تفسير سورة طه [123-129]


الحلقة مفرغة

قال الله عزت قدرته: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].

لا نزال مع أبينا الأعلى آدم وأمنا الأولى حواء وقد صنعا ما صنعا من أكل الشجرة المحرمة، ثم استغفرا ربهما فغفر لهما، ثم أرسل آدم بعد ذلك نبياً رسولاً إلى سلالته وإلى زوجته، ولكن مع ذلك أخرجهما من الجنة كما أخرج إبليس الذي كان مقامه بين الملائكة، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [طه:123].

وقول الله: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [طه:123]، معناه: انزلا من الجنة إلى الأرض، والأمر لآدم وإبليس بدليل قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه:123]، فكان الجن أعدل للإنسان، وكان الإنسان عدواً للجن.

ونزول آدم يلزم منه نزول زوجته معه فهي داخلة في الهبوط معه، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [طه:123].

وهناك يحصل أحياناً خلاف لا ينبغي أن يذكر؛ لأنه لا معنى له وليس إلا من هذيان الجهلة والمتلاعبين، أو من دس الدساسين والإسرائيليين، ولكن هناك سائل سألني: هل الجنة التي أهبط منها آدم هي الجنة المعهودة الموعود بها المتقون والمؤمنون أو هي جنة أخرى؟

وكأن هذا السائل سمع من زعم من المبتدعة والجهلة أن هذه الجنة هي بستان ورياض في أرض عدن! وهذا كلام لا يقال ولا يذكر لسقوطه في نفسه؛ وذلك لأن الله عندما ذكر الجنة لآدم مناه بها وبالمقام بها، وحذره من إبليس فقال له: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى [طه:118-119].

وهل عدن وجنانها -إن كانت لها جنان- فيها هذا الوصف؟ وهل الجنة التي في عدن أو البساتين التي في مختلف قارات الأرض؛ هل فيها بستان يوصف بأن من أقام فيه لا يجد غماً ولا هماً ولا جوعاً ولا عطشاً ولا شيئاً مما وصف الله به الجنان؟

إذاً فإنما يذكر هذا من لا يعلم ولا يعقل ويريد أن يتلاعب بالفهم في القرآن، ومن هنا كان قول النبي عليه الصلاة والسلام بأن التأويل بالرأي كفر، وهو أن الخروج بالتعابير العربية التي نزل القرآن عن معناها ومؤداها كفر وجحود لمعنى القرآن الحقيقي.

ثم هنا يقول الله: اهْبِطَا [طه:123]، ولا يكون الهبوط والنزول إلا من علو، والأرض مهما كانت فهي قطعة واحدة بجبالها وأنهارها ووديانها وتلالها، ولذلك فإن هذا القول لا يلتفت له ولا معنى له وليس عليه دليل لا من كتاب ولا من سنة.

قال الله جل جلاله لآدم ومن معه ولإبليس: اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا [طه:123]:

أي: اهبطا من الجنة جزاء وفاقاً بما خالف وأكل الشجرة التي حرمت عليه، وجزاء وفاقاً لدس إبليس وقسمه بالله كاذباً لآدم بالغرور وبالبهتان.

قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [طه:123]، ومنذ قال الله هذا وأهبطوا من الجنة إلا وبعضهم لبعض عدو، وحتى من استسلم من الإنس للشيطان وعداوته لا يكاد يستسلم له إلا ليبطش به ويذله ويرده عن دينه ويعيش في حياة ضنك.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [طه:123]، أي: فإن أتاكم رسل وأنبياء يدعونكم إلى الله وعبادته وطاعته، وإن أنزلت على رسلكم كتب كالزبور والتوراة والإنجيل والقرآن، فأطيعوا ذلك واهتدوا بهديه واستمسكوا به.

فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]:

أي: فمن اتبع هداي فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، والمقصود من اتبعه إيماناً وطاعة وامتثالاً.

وقوله: وَلا يَشْقَى [طه:123]، أي: لا يكون من حزب الأشقياء الكفار، حزب من طرد من رحمته ومن جنته ودخل النار مع الظالمين لأنفسهم، الأشقياء بكفرهم وشركهم وضلالتهم.

وقد قال عبد الله بن عباس حبر القرآن رضي الله عنه: لقد ضمن الله بهذه الآية لمن آمن بالرسل وما أنزل عليهم ألا يضل في الدنيا، كما ضمن له في الآخرة ألا يشقى.

قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].

من أعرض عن كتاب الله وهو الذكر الذي يذكر الإنسان بربه بمعاشه ومعاده، وعن رسل الله الذين جاءوا ليذكروا الخلق بالله؛ فله معيشة ضنك.

والذكر يطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلق على القرآن الكريم، فالقرآن مذكر، والرسول صلى الله عليه وسلم مذكر.

قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]:

من عاش مكذباً فإن الله جل جلاله يشقي حياته في الدنيا حتى ولو ملك الدنيا بمن فيها وما عليها، فسيشقى نفسياً، وسيشقى بأكل الحرام، وسيشقى بالأمراض، وسيشقى بالضلال، وسيعيش عيشة ضنكاً.

والضنك هنا: الشقاء والعذاب والمحنة، ونحن نرى هؤلاء الأغنياء من الكفار وهؤلاء الكفار من الفقراء كيف يكثر بينهم الانتحار ويكثر بينهم الغم والهم، وكيف أنهم يعيشون سكارى حشاشين.. يعيشون بأكل الربا .. يعيشون بأكل السحت .. يعيشون بأكل الرشا .. يعيشون بأكل الحرام .. يأكلون حتى يمرضون فيعذبونه بعد ذلك بالأكل، ويأكلون بالحمية ولا يكادون يستسيغون شيئاً مع الهموم النفسية والغموم.

وكذلك من اقتدى بهم ممن يصف نفسه بالإسلام عندما يستبيح الربا .. عندما يستبيح الرشا .. عندما يستبيح الأموال بالباطل سرقة واغتصاباً وتحايلاً.. عندما يرتكب من أنواع الحرام ما حرم ربه عليه ونزل الوحي في كتبه بتحريم ذلك.

فتجد الذي صنع ذلك بالأصالة كافراً يعيش عيشة ضنكاً ولو كان غنياً يملك الدنيا وما عليها فنفسه في محنة، ونفسه في عذاب، وجسده كله أمراض وكله بلاء لا يكاد يجد شيئاً يرجع إليه مما يطمئن نفسه من يقين ومن إيمان ومن عودة إلى الله؛ لأنه لا يؤمن بالله.

وهكذا تكون عيشة الضالين من عصاة المسلمين، هم يعلمون أن الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإذا بهم يمعنون في ارتكابها، فتجد عيشتهم كعيشة اليهود والنصارى، عيشة شقية ضنكاً شقية بأكل السحت والحرام حتى ولو ملكوا ما عسى أن يملكوه.

ونحن نرى المؤمن الفقير يعيش في راحة فيما إذا كان ملتزماً بطاعة ربه ولو لم يملك إلا قوت يومه، ونجد الذي يدعي الإسلام وهو من أغنى الناس عندما يرتكب الحرام تكون حياته مثل حياة الكافرين والجاحدين.

قال تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]:

يحشر يوم القيامة أعمى البصر لا يبصر، أعمى البصيرة لا يميز، وذلك نتيجة ضلاله في الدنيا وإعراضه عن الله، بمعنى: أن عذابه في الدنيا يكون بالضنك وبالشقاء، وأن عذابه في الآخرة أشد وأبقى بعمى البصر والبصيرة.

ومن هنا قد يكون عاش حياته مبصراً بعينين ناظرتين مفتحتين، فتجده يتناسى فعلته ويتناسى ما قدمت يداه في الدنيا فيقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [طه:125]؟

يسأل ربه بكل جرأة: لم حشرتني أعمى وقد كنت أبصر في الدنيا.

وقد يكون في الدنيا يبصر بالبصر ولكنه أعمى البصيرة، لم يقم بحجج الله عليه، ولم يصدق أنبياءه على كثرة ما أتوا به من معجزات وآيات بينات على صدق رسالتهم، ولم يوفق إلى طاعة ما أنزل على نبيه من وحي.

لذلك أتى الله به يوم القيامة أعمى البصر كما هو أعمى البصيرة، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [طه:125]، قال الله: قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126].

أجابه الله بذلك إما مباشرة أو على لسان ملائكته.

قال الله: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126]، أي: ذلك جزاء وفاق، فكما أتتك الرسل وأتتك الكتب الموحى بها إليهم فنسيتها في الدنيا وأعرضت عنها ولم تهتم بها، فكذلك اليوم تنسى.

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا [طه:126].

أي: علامات صدق رسلنا، وأن الكتب التي أنزلت عليهم كانت وحياً من الله حقاً، وقد كان ذلك بالآيات البينات والمعجزات الواضحات، وقد أعرضت عنها جميعاً، وما زادك ذلك إلا إمعاناً في الكفر وإصراراً على الجحود، وكما فعلت ذلك في دنياك ونسيت ذلك وتركته، كَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126]، أي: تترك.

والله تعالى لا ينسى ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولكن هذا من مشاكلة الكلام، وهو من بلاغة القرآن وبلاغة اللغة التي نزل بها القرآن، فإنه قال: كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [طه:126]، أي: فتركتها، وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:126]، أي: كذلك اليوم تترك وكأنك قد نسيت فطرحت وأهملت، جزاء وفاقاً على فعلتك في الدنيا بالإعراض عن الرسل وعن كتب الله.

قال تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].

يقول الله جل جلاله: (وكذلك) أي: كما أعرضنا عن هذا في الآخرة وتركناه من رحمتنا وأتينا به أعمى البصر والبصيرة؛ كذلك نفعل بمن جاء يوم القيامة مسرفاً على نفسه بالشرك.

قوله: وَكَذَلِكَ نَجْزِي [طه:127]:

أي: نعاقب جزاء وفاقاً.

مَنْ أَسْرَفَ [طه:127].

أي: أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي إلى أن وصل حد الكفر والشرك.

وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ [طه:127].

أي: لم يؤمن بالله رباً واحداً، ولم يؤمن بالله مرسلاً لرسله وعباده المكرمين أنبياء ورسلاً إلى البشر، ولم يؤمن بآيات ربه على كثرتها وتتابعها، وبيان حقائقها بما يؤكد العقل صدق ذلك وقبوله.

قوله: وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127]:

يقول الله جل جلاله: هؤلاء الذين عذبناهم بالشقاء بالحياة المتعبة المفجعة، وبعدم الراحة في الأبدان ولا في الأموال ولا في الأهل والأولاد حتى عاشوا عيشة الضنك والشقاء في الدنيا، وأتي بهم عمي البصر والبصيرة؛ عذاب الآخرة أشد عليهم من عذاب الدنيا وأبقى وأدوم وأخلد.

فعذاب الدنيا مهما يكن فإنه سينتهي يوماً من الأيام، لكن عذاب الآخرة لا ينتهي، وعذاب الدنيا مهما يكن فعذاب الآخرة أشد وأشق وأكثر آلاماً على النفس.

وفي الصحاح في حديث الملاعنة أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يذكرهما عند الشهادة الخامسة بعذاب الآخرة، وقال لهما: إن عذاب الآخرة أشد وأبقى، ويحذرهم عقوبة ربهم إن هم أقسموا ولعنوا أنفسهم كاذبين، وهو قد أخذها صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].

قال تعالى: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128].

أي: ألم يروا ويتبين لهم ويتضح كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه:128].

أي: من الأجيال ومن الأمم السابقة الكافرة من قوم نوح وعاد وثمود، ومن قوم لوط ومن بني إسرائيل، أفلم يمشوا في مساكنهم فيعتبروا.

والآية في الأصل خوطب بها كفار الجزيرة، وكان لهم رحلة إلى الشام في الشتاء، فكانوا يمرون على أراضي ثمود وعاد الذين أهلكهم الله لكفرهم، وبقيت آثار مساكنهم تدل عليهم، فرأوا آثار اللعنة عليهم وخراب دورهم، ونتيجة البلاء والعذاب الذي سلط عليهم؛ أفلم يخافوا يوماً أن يعاملوا مثل معاملتهم وقد فعلوا فعلهم فكفروا كما كفروا، وأشركوا كما أشركوا، وعصوا كما عصوا؟ وكيف أمنوا على أنفسهم وقد فعلوا أفعالهم ألا يعذبوا عذابهم، وألا ينتقم منهم كالانتقام من أولئك؟

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فهذا سيبقى خطاباً لكل كافر في الأرض ولكل مؤمن منذ البعثة النبوية إلى يوم القيامة، فهؤلاء الذين كفروا بالله في جميع العصور: أفلم يروا آثار الأمم السابقة الذين كفروا كيف عاقبهم الله جل جلاله بالهلاك وبالغرق وبالعواصف وبالزلازل وبالصيحة، عاقبهم بأنواع العذاب مما لا تزال آثار ذلك ظاهرة فيما كانوا يسكنون فيه من الأرض.

وهذه الحفريات التي ابتدأت هذا القرن في البحث عن آثار هؤلاء تزيد ذلك تأكيداً وبياناً، والله تعالى ينبه الكافر قبل وبعد حتى يفكر في العواقب؟ والمعنى: أفلم يفكر يوماً بأنه سيعذب عذابهم، ويعاقب عقوبتهم، فيتوب إلى الله ويعود للإسلام والصلاح والتقوى.

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا [طه:128]، كم: للتكثير، أي: أهلكنا وعذبنا وقضينا وعاقبنا كثيراً من الأمم السابقة والأجيال الماضية.

والقرن كما يطلق على الحقبة من الزمن يطلق على الأمة وعلى الجيل وعلى العمر، وهو هنا بمعنى الأجيال والأمم.

قوله: يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ [طه:128].

أي: هاهم أولاء يرون أراضيهم والمساكن التي كانوا يسكنونها لم يبق بها حركة، وإنما آثارهم التي دلت على العذاب والهلاك الذي سلط الله عليهم في وقتهم.

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى [طه:128].

أي: إن في حال الأمم الماضية وما عوقبوا به من هلاك وبوار وزلازل وصواعق وصيحات لآيات لأولي النهى.

والنهى هي العقول التي تنهى عن السوء والفحشاء وعن العصيان، وهكذا الشأن في العقل يقال عنه: نهية؛ لأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر ويدعوك للطاعة والصلاح والفلاح، وسمي في الأصل عقلاً؛ لأنه يعقل الإنسان عن السوء وعن الضرر في الدنيا والآخرة.

ومن هنا كان من لم يطع ولم يستفد بعقله كمن لا عقل له، فهو أشبه بالمجنون.

قوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ [طه:54]، أي: في هلاك الأمم السابقة والناس تمشي في مساكنهم ويرون آثارهم، لَآيَاتٍ [طه:54]، أي: لعلامات تدل على صدق الرسل وصدق الكتب المنزلة عليهم، لِأُوْلِي النُّهَى [طه:54]، أي: لأصحاب العقول التي تنهى عن السوء والمعصية، وللعقلاء الذين يدركون ويعقلون ما يقال لهم.

قال تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه:129].

وهذا من فصاحة القرآن وبلاغته، وفصاحة لغة العرب التي نزل بها القرآن، وتقدير الكلام: لولا أنه سبق في حكمه وفي إرادته أنه يرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وألا يعذب إلا بعد إرسال الرسالات والهداية والتعليم والتربية، للزم العذاب.

قوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ [طه:129].

أي: حكم وإرادة إلهية علية، فلولا حكم من الله سبق بأنه لا يعذب عباده قبل إرسال الرسل ولا يعذب عباده إلا بعد أن يمهلهم زمناً هو مدة أعمارهم وإلى يوم القيامة؛ لولا ذلك لعاقبهم الله في الدنيا قبل الآخرة، كما صنع جل جلاله مع السابقين حيث عوقبوا في الدنيا قبل الآخرة.

ولكن تكرمة لنبينا صلى الله عليه وسلم رفع المقت والغضب في الدنيا بمثل ما كان تعذب به الأمم السابقة، فلا خسف ولا مسخ ولا غرق ولا صواعق ولا زلازل تأتي على الأمة كلها كما أتى الغرق لقوم نوح ولقوم فرعون، والزلازل والصيحات لعاد وثمود، والصواعق والرجم من السماء لقوم لوط بحيث كانت الأرض ترفع ويجعل عاليها سافلها حتى تسمع أصوات الديكة إلى السموات، ثم يرمى بها إلى الأرض لفعلهم.

واليوم الناس يفعلون كل ذلك الذي أهلكت الأمم السابقة بسببه، ولكن سبق في علم الله أن هذه الأمة لا يقع عليها عذاب كالأمم السابقة.

قوله: لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه:129].

أي: لولا الحكم ولولا الإرادة الإلهية العلية التي سبقت من الله بضربه الأجل في العذاب وبإعطاء المهلة مدة الحياة لكان العذاب لازماً، ولكان العذاب مفاجئاً، ولكان العذاب في الدنيا قبل الآخرة بمثل ما عوقبت به الأمم السابقة التي نمشي في مساكنها ونرى آثار اللعنة والهلاك والدمار والخراب عليها.

ولولا: حرف امتناع لوجود، امتنع أن يعذب الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا بمثل ما كانت تعذب به الأمم السابقة، لوجود سبق عهده وحكمته وكلمته بذلك، فامتنع عذابها إلى حلول الأجل.

ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يمهل ولا يهمل)، أي: يمهل العصاة المشركين ولكنه لا ينساهم ولا يهملهم، بل لهم أجل مفروض يوم يجمع الله الخلائق كلها فيأتون إلى الله حفاة حاسري الرءوس قلفاً، وإسرافيل ينفخ في الصور: يا أيتها العظام النخرة! يا أيتها الجلود الممزقة! يا أيتها اللحوم المبعثرة! أجيبوا داعي ربكم، فيأتون للعرض على الله وتراهم يتخافتون فلا تسمع إلا همساً.

والأجل الذي سماه الله هو يوم القيامة، فهو مسمى عند الله، لكن لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، لا تأتيكم الساعة إلا بغتة، كما سأل جبريل نبينا عليه الصلاة والسلام عنها فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، ولكنها مع ذلك محددة بيوم وساعة.

والله جل جلاله قد ذكر لنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أماراتها الصغرى والكبرى، وقد ذهب من الصغرى الكثير ونكاد نبتدئ في الكبرى.

وكان من العلامات الصغرى الرسالة المحمدية نفسها، قال فيها صلى الله عليه وسلم: (أرسلت والساعة كهاتين)، أي: كان قريباً من الساعة كقرب السبابة من الوسطى، ولكن كم مضى من الدنيا لنعلم كم بقي؟ لا يعلم ذلك إلا الله.

فقوله: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا [طه:129]، أي: لكان العذاب لزاماً ملازماً قائماً مهلكاً.