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114].
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
يذكر الله جل جلاله هنا صفات العلماء الذين يخشون الله والذين علموا ما علمهم الله وعلَّموا وعملوا بعلمهم.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ أي: يلازمون تلاوة كتاب الله تدبراً وترنماً وتغنياً بحيث لا يخرجون عن آداب التجويد مداً وقلقلة، ونطقاً بالأحرف كما نطق بها العرب الأوائل، بالتجويد الذي جعله علماؤنا لنتعلم به كيف ننطق وكيف نتلو وكيف ندرس كتاب الله؛ لكي لا نلحن ولا نغير في كتاب الله، فللمد قواعد ورتب، وللضاد وللظاء وللذال أحكام، وللتفخيم وللترقيق أحكام، فمتى نقل: باسم الله نرقق، ومتى نفخم نقل: قال الله، لكل ذلك قواعده في علم التجويد وعلم اللغة.
يذكر أن نصرانياً كان له شأن في الشام وحكومتها، فارتقى إلى أن أصبح رئيس وزراء على كفره، وكان يتعلم على القراء علم التجويد، فقال له مرة أحد زملائه النصارى من أساتذة جامعة دمشق: وما حاجتك للتجويد؟
قال: إن التجويد عجيب في علوم المسلمين، فاللغات اللاتينية واللغات الصينية وما سواها من بقية لغات الأرض ينطق بها الناس اليوم، ولكن ليس كما كان ينطق بها الأوائل؛ لأنه لم يدون ولم يكتب إلا النطق بالحرف، أما كيفية هذا النطق، هل هو ذال أو دال، هل هو تاء أو ثاء، هل هو ضاد أو ظاء، هل هو مرقق أو مفخم، هل هو مدة طبيعة أو مدة زائدة، لم يفصل فيه إلا المسلمون بتلاوة كتاب ربهم، وهكذا نرى من لم يتعلم التجويد إذا قرأ القرآن ورتله يكون إلى اللحن أقرب، إذ لا يعطيه حقه من المدات والتفخيم والترقيق، وبعض الشعوب العربية تنطق الثاء ساء، وتنطق الذال دالاً، وتنطق الظاء ضاداً، وتنطق الجيم قافاً، وهذا كله تغيير وتبديل.
سألني ذات مرة مصري فقال: لا أستطيع النطق بالجيم إلا قاف، فإذا تلوت القرآن ماذا أعمل؟ وهل هذه لغة عربية؟
فقلت له: عربية نعم، ولكنها ليست تلاوة القرآن، وتلاوة القرآن إما جيم خالصة، أو قاف خالصة، والمغاربة خاصة في مدينة مراج، لا ينطقون إلا بها، ولكن لا ينطقونها جيماً خالصة ولا قافاً خالصة، بل يجعلونها بين الكاف والقاف، وتميزها بكاف عليها ثلاث نقط أو قاف عليها ثلاث نقط، والمعنى: أنها قاف، وهكذا علم التجويد، فتلاوة كتاب الله لا ينبغي للمسلم أن ينقطع عنها ألبتة، والأكمل أن يتلوها بتدبر وتمعن وتفكر في معانيها، وهو بذلك مأجور، وكما أخبر عليه الصلاة والسلام أن له بكل حرف عشر حسنات، قال: (لا أقول: الم حرف، لكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف) أي: أجر التالي لكتاب الله ويقول: (الم) ثلاثون حسنة.
والتلاوة في القرآن الكريم تحفظ البصر وتقويه، وتعين الحفاظ على قوة الإصرار، وهذه من خصائص التلاوة في المصحف، ويشهد المصحف يوم القيامة لتاليه أن فلان ابن فلان ابن فلانة كان يتلوني صباح مساء، وكان يقرؤني في كل الأوقات.
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ [فاطر:29] وتمام التلاوة النطق مع العمل، أي: يتلو القرآن ناطقاً، ويعمل بما فيه، فإذا قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43] فليقم الصلاة في أول أوقاتها الخمسة كلها، وليأت من النوافل ما استطاع، وليحرص على ذلك، وإذا لعن القرآن الكاذبين والكافرين والمنافقين فليحرص على أن يبتعد عن ساحة هؤلاء الكافرين والكاذبين والمنافقين، إلى غير ذلك مما تخلل كتاب الله من حكمة وشريعة وقصص وعقيدة وأحكام، ومن حلال وحرام وآداب ورقائق.
وأعظم التلاوة هو العمل؛ ولذلك عندما يرد ذكر التلاوة في القرآن يقصد به ذكر اللسان وذكر القلب، والعمل بذلك بالأركان والجوارح، فكلمة تلاوة تشمل كل ذلك، ومن قام بكل ذلك قام بالمعنى الكامل التام.
فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ أي: تلوه باللسان ولم يكتفوا بالقول، بل زكوا القول بالعمل، فيأتي بعد الشهادتين إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة: الحفاظ عليها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وسننها ومستحباتها، وليتم للمؤمن إيمانه لا بد أن يتم مع القول العمل.
