نصيحة موضوعية للتيارات الجهادية


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد .. أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدّث به نفسه، مات على شعبة من نفاق) رواه مسلم .

قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه) (لم يحدّث) بالتشديد أي: لم يكلم، (به) أي: بالغزو، (نفسه) أي: لم يعزم على الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يقل: يا ليتني كنت مجاهداً.

وقيل: معناه: لم يرد الخروج للجهاد في سبيل الله عز وجل، وعلامته في الظاهر إعداد آلته، قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46]، ويؤيده قوله: (مات على شعبة من نفاق) أي: نوع من أنواع النفاق، أي: من مات على هذا فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد، و(من تشبه بقوم فهو منهم).

قال بعض العلماء: إن هذا كان مخصوصاً بزمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال القاري في مرقاة المفاتيح: والأظهر أنه عام، وأنه يجب على كل مؤمن أن ينوي الجهاد، إما بطريق فرض الكفاية، أو على سبيل فرض العين، وإذا كان اللفظ عاماً فيصير الجهاد فرض عين، ويستدل بظاهره لمن قال: الجهاد فرض عين مطلقاً، وهذا سنناقشه إن شاء الله بالتفصيل.

وفي شرح مسلم للنووي : قال الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: نرى أن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. أي: أن هذا كان خاصاً بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قاله ابن المبارك محتمل، وقال غيره: إنه عام، والمراد أن من لم يحدث نفسه بالغزو، فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد في سبيل الله عز وجل في هذا الوصف؛ لأنهم يتخلفون كما قال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46] والسياق في المنافقين، فترك الجهاد أحد شعب النفاق.

وفيه: أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها، لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوها، وهذه فائدة علمية، فلو أن رجلين ماتا، وقد ضيعا أو تركا عبادة معينة، وقد نوى أحدهما أن يفعلها فمات قبل أن يفعل ما نوى عليه، والآخر لم ينو فعلها، فلا يستوي من نوى أن يؤديها وعزم على فعلها، مع من مات وهو لم يعزم على فعلها.

يقول النووي : اختلف أصحابنا فيمن تمكن من الصلاة في أول وقتها، فأخرها بنية أن يفعلها ومات، أو أخر الحج كذلك، قيل: يأثم فيهما، وقيل: لا يأثم فيهما، وقيل: يأثم في الحج دون الصلاة.

هذه بعض الفوائد المتعلقة بهذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه، مات على شعبة من نفاق) .

هناك عوامل كثيرة تحتم مناقشة هذه القضية، وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن طُلب مني الكلام في هذا الموضوع، فجاء الطلب موافقاً لما في النفس، وهذه القضية لا شك أنها مهمة وشائكة، لكنها مثل كثير من القضايا لا يجدي معها التجاهل والإعراض، خصوصاً وأن لها كثيراً من الآثار والأبعاد.

وهناك أسباب كثيرة تمنع الإنسان من الكلام المباشر والمفصل في قضية الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وما يطلق عليه الجهاد في سبيل الله الآن في عصرنا؛ لأنه طرأ في السنوات الأخيرة فهم جديد لكلمة (الجهاد)، وهناك مد وجزر في الكلام في هذه القضية؛ لأن فيها حساسية شديدة.

أول عوامل الامتناع من الكلام فيها: أن الإنسان يشفق دوماً أن يقف في خندق واحد مع أعداء الإسلام، فالذين يواجهون التيارات الجهادية في أغلبهم أعداء الإسلام من الداخل ومن الخارج، من المنافقين، والملاحدة، وغيرهم من أعداء الله عز وجل في كل مكان، وهم يقفون في مواجهة من يسلك هذا السبيل لإعزاز كلمة الله تبارك وتعالى بما يراه طريقاً إلى تحقيق هذا الهدف، فبلا شك أن في الأمر حرجاً شديداً، لكن المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى كبيرة، فهناك حرمات تنتهك، فينبغي أن تستبعد العواطف إذا كان الإنسان يبحث المسألة بحثاً موضوعياً مجرداً.

