فضائل الأذكار


الحلقة مفرغة

حديث: (ما جلس قوم يذكرون الله إلا ناداهم منادٍ من السماء ..)

الحمد لله الذي جعل ذكره عدة للمتقين، يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، وصلى الله على خير البشر الذي أنزل عليه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. فبين للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار ما ملأ الأسفار، وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات)، هذا الحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط، والإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى ، والبزار ، وحسنه الألباني . قوله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل) قوله عليه الصلاة والسلام: (يذكرون الله) لا ينحصر في وظيفة معينة من الوظائف المشهورة بأنها هي ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا شك أنه يدخل في ذكر الله التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، وقراءة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك، والأذكار لا تنحصر في هذا، بل كل عامل لله بطاعة لله فهو ذاكر لله عز وجل، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام. أي: كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج، وأشباه هذا، فأشرف مجالس الذكر على الإطلاق هي مجالس العلم التي فيها يتعلم الإنسان علوم الحلال والحرام، وكيف يراعي حدود الله تبارك وتعالى.

ويقول الحسن: ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب العلم فلا حج ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة ولا عتق، قال: ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس.

وقال يحيى بن أبي كثير : درس الفقه صلاة. وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب، قال لهم هذا الشاب: قولوا سبحان الله والحمد لله.

فغضب الشيخ أبو السوار وقال: ويحك في أي شيء كنا إذاً؟

فالعلم أفضل من مجرد الذكر، كما هو معلوم من تفضيل طلب العلم على صلاة النافلة، فيقدم طلب العلم على صلاة النافلة.

فمعرفة الحلال والحرام واجب في الجملة على كل مسلم، أما ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان فأكثره يكون تطوعاً، لكن العلم والفقه يعلمك كيف تجتنب الحرام، وكيف تؤدي الواجبات، وما هي شروطها، وما هي المكروهات، وما هي المستحبات، فحدود الله تبارك وتعالى إنما تعلم عن طريق مجالس العلم، فلذلك مجالس العلم هي أفضل مجالس الذكر على الإطلاق، فهي حلق ذكر.

أما ما يرد إلى الأذهان حينما تقام حلقة ذكر -خاصة في الوسط الصوفي- فيها من الرقص والطبل والمزمار والقفز والصياح وهذه الأشياء التي يفعلونها فهذه ليست حلقة ذكر، بل حلقة غفلة وحلقة نسيان لله، وليس ذلك ذكراً لله سبحانه وتعالى، فهذا نسيان وإعراض عن الذكر الحقيقي الذي هو طلب العلم وقراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار التي أشرنا إليها.

ويدل على هذا المعنى الذي قاله عطاء رحمه الله تعالى قوله تبارك وتعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

أما هذا الذكر الذي أحدثه بعض الصوفية ولزموه مع هجران العبادات اللازمة التي هي من حقوق الإسلام وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق النفس، ثم ينظرون إلى أهل العلم في مجالس الدرس نظرة حقارة وازدراء فهذا ليس بذكر كما قلنا، بل هو نسيان لله سبحانه وتعالى، ونسيان لأمره ونهيه، فما أقبح هذا الذكر الصوفي! وما أحراه بتسميته النسيان والغفلة والإعراض عن الله تبارك وتعالى!

وقد ثبتت جملة من الأحاديث في فضائل الذكر بعد جملة عظيمة من الآيات، كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].

قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] قال: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر.

فكل عبادة لها وقت وحدود معينة، مثلاً: الصلاة في أوقات تباح، وفي أوقات تكره أو تحرم، وكذلك الصيام، فالفريضة وقتها في شهر رمضان، وصيام التطوع في أيام معينة منهي عنه، كأيام التشريق أو يوم العيد، فكل عبادة لها حدود ولها وقت، ولها ابتداء وانتهاء، ولها أحوال يعذر من تركها فيها.

أما ذكر الله سبحانه وتعالى -كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس - فلم يجعل الله له حداً معلوماً، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، يقول تبارك وتعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103] أي: بكل أحوالكم في الليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:42] فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، فهذه هي العبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار فيها بلا حدود في كل الأحوال، حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحواله، طاهراً أم غير طاهر، جنباً أم غير جنب، نائماً أو قائماً أو قاعداً، في كل أحواله يذكر الله تبارك وتعالى.

ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم الأمر بالإكثار من الذكر، قال تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] وفي هذا الحديث الذي رواه أنس رضي الله تعالى عنه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم).

والذكر هنا أعم من أن يكون مخصوصاً بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة وغير ذلك، فأي مجلس علم يتعلم فيه حدود الله سبحانه وتعالى فهو مجلس ذكر، ويستحق أهله هذا الفضل الذي ثبت في هذا الحديث: (إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم) يعني: إذا انتهى المجلس وقمتم بعد انتهائه فتقومون حال كونكم (مغفوراً لكم) فبعض العلماء يقولون: هي الصغائر. وبعضهم يقولون: الصغائر والكبائر إذا كان مع حضور مجالس الذكر توبة صحيحة من الكبائر، يعني: لا يكون الرجل الذي ارتكب كبيرة مصراً عليها، فإذا تاب منها -أيضاً- يغفر له الكبائر والصغائر؛ لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة، فذنب معين يرتكبه عليه أن ينوي أن يتوب منه، وبالتالي يغفر له الكبائر والصغائر.

وليس المراد من قوله: (قوموا مغفوراً لكم) أن هذا المنادي يناديهم ويقول لهم: قوموا واتركوا الذكر والقيام. وإنما المراد حين يريدون الانصراف، وليس المقصود أن المنادي يناديهم آمراً لهم أن يتركوا مجلس الذكر ويقوموا عنه.

حديث (سبق المفردون ..)

صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

قوله: (المفردون) يعني الذين ذهب جيلهم الذي كانوا فيه وبقوا وهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، يقال: (فرد الرجل) إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. فهنا قوله عليه الصلاة والسلام: (سبق المفردون) يعني هؤلاء الذين يثبتون على ذكر الله، ويشتغلون به عما عداه، حتى إن جيلهم الذي كانوا يعيشون فيه انخرم كله، وبقوا هم يذكرون الله عز وجل.

وعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل له: وما المفردون يا رسول الله؟ فقال: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

حديث (إذا أيقظ أهله من الليل فصليا ركعتين ..)

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات). واختلف العلماء فيمن يستحق هذا الوصف، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي : حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله عز وجل، فمن حافظ على هذه الأذكار المرتبطة بهذه الوظائف كان في تفسير ابن عباس من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

فهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -أي: أذكار الصباح والمساء- وفي المضاجع عند النوم وأثناء النوم، وإذا تقلب أو رأى رؤيا فاستيقظ، وكلما استيقظ من نومه وغدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى، فهذا الذي يحافظ على هذه الأذكار يعد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، يعني: في كل أحيانه وأحواله.

وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] أي: من صلى الصلوات الخمس في جماعة بخشوع، مراعياً حقوقها وحدودها يدخل -أيضاً- في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

ومعنى ذلك أن الإنسان يجتهد في حفظ الأذكار الثابتة الصحيحة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كافة الوظائف الشرعية الثابتة، وأن يلم بذلك، وهذا الباب اهتم العلماء به رحمهم الله تعالى أعظم اهتمام، حتى أفردوه بالتصنيف، فهو باب من أبواب العلم، فكما أن هناك باباً للفقه، وهناك علم الحديث، وهناك التفسير، وهناك أصول الفقه، وهناك علوم اللغة بأقسامها، وكما أن الفقه فيه أبواب الطهارة ونحوها، فكذلك هذا علم وباب مستقل من أبواب العلم، ويسمى عمل اليوم والليلة، وهو عبارة عن محاولة إحصاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة؛ فإن الأذكار نوعان: أذكار مطلقة كقراءة القرآن، فإنه تستحب القراءة في كل وقت، وليست مقيدة بزمن معين.

كذلك من الأذكار المطلقة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكالاستغفار والحوقلة، والتسبيح والتهليل، والتكبير والتحميد وغير ذلك من الأذكار.

النوع الثاني: أذكار موظفة بوقت معين، وبوظيفة معينة، كالأذكار التي تقال في الركوع والسجود، وعند الاستيقاظ من النوم، فهي مرتبطة بوظيفة، ففي وقت هذه الوظيفة يكون التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الذكر الموظف أفضل من غيره من الأذكار المطلقة، أما خارج وقت الوظيفة فأفضل الأذكار المطلقة على الإطلاق هو تلاوة القرآن الكريم، يقول الإمام الشوكاني في كتابه تحفة الذاكرين: لا شك أن صدق هذا الوصف -أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة.

وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) وورد عنه صلى الله عليه وسلم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، كما جاء في بعض الروايات.

فالشاهد أن الإمام الشوكاني رحمه الله يبين أن هذا الوصف -وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- يصدق على من يداوم على ذكر الله، حتى لو كانت المداومة على قدر قليل، فيقول ذكرين أو ثلاثة مثلاً عند النوم، وذكراً واحداً قبل أن ينصرف من التشهد، أو ذكراً واحد عند الاستيقاظ، أو ثلاثة أذكار في الصباح والمساء، وهكذا شيء قليل تداوم عليه أفضل من أن تذكر الله كثيراً مرة واحدة ثم تنقطع مدة طويلة وتعود، فالمداومة مع قلة الأذكار أفضل من كثرتها مع الانقطاع عنها.

يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكاراً وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة، كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت لكل حال من هذه الأحوال وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك وردت أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المأثورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد طبق عليه وصف الإكثار من الذكر إن داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يخل به في ساعاته من النوم واليقظة، وأما من واظب على جميعها وأتى بها ليلاً ونهاراً وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه، فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به إلا من صنع مثل صنيعه أو أكثر أو زاد عليه.

فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلا فلا تكن.

أي: يدعو عليه بأن يموت، فهو يقول: إما أن تكون ممن يذكرون الله قليلاً لكن يداومون، أو كثيراً مع المداومة، أو لا تكن. يعني: تكون كأنك ميت إذا خلوت عن أحد هذه الأوصاف.

حديث (ثلاثة لا يرد دعاؤهم ..)

وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط). أي: الإمام الحاكم العادل.

فمن أكثر ذكر الله سبحانه وتعالى لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءه، فهذه فضيلة من أعظم الفضائل، وأن هذا سبب كونك ودخولك فيمن لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءهم، وإذا كان ممن لا يرد دعاءهم فأي خير سيتخلف عنه من خيري الدنيا أو الآخرة؟! فكلما سأل ربه استجاب دعاءه، فهذه من أفضل وأعظم فضائل الأذكار.

حديث: (ألا أخبركم بخير أعمالكم ..)

حديث (مثل البيت الذي يذكر الله فيه ..)

حديث: (إن الله أمر يحيى بن زكريا ..)

وعن الحارث بن الحارث الأشعري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أمر يحيى بن زكريا عليهما السلام أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات...) منها: ذكر الله عز وجل. وفي نص الحديث: أن يحيى قال لهم: (وآمركم بذكر الله كثيراً، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أسره) يعني: أعداؤه لحقوه، وأخذوا يطاردونه بسرعة شديدة (فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه) فدخل الحصن وأغلق الأبواب جيداً وأوثقها وأحكم إغلاقها، وتحصن بذلك من هذا العدو الذي كان يريد أن يفتك به، يقول: (فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه، فإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى) فهذا أعظم ما يحمي الإنسان من كيد الشيطان، سواء بستويل المعاصي، أو بالوساوس، أو غير ذلك من الآفات والأمراض التي تفسد على الإنسان حياته، فإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى.

حديث: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ..)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) وهذه المعية معية خاصة، وليست المعية العامة التي تكون مع البشر أجمعين، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] بعلمه وسمعه وبصره، وإنما هذه هي المعية الخاصة التي هي معية النصر والتأييد والتسديد والتوفيق، مثل قوله تبارك وتعالى: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، ومثل قوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128] فمعنى (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه): أنا مع عبدي زمان ذكره لي مادام يذكرني، فأنا معه بالحفظ والكلاءة.

وليس المقصود أن الله سبحانه وتعالى يحل حيث يحل العبد، وإنما المقصود أن الله معه بالحفظ والكلاءة والحراسة والحماية.

حديث: (طوبى لمن طال عمره وحسن عمله ..)

وعن عبد الله بن بسر المزني رضي الله عنه قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الناس خير؟ فقال: طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله). فهذه من أعظم نعم الله سبحانه وتعالى، أن يمد في عمر الإنسان فيعمره بالطاعات والأعمال الصالحة، أما من طال عمره وقبح وساء عمله فطول العمر في حقه مصيبة عظمى؛ لأنه كلما ارتكب معاصي أكثر استوجب عقاباً أكثر، فطول العمر لمثل هذا وبالٌ عليه.

وجاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أحدهما قائلاً: (أي الناس خير؟ قال: طوبى لمن طال عمره وحسن عمله، وقال الآخر: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: أن تفارق الدنيا ولسانك رطب من ذكر الله).

حديث: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله ..)

حديث: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة ..)

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة). ومعنى الترة لغة: النقص، يقول سبحانه وتعالى: وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35]. يعني: لن ينقصكم، لكن المقصود بالترة هنا في هذا الحديث التبعة، يقال: وترك الرجل يترك ترة، على وزن: وعدك يعدك عدة. يعني: إلا كانت عليهم تبعة. أي: حسرة ومسئولية يسألون عنها ويحاسبون عليها.

يقول عليه الصلاة والسلام: (من قعد مقعداً لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضجعاً لا يذكر الله تعالى فيه كانت عليه من الله ترة، وما مشى أحد ممشىً لا يذكر الله فيه إلا كانت عليه من الله ترة) وفي رواية: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم).

ففي هذا الحديث وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر الله في أي مجلس يجلسه الإنسان، فإذا جلس الإنسان مجلساً -سواءٌ مع إخوانه في درس علمي أو محاضرة في أي موضوع- فإنه يجب أن يراعى هذا الأدب، والدليل على وجوبه قوله عليه الصلاة والسلام: (فإن شاء عذبهم، وإن شاء غفر لهم) وهذا لا يقال إلا في الواجب، قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم).

وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان عليهم حسرة) يعني: كأنهم كانوا يجلسون في وليمة يأكلون فيها جثة حمار منتنة متعفنة يتعاطونها ويأكلونها. فهذا مثل كل من يجلس مجلساً لا يذكر الله تبارك وتعالى فيه، وما أكثر هذه المجالس -للأسف- في هذا الزمان! مجالس أمام الفيديو والتلفاز، وفي المسارح والسينماء وعلى المقاهي، وفي أماكن كثيرة جداً كما نعلم يجلسون فيها لا يذكرون الله سبحانه وتعالى، وليتهم يكتفون بعدم الذكر إن لم يكن فيها اللغو والآفات الأخرى من آفات اللسان.

حديث الثلاثة الذين أسلموا فكان آخرهم موتاً أكثرهم أجراً

وعن عبد الله بن شداد : (أن نفراً من بني عذرة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يكفنيهم -يعني من يقوم بضيافتهم-؟ قال طلحة: أنا. قال: فكانوا عند طلحة ضيوفاً، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، قال: ثم بعث بعثاً فخرج فيه آخر فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه، قال طلحة : فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة، فرأيت الميت على فراشه أمامهم في منزلة أعلى من منزلتهم، ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه، ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم).

فالأول سبق إلى الشهادة، والثاني كان يليه في الشهادة، والثالث مات على فراشه ولم يكن شهيداً في الجهاد، فكيف بهذا الثالث الذي مات على فراشه يكون في منزلة أعلى من منزلة أخويه؟ يقول: (فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟) يعني: ما الذي أثار استغرابك؟ ولماذا تتعجب؟ قال: (وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله) يعني أن الثاني استشهد بعد الأول بفترة، وهذه الفترة عمرها بذكر الله، فزادت في ميزان عمله من تسبيح وتكبير وتهليل وقراءة قرآن وصلاة وذكر، فهذه ثقلت ميزانه حتى تفوق على أخيه الذي استشهد أولاً بسبب أنه عاش عمراً أطول منه، فعمره بذكر الله فارتفع على درجة أخيه الذي مات دون هذا الوقت، وليس هذا فحسب، بل إن الثالث الذي مات على فراشه ولم ينل الشهادة في سبيل الله أثناء القتال بلغ من استثماره لوقته بعد موت الأول والثاني أنه -أيضاً- عمر هذا الوقت بذكر الله سبحانه وتعالى، فارتفعت درجته على مقام الشهيدين اللذين سبقاه، مع أنه مات على فراشه، وهذا لفضيلة الذكر.

فالذكر عبادة أجرها عظيم جداً فوق ما نتصوره، ولا تستطيع أن تتخيل أبداً فضيلة الذكر، ولو أن البشر كشف لهم الحجب واطلعوا على ما يترتب على الكلمات السهلة الخفيفة على اللسان الثقيلة في الميزان لقطعوا أنفسهم حسرة على كل ساعة غفلوا فيها عن ذكر الله عز وجل، كما يقول عليه الصلاة والسلام: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).

ومثلاً: (من قرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] عشر مرات بنى الله له بيتاً في الجنة) وكيف يكون البيت في الجنة؟ ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومع ذلك انظر كيف يكد الإنسان ويكدح في هذه الدنيا من أجل أن يحصل على شقة مكونة من غرفتين! يكد ويكدح ويجمع المال ويهتم وينشغل جداً حتى يبني بيتاً يستقر فيه، فكيف نضيع ذكر الله إن كان عندنا يقين بأن هذا خبر الصادق المصدوق، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى؟! هذا خبر حقيقي، وعندما تنكشف الحجب يقطع أناس أنفسهم من الغم والهم والحسرة على أنهم لم يغتنموا هذه اللحظات.

ويقول عليه الصلاة والسلام: (من بخل بالمال أن ينفقه، وبالليل أن يكابده، فعليه بسبحان الله وبحمده) .

شيء سهل جداً، تقول: سبحان الله وبحمده. ولا أحد يعطلك عن شيء، تذكر الله وأنت تمشي في الطريق، وربما إذا ما ذكرت الله في الطريق ورآك رجل غافل فرأى شفتيك تتحرك بذكر الله فإنه يذكر الله اتباعاً لك واقتداءً بك، فتأخذ ثوابه أيضاً، وكل من رآك واستفاد بمنظرك وأنت تذكر الله سبحانه وتعالى انتبه من الغفلة وفعل مثلك، فأنت تثاب هذا الثواب، ولذلك هذه كانت من أعظم علامات أولياء الله، ولما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أولياء الله قال: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله سبحانه وتعالى).

فإذاً لا ينبغي أن يقصر عاقل أبداً في الذكر، والله سبحانه وتعالى يمد في عمر الإنسان ويقبض روحه في كل يوم وليلة، فأنت تتوفى وتخرج روحك من بدنك، وصحيح أنها ليست مفارقة كبرى كالموت، لكنه أخو الموت، وكم من رجل وضع خده على الوسادة وما استيقظ ثانية، فأرواحنا لا تكون بأيدينا، فهي تعود إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يعيدها إلينا، فهذه نعمة متجددة -أيضاً- نحن في غفلة عنها، فمن أعظم النعم أن يعطيك الله سبحانه وتعالى عمراً أطول: (خيركم من طال عمره وحسن عمله) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

فهنا هذا الصحابي -طلحة- لما حكى هذه الرؤيا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (فدخلني من ذلك، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله).

الحمد لله الذي جعل ذكره عدة للمتقين، يتوصلون بها إلى خيري الدنيا والدين، وجنة واقية للمؤمنين سهام الشياطين، وشر إخوانهم المتمردين من طوائف الخلق أجمعين، وصلى الله على خير البشر الذي أنزل عليه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. فبين للعباد من فضائل الأذكار، وما فيها من المنافع الكبار، والفوائد ذوات الأخطار ما ملأ الأسفار، وعلى من صاحبه ووالاه وسلم تسليماً كثيراً لا يدرك منتهاه.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ثم أما بعد:

فعن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم منادٍ من السماء: قوموا مغفوراً لكم، قد بدلت سيئاتكم حسنات)، هذا الحديث رواه الطبراني في معجمه الأوسط، والإمام أحمد في مسنده، وأبو يعلى ، والبزار ، وحسنه الألباني . قوله صلى الله عليه وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل) قوله عليه الصلاة والسلام: (يذكرون الله) لا ينحصر في وظيفة معينة من الوظائف المشهورة بأنها هي ذكر الله سبحانه وتعالى، فلا شك أنه يدخل في ذكر الله التسبيح، والتهليل، والتحميد، والتكبير، والحوقلة، وقراءة القرآن، والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك، والأذكار لا تنحصر في هذا، بل كل عامل لله بطاعة لله فهو ذاكر لله عز وجل، كما قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى، وقال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام. أي: كيف تشتري وتبيع، وتصلي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج، وأشباه هذا، فأشرف مجالس الذكر على الإطلاق هي مجالس العلم التي فيها يتعلم الإنسان علوم الحلال والحرام، وكيف يراعي حدود الله تبارك وتعالى.

ويقول الحسن: ما من شيء مما خلق الله أعظم عند الله في عظيم الثواب من طلب العلم فلا حج ولا عمرة، ولا جهاد، ولا صدقة ولا عتق، قال: ولو كان العلم صورة لكانت صورته أحسن من صورة الشمس.

وقال يحيى بن أبي كثير : درس الفقه صلاة. وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب، قال لهم هذا الشاب: قولوا سبحان الله والحمد لله.

فغضب الشيخ أبو السوار وقال: ويحك في أي شيء كنا إذاً؟

فالعلم أفضل من مجرد الذكر، كما هو معلوم من تفضيل طلب العلم على صلاة النافلة، فيقدم طلب العلم على صلاة النافلة.

فمعرفة الحلال والحرام واجب في الجملة على كل مسلم، أما ذكر الله سبحانه وتعالى باللسان فأكثره يكون تطوعاً، لكن العلم والفقه يعلمك كيف تجتنب الحرام، وكيف تؤدي الواجبات، وما هي شروطها، وما هي المكروهات، وما هي المستحبات، فحدود الله تبارك وتعالى إنما تعلم عن طريق مجالس العلم، فلذلك مجالس العلم هي أفضل مجالس الذكر على الإطلاق، فهي حلق ذكر.

أما ما يرد إلى الأذهان حينما تقام حلقة ذكر -خاصة في الوسط الصوفي- فيها من الرقص والطبل والمزمار والقفز والصياح وهذه الأشياء التي يفعلونها فهذه ليست حلقة ذكر، بل حلقة غفلة وحلقة نسيان لله، وليس ذلك ذكراً لله سبحانه وتعالى، فهذا نسيان وإعراض عن الذكر الحقيقي الذي هو طلب العلم وقراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار التي أشرنا إليها.

ويدل على هذا المعنى الذي قاله عطاء رحمه الله تعالى قوله تبارك وتعالى: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

أما هذا الذكر الذي أحدثه بعض الصوفية ولزموه مع هجران العبادات اللازمة التي هي من حقوق الإسلام وحقوق الله سبحانه وتعالى وحقوق النفس، ثم ينظرون إلى أهل العلم في مجالس الدرس نظرة حقارة وازدراء فهذا ليس بذكر كما قلنا، بل هو نسيان لله سبحانه وتعالى، ونسيان لأمره ونهيه، فما أقبح هذا الذكر الصوفي! وما أحراه بتسميته النسيان والغفلة والإعراض عن الله تبارك وتعالى!

وقد ثبتت جملة من الأحاديث في فضائل الذكر بعد جملة عظيمة من الآيات، كقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41-42].

قال علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله: واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] قال: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حداً معلوماً، ثم عذر أهلها في حال عذر.

فكل عبادة لها وقت وحدود معينة، مثلاً: الصلاة في أوقات تباح، وفي أوقات تكره أو تحرم، وكذلك الصيام، فالفريضة وقتها في شهر رمضان، وصيام التطوع في أيام معينة منهي عنه، كأيام التشريق أو يوم العيد، فكل عبادة لها حدود ولها وقت، ولها ابتداء وانتهاء، ولها أحوال يعذر من تركها فيها.

أما ذكر الله سبحانه وتعالى -كما روى علي بن طلحة عن ابن عباس - فلم يجعل الله له حداً معلوماً، فإن الله لم يجعل له حداً ينتهى إليه، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على عقله، يقول تبارك وتعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ [النساء:103] أي: بكل أحوالكم في الليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال: وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:42] فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته، فهذه هي العبادة الوحيدة التي أمرنا بالإكثار فيها بلا حدود في كل الأحوال، حتى كان صلى الله عليه وآله وسلم يذكر الله على كل أحواله، طاهراً أم غير طاهر، جنباً أم غير جنب، نائماً أو قائماً أو قاعداً، في كل أحواله يذكر الله تبارك وتعالى.

ولذلك نلاحظ في القرآن الكريم الأمر بالإكثار من الذكر، قال تعالى: اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [الأحزاب:41] وفي هذا الحديث الذي رواه أنس رضي الله تعالى عنه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما جلس قوم يذكرون الله عز وجل إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم).

والذكر هنا أعم من أن يكون مخصوصاً بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والحوقلة وغير ذلك، فأي مجلس علم يتعلم فيه حدود الله سبحانه وتعالى فهو مجلس ذكر، ويستحق أهله هذا الفضل الذي ثبت في هذا الحديث: (إلا ناداهم مناد من السماء: قوموا مغفوراً لكم) يعني: إذا انتهى المجلس وقمتم بعد انتهائه فتقومون حال كونكم (مغفوراً لكم) فبعض العلماء يقولون: هي الصغائر. وبعضهم يقولون: الصغائر والكبائر إذا كان مع حضور مجالس الذكر توبة صحيحة من الكبائر، يعني: لا يكون الرجل الذي ارتكب كبيرة مصراً عليها، فإذا تاب منها -أيضاً- يغفر له الكبائر والصغائر؛ لأن الكبائر لا بد لها من توبة خاصة، فذنب معين يرتكبه عليه أن ينوي أن يتوب منه، وبالتالي يغفر له الكبائر والصغائر.

وليس المراد من قوله: (قوموا مغفوراً لكم) أن هذا المنادي يناديهم ويقول لهم: قوموا واتركوا الذكر والقيام. وإنما المراد حين يريدون الانصراف، وليس المقصود أن المنادي يناديهم آمراً لهم أن يتركوا مجلس الذكر ويقوموا عنه.

صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

قوله: (المفردون) يعني الذين ذهب جيلهم الذي كانوا فيه وبقوا وهم يذكرون الله سبحانه وتعالى، يقال: (فرد الرجل) إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا بمراعاة الأمر والنهي. فهنا قوله عليه الصلاة والسلام: (سبق المفردون) يعني هؤلاء الذين يثبتون على ذكر الله، ويشتغلون به عما عداه، حتى إن جيلهم الذي كانوا يعيشون فيه انخرم كله، وبقوا هم يذكرون الله عز وجل.

وعرفهم النبي عليه الصلاة والسلام لما قيل له: وما المفردون يا رسول الله؟ فقال: (الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا أو صلى ركعتين جميعاً كتبا في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات). واختلف العلماء فيمن يستحق هذا الوصف، فقال الإمام أبو الحسن الواحدي : حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قوله: المراد: يذكرون الله في أدبار الصلوات وغدواً وعشياً، وفي المضاجع، وكلما استيقظ من نومه وكلما غدا أو راح من منزله ذكر الله عز وجل، فمن حافظ على هذه الأذكار المرتبطة بهذه الوظائف كان في تفسير ابن عباس من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

فهم يذكرون الله في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً -أي: أذكار الصباح والمساء- وفي المضاجع عند النوم وأثناء النوم، وإذا تقلب أو رأى رؤيا فاستيقظ، وكلما استيقظ من نومه وغدا أو راح من منزله ذكر الله تعالى، فهذا الذي يحافظ على هذه الأذكار يعد من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، يعني: في كل أحيانه وأحواله.

وقال عطاء: من صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله تعالى: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35] أي: من صلى الصلوات الخمس في جماعة بخشوع، مراعياً حقوقها وحدودها يدخل -أيضاً- في الذاكرين الله كثيراً والذاكرات.

ومعنى ذلك أن الإنسان يجتهد في حفظ الأذكار الثابتة الصحيحة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كافة الوظائف الشرعية الثابتة، وأن يلم بذلك، وهذا الباب اهتم العلماء به رحمهم الله تعالى أعظم اهتمام، حتى أفردوه بالتصنيف، فهو باب من أبواب العلم، فكما أن هناك باباً للفقه، وهناك علم الحديث، وهناك التفسير، وهناك أصول الفقه، وهناك علوم اللغة بأقسامها، وكما أن الفقه فيه أبواب الطهارة ونحوها، فكذلك هذا علم وباب مستقل من أبواب العلم، ويسمى عمل اليوم والليلة، وهو عبارة عن محاولة إحصاء ما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأذكار الموظفة أو الأذكار المطلقة؛ فإن الأذكار نوعان: أذكار مطلقة كقراءة القرآن، فإنه تستحب القراءة في كل وقت، وليست مقيدة بزمن معين.

كذلك من الأذكار المطلقة الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكالاستغفار والحوقلة، والتسبيح والتهليل، والتكبير والتحميد وغير ذلك من الأذكار.

النوع الثاني: أذكار موظفة بوقت معين، وبوظيفة معينة، كالأذكار التي تقال في الركوع والسجود، وعند الاستيقاظ من النوم، فهي مرتبطة بوظيفة، ففي وقت هذه الوظيفة يكون التقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الذكر الموظف أفضل من غيره من الأذكار المطلقة، أما خارج وقت الوظيفة فأفضل الأذكار المطلقة على الإطلاق هو تلاوة القرآن الكريم، يقول الإمام الشوكاني في كتابه تحفة الذاكرين: لا شك أن صدق هذا الوصف -أعني كونه من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- على من واظب على ذكر الله تعالى وإن كان قليلاً أكمل من صدقه على من ذكر الله كثيراً من غير مواظبة.

وقد ثبت في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله على كل أحيانه) وورد عنه صلى الله عليه وسلم أن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، كما جاء في بعض الروايات.

فالشاهد أن الإمام الشوكاني رحمه الله يبين أن هذا الوصف -وصف الذاكرين الله كثيراً والذاكرات- يصدق على من يداوم على ذكر الله، حتى لو كانت المداومة على قدر قليل، فيقول ذكرين أو ثلاثة مثلاً عند النوم، وذكراً واحداً قبل أن ينصرف من التشهد، أو ذكراً واحد عند الاستيقاظ، أو ثلاثة أذكار في الصباح والمساء، وهكذا شيء قليل تداوم عليه أفضل من أن تذكر الله كثيراً مرة واحدة ثم تنقطع مدة طويلة وتعود، فالمداومة مع قلة الأذكار أفضل من كثرتها مع الانقطاع عنها.

يقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله تعالى: وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أذكاراً وأدعية عند الأحوال المختلفة، وفي الأوقات المتنوعة، كالنوم واليقظة، والأكل والشرب واللباس ونحوها، ووردت لكل حال من هذه الأحوال وفي كل وقت من هذه الأوقات أذكار متعددة، وكذلك وردت أدعية فوق الواحد والاثنين، فمن أخذ بذكر أو دعاء من الأذكار والأدعية المأثورة وأتى به في ذلك الحال والوقت فقد طبق عليه وصف الإكثار من الذكر إن داوم عليه في اليوم والليلة، ولم يخل به في ساعاته من النوم واليقظة، وأما من واظب على جميعها وأتى بها ليلاً ونهاراً وجعلها وظيفة دائمة فلا تسأل عنه، فإنه قد فاز بالقدح المعلى، وسلك الطريقة المثلى، ولم يأت أحد بأفضل مما أتى به إلا من صنع مثل صنيعه أو أكثر أو زاد عليه.

فعليك أن تكون من أحد هذه الأصناف لتصدق عليك هذه الأوصاف، وإلا فلا تكن.

أي: يدعو عليه بأن يموت، فهو يقول: إما أن تكون ممن يذكرون الله قليلاً لكن يداومون، أو كثيراً مع المداومة، أو لا تكن. يعني: تكون كأنك ميت إذا خلوت عن أحد هذه الأوصاف.

وعن عطاء بن يسار قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يرد دعاؤهم: الذاكر الله كثيراً، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط). أي: الإمام الحاكم العادل.

فمن أكثر ذكر الله سبحانه وتعالى لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءه، فهذه فضيلة من أعظم الفضائل، وأن هذا سبب كونك ودخولك فيمن لا يرد الله سبحانه وتعالى دعاءهم، وإذا كان ممن لا يرد دعاءهم فأي خير سيتخلف عنه من خيري الدنيا أو الآخرة؟! فكلما سأل ربه استجاب دعاءه، فهذه من أفضل وأعظم فضائل الأذكار.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2395 استماع