فهؤلاء التالون لكتاب الله عبدوا الله وأطاعوه بالصلاة كما أمرهم وكما بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيام وقعود وركوع وسجود وتلاوة وذكر، وفي الأوقات المعهودة المعلومة لكل مسلم.
قوله: (وأنفقوا) هذه طاعة الله في خدمة عباده، وفي الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين، وفي الإنفاق على السائل والمحروم، ومن تمام صفات المؤمن أنه يعطي السائل، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، وكما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس) وقال عليه الصلاة والسلام: (ما أفلح المسئول إن صدق السائل) وكل يعطي بحسب ما عنده، ومن لم يعط من القليل لم يعط من الكثير.
قال تعالى: سِرًّا وَعَلانِيَةً أي: سراً بحيث لا تدري اليسرى بما تصنعه اليمنى، (وعلانية) ليكون قدوة لأولاده وتلاميذه وأنصاره، حتى يعلم الناس أنه لا يفعل ذلك إلا ليقتدي به الناس، فلا يكون عمله كله إعلاناً، ولا يكون كله سراً، ولا يستوي عنده السر والعلن، ففي العلن لا يرى في عمله إلا الله والدار الآخرة، وفي السر لا يعمل العمل إلا لله وللدار الآخرة.
والإعلان يفعله لكي يكون قدوة، ولكي لا يتهم؛ لأن الزكوات واجبة، وقديماً قالوا: لا شكر على واجب، فيجب أن تكون الزكوات علناً حتى لا يتهم بأنه لا يؤدي الزكاة، وزكاة الفطر كذلك يجب أن تعلن، وإلا وقف موقف المتهم، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقف مواقف التهم) فمن لا ينفق إلا سراً ولا يعلم به من يعلم يوشك أن يقال عنه: يمنع حق الله والواجب من ماله، ويمنع الزكاة عن الفقراء والمساكين، وتلك كبيرة من الكبائر وعظيمة من العظائم.
أما عن السر فقد قال عليه الصلاة والسلام أن من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه) مبالغة في أنه يفعل ما يفعل ولا يقصد به إلا الله والدار الآخرة، بحيث لا حاجة له إلى أن يعلم ذلك قريب ولا بعيد، وإن كانت اليسرى لا تعلم ما أنفقت اليمنى فمن باب أولى الزوجة والولد، هذا إن كان لذلك معنى من المعاني، أما إذا كان موضع الأسوة -وكل أب موضع الأسوة لأهله وأولاده ولأصدقائه المحبين- فلا بد أن يكون موضع الأسوة لغيره فيعلن ذلك.
فقوله: سِرًّا وَعَلانِيَةً [فاطر:29] سراً بحيث يخفى على الناس، وعلانية أي: جهراً بحيث يرى الناس ذلك.
قال تعالى: يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29] أي: يفعلون ذلك لا لكي يقال، وإلا أصبحوا منافقين مرائين، إذاً: لا يفعلون ذلك إلا رجاء في رحمة الله، وفي التجارة الإلهية وفي الثواب والأجر من الله.
قوله: لَنْ تَبُورَ أي: لن تهلك ولن تفسد ولن تكسد، وهذه التجارة هي التجارة مع الله، فالله هو الذي يأجرك ويحسن إليك ويعطيك من الأجر ومن الثواب ومن الحسنات جزاء أعمالك، فالمؤمن لا يفعل الخير إلا لله رجاء رحمته ورجاء رضوانه وثوابه، فيأخذ أجره من الله، فتجارة هذا المؤمن لن تضيع ولن تكسد، بل صاحبها يبقى دائماً رابحاً.
قال تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:30] أي: يفعلون ذلك فيتجرون مع الله رجاء ثوابه ومغفرته ورضوانه، ليعطيهم الله أجورهم بالوفاء، إذ إن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله، فقد يضاعف ذلك إلى سبعمائة فأزيد، كما قال عن الصيام: (وأنا أجزي به) أي: جزاء لا يقدر من الأجر والثواب، وما ذاك إلا الجنة والخلود فيها، جعلنا الله من أهلها وسكانها.
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر:30] أي: ليعطيهم أجورهم وافية كاملة تامة مضاعفة، (ويزيدهم) أي: عند الله الحسنى وزيادة، فيزيدهم من فضله زيادة لم يعملوا لها، وكسباً لم يسعوا إليه، ولكن من فضل الله وكرمه وجوده.
قال تعالى: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:30] أي: إنه هو الذي يغفر الذنوب، ويشكر العبد على عمله.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة فاطر [11-12] | 2359 استماع |
تفسير سورة فاطر [1] | 2318 استماع |
تفسير سورة فاطر [31-37] | 1889 استماع |
تفسير سورة فاطر [38-40] | 1719 استماع |
تفسير سورة فاطر [19-26] | 1564 استماع |
تفسير سورة فاطر [13-18] | 1251 استماع |
تفسير سورة فاطر [40-45] | 1158 استماع |
تفسير سورة فاطر [9-11] | 770 استماع |
تفسير سورة فاطر [4-8] | 557 استماع |