تفسير سورة السجدة [1-3]


الحلقة مفرغة

سورة السجدة سورة مكية اشتملت على ثلاثين آية، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ بسورة السجدة في فجر يوم الجمعة في الركعة الأولى، ويقرأ في الركعة الثانية بسورة الإنسان.

وروى الإمام أحمد في المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يديم كل ليلة عند إرادته النوم قراءة السجدة وقراءة سورة الملك، فكان يلتزم -حسب رواية الإمام أحمد - قراءة هاتين السورتين على فراش النوم.

والسورة مكية، أي: نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام وهو في مكة المكرمة، وقيل: إن فيها ثلاث آيات -سيأتي بيانها- نزلت في المدينة المنورة، قال تعالى: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:1-2].

قد سبق الحديث عن البسملة ومشروعيتها عند كل سورة، وأن البسملة المقطوع بها هي البسملة المذكورة في سورة النمل في قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [النمل:30]، وفي غير ذلك تذكر البسملة في أول كل سورة تيمناً وتبركاً واستفتاحاً بذكر رحمة الله الرحمن الرحيم.

وقراءة البسملة في أول الفاتحة مذهب الشافعي ، والأحاديث بذلك ثابتة، وحصل خلاف: أيجهر بها أو يسر؟ وقد ثبت الجهر كما ثبت الإسرار، والمثبت مقدم على النافي.

وبعض الأئمة يقولون: تقرأ الفاتحة بغير بسملة، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأها في فريضة ونافلة، جهراً وسهراً، حتى إن الإمام الشافعي وغيره يعدون قراءة الفاتحة بلا بسملة في الصلاة كنقص آية من الفاتحة، والصلاة بذلك باطلة.

وأما قراءة الفاتحة فواجبة على المصلي، سواء كان إماماً أم مؤتماً أم منفرداً، ففي الحديث المتواتر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: (كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج) أي: ناقصة، وأمر أبا هريرة بأن يخرج إلى أسواق المدينة وينادي: (ألا لا تجزئ صلاة إلا بفاتحة الكتاب) .

ومن أصول الفقهاء العمل بما يخرج من الخلاف إلى الاحتياط، وهو مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة وأكثر الفقهاء المجتهدين.

وأما التعوذ فقد أوجبه قوم، ودليلهم قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، فعمم ليشمل ذلك القرآن في صلاة وفي غير صلاة، والخروج من الخلاف والاحتياط لصحة الصلاة عند كل المذاهب أن يتعوذ الإنسان في صلاته ويبسمل ويقرأ الفاتحة، سواء كان إماماً أم مؤتماً أم منفرداً.

قال تعالى: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:1-2] إن أكثر السور التي ابتدأت بهذه الحروف المقطعة يذكر فيها بعد تلك الحروف كتاب الله، كقوله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:1-2].

فقوله تعالى: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:1-2]، أي: تنزيل الكتاب الذي اشتمل على (الم) وأخواتها من حروف الهجاء التي بنيت عليها اللغة العربية في مفرداتها وجملها وبني عليها كتاب الله في سوره وآياته منظوماً ومنسقاً وقائماً على هذه الحروف الهجائية لم يخرج عنها قط.

والله قد تحدى الخلق جناً وإنساً في أن يأتوا بمثل هذا القرآن، ثم عاد فتحداهم في الإتيان بسورة من القرآن، وقد مضى على هذا التحدي ألف وأربعمائة عام والخلق لا يزالون عاجزين وسيبقون عاجزين إلى يوم النفخ في الصور، فهو معجز في اللفظ ومعجز في المعنى، فإعجازه في اللفظ يدركه المتكلمون بالعربية، وإعجازه في المعنى يدركه كل الناس، وقد كتب أحد الفرنسيين بعد أن آمن كتاباً سماه (العلوم في التوراة والإنجيل والقرآن)، ويعني بالعلوم العلوم التطبيقية التي يسمونها التكنولوجية، يقول: كل ما ورد في التوراة والإنجيل ليس صحيحاً ولا مطابقاً للعلم، مما يدل على أن التوراة غيرت وأن الإنجيل غير، ولكن ما جاء من ذلك في القرآن الكريم قد أكده العلم الحديث، كالكلام على السموات، وعلى النجوم، وعلى البحار، وعلى الطبيعة، وعلى الجبال، وعلى الطب، فالعلم الحديث على تحقيقه لذلك وتأكيده له قد سبقه القرآن، وسبق إلى الكثير مما لم يصلوا إليه بعد، وذاك هو الإعجاز، فشيء لم يكتشف ولم يعرف إلا منذ سنوات قد تحدث القرآن عنه وتكلم عنه منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فذلك هو الإعجاز، وذلك من علامات صدق النبي عليه الصلاة والسلام في رسالته، وتلك الآيات التي طالما لفت القرآن الكريم إليها أنظارنا وبصائرنا مما يؤكد كونه كلام الله لم يأته باطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو الحق، والله هو الحق وما دونه الباطل، فالحقائق والمعجزات إنما نزلت وحياً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بهذه الحروف المرتبة، وذكرت مفردة في أوائل السور إشارة إليها، أي: إن استطعتم الإتيان بمثله فهذه الحروف تعلمونها، وأنتم -أيها العرب- أفصح الناس وأكثر الناس بياناً وشعراً ونثراً، فاصنعوا مثله إن شئتم، وقد حاولوا، ولكن هيهات هيهات، فقد أتى بعضهم بالكلام المضحك الذي لا يكاد يسمع إلا ويهزأ الإنسان به وبقائله ويعقبه بالضحك لسخافة قائله ولغرابة قوله، وما خطر بباله أنه لا يستطيع أن يضاهي القرآن إعجازاً وبلاغة، قال هذا الزمخشري متحمساً له، وأكده من المعاصرين بالأدلة اليقينية التي تتبعها واستقرأها في جميع السور التي ذكرت فيها، وهو الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى، كما في كتابه في التفسير (أضواء البيان).

قال تعالى: تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:2] كلمة (تنزيل) في كل القراءات السبع مرفوعة، وفي غير القرآن لو شئت لقلت: (تنزيلَ)، أي: بالنصب على الحال، أي: حال كونه تنزيل الله، ولكن القراءات أجمعت وتواطأت واستفاضت على رفع تنزيل.

يقول تعالى: الم [السجدة:1]، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام بأن كل حرف في تلاوة القارئ بعشر حسنات، وقال: (لا أقول: (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)، أي: القارئ للقرآن والتالي لكتاب الله له بكل حرف عشر حسنات، وأتى بهذه الحروف الثلاثة المقطعة فقال: للألف عشر، وللام عشر، وللميم عشر، أي: من قال: الم [السجدة:1] فله ثلاثون حسنة، وكم في القرآن من حرف! وكم يترتب على ذلك من حسنات! ولا يترك مثل هذه الحسنات إلا محروم، ولو اعتبر القرآن تجارة مادية وانتقل لأجلها المرء إلى مختلف أقطار الأرض لكان الرابح دون غيره، فكيف بالربح في التجارة مع الله والتزود ليوم الآخرة؟!

قال تعالى: الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [السجدة:1-2] نزل هذا الكتاب من الله الذي استوى على عرشه، أمر به جبريل الذي يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما نعد، فنزل به على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام.

وقوله تعالى: (لا ريب فيه) أي: لا ريب في أنه كتاب الله، ولا شك فيه أنه الحق، وأنه الصدق، وأنه الوحي، وأنه كلام الله ليس كلام أحد من البشر، ولا كلام ملك من الملائكة، ولا رسول من الرسل، ولكنه كلام الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

قال تعالى: (من رب العالمين) أي: تنزيل من رب العوالم ومدبرها وسيدها ومولاها وإلهها وخالقها، والعالمين: ما سوى الله، كعالم السماء والأرض والملائكة والجن والإنس والطير وكل ما تراه العين وتسمعه الأذن، فهو رب الكل جل جلاله لا شريك له ولا ثاني له في إرادة، ولا في قدرة، ولا في خلق، ولا في حياة، ولا في ممات، وتعالى الله عن قول الكاذبين، وشرك المشركين، وكفر الكافرين.

قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3]، (أم) بمعنى: (بل)، أي: أن الكفار الجاحدين أعداء الله المعاندين مع هذا البيان وهذه الحقائق التي دل عليها العقل ودل عليها المنطق وفطر عليها الخلق يقولون: هذا القرآن مفترى افتراه محمداً، حاشاه عن ذلك، وتعالى الله عن ذلك.

يقول تعالى: (أم يقولون افتراه) هذا استفهام تقريعي توبيخي، أي: أيقول هؤلاء الكذبة المفترون على الله: افتراه محمد صلى الله عليه وسلم؟! وكلمات الكفر التي نسمعها والتي نقرأها ليست جديدة قالها يهود أو قالها نصارى أو قالها منافقون ومرتدون بين أوساطنا، بل لقد قالها الكفار قبل، وذكرها القرآن في آياته ليرد عليها بمنطق العقل، وبمنطق البيان، وبمنطق الوحي، فكفر الكافرين المعاصرين ليس إلا تقليداً بغبغائياً قردياً، حيث أعادوا كفر من سبقهم بالقول، فقالوا: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه، وقالوا: أعانه عليه حداد وجد في مكة لا يكاد يبين نطقاً ولا فهماً، والقرآن في غاية الفصاحة والبيان، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: قال الله يكون كلامه معجزاً، ويكون كلامه في منتهى ما يكون من الفصاحة والبلاغة، حتى إذا قال كلامه نزل عن درجة ذلك البيان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يقول مثله، مع أنه خاتم الأنبياء وسيد الفصحاء وأوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولكن الرب رب والعبد عبد، فكلام الله كلامه بينه وبين كلام المخلوقين كما بين الخالق والمخلوق.

معنى قوله تعالى: (بل هو الحق من ربك لتنذر قوماً...)

قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة:3] أي: أعرض عن قولهم وأضرب عنه، ولذا يقولون: (بل) حرف إضراب، أي: عودة ورجوع عن القول، فدع هراءهم وأكاذيبهم (بل هو الحق من ربك) بل هو الحق، وجاء بالحق، وجاء من الحق، بل هو الكلام الموحى به، بل هو كلام الله الذي لا شك فيه ولا ريب ولا ميل.

قال تعالى: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3] أي: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر وتخوف وتوعد قوماً لم يأتهم قبلك نذير، أي: نبي ولا رسول، (لتنذر قوماً) أي: لتنذر العرب أولاً ثم لتنذر العالم، وقد انتهت نبوة الأنبياء قبله؛ لأن الأنبياء السابقين كانوا أنبياء لأقوامهم فحسب، وبعد رفع عيسى عليه السلام بقي العالم كله في فترة لا نبي له فيها ولا رسول؛ إذ الرسل السابقون كانوا رسلاً لبني إسرائيل، وكانوا رسلاً مدة حياتهم، فانتهت نبوآتهم في أقوامهم، وانتهت نبوآتهم بموتهم، ولذلك انفرد نبينا عليه الصلاة والسلام من بينهم بأن كانت نبوءته في حياته وبعد مماته وإلى يوم القيامة، وبأن نبوءته للأبيض والأسمر والأحمر، وفي المشارق والمغارب منذ ظهر في الديار المقدسة وقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فلزم البشر كلهم بجميع لغاتهم ومللهم وألوانهم وأوطانهم وأعصرهم أن يؤمنوا بالله واحداً وبمحمد عبداً ورسولاً وخاتماً للرسل صلى الله عليه وعلى آله.

يقول تعالى: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3]، فكانت الرسالة أولاً لهم، كما قال تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] ثم أمر بأن ينذر الناس كلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي...) وذكر من الخمس أن الأنبياء السابقين أرسلوا إلى أقوامهم خاصة وأرسل هو إلى الناس كافة، وقال: (ولو كان موسى حياً لما وسعه إلا أن يتبعني)، وعيسى سينزل في آخر الزمان وهو على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومن مات على الفطرة فإنه لا يعذب ولا يحاسب، يقول تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فإذا لم تكن بعثة فلا عذاب، ولا يعذب الله إلا بعد أن يبين للناس ما نزل إليهم، وما يجتنبون، وما يفعلون، وما يقولون، وما يدعون.