وقد يحصل أحياناً اتحاد في الموقف، كما حدث عند اندلاع ثورة إيران، فكنا نعاير بنفس الشيء، كيف تحذرون من ثورة إيران؟ وكيف تنكرون عليها وأعداء الإسلام -أمريكا والغرب كله- يهاجمها؟ فنحن نقف معهم في خندق واحد، وفي الحقيقة أن التمادي مع هذه السياسة له ثمار غير محمودة، وله عواقب غير حميدة.

وقد يحصل اتفاق مع الكفار في المواقف من بعض النواحي، لكن إذا كان المنطلق مختلفاً فلا حرج في هذه الحالة، فالكفار ينطلقون من منطلق الحقد على الإسلام، والعداوة للإسلام، والمسلمون يتناصحون فيما بينهم؛ حرصاً على الإسلام، وعلى مصلحة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فالمنطلق مختلف، فإذا كانت الشيوعية مثلاً تحارب الربا، والإسلام يحارب الربا، فهل معنى ذلك أننا نقول: الإسلام هو الشيوعية؟! لا، فالمنطلق مختلف، وحين نتدارس هذه القضية سنتدارسها من منطلق مختلف عما ينظر من خلاله أعداء الله تبارك وتعالى.

وكنا نترقب بين وقت وآخر، ونقول: ننتظر حتى تمر هذه العاصفة، وسنتكلم بعد ذلك، فما تكاد تأتي عاصفة إلا وتأتي أخرى أشد منها.

وما من شك أن من العوامل المؤثرة والفعالة في تهييج هذه الأوضاع -بالذات في السنوات الأخيرة- أن الذين وقفوا ضد الصف الإسلامي داعين إلى النار، صدر منهم ظلم وأذية لعباد الله، وللدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وانتهاك لحرمات المسلمين، مما أدى إلى حصول رد فعل في المقابل، وهو ما يطلقون عليه: الإرهاب والإرهاب المضاد، وإن كنا نتحرج كثيراً من استعمال هذه المصطلحات الخبيثة، لكن كثيراً من المنصفين من خصوم الإسلام يقرون بأن هذا المسلك إنما هو رد فعل لمن تعدوا كل الحدود، وتفلتوا من كل الضوابط، وتخلوا عن كل القيم، فسلكوا مسالك الجبابرة والظالمين في تعاملهم مع المسلمين.

رصيد الدعوة دائماً يزيد من الخبرة، ومن التجارب، وما من شك أن هناك كثيراً من التجارب التي كان ينبغي أن نستفيد منها جميعاً، وكل من ينتمي إلى الصف الإسلامي لابد أن يستفيد من هذه التجارب؛ كي تكون رصيداً جديداً، ففي الحقيقة أن الدعوة قد مرّت منذ بداية هذه الصحوة إلى الآن بكثير من التجارب التي كان من المفترض أن يستفاد منها، وتستخلص منها العبر، لكن البعض لا يتعظون، ويصرون على سلوك مسلك معين، على أمل أن يؤدي إلى هدف مقصود.

نحن اعتبرنا بلا شك خلال فترة الصحوة الأخيرة، ومن ذلك وضوح ما يسمى بـ(التجربة البرلمانية)، ومحاولة إعزاز الإسلام وإقامة حكم الله سبحانه وتعالى عن طريق سراب الديمقراطية الموهوم، وما أرى القوم يفعلون إلا كما كان يفعل المشركون في الجاهلية، فيعتبرون الديمقراطية إلهاً يعبدونه من دون الله، ولكنها كأصنام العجوة التي كانوا يصنعونها من التمر فإذا جاعوا أكلوها!!

وهذه الديمقراطية التي يعبدونها ويسبحون بحمدها الآن إذا احتاجوا إليها أكلوها والتهموها، كما حصل في مصر، وكما حصل في الجزائر، فالمتعلق بمثل هذا الخيط الواهي يعتبر متعلقاً بسراب لا شيء وراءه ولا طائل تحته.

