تفسير سورة فاطر [38-40]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [فاطر:38].

إن الله وحده عالم غيب السماوات السبع وما فيها، وغيب الأرض وما فيها، إذ الغيب لا يعلمه أحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، ومن باب أولى لا كافر ولا ساحر ولا كاذب مفتر على الله دجال، ولكن من يرد الله أن يعلمه بعض غيبه يعلمه كما أعلم أنبياءه وكما أعلم رسله، وكما أعلم ملائكته، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27].

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الأنفال:38]، فحتى صدورنا وضمائرنا وما بين جوانحنا وما لا تسمعه منا أذن، ولا يكتبه قلم ولا نتحدث به، وما هو في صدورنا من آراء وخواطر يعلمها الله، فهو يعلم بما لا يعلمه الأب من ولده، ولا الولد من أبيه، ولا الزوج من زوجته، ولا الزوجة من زوجها، ولا أحد من أحد مطلقاً، فالله كما يعلم غيب السماوات والأرض يعلم ما في صدر كل إنسان مما هو غيب على كل الخلق من الخواطر والخطرات وحديث النفس.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا [فاطر:39].

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ [فاطر:39] خلائف: جمع خليفة، خلفنا من سبقنا من الآباء والأجداد والأجيال السابقة، وهكذا يذهب الجيل ويأتي الآخر، ومع ذلك فالجيل المتأخر لا يأخذ العبرة ولا الدرس ولا الحكمة من الجيل السابق، وكان عليه أن يتخذ العبرة ويتأمل ما هو الذي كسبه وربحه من كفره غير الخزي والذل والهوان، فإنه إن أدرك ذلك فلن يفعل فعله، ومن كان أبوه أو من يعلمه صالحاً فيجب أن يتخذه أسوة وقدوة، وهكذا. فهذا توجيه رباني للاستفادة من تجارب من مضى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ [فاطر:39] ومعناه: خلفنا من سبقنا من الأفراد والجماعات، فأطفالنا خلفاؤنا، ونحن خلفاء آبائنا، وآباؤنا خلفاء آبائهم، فكل من جاء بعدك يعتبر خلفاً لك، وخليفة لك، ورثك في هذه الدنيا بالحياة، وقد يكون قريباً فيرث بيتك ويرث مالك، ويرث اسمك، ولربما شاركك في هذا الاسم في الحياة حيث يقال لك: آل فلان، فيقال عنهم كذلك: آل فلان، ومن ما يفيد الاستخلاف أيضاً: أنه جعلكم خلفاء الماضين، تمرون عليهم بالليل وبالنهار فترون آثارهم وتتساءلون: أين من بنى وشيد؟ أين من حكم الدنيا؟ أين من قال: أنا ربكم الأعلى؟ تلك بيوتهم خاوية تعوي فيها الذئاب وكأنهم لم يكونوا، لم يصحبهم إلا العمل الصالح، ومن لم يكن له عمل صالح صحبته اللعنة وصحبه الخزي، ولعذاب الله يوم العرض عليه أشد مما هو فيه، فنحن عندما نخلف من سبقنا من الأجيال السابقة والأمم السالفة يجب أن نعتبر بحالهم. وهنا نلمس فائدة التاريخ وفي ذلك الإشارة إلى العناية بالتاريخ، ولذا قص الله علينا الكثير من تاريخ الأمم السابقة، والأنبياء السابقين، وما جرى لهم من خير أو شر، فتعلم ذلك يفيد الإنسان الخبرة والعبرة والموعظة، فإن كان خيراً اتبعه، وإن كان شراً تعوذ بالله منه وابتعد عنه، ولذلك عندما يقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ [فاطر:39].

أي: هناك من سبقكم ممن قبلكم فلستم بدعاً ولم تنفردوا في الوجود، بل سبقتم في الحياة، فآمن من آمن وسعد في الدنيا وسعادته، في الآخرة أتم وأكمل وأشمل.

قوله: فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [فاطر:39]، أي: فالذي كفر فنتيجة كفره عليه، وعذاب الكفر عائد عليه لا على غيره، فكل محاسب بما صنع، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164].

فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [فاطر:39]، عليه عقابه ومهانته وذله وهوانه، لن يعذب معه سواه، إلا إذا كان شريكاً لذلك السوى في عمل هذا الكفر والدعوة له.

وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا [فاطر:39]، أي: كفر الكافر مهما طال، ومهما صمد عليه صاحبه وأصر عليه فلن يزيده ذلك عند ربه إلا الغضب والمقت والخزي واللعنة الدائمة.

فالكفر مهما طال، ومهما استطال، ومهما عاش عليه من عاش، فرداً كان أو أمة، لن يزيده كفره عند ربه إلا مقتاً، والمقت: أشد الخزي، وأكثره وأبلغه، ولن يلحق الخزي إلا به، فكفره لن يزيده إلا مقتاً ولعنة وغضباً.

وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا [فاطر:39].

فمهما طال كفرهم زاد في خسرانهم، خسرانهم للجنات والنعيم والرحمة والشفاعة، وهكذا دواليك، ولذلك كما أن الجنة درجات، فإن النار دركات، فمنهم من هو على ضحضاح يغلي منه دماغه، ومنهم من هو في قعر جهنم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145]، أي: في آخر دركة، وهي دركات سحيقة، جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في بعد قعرها أنه قال: (إن أحدكم ليقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في قعر جهنم سبعين خريفاً)، أي: سبعين عاماً، وليس في العام إلا خريف واحد.

إن أحد المستهترين يقول وهو لا يدري ما يقول، وقد يقول كلمة يريد بها المزاح والدعابة وإذا به ارتد وكفر وخرج عن أمر الله ودين الله، فيهوي بها ويسقط، ويظل ساقطاً مدة سبعين عاماً إلى أن يصل إلى قعر النار، ولا يصل إلا عند تمام مرور سبعين عاماً، وهكذا هؤلاء لن يزيدهم كفرهم إلا خساراً، وقد يكون كفرهم لأول مرة، فيكونون به في ضحضاح من النار، ثم يزيد إلى أن يكونوا في قعر جهنم.

قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا [فاطر:40].

يقول الله لهؤلاء المشركين سكان النار الخالدين فيها أبداً، الذين يصيحون ويصطرخون يرجون الخروج وهيهات لات حين خروج، ولات حين مندم، يقول الله: قل يا محمد لهؤلاء: أروني الذين تدعون من دون الله، قل لهم يعلمونك، ذلك علم رؤية قلبية، أو رؤية عينية، قل لهؤلاء: أرأيتم هؤلاء الشركاء أطلعوني عليهم، أروني إياهم وأعلموني بمقامهم، يخاطب الذين جعلوا لله شركاء وزعموا أنهم خلقوا كخلقه وأنهم شاركوه في ملكه أو في رزقه، أو في خلقه: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ [فاطر:40]، اطلب منهم متحدياً أن يروك الجزء الموجود في الأرض وهم خلقوه؟ فإن قالوا: بنينا قصراً -وقد يقولون: خلقنا- فيقال لهم: هل أنتم الذين كونتم حجارته أو الماء والطين اللازم لبنائه؟ فيكون الجواب: لا، وكذا إن قيل: نحن صنعنا الصواريخ، وصنعنا الطائرات .. وصنعنا.. وصنعنا فيسألون: هل هم الذي خلقوا ذلك الحديد الذي صنعوا منه الطائرة والصاروخ؟ بل غاية ما صنعتموه أنكم حولتم المادة التي خلقها الله من صورة إلى أخرى، فمثلاً: الله خلق القمح وبإمكاننا أن نجعله خبزاً، أو نجعله حلوى، أو نجعله طعاماً، فلا يقال أنا خلقناه؛ لأن الأصل هو تلك الحبة التي لم نخلقها، ولم يخلقها أحد، حتى العقول التي خبزت والأيدي التي زرعت وسقت وطحنت من الذي خلقها؟ الكل خلق الله، ومن ضاع عقله لا يستطيع عمل شيء، لا ذوقاً بلسانه، ولا عملاً بيديه إن هو إلا إنسان فقد العقل، والعقل لا يعطيه إلا الله، ومن فقده لن يشتريه بملء الأرض ذهباً.

ثم استرسل في سؤالهم فقال: أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ [فاطر:40]، وإذا لم يخلقوا شيئاً في الأرض فهل هم شركاء الله في سماواته؟ كأن خلق الله ستاً وخلقوا واحدة أو خلق الله الملائكة وخلقوا الجن! هيهات هيهات، ما خلقوا شيئاً، لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [الحج:73]، بل وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73].

قوله: أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ [فاطر:40].

أم أنزلنا عليهم كتاباً من السماء أمرناهم فيه بالكفر وبالشرك، وبأن يتخذوا لنا شركاء.. معاذ الله، إن الله لا يأمر بالفحشاء، والاستفهام هنا استفهام توبيخي تقريعي، أي: هذا لا يوجد، بل ما ادعوه، فلم يدعو رسالة ولا نبوة، ولا اتباع كتاب، وإن هم إلا حيوانات شاردة في الأرض، يقولون: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ولا يهلكهم إلا الدهر، هكذا يزعمون، وهم ما ذكروا في القرآن وفي الشريعة وفي لسان التاريخ الماضي، ومثل هذا القول قال الدهريون، وهم الذين يعبدون الدهر، وما الدهر؟ يقول النبي عليه الصلاة والسلام عن الله في الحديث القدسي: (تسبون الدهر وأنا الدهر)، أي: الدهر هو: الزمان، والله خالق الدهر، وخالق الزمان، وخالق الليل والنهار، فمن سب ذلك كأنه يسب الصانع والخالق، فيكون بذلك قد خرج عن الإيمان وهو لا يشعر، وهو من الكلمات التي قال عنها نبي الله عليه الصلاة والسلام: (إن أحدكم لينطق بالكلمة لا يلقي لها بالاً -يقولها دون أن يقصد معناها، ولا يفكر فيها- فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً).

ولذلك ينبغي على الإنسان أن يكون عقله وراء لسانه لا لسانه وراء عقله، وإلا لنطق بالكفر وهو لا يعلم ولا يفهم، ونحن لا نحاسب الناس إلا بما ظهر لنا منهم، فمن جاء وقد أعلن الكفر اعتبرناه مرتداً، فإذا جاء وقال بين يدي الحاكم والقاضي: لم أقصد، لا يقبل هذا منه، ولا يصدق به؛ لأن العبرة بما دل عليه الكلام، وكذلك من جاء وقال: أنا آمنت، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، اعتبر مسلماً، فإن عاد وخرج عنها، وقال: إنما هي كلمة قلتها اعتبر مرتداً، وألزم بالعودة إلى الإسلام، وإلا قتل بسيف الإسلام.

والمعنى: سل هؤلاء: الشركاء الذين دعوتموهم من دون الله وعبدتموهم من دون الله، ما الدليل على أنهم شركاء؟ أخلقوا شيئاً من الأرض؟ أطلعوني عليه وأعلموني علمه وخبره إن كان موجوداً، فإن لم يكن في الأرض فهل شاركوا الله في خلقه في السماوات؟ أم لهم سماء هم خلقوها وهم دبروها؟ وإذا لم يكن ذلك وهو غير كائن، فهل أنزل عليهم كتاب أمروا فيه بالشرك وبالكفر وبالجحود والعصيان؟ هيهات هيهات، لم يكن ذلك، فذلك استنكار توبيخي تقريعي يعود عليهم بالمذمة والهوان، ولذلك القرآن خاطب العقول -فمن لا عقل له لا فهم له ولا إدراك- وبعد ذلك جاءت الأدلة، فلم يقل الله في كتابه من بدايته إلى نهايته: تعالوا اسمعوا وأطيعوا بناءً على أمرهم، وإنما أمروا بذلك بعد أن أمروا: أن تفكروا.. أن تذكروا.. انظروا بأعينكم -الأعين الباصرة-.. تأملوا ببصائركم -البصائر المدركة.

قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46]، أي: لم أطالبكم إلا بخصلة واحدة: أن تقوموا مفكرين متذكرين دارسين مثنى مثنى، جماعات جماعات، فرادى كل واحد في نفسه، هل محمد مجنون؟ هل الكتاب الذي أنزل عليه صنعه بنفسه؟ وقطعاً لم يكن شيء من ذلك، بل كل ذلك خواطر أوحى بها الشيطان، فلما لم يستعملوا عقولهم ضلوا، ولذلك عندما تفكر أمثالهم أصبحوا السادة بعد الأنبياء عليهم رضوان الله، وعلى الأنبياء سلام الله.