خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/38"> الشيخ الدكتور سعد البريك . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/38?sub=65397"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
الوهن وعلاجه في ضوء الإسلام
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده على نعمه التي لا تحصى، وعلى آلائه التي لا تنسى، الحمد لله الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحمد لله الذي وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم، الحمد لله الذي الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه، الحمد لله الأول والآخر والظاهر والباطن والمقدم والمؤخر، وهو على كل شيء قدير.
نحمده سبحانه حمداً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واحد في ربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وحديثنا معكم اليوم عن الوهن الذي أصاب أمة المسلمين، وهو السلاح الذي يمكن أن يكون سبباً في هلاكها، وما سواها من الأسلحة والعوامل الخارجية، سواء من التهديد بالقتل أو التدمير أو الاجتياح، أو غير ذلك .. فإن هذا لا يمكن أن يكون سبباً لهلاك الأمة، وما ذاك إلا لاعتقادنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين، وذكر مما أعطاه ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) فلا يمكن أن تهلك أمة الإسلام بعدو يتسلط عليها، فيستبيح بيضتها، ويسرق أموالها وخيراتها ومدخراتها جملة واحدة أبداً، ما لم يتسلط المسلمون بعضهم على بعض، وما لم تتسلط نفوس المسلمين على ذواتهم، فإن النفس إذا تسلطت على صاحبها كان ذلك بادية الهلاك والوبال والدمار، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وذلكم هو أخطر أمر أن تتسلط نفسك عليك، وأن تكون نفسك هي سبب مصيبتك، وأن يكون سعيك هو الذي يقودك إلى هاوية ولا حول ولا قوة إلا بالله .
إذا لم يكن عون من الله للفتـى فأول ما يجني عليه اجتهاده |
إذا لم يحصل استعانة المسلم بربه، واستقامته علىأمر ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن كل جهد وعون وعمل يكون سبباً في هلاك صاحبه، ولا عجب في ذلك، فإن سنة الله لا تحابي أحداً، وإن سنن الله في الكون لا تتعطل ولا تتغير: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126]. وقول الله جل علا: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] إن البلاء والدمار والهلاك والمصيبة، تكون بداية من النفس، إن كان الإنسان تسلط على نفسه بالذنوب والمعاصي، وتسلطت الأمة على مجتمعاتها وبلدانها بالفواحش والمنكرات، عند ذلك لا يبالي الله جل وعلا بأي وادٍ هلكت هذه الأمة، وليست هناك أمة من الأمم معصومة، أو أن بينها وبين الله عهد ألا تُهلك وألا تدمر، فإن لم يقع الهلاك بسبب مصيبة أو قوة بشرية، نزل الهلاك على أمة عصت الله من السماء، ألم يقل الله جل وعلا: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [الذاريات:41-42]؟ ألم يقل الله جل وعلا: وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الذاريات:46]؟سلط الله عليهم في معرض ذكره للأمم التي أهلكها بالعذاب، فلا ينبغي أن نظن أن الأمم إن لم تصب بمصيبة عدوان أو اجتياح خارجي، أو من جوار، أنها سلمت من البلاء والهوى والفتك والعقوبة، إذا أن البلاء إنما يوجهه الله جل وعلا بأسباب، فقد يكون البلاء بسبب تسلط أمة على أمة، وقد يكون في صورة بلاء ينزل من السماء، أو ينفجر من الأرض، أو في صورة داهية تجعل الأمة شذر مذر وتمزق كل ممزق.
إن عقول كثير من البشر انحصرت في تصور المصائب، وأنواع البلاء، في عدوان بشري أو في قوة غاشمة مسلحة فتاكة مدمرة، تتسلط على أمة أخرى وليس هذا كل البلاء أو المصيبة، بل إن الله جل وعلا لا يعلم جنوده إلا هو وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31] هي ذكرى للأمة أن تعتبر وأن تتعظ، وأن تعلم أن البلاء وإن تخلف على أيدي البشر، فقد يتحقق بمصيبة تخرج من الأرض، أو ببلية تنزل من السماء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حديثنا عن الوهن، تلكم المصيبة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، والوهن هو: الضعف والخذلان، وما يسمى في اصطلاحات العصر الحاضر تحكم النفوس وانكسارها وضيعة عزتها، وذهاب شموخها، ورضاها بالذلة وقناعتها بالدني والردي والقليل دون الكثير، قال تعالى: قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم:4] من الضعف، ويقول تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] من الضعف والرضا بالسلم والمصالحة من الأعداء عند أدنى الحظوظ.
فالوهن اصطلاح يدل على الضعف، فكل شيء ضعف فقد وهن، وما أضعفك فقد أوهنك.
جاء بيان هذا الأمر والإخبار بأن الأمة سوف تصاب به في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى (كيف بكم إذا تداعت عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قالوا: أومن قلة نحن يا رسول الله؟ قال: لا. أنتم يومئذ كثير) وأقف لحظة عند الكثرة، لو ضربنا مثلاً بسيطاً جزئياً على مسألة الوهن، ألسنا نحن جميعاً في هذه المظلة وفي هذا المسجد جمع لا بأس به من الكثرة، نعم. نحن بالنسبة لحجم المسجد جمع كثير لكن أين نفعنا؟ أين بلاؤنا؟ أين سعينا؟ أي عمل نفعنا به أمة الإسلام؟ أي سعي جعلنا به الدعوة إلى الله تنطلق خطوات إلى الأمام؟
إذاً حتى جمعنا الذي نتحدث معه فينا ومن بيننا وهن عظيم، أقول هذا حتى لا نظن أننا نتحدث عن أمة أو كوكب أو جماعة بعيدين عنا، بل نتحدث عن مصيبة تمثلت في طولنا وعرضنا وأجسامنا ولحومنا، مصيبة حلت في نفوسنا، (قالوا: أومن قلة نحن يا رسول؟ قال: لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل؛ يصيبكم الوهن وينـزع الله المهابة منكم من صدور أعدائكم، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) بين صلى الله عليه وسلم السمة والعلامة الواضحة الجلية، في أمة تصاب بالوهن، ألا وهي: (حب الدنيا وكراهية الموت) نعم -يا عباد الله- كلنا إلا من رحم الله قد أصبنا بهذه البلية، واجتمع هذا المرض في مجموع أفراد الأمة، فوهنت وضعفت عن مواجهة أعدائها وعن الوقوف بمواقفها التي ينبغي لها أن تكون متسلمة للقيادة فيها.
ما أسباب الوهن الذي حل بأمتنا في هذا الزمان؟
اعلموا -أيها الأحبة- أن لذلك أسباباً عظيمة جداً.
تسلط الذنوب والمعاصي
إذا لم يغبر حائط في وقوعـه فليس له بعد الوقوع غبار |
يعني: إذا لم تصبك بلية الذنب فوراً، فإنك قد نجوت من شؤمه وبليته.
لا والله، بل إن هذه الذنوب والفواحش خاصة الآثام والمنكرات الجلية، الظاهرة العلنية، التي هي أعظم سبب في وهن الأمة، وأعظم سبب في هلاكها ودمارها بصريح قول الله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
رأيت الذنوب تميت القلـوب وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلـوب وخير لنفسك عصيانها |
إذا ماتت القلوب وأصيبت بالوهن وتعلقت بالدنيا وخافت وارتجفت من الأجل، فذلك بسبب ذنوبها ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد بين ابن القيم رحمه الله أن للذنوب شؤماً وآثاراً وخيمة ومضرة، وذكر أن أقل ما فيها أن الذنوب تضعف صاحبها وتورثه الذلة والخيبة، وعدم الجرأة إلى غير ذلك من آثار الذنوب، التي من أخطرها أنها تجعل النفس تخون صاحبها في أمس حاجة ولحظة يحتاج إليها.
إذاً فمن أعظم أسباب الوهن الذي حل بأمة الإسلام الذنوب، وحتى لا نتكلم عن كوكب آخر أو جماعة أخرى نتحدث عن أنفسنا وعن واقعنا ومجتمعنا، وعن مجتمعات المسلمين بالتبع، يظن كثير من الناس حينما نحدثه أو يتحدث أحد معه عن الذنوب، يظن أنه قد خلي وسلم من هذه، فإذا رأيت سماعه، فإذا اللهو يملأ آذانه، وإذا رأيت ما ينظر وجدت الأفلام والمسلسلات تشغل جزءاً كبيراً من ليله ونهاره، وإن ذهبت تنظر معاملته وجدت الخيانة أو الرشوة، وأخطر منها الربا الذي هو أخطر حرب تواجه الأمة به ربها، نخاف أن ندخل في حرب مع الأعداء، ولكن نسينا أننا لم نبالِ بحرب دخلناها مع الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279].
هل تحتاج هذه الحرب من الله ورسوله إلى صفارة إنذار؟ هل تحتاج إلى علامات الإنذار الشامل في الأفق؟ هل تحتاج هذه الحرب إلى علامات تسبقها أو اجتماعات؟
لا. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] إذا توعد الله بشيء فإنه يتحقق لا محالة.
أقول -أيها الأحبة-: لما كانت الذنوب والآثام والمعاصي والمنكرات من أسباب الوهن الذي حل بالأمة، فإننا ينبغي أن نسأل أنفسنا -لو نظر كل شخص منا إلى نفسه لوجد عدداً من الذنوب التي يرتكبها يومياً، ومع ذلك تراه كأنه لم يفعل ولم يقع في مخالفة مع الله جل وعلا- ينبغي أن نسأل أنفسنا: من نعصي؟ ومن نخالف؟ إننا نعصي رباً الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، لقد غابت عن الأذهان والعقول عظمة الله جل وعلا، هانت على النفوس المعاصي، ولو قلنا لأحد الناس: يقول فلان بن فلان: ممنوع التجاوز في هذا الشارع، لقال: ومن هو فلان؟ نكرة لا يعرف، فليس حقيق أن يُمتثل لأمره أو يُزدجر عن زجره، أو يُتبع لما أمر به، لكن لو قلنا: قال المسئول الفلاني في الدائرة الفلانية: إن هذا أمر ممنوع لقال: نعم. لأنه يعرف أن ذلك المسئول رجل في موقع وله مكانة وهيبة، ويتبع من خالفه بالعقوبة.
لو قلت لكم: إن قوة تستطيع أن تجمعكم جميعاً يا من أنتم في هذا المكان في قبضة يدٍ واحدة لقلتم: هذا أمر عجيب! وأي قوة هذه؟ ومن نحن على تعددنا في هذا المكان بالنسبة لسكان المدينة كلها، نحن جزء يسير من سكان المدينة.
وأقول هذا المثال وأردده، وبالمثال يتضح المقال حتى ندرك العظمة، نحن خلق عظيم، ولا يستطيع أعظم الناس أن يجمع خمسة أو ستة منا في يد واحدة، هل نحن فقط من يسكن في مدينة الرياض ؟ لا. بل هناك رجال ونساء وبهائم ونباتات وحيوانات، مليئة بها المدينة، وهل مدينة الرياض كل الكون؟ لا. هي جزء من المملكة، والمملكة أشبه ما تكون بقارة حفظها الله بالإسلام، هذه القارة مليئة بالجبال والصحاري وعلى حدودها المحيطات والبحار وفيها ملايين البشر، هل نحن كل الكون؟ لا. المملكة جزء من قارة آسيا، وقارة آسيا فيها مئات الملايين من البشر، وهل قارة آسيا هي العالم كله؟ لا، هناك قارات أخرى -أيضاً- مليئة بالبشر ومن معهم من المخلوقات والجبال والبهائم والنباتات والحيوانات.
إذاً: الكرة الأرضية مجموع مليء بالمحيطات والبحار والأنهار والجبال والبشر إلى غير ذلك .. اسمعوا قول الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] إذاً نحن نعصي رباً عظيماً، ولو أدركنا سر العظمة لما تجرأنا على الإصرار على الذنوب والمعاصي، لو أدركنا حقيقة العظمة، لما تجرأنا على الذنوب والمعاصي، آخر ما سمعت في عالم مراكز المعلومات أن جهازاً يستطيع أن يتلقى ستين مليون معلومة خلال عشر دقائق، أو أقل من ذلك، ما هذا الجهاز الذي يتلقى ستين مليون معلومة خلال هذه الفترة القصيرة؟! إنه جهاز غريب وعجيب ودقيق.
أين نحن من قول الله جل وعلا: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً [الكهف:49]؟ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، أما أجهزة المعلومات فتنتهي لو انقطع عنها التيار، وأجهزة المعلومات قد تضيع شيئاً من المعلومات.
إذاً: أين نحن من إدراك سر العظمة؟
إن كلما تكتشفه دول الغرب، وكلما تنتجه أمم التقدم والتكنولوجيا لهو دليل على عظمة الله جل وعلا؛ لأنه ما من أمر عجبنا منه ووقفنا متعجبين متأملين بدهشة وغرابة بسبب الإبداع والتدقيق في تصميمه، إلا ونجد أن عند الله جل وعلا ما هو أعظم منه، وليس هذا بغريب، إذ لا يمكن أن يساوى الخالق بالمخلوق.
حينما نأتي بشاشة تلفزيون الآن أمامكم ومعها سماعة أو لاقطة، ونقول: تستطيع أن تتحدث مع رجل في أمريكا وأنت جالس هنا، تقول: الله أكبر! ما هذه الاختراعات؟! نحن نجلس هنا ونتحدث ونرى من يجلس في أمريكا أو في أبعد القارات، ونعجب من هذا عجباً، ولكننا نمر على قول الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50] أين أصحاب النار؟ في أسفل سافلين، وأين أصحاب الجنة؟ في أعلى عليين، والبعد بينهما أبعد مما بين القارات، ومع ذلك بقدرة الله وأمر الله يجعل أهل الجنة يرون أهل النار: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] أليست هذه من جوانب العظمة الإلهية؟
لقد وقفنا مندهشين متعجبين مستغربين أمام شيء يسير من صناعات البشر، ونقف أمامها بكل احترام، ولا ننظر إلى عظمة الله جل وعلا ودلائلها في الأنفس والكون: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
فيا معاشر المؤمنين! حينما أقول: إن الذنوب سبب الوهن الذي أصاب الأمة وحل بها، وما ذاك إلا أن الأمة مضت واستمرأت واستمرت على فعل الذنوب والمعاصي، دون إدراك لعظمة هذا الرب الذي تعصيه، ودون إدراك لحقيقة هذا الرب الذي تعصيه في عظمته وعلمه سبحانه وتعالى.
فيا معاشر الأحبة: لا شك أن من عصى الله جل وعلا فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، وأن المعاصي هي أعظم أسباب الوهن والضعف.
أليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب له أحد قواده يريد المدد لتدعيم جيش المسلمين قال: انظر جندك، هل فيهم عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إني لا أخشى على الجيش من عدوه، ولكن أخشى على الجيش من ذنوبه.
نعم إن الوهن الذي يصيب الأمة، لا يصيبها من أعدائها وإنما يصيبها من ذات أنفسها: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فتشوا أنفسكم .. انظروا جرائدكم .. انظروا إعلامكم .. انظروا تعليمكم .. انظروا حياتكم .. انظروا في مختلف مجالاتكم!! فما رأيتم فيه مخالفة لله ولرسوله فاعلموا أن ذلك سبب الوهن في الأمة.
الحملات الإعلامية التي تعظم أعداء الله
نعم. أصبح المسلمون يتعلقون بمقدار ما يملكون من القوة والعدد والعتاد، لا أقول هذا على مستوى عامتهم، بل أقول على مستوى البعض، حتى لا نعمم بشؤم القول، عند ذلك يدل هذا على أن حملة إعلامية وجهت للإعلام المعادي للأمة الإسلامية غرست في قلوبنا أن أعداءنا قوة لا تقهر، وأن سلاحهم مدمر لا يمكن أن يرد أبداً.
ولو كانت العقيدة حاضرة موجودة غير غائبة؛ لعلمنا أن الدعاء يرد مختلف الأسلحة وأدوات التدمير الشامل، لكن لما استحكمت الذنوب والمعاصي في النفوس ووافقت:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا |
وافقت فراغاً وغيبة من حقائق العقيدة وتأملها، أصبحنا نظن أن بوسع أعدائنا أن يهلكونا في أي وقت يشاءون، ونسينا قول الله جل وعلا: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52] ليس من شرط هلكة الأعداء أن تنتهي أسلحتهم كما يظن أكثر البشر أن العدو لا يهلك إلا إذا انتهت أسلحته، بل إن الذي خلق البشر قادر على أن يحييهم وأن يهلكهم وأن يرفعهم، وأن يذلهم ويدمرهم، وقادر على أن يبقيهم، وأن يقلبهم ويخلف أحوالهم: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [المائدة:52].
هذا الأمر لا تعلمونه أنتم ولا أعلمه أنا ولا يعلمه حتى العلماء، عندما تتعلقون بالله يأتي ذلك الأمر.
يوم أن استحكمت هذه الحملة الإعلامية المسعورة من أعدائنا أصبحنا أكثر ضعفاً إلى جانب الضعف الذي بلغناه بما وقعنا فيه من الذنوب والمعاصي، والمصيبة فيما نسمعه من الصواريخ عابرات القارات، ومن أسلحة التدمير الشامل، والرءوس النووية، وتطوير صواريخ أسكود برءوس نووية كيماوية إلى غير ذلك من الحرب النفسية التي تجعل الإنسان حينما يسمع ذلك، يفتح صندوقه ويخرج بندقية صيد ويقول:
هل هذه ترد صاروخ أسكود؟
هل هذه ترد أسلحة التدمير الشامل؟
هل هذه ترد ..؟
فمن شدة الحملة الشعواء على النفسية المسلمة أصبح الإنسان يقارن كلما وصل إليه الأعداء بمجرد ذاته ولا ينظر إلى قوة الله، التي ينبغي أن يتعلق بها، وبهذا استحكم في المسلمين داء عضال ألا وهو الهزيمة النفسية، والله كنا قديماً يوم أن نجلس ونتحدث ونقول: نسأل الله أن يأتي اليوم الذي يجعل شياطين الكفر أسرى في أيدي المسلمين، نسأل الله أن يأتي ذلك اليوم الذي يجعل عمالقة الإلحاد والضلالة أسرى وعبيداً للمسلمين، فيضحك أحدهم ويقول: هذا المجنون لا يملك إلا أربعمائة دبابة ويقول: نقاتل إسرائيل ونقاتل ... ونقاتل ... وغير ذلك.
نعم. لأنه لا ينظر إلا إلى سلاح وسلاح، وبشر وبشر، وقوة بشرية بحتة أمام قوة بشرية بحتة، ولا ينظر إلى قوة الله جل وعلا. بهذه الهجمة التي تسلطت على نفسية المسلمين، أحدثت الهزيمة والإحباط رغم الخطب والندوات والمحاضرات والكلمات واللقاءات.
يا أمة الإسلام! يا أمة العقيدة! القوة فيكِ، فالقرآن بين يديك، والسنة عندك، كيف تضعفين؟ صيحات القوة والعزة في نفوس الأمة آخر ما تبلغ، يقول بعض الناس: نعم، نحن أقوياء لكن أقنعوا الأعداء أننا أقوياء.
هزيمة نفسية، ومثال هذا يقال: إن هناك رجلاً مجنوناً وليس مجنوناً جنوناً كاملاً بل عنده عقدة نفسية، يظن أن نفسه حبة شعير.
ولذلك لا يرضى أن يدخل في بيته الدجاج والحمام؛ لأن الدجاج يأكل الشعير، ولا يمكن أن يزور أحداً عنده دجاج أو طيور أو حمام، فأخذوا يعالجونه في مصح نفسي لمدة ثلاث سنوات وبعد نهاية العلاج قابلوه قالوا: لعلك أدركت الآن أنك بشر فشفيت من هذه العقدة النفسية؟ قال: نعم. الآن اقتنعت أنني بشر، لكن أقنعوا الدجاج والحمام.
هي نفس مصيبة المسلم المعاصر الذي يقول اقتنعت أنني قوي لكن أقنعوا الأعداء أنني قوي، إذا اقتنعت بشيء فليس من شرطه أن يقتنع به من يعاديك، هذه الحملة الإعلامية المسعورة التي جعلت أمة الإسلام تقيس قوتها بالمقاييس البشرية البحتة، فضعفت فيها العزة والقوة التي كتبها لها الله جل وعلا، وذلك بما كسبت أيدينا ويعفو ربنا عن كثير.
ولذلك تلاحظ أن أي حوار بين طرفين طرف أوروبي أو غربي وطرف شرقي، تجد الطرف الغربي أو الأوروبي يتحدث معك وأنت تقتنع قبله وتسلم بمعطيات الحديث والنقاش أنك تتحدث مع رجل أقوى منك، في جميع مجالاته، في إعلامه وفي اقتصاده، وفي قوته وفي مختلف إنتاجاته، هذه من أسباب الضعف والوهن الذي حل بأمة المسلمين.
ضعف العقيدة في قلوب المسلمين
إن نام عنك فكل طب نـافع أو لم ينم فالطب من أذنابه |
أخطر حالة حينما يكون الأجل مندفعاً عنها، قد تشفى بغير سبب، وقد تشفى بأدنى علاج، وإذا حضر الأجل ولو لم تكن مريضاً انقطع النفس وانتهت الحياة فوراً.
إذاً أيها الأحبة! لنعلم أن الذي يقتلنا هو الأجل، وليس الذي يقتلنا هو العدو أو السلاح، وأما ما خوفت به أمة الإسلام في هذا الزمان خاصة هذه الأيام. ويخوفونك بالذين من دونه، وما من سلاح وصلت إليه علوم الحرب، وتقنية الحروب إلا وجرب في أفغانستان، ومع ذلك ما ضر ذلك الشعب ما جمع وألب حوله وضده، أطلقت غازات كيماوية على المجاهدين بـأفغانستان، يأتي المجاهد الأفغاني البسيط ويبل البطانية ويلفها هكذا ويحمل الرشاش، ويمر بين الغاز حتى يصل إلى الجبهة التي يريد أن يقاتل فيها، لماذا لا يموت هذا الأفغاني؟ لأن أجله لم يحضر، أحد الشباب يخبرني عن رجل من المجاهدين من جزر القمر اسمه أبو زيد القمري ، يقول: كان في منطقة من مناطق الجهاد وهي منطقة مكشوفة، والمنطقة المكشوفة تكون نسبة التحرك والحرية فيها صعبة جداً قال: فكان يأتي في الليل ويحفر خندقاً برميلياً -يحفر في الأرض ما يكفي بأن يوضع فيه برميل أو ما يشبه حجم برميل- ويجمع فيه قذائف الآر بي جي التي هي مضادات الدبابات، ويضعها في هذا الخندق، ويقف على ممر طريق الدبابات فإذا دنت الدبابة خرج وقد ركب قذيفة الآر بي جي وأخذ يضرب بها، ويحلفون بالله أن الدبابة تضرب باتجاهه، فتذهب القذائف يميناً ويساراً؛ لأنه لم يحضر أجله، ولذلك لا تصيبه القذيفة، ويبعدها الله عنه، أهذا ضعفٌ في تحديد الهدف بالنسبة لجهاز الرادار في الدبابة؟ لا. جهاز الرادار يضع الهدف في وسط الصليب، ثم اضرب وإن كنت ملتفتاً يميناً أو شمالاً.
يقول: ذات يوم خرج أبو زيد القمري وإذ بدبابتين، فضرب الأولى، واحتاج وقتاً ثانياً لكي يركب القذيفة، وإذ بالدبابة الثانية توجه فوهتها إلى صدره وبطنه، -أتظننه رجع إلى برميله وخندقه؟ لا. وإنما أخذ يتلو كلام الله جل وعلا: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]- فضربت الدبابة الضربة الأولى وإذ بها تمر من جواره ولم تصب منه شيئاً، ثم ركب قذيفة الآر بي جي ووجهها على برج الدبابة، فإذا بالدبابة تتفجر وقائدها يموت، لماذا؟ -هذا مثال بسيط عما يحدث لإخواننا في أفغانستان - لأن الآجال هي التي تقتل وليس الدبابة أو الطائرة أو القنابل العنقودية أو قنابل النابالم، أو غير ذلك.
والله إنه لا يقتلك إلا أجلك، فإذا حضر الأجل عند ذلك لو اجتمع أطباء الأرض والسماء، والجن والإنس، وكان بعضهم لبعض ظهيراً، ما استطاعوا أن يؤخروا من أجلك لحظة، لما حضرت شاه إيران الوفاة، حضر ستة وثلاثون طبيباً استشارياً وأحضروا مجموعة من الأجهزة والمغذيات، وأجهزة تنشيط ضربات القلب، وفي هذه الفوضى من الآراء والخلافات والأسباب والإسعافات يأتيه ملك الموت، فيقبض روح هذا الهالك ويدعهم على جثته يختلفون.
إذاً يا أحباب: حينما تغيب هذه المعالم من نفوس الأمة المسلمة عند ذلك يخشون الموت.
الكافر يحب الحياة حباً عظيماً، وهو مستعد أن يتنازل عن كل شيء حتى عن كرامته وعرضه، وعن دينه إن كان له دين أو عقيدة في سبيل أن يبقى حياً، أما المسلم فلا، لأن الله جل وعلا علم أمة الإسلام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] لماذا أتنازل في لحظة قد تكون لحظة الحياة وليست لحظة الموت، حينما يقف المسلم في مواجهة مع الكافر مواجهة عسكرية ينبغي للمسلم أن يعلم أن هذه المواجهة ليست هي الموت، إنما هي موقف من المواقف التي أمر الله أن نقف فيها وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] من مواقف الإعداد والمواجهة والمقابلة، فإذا كان المسلم لا يهاب الموت ويعلم أن الموت بيد الله، ويعلم قول الله جل وعلا في شأن أولئك المنافقين الذين ثبطوا وأرجفوا وقالوا في قتلى أحد : لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168] كان المنافقون يقولون: لا داعي لأن نخرج لمواجهة الكفار خارج المدينة، والمتحمسون من الصحابة والمجاهدين يقولون: نخرج لملاقاة الأعداء، فكتب الله ما كتب، يقول الله جل وعلا مقرعاً وموبخاً أولئك المنافقين: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154] أي إنسان تكتب له الوفاة، فإنه حتى ولو كان نائماً في بيته فإنه يخرج إلى مصرعه ومكان مهلكه في المعركة فيقف فيه، فتأتي قذيفته أو تأتيه الرصاصة أو الضربة التي تميته، ويوم أن غاب هذا المعلم عن نفوس المسلمين تعلقوا بالدنيا، وظنوا أن بالتعلق فيها الحياة، وخافوا من المواجهة، ومن الجهاد ومن الحرب، وظنوا أن في هذا الموت وليس هذا بصحيح أبداً، فليس الجبناء أطول الناس عمراً، وليس الشجعان أقل الناس عمراً.
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أعقابنا تقطر الدما |
ترددت استبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياةً مثل أن أتقدما |
قال خالد بن الوليد لما حضرته الوفاة: [والله ما تخلفت عن معركة أو غزوة أو سرية بعد أن آمنت، والله ما في بدني هذا موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، ألا لا نامت أعين الجبناء] لو كان الإقدام والحرب والمعارك هي التي تأتي بالموت، لمات أول الناس خالد بن الوليد؛ لأنه كان أشجع القوم.
فيا أحبتنا! حينما غاب هذا المعلم عن نفوس المسلمين تعلقوا بالدنيا وخافوا من الموت، فأصابهم الوهن الذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (حب الدنيا وكراهية الموت).
وماذا عن حب الدنيا -التعلق بالمال- نظن أن الجبن والخوف هو الذي يجعلنا نحافظ على ممتلكاتنا وأموالنا، انظروا على سبيل المثال ما حل بإخواننا في الكويت، أسأل الله أن يعجل عودتهم أعزاء مكرمين إلى بلادهم، ليست الحروب والمواجهات، وليست الشجاعة والإقدام هي التي تجعل المال أو الثروة تهلك، قد يكون هلاك المال والثروة بتسلط عدو خارجي، فجاءوا إلى الأموال وأخذوها من صناديقها وخزائنها ومخازنها.
إذاً: لم يكن هذا البعد ولم يكن ذلك التأخر سبباً في الحفاظ على الثروة والمال، إنما لما كتب الله ما كتب وقعت الواقعة جملة واحدة، وإذا أراد الله أن يتم أمراً سلب ذوي العقول عقولهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يوم أن غابت هذه المعالم وهي أن الرزق والأجل (حب الدنيا وكراهية الموت)- بيد الله وأنها بأمر الله، ولا يقسم منها شيء إلا الله (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
فيا أيها الأحبة! يوم أن غابت نفوسنا عن هذا الأمر أصبح الوهن متحكماً في نفوسنا.
ضعف الولاء والبراء
وقد ذكرنا من أسباب الوهن:
- السبب الأول: الذنوب والمعاصي وعدم المبادرة بالتوبة منها .
- السبب الثاني: الحملة الإعلامية التي انطلت على المسلمين وظنوا أن الأعداء قوة لا تقهر.
السبب الثالث: غيبة معالم جلية من العقيدة ألا وهي الأجل والرزق أنها بيد الله جل وعلا، وهذه النقطة الثالثة، لا يكفيها وقفة ولا تكفيها محاضرات؛ لأن القرآن مليء ببيانها وشأنها.
- السبب الرابع: ضعف الولاء والبراء.
إن أمة من أمم المسلمين قد تدعم أمة أخرى اتقاء شرها، وليس هذا الأمر فيه ولاء أو براء وليس هذا البذل مبنياً على منهج إسلامي قويم واضح وجلي، وعند ذلك تجد الأمة التي تدعمها تنقلب عليك في أي لحظة من اللحظات، أنت تظن أنك تقوى بها فإذا بك تجد الخيانة والإخلاف والغدر من هذه الأمة التي أنت دعمتها.
إذاً.. فحينما يحصل ذلك لا تجد في نفسك إلا ضعفاً ووهناً، ويوم أن يكون البذل والدعم لله، أن نعطي لله، وأن نمنع لله، وأن ندعم لله، عند ذلك نكون قد أعطينا ومنعنا وبذلنا أمة تقف معنا في كل موقف يرضي الله جل وعلا، وتقف معنا في كل موقف قد يُعتدى فيه على أعراض المسلمين أو حرماتهم، هذه مسألة وليس بعيب أن نطرحها لبيانها وإيضاحها، ولا يفهم البعض أنني أقصد هنا الاستعانة بقوات أجنبية، هذه موضعها آخر، وانتهت وحسمت بقول الثقات والأتقياء، والبررة من علماء الأمة، فإن الذي يخبط أو يتكلم في قضية الاستعانة بالقوات الأجنبية أقول: ليس لكلامه موقع بعد أن حُسم الأمر بكلام هيئة كبار العلماء، ومجلس القضاء الأعلى، فليس هذا مقصد حديثنا، حتى لا تختلط القضية بين مسألتين، أقول: إن من أسباب الوهن أن تعتمد على قوة لا تعضدها أو تدعمها لله وفي الله، خاصة إذا كانت هذه الأمة تقوم على منهج لا يرضي الله جل وعلا.
هذه من أخطر الأمور؛ لأن من تعلق بشيء وكل إليه، فإذا تعلقنا بالله جل وعلا فنعم الوكيل، وإذا تعلقت الأمة بغير الله، فقد تعلقت بضعف وخزي وخيبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعلى أية حال حينما نتحدث عن أمور في مجتمعنا أو في غير مجتمعنا فإنما هو حديث بيان النفس، وما ينبغي لنا أن نتخذه من المواقف الإيجابية، وحسب المؤمن أن يعتبر، وأن يأخذ الدروس والعظات في كل حياته ومواقفه.
أقف عند هذا الحد -أيها الأحبة- فيما يتعلق ببيان بعض أسباب الوهن التي وقعت في الأمة وعلاجها واضح، وهو ترك الذنوب والمعاصي والبراءة منها، والمبادرة بالتوبة إلى الله منها، والإقبال على الله جل وعلا.
أما قضية الحملة الإعلامية المسعورة ضد المسلمين: هذه يمكن أن نستلهم ما يناقضها وأن نفهم ما يفندها من خلال إعلامنا ومن خلال مجالاتنا، ومن خلال مختلف الوسائل التي تبين أن الأعداء وإن اجتمعوا فإنهم لا يقضون علينا بشيء لم يكتبه الله جل وعلا، وإنما يقضى علينا بما كتبه الله.
الأمر الثالث: قضية العقيدة، أن نجدد فهم العقيدة في القلوب.
الأمر الأخير: أن نعرف من هم أصدقاء أمة الإسلام، ومن هم إخواننا في الإسلام، ومن هم أحبابنا في الإسلام الذين يقاتلون في سبيل الله، والذين يقاتلون لإعلاء كلمة الله، والذين يقفون معنا جنباً إلى جنب في أي أمر يصيب أمة الإسلام، أما أن نظن أن كل من يتقى شره قد ينفع، فهذا ليس بقاعدة مطردة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على محمد.
فأولها تسلط الذنوب والمعاصي على كثير من أبناء المسلمين ورجالهم، وعدم الخوف والمبالاة من شؤم وعقوبة الذنوب والفواحش، بل أصبح الكثير منهم يردد قول القائل:
إذا لم يغبر حائط في وقوعـه فليس له بعد الوقوع غبار |
يعني: إذا لم تصبك بلية الذنب فوراً، فإنك قد نجوت من شؤمه وبليته.
لا والله، بل إن هذه الذنوب والفواحش خاصة الآثام والمنكرات الجلية، الظاهرة العلنية، التي هي أعظم سبب في وهن الأمة، وأعظم سبب في هلاكها ودمارها بصريح قول الله: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
رأيت الذنوب تميت القلـوب وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلـوب وخير لنفسك عصيانها |
إذا ماتت القلوب وأصيبت بالوهن وتعلقت بالدنيا وخافت وارتجفت من الأجل، فذلك بسبب ذنوبها ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولقد بين ابن القيم رحمه الله أن للذنوب شؤماً وآثاراً وخيمة ومضرة، وذكر أن أقل ما فيها أن الذنوب تضعف صاحبها وتورثه الذلة والخيبة، وعدم الجرأة إلى غير ذلك من آثار الذنوب، التي من أخطرها أنها تجعل النفس تخون صاحبها في أمس حاجة ولحظة يحتاج إليها.
إذاً فمن أعظم أسباب الوهن الذي حل بأمة الإسلام الذنوب، وحتى لا نتكلم عن كوكب آخر أو جماعة أخرى نتحدث عن أنفسنا وعن واقعنا ومجتمعنا، وعن مجتمعات المسلمين بالتبع، يظن كثير من الناس حينما نحدثه أو يتحدث أحد معه عن الذنوب، يظن أنه قد خلي وسلم من هذه، فإذا رأيت سماعه، فإذا اللهو يملأ آذانه، وإذا رأيت ما ينظر وجدت الأفلام والمسلسلات تشغل جزءاً كبيراً من ليله ونهاره، وإن ذهبت تنظر معاملته وجدت الخيانة أو الرشوة، وأخطر منها الربا الذي هو أخطر حرب تواجه الأمة به ربها، نخاف أن ندخل في حرب مع الأعداء، ولكن نسينا أننا لم نبالِ بحرب دخلناها مع الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278-279].
هل تحتاج هذه الحرب من الله ورسوله إلى صفارة إنذار؟ هل تحتاج إلى علامات الإنذار الشامل في الأفق؟ هل تحتاج هذه الحرب إلى علامات تسبقها أو اجتماعات؟
لا. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً [النساء:122].. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء:87] إذا توعد الله بشيء فإنه يتحقق لا محالة.
أقول -أيها الأحبة-: لما كانت الذنوب والآثام والمعاصي والمنكرات من أسباب الوهن الذي حل بالأمة، فإننا ينبغي أن نسأل أنفسنا -لو نظر كل شخص منا إلى نفسه لوجد عدداً من الذنوب التي يرتكبها يومياً، ومع ذلك تراه كأنه لم يفعل ولم يقع في مخالفة مع الله جل وعلا- ينبغي أن نسأل أنفسنا: من نعصي؟ ومن نخالف؟ إننا نعصي رباً الأرض جميعاً قبضته والسماوات مطويات بيمينه، لقد غابت عن الأذهان والعقول عظمة الله جل وعلا، هانت على النفوس المعاصي، ولو قلنا لأحد الناس: يقول فلان بن فلان: ممنوع التجاوز في هذا الشارع، لقال: ومن هو فلان؟ نكرة لا يعرف، فليس حقيق أن يُمتثل لأمره أو يُزدجر عن زجره، أو يُتبع لما أمر به، لكن لو قلنا: قال المسئول الفلاني في الدائرة الفلانية: إن هذا أمر ممنوع لقال: نعم. لأنه يعرف أن ذلك المسئول رجل في موقع وله مكانة وهيبة، ويتبع من خالفه بالعقوبة.
لو قلت لكم: إن قوة تستطيع أن تجمعكم جميعاً يا من أنتم في هذا المكان في قبضة يدٍ واحدة لقلتم: هذا أمر عجيب! وأي قوة هذه؟ ومن نحن على تعددنا في هذا المكان بالنسبة لسكان المدينة كلها، نحن جزء يسير من سكان المدينة.
وأقول هذا المثال وأردده، وبالمثال يتضح المقال حتى ندرك العظمة، نحن خلق عظيم، ولا يستطيع أعظم الناس أن يجمع خمسة أو ستة منا في يد واحدة، هل نحن فقط من يسكن في مدينة الرياض ؟ لا. بل هناك رجال ونساء وبهائم ونباتات وحيوانات، مليئة بها المدينة، وهل مدينة الرياض كل الكون؟ لا. هي جزء من المملكة، والمملكة أشبه ما تكون بقارة حفظها الله بالإسلام، هذه القارة مليئة بالجبال والصحاري وعلى حدودها المحيطات والبحار وفيها ملايين البشر، هل نحن كل الكون؟ لا. المملكة جزء من قارة آسيا، وقارة آسيا فيها مئات الملايين من البشر، وهل قارة آسيا هي العالم كله؟ لا، هناك قارات أخرى -أيضاً- مليئة بالبشر ومن معهم من المخلوقات والجبال والبهائم والنباتات والحيوانات.
إذاً: الكرة الأرضية مجموع مليء بالمحيطات والبحار والأنهار والجبال والبشر إلى غير ذلك .. اسمعوا قول الله: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الزمر:67] إذاً نحن نعصي رباً عظيماً، ولو أدركنا سر العظمة لما تجرأنا على الإصرار على الذنوب والمعاصي، لو أدركنا حقيقة العظمة، لما تجرأنا على الذنوب والمعاصي، آخر ما سمعت في عالم مراكز المعلومات أن جهازاً يستطيع أن يتلقى ستين مليون معلومة خلال عشر دقائق، أو أقل من ذلك، ما هذا الجهاز الذي يتلقى ستين مليون معلومة خلال هذه الفترة القصيرة؟! إنه جهاز غريب وعجيب ودقيق.
أين نحن من قول الله جل وعلا: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً [الكهف:49]؟ هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، أما أجهزة المعلومات فتنتهي لو انقطع عنها التيار، وأجهزة المعلومات قد تضيع شيئاً من المعلومات.
إذاً: أين نحن من إدراك سر العظمة؟
إن كلما تكتشفه دول الغرب، وكلما تنتجه أمم التقدم والتكنولوجيا لهو دليل على عظمة الله جل وعلا؛ لأنه ما من أمر عجبنا منه ووقفنا متعجبين متأملين بدهشة وغرابة بسبب الإبداع والتدقيق في تصميمه، إلا ونجد أن عند الله جل وعلا ما هو أعظم منه، وليس هذا بغريب، إذ لا يمكن أن يساوى الخالق بالمخلوق.
حينما نأتي بشاشة تلفزيون الآن أمامكم ومعها سماعة أو لاقطة، ونقول: تستطيع أن تتحدث مع رجل في أمريكا وأنت جالس هنا، تقول: الله أكبر! ما هذه الاختراعات؟! نحن نجلس هنا ونتحدث ونرى من يجلس في أمريكا أو في أبعد القارات، ونعجب من هذا عجباً، ولكننا نمر على قول الله جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف:50] أين أصحاب النار؟ في أسفل سافلين، وأين أصحاب الجنة؟ في أعلى عليين، والبعد بينهما أبعد مما بين القارات، ومع ذلك بقدرة الله وأمر الله يجعل أهل الجنة يرون أهل النار: وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ [الأعراف:47] أليست هذه من جوانب العظمة الإلهية؟
لقد وقفنا مندهشين متعجبين مستغربين أمام شيء يسير من صناعات البشر، ونقف أمامها بكل احترام، ولا ننظر إلى عظمة الله جل وعلا ودلائلها في الأنفس والكون: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
فيا معاشر المؤمنين! حينما أقول: إن الذنوب سبب الوهن الذي أصاب الأمة وحل بها، وما ذاك إلا أن الأمة مضت واستمرأت واستمرت على فعل الذنوب والمعاصي، دون إدراك لعظمة هذا الرب الذي تعصيه، ودون إدراك لحقيقة هذا الرب الذي تعصيه في عظمته وعلمه سبحانه وتعالى.
فيا معاشر الأحبة: لا شك أن من عصى الله جل وعلا فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً، وأن المعاصي هي أعظم أسباب الوهن والضعف.
أليس عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كتب له أحد قواده يريد المدد لتدعيم جيش المسلمين قال: انظر جندك، هل فيهم عاصٍ لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؟ إني لا أخشى على الجيش من عدوه، ولكن أخشى على الجيش من ذنوبه.
نعم إن الوهن الذي يصيب الأمة، لا يصيبها من أعدائها وإنما يصيبها من ذات أنفسها: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] فتشوا أنفسكم .. انظروا جرائدكم .. انظروا إعلامكم .. انظروا تعليمكم .. انظروا حياتكم .. انظروا في مختلف مجالاتكم!! فما رأيتم فيه مخالفة لله ولرسوله فاعلموا أن ذلك سبب الوهن في الأمة.