وما من شك أننا مررنا بكثير من التجارب التي كان ينبغي أن نستفيد منها، وأن نطلق لعقولنا ولأفكارنا العنان؛ حتى نستخلص أقصى ما نستطيع من العبر من خلال هذه المعاناة، ابتداء من حادثة الفنية العسكرية، وغيرها من الأحداث في مصر، إلى هذا المسلسل الأخير الذي نعيشه الآن، فهو علامة بارزة جداً في تاريخ الحركة الدعوية المعاصرة، كأحداث حماس وما أدراك ما حماس! وغير ذلك من الوقائع التي كان ينبغي أن يحصل نوع من التحليل لها، والانتفاع بها، وأن يكون من جرائها رصيد يضاف إلى تجربة العمل الإسلامي، خصوصاً وأننا نتعمد أحياناً أن نغلق أعيننا وآذاننا عن التطلع من خلال نافذة التاريخ.

وهذا أمر من مكامن النقص الخطيرة جداً في بعض الدعاة في هذا الزمان، فينبغي الاطلاع من خلال الرصيد التاريخي العظيم الموجود، والذي يفيدنا كثيراً في تحليل هذه الظواهر، وللتجربة أثر حتى في استنباط الأحكام، كما استقر إجماع أهل السنة والجماعة على عدم الخروج على الحاكم المسلم الجائر، وقد كانوا اختلفوا في أول الأمر، ثم استقر إجماعهم بعد ذلك على عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم الجائر أو الظالم أو الفاسق ما دام أنه في دائرة الإسلام، وما دام يحافظ على الإسلام، قالوا: قد جربنا، ورأينا في الصدر الأول عمليات خروج على الحكام في الدولة الأموية وغيرها، ثم استقر إجماع السلف على منع ذلك، ونصوا عليه في متون العقيدة، كما ترون في متن الطحاوية وغيرها من متون العقيدة، فالعلماء ينصون على هذه القضية لخطورتها، وسنبين ذلك إن شاء الله تعالى بالتفصيل.

إذاً: الاطلاع من خلال نافذة التاريخ أمر مهم جداً، وهناك دراسة طويلة فيها نوع من التحليل والاستنباط الذي نحن محتاجون إليه، وهي دراسة حركة النفس الزكية: محمد بن عبد الله بن الحسن للشيخ محمد العبدة ، عمل فيها دراسة تطبيق فعلي لحركة من هذه الحركات، وما أكثر حركات الخروج، وما أكثر العبر التي ينبغي استخلاصها منها!

العواقب المترتبة على مسلك الخروج على الحكام خطيرة جداً، لكننا نلاحظ على من يفكرون في بعض هذه الاتجاهات أن هناك حدة في طريقة التفكير، وبعض من يتصدرون للإفتاء في هذه الأشياء يغلب عليهم عدم تقدير العواقب على الإطلاق، وليس عندهم نظر إلى العواقب غالباً، مما قد يشكك في أهلية بعض هؤلاء للإفتاء في مثل هذه الأمور الجسيمة، فسواءً في ذلك بعض الأحداث المحلية التي تحصل كعملية العلاقة مع الأخلاط أحياناً، وبعض أفعال الاستثارة، أو تصعيد بعض التصرفات من خلال دول أخرى، ونحن نرى الآن ما يحصل من التضييق على الدعوة الإسلامية في الخارج، منذ التفجير في مركز التجارة العالمي في نيويورك، مع أننا لا نستطيع أن نقطع بمن فعل ذلك، لكن هو لا يبعد عن طريقة تفكير بعض الإسلاميين، ولا يبعد أنهم فعلاً سلكوا هذا المسلك، والله تعالى أعلم، ونرجو أن يكونوا مبرئين من ذلك.

لكن الشاهد: أن من يفعلون أفعالاً لها مثل هذه الأصداء الكبيرة والواسعة، لا يضعون في الحسبان مثل هذه العواقب، يهملونها تماماً، ومن الشواهد ما يحصل من التصعيد في الخارج لأقل حادثة تحصل بين المسلمين والأقباط، وكيف أنها توظف كي تضم في رصيد يبرر فيما بعد كثيراً من المخاطر التي تهدد الأمة بأسرها.

الآن يوجد رجل في خراسان يدعى أبا عبد الله محمد بن أحمد بن خليفة الحسيني المهدي ، لا نقول: المهدي، بل أمير المؤمنين، فهو نصب نفسه أميراً للمؤمنين، وهو الآن موجود، وقصته طويلة، ولن نخوض الآن في تفاصيلها، لكن الشاهد أنه يقول: ستتحرك كتيبة الموت من خراسان عما قريب، وتمر عبر إيران تحمل راية سوداء، وإياكم أن تتعرضوا لهذه الراية السوداء، وحذار أن يقاومها أحد، فتمر هذه الراية السوداء التي تحملها كتيبة الموت من خراسان إلى إيران، إلى العراق، إلى الأردن، إلى القدس في فلسطين.

وقد كنت مسافراً في الخارج، وقرأت بيانات أحد أتباعه، يقول في أخرها: أنا لن أشعلها ناراً في بقعة واحدة، سأشعلها ناراً في العالم أجمع! فإذا كانت مثل هذه الأحداث الطفيفة يترتب عليها هذا الكم الهائل من الآثار الخطيرة، فكيف إذا تكررت في كل موقع؟! وما من شك أن بعضنا يؤدي خدمات جليلة لأعداء الإسلام الذين يحرصون أشد الحرص على تضخيم هذه الأشياء، وتشويهها، وتوظيفها في التنفير عن دين الله تبارك وتعالى.

فالشاهد من الكلام: أن هذه الأشياء تكون لها عواقب، والملاحظ أن كثيراً من الناس لا ينظرون في هذه العواقب، ولا يقدرونها حق قدرها.

قبل أن نتكلم في الموضوع مباشرة نقول: إننا ننطلق بالكلام في هذا الموضوع من داخل الصف الإسلامي، ونحن لا نتكلم من نفس منطلق أعداء الإسلام وأعداء الدعوة الذين هم معروفون في بلادنا أو في خارجها، لكنا نتكلم على أننا من داخل العائلة الإسلامية، ومن داخل الصف الإسلامي الذي يجمع على ثوابت لا نقاش فيها، ومن أهم هذه الثوابت: أننا جميعاً لا نرضى بواقع الأمة الحالي.

ثانيها: أننا جميعاً مؤمنون بحتمية تغيير هذا الواقع، انطلاقاً من قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] ، حتى وإن حصل بعد ذلك اختلاف في طريقة التغيير، وهذا هو الذي يتعلق بموضوعنا الآن إن شاء الله تعالى.

مما يبين أهمية هذا الحوار الصريح الذي نحتاجه أمور كثيرة:

أولها: أن الإنسان لابد أن يتبصر، أي: لا يمشي ثم ينظر، بل ينظر أولاً قبل أن يمشي، ولا ينبغي أن ينظر فقط تحت قدميه؛ بل ينبغي أن تكون نظرته للأمور وتقديراته للعواقب دقيقة؛ لأن ديننا يحتم علينا النظر في عواقب الأمور، دون التفات إلى الثمرات العاجلة أو العاطفية؛ بل لا بد أن تنظر إلى مدى أبعد، وأن تأخذ بما استطعت من علم وفهم في تقدير الأمور، والتفكير فيها.

ففي أي تصرف تسلكه لا بد أن تتذكر أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الآخرة هي دار ظهور النتائج، فلا تتصرف في هذه الدنيا على أساس أن النتيجة الآن بارزة أمامك؛ لأنك لست نبياً معصوماً يوحى إليه، بحيث تقطع بأن مسلكك هو الحق الذي لا خفاء فيه، ولا مرية فيه.

فهذه الدنيا دار ابتلاء، ونحن لا ننسى أبداً أننا في دار امتحان وابتلاء، والنتائج تظهر هناك، وبالتالي فالإنسان قبل أن يخطو خطوة لا بد أن يستفرغ كل وسعه في أن يتأكد أن هذا -فعلاً- يقوده إلى الجنة، وإلى رضوان الله تبارك وتعالى.

فمهما كانت العواطف تسيطر أحياناً على بعض الناس، وتكون هذه العواطف متأججة، فلا اعتبار لها ولا وزن، وإن كان لها اعتبار بحسن النية، والنية بينك وبين الله سبحانه وتعالى، لكن لابد من الإصابة في العمل، نحن لا نتناقش مع أحد في حسن نيته، وما نظن أن أحداً من إخواننا الذين يسلكون هذه المسالك يريد غير وجه الله عز وجل، ولكن نقول: كم من مريد للخير لا يبلغه، ونقول: إنه لابد من استفراغ الجهد في التأكد من أن هذا العمل يرضي الله عز وجل، فقد حصلت محن كثيرة للدعوة، وما نظن أحداً دخل في هذه المحن إلا وكان مخلصاً، مثل فتنة أحداث الحرمين سنة ألف وأربعمائة هجرية، حين ادعى بعضهم ظهور المهدي .

وحصلت أحداث أخرى كثيرة جداً، وكان العمود الذي تقوم عليه هو العاطفة فحسب .. حسن النية فحسب، بدون بصيرة، وبدون تقدير للأمور.

وهناك أمر مهم جداً، وهو: أنه يحصل في ساحة العمل الإسلامي -أحياناً- نوع من التجاوزات، كما رأينا أمثلته كثيراً في جماعة التكفير، فإن المبتدع أو الإنسان المنحرف يشعر بالوحشة؛ لأنه يشذ عن منهج الفرقة الناجية، فيفزع أحياناً إلى بعض الأعمال لإرهاب المخالف؛ كي يكثر عدد من معه حتى تزول عنه هذه الوحشة، وهو يستوحش إذا رأى رجلاً على علم ليس معه ولا يوافقه، فلذلك رفع هذه القاعدة التي يساء استغلالها: من لم يكفر الكافر فهو كافر، أي: إذا لم توافقه في تكفير هذا الشخص فأنت أيضاً تكون كافراً. ولسنا في مقام الرد على هذه القاعدة أو سوء استعمالها.

فينبغي لمن أراد وجه الله سبحانه وتعالى، ومن أراد النصيحة للمسلمين في مثل هذه القضايا الحساسة، ألا يضع أي اعتبار لأي نوع من الضغوط، سواء كانت هذه الضغوط من داخل الصف الإسلامي، أو من خارج الصف ممن ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا ضد دين الله، وضد دعوة الله تبارك وتعالى، فالمسلم لا يخضع لأي ضغوط من أي طرف من هذه الأطراف؛ لأنهم دائماً يلوحون بالاتهام وسوء الظن، كقولهم: من لم يشاركنا في هذا المنهج فهو من المنافقين، أو نحو هذا الكلام.

نلاحظ ملمحاً خطيراً جداً في بعض هذه التيارات، وهو: ازدراء العلماء، والنظر إليهم بتحقير وازدراء وتنقص، علاوة على سوء الظن بهم، وقد يصل الأمر إلى تكفيرهم، كما هو معلوم في بعض البقاع، والإنسان عندما يخرج إلى الخارج يرى هذه الأشياء منتشرة هناك، وكل من أراد أن يقول شيئاً قاله، ولا أحد يمنعه، فمثلاً: هذا الذي يدعي أنه أمير المؤمنين في خراسان يكفر الشيخ علي بلحاج فرج الله كربته، ويقول عن الشيخ ابن باز : أنا -تورعاً- لا أكفره، ولكن هو للكفر أقرب منه للإيمان!!

ونلاحظ على بعض هذه التيارات أنهم يبدءون دعوتهم بتشويه سمعة العلماء، وهز الثقة بهم، وما أكثر ما يستغلون أزمة الخليج، وما صدر من بعض أفاضل المشايخ من اجتهادات، ولنفرض -على أسوأ الفروض- أن هذا اجتهاد خاطئ، فكان ماذا؟! اجتهد فأخطأ، فما المشكلة؟! ألم يجتهد الصحابة من قبله فأخطأ بعضهم، وحصل بينهم القتال؟! ومع ذلك كلٌ مثاب على اجتهاده، وكل يريد مصلحة الإسلام والمسلمين، فهؤلاء يريدون أن يحطموا العلماء ليكونوا هم المفتين، ويكونوا هم أهل الحل والعقد في هذه الأمور، بعد تحطيم العلماء، وتشويههم، وازدرائهم.

ومن مرجحات هذا الحوار الصريح: حصول نوع من الخلط بين الأوراق بطريقة سيئة جداً، كما سيأتي في ظاهرة خلط الأوراق، ووضع الأسماء لغير مسمياتها، فهذا أمر شاع، ونحتاج إلى توضحيه.

كما ننبه على ضرورة الحذر من موضوع التأويل؛ فما من فتنة في تاريخ الإسلام كله، وما من دم أريق، ولا بدعة ظهرت، ولا فساد حصل في الأرض؛ إلا بسبب التأويل الفاسد الذي هو عدو الدين.

فهذه الملاحظات نضعها بين يدي الكلام في هذا الموضوع، ولابد أن نتذكر ونحن نبحث هذا الموضوع أننا في دار ابتلاء، والنتائج هناك في الآخرة، فينبغي للإنسان أن يتبصر كثيراً قبل أن يضع قدمه في أي طريق، وينظر في العواقب، ليس العواقب العاجلة فقط، ولكن ينظر إلى العواقب على المدى البعيد، وينظر إلى الآفاق، أما النظر تحت القدمين، أو في العواقب العاجلة والفرح بها؛ فهذا ليس من شأن العقلاء والمنصفين.

التحذير من الكتب الجهادية

ومما يتعلق بهذه القضية التي سنتكلم فيها إن شاء الله تعالى: أن هناك بعض المطبوعات تحوي مغالطات جسيمة، وقد اطلعت على بعض المطبوعات تكلم فيها أحد المؤلفين على أحد العلماء الأفاضل، وأنا أتحرج من ذكر اسم العالم؛ لأن الشتم الذي وجه إليه شتم فظيع، وكلام العالم قد يكون غير صحيح، قد ننكر عليه هذا الكلام، اجتهد فأخطأ، فليست هناك مشكلة، لكن الرجل -بعدما حكى كلام العالم- قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله الذي عافاني مما تقوله هذه الأنعام! فهل يمكن أن يكون في مثل هذا الإنسان خير؟! هو يتطاول على عالم من علماء المسلمين، ولم يحترم حتى شيبته، فضلاً عن العلم والخدمات الجليلة التي قدمها لهذا الدين.

وهذا المنهج الذي أوله ازدراء للعلماء، لاشك أن عاقبته غير حميدة، وهذا الذي نلاحظه، فما وجدنا أحداً ممن يطيل لسانه في أهل العلم إلا وتكون عاقبته سيئة والعياذ بالله، كما قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه فيهم بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. أو كما قال رحمه الله تعالى.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، لماذا؟ لأن تعظيم العلماء من شعائر الله؛ بل هي من علامات وجود التقوى في القلب، كما قال عز وجل: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] .

فاحترام العلماء، والتأدب معهم، ليس هو احتراماً لأشخاصهم؛ بل هو احترام لشعائر الله، فالعلماء من شعائر الله التي يجب أن توقر، وأن تحترم، وألا تنتهك محارمها، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) ، فإذا كان هذا في المسلم العادي، فكيف بالعالم الجليل؟!

ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي أي: إذا لم يكن العلماء هم أحق الناس بولاية الله فليس لله أولياء؛ لأنهم أجدر وأولى الناس بولاية الله تبارك وتعالى، فهم الأدلّاء عليه، والمنافحون عن دين الله تبارك وتعالى.

ومما يتعلق بهذه القضية التي سنتكلم فيها إن شاء الله تعالى: أن هناك بعض المطبوعات تحوي مغالطات جسيمة، وقد اطلعت على بعض المطبوعات تكلم فيها أحد المؤلفين على أحد العلماء الأفاضل، وأنا أتحرج من ذكر اسم العالم؛ لأن الشتم الذي وجه إليه شتم فظيع، وكلام العالم قد يكون غير صحيح، قد ننكر عليه هذا الكلام، اجتهد فأخطأ، فليست هناك مشكلة، لكن الرجل -بعدما حكى كلام العالم- قال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، الحمد لله الذي عافاني مما تقوله هذه الأنعام! فهل يمكن أن يكون في مثل هذا الإنسان خير؟! هو يتطاول على عالم من علماء المسلمين، ولم يحترم حتى شيبته، فضلاً عن العلم والخدمات الجليلة التي قدمها لهذا الدين.

وهذا المنهج الذي أوله ازدراء للعلماء، لاشك أن عاقبته غير حميدة، وهذا الذي نلاحظه، فما وجدنا أحداً ممن يطيل لسانه في أهل العلم إلا وتكون عاقبته سيئة والعياذ بالله، كما قال الحافظ ابن عساكر رحمه الله تعالى: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك ستر منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه فيهم بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. أو كما قال رحمه الله تعالى.

والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويعرف لعالمنا حقه)، لماذا؟ لأن تعظيم العلماء من شعائر الله؛ بل هي من علامات وجود التقوى في القلب، كما قال عز وجل: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] .

فاحترام العلماء، والتأدب معهم، ليس هو احتراماً لأشخاصهم؛ بل هو احترام لشعائر الله، فالعلماء من شعائر الله التي يجب أن توقر، وأن تحترم، وألا تنتهك محارمها، النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إن أهون الربا مثل أن ينكح الرجل أمه! وإن أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) ، فإذا كان هذا في المسلم العادي، فكيف بالعالم الجليل؟!

ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي أي: إذا لم يكن العلماء هم أحق الناس بولاية الله فليس لله أولياء؛ لأنهم أجدر وأولى الناس بولاية الله تبارك وتعالى، فهم الأدلّاء عليه، والمنافحون عن دين الله تبارك وتعالى.

لاشك أن فيما تضمنته هذه المطبوعات التي أشرنا إليها غلطات علمية جسيمة، وهي منشورة، وأحياناً يطلع عليها الكثير من الناس، فيحصل الخلط، فمن خلال (حوار العلم) نرى بعض ما تضمنته هذه الأوراق من شبهات، فمثلاً: الاستدلال على جواز قتل الجنود المسلمين أو بعض المسلمين المدنيين بمسألة التترس، وسنبين -إن شاء الله- الفرق في ذلك، ونبين أنه لا يجوز في أي حال من الأحوال الاستدلال بهذا على ما يحصل الآن من تصرفات.

الخلط بين أحكام الجهاد وأحكام الخروج على الحكام

فمن أشد الأمور جسامة: الخلط بين أحكام الجهاد وبين أحكام الخروج على الحكام، فصارت كلمة الجهاد الآن تطلق على الخروج على الحكام، في حين أن هذا الباب مستقل تماماً في الفقه عن باب الخروج.

إذا أطلق الجهاد في سبيل الله فإنما ينصرف إلى قتال الكفار لنشر دين الله سبحانه وتعالى، والذب عنه، والمعاونة على ذلك، فهذا هو الجهاد اصطلاحاً، ولا يمكن أن يستعمل استعمالات أخرى، فالجهاد عند الإطلاق ينصرف إلى هذا المعنى، فهذا باب، وموضوع الخروج على الحكام باب آخر، ولا يمكن أبداً أن يذم الجهاد في حال من الأحوال، فالجهاد في سبيل الله عز وجل ممدوح في كل الأحوال، ما دام أنه مستوفٍ للشروط الشرعية.

أما الخروج فهو نوعان:

الأول: خروج على الحاكم الجائر، والثاني: خروج على الحاكم الكافر، والحاكم فيه تفصيل:

أما الحاكم الجائر فقد أجمع العلماء على عدم جواز الخروج عليه، وأما الحاكم الكافر فاتفقوا على جواز ذلك، لكن بشروط دقيقة جداً، فقد يذم هذا الخروج أحياناً، وقد يمدح أحياناً.

أما إطلاق الجهاد مطلقاً عليه، فنشبهه بما يحصل من بعض الجماعات الأخرى في تطويع الحقائق الشرعية لمسميات لا تماثل بينها وبين هذه الحقائق الشرعية، كما تفعل جماعة التبليغ، فهم لم يكتفوا في بيان فضل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالآيات والأحاديث الواردة في فضيلة الدعوة إلى الله عز وجل، وهي تكفي، لكنهم عمدوا أيضاً إلى النصوص الواردة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى في القرآن والسنة، فحولوها وصرفوها إلى الخروج للدعوة معهم، وكلمة الخروج اصطلاح خاص عند جماعة التبليغ، حتى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] يجعلونها للخروج معهم؛ بناء على المنام الذي رآه شيخهم محمد إلياس كما يزعمون!

وكذلك قوله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46] ، فيجعلون الخروج في هذه الآية حسب الاصطلاح الخاص بجماعة التبليغ، وهكذا يعمدون إلى نصوص الجهاد ويطلقونها ويطبقونها على هذا النوع من الخروج، كما فعلت الصوفية حينما صرفت نصوص الجهاد إلى جهاد النفس، ويستدلون بالحديث الموضوع: (رجعت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس) .

كذلك فعلت بعض هذه التيارات حين أطلقت مصطلح الجهاد على شيء لا يكون تحت اسم الجهاد، والفرق كما بينا: الجهاد في كل الأحوال ممدوح، كما سنفصل ذلك إن شاء الله، أما الخروج فقد يمدح وقد يذم، بالنظر إلى الشروط والضوابط التي وضعها العلماء.

اعتقاد أن آية السيف نسخت كل ما يدل على الدعوة بالحكمة والرفق

ومن الخلط للمفاهيم ما يحصل أحياناً -للأسف الشديد- من أناس لا علم عندهم ولا بصيرة ولا فقه في آيات الله تبارك وتعالى، فيقولون: إن آية السيف نسخت كل ما قبلها من الأمر بالدعوة بالحكمة، والرفق في الدعوة، واللين، والصبر على المشركين، والإعراض عنهم، وغير ذلك من المراحل التي سبقت آية السيف وآية الجهاد، فهذا من الخلط الشديد، فهو يفهم أن قول بعض السلف: نسخت براءة كل موادعة، أنها نسخت كل دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويفهمون أن كلمة (النسخ) مثل نسخ الخمر مثلاً بحيث يحرم تماماً امتثال الحكم المنسوخ، وهذا في الحقيقة من أخطر مواضع الزلل والضعف في تفكير القوم؛ نتيجة سوء فهم آيات الله تبارك وتعالى، ولذلك كان السلف يشددون جداً فيمن يتصدر للكلام في الدين أو لتعليم الناس، حتى يمتحنوه في جملة من العلوم، ومن أهمها: الناسخ والمنسوخ، وسنزيد هذا الأمر إن شاء الله تعالى إيضاحاً، لكننا الآن نذكر رءوس أقلام تتعلق بظاهرة خلط الأوراق.

إذا كان هذا الخلط سيترتب عليه آثار في الواقع بعيدة المدى أو أبعد بكثير مما نتصور؛ فحينئذ نحتاج إلى مثل هذه الوقفة.

تكفير الجنود والقول بأن بلاد المسلمين بلاد كفر

ومن مظاهر هذا الخلط: إطلاق القول بتكفير الجنود الذين في الجيش أو الشرطة، وبالتالي استحلال دمائهم، وبعضهم يتورع ويقول: أنا لا أكفر الجنود، لكن أكفر القادة.

ومن مظاهر هذا الخلط: إطلاق القول بأن بلاد المسلمين بلاد كفار، وقد ناقشناه من قبل حينما ناقشنا كتاب الغلو في الدين، وإن كنا سنحتاج إلى الرجوع إليه إن شاء الله باختصار.

قال بعضهم: إن بلاد المسلمين ديار كفار، ثم يأتي بكتب الفقه الحنفي بالذات، ويأخذ أحكام دار الكفر، ويطبقها على أوضاع بلادنا اليوم، مع أن موضوع تقسيم العالم إلى دار كفر ودار إسلام غير موجود في القرآن والسنة، وإنما اضطر العلماء في عصر الفتوحات إلى هذا التقسيم؛ كي ينظموا ويكيفوا العلاقة بين المسلمين وبين الأمم الكافرة، مثل ما يكاد يحصل من تعاملات، وارتحال بين البلدان، وتبادل الأسرى، فهذه الأحكام صيغت في وضع العزة والقهر والتمكين، حين كان المسلمون قاهرين للكفار في كل بقاع الأرض، فهذه الأحكام لها ارتباط وثيق جداً بموضوع الغلبة والعزة والقوة، ومن الخلط قيام البعض بأخذ الأحكام من الكتب، وتطبيقها على واقعنا بلا أدنى بصير.

ومن الملاحظات المهمة في هذا الباب -الذي سنتكلم فيه إن شاء الله تعالى-: تضرر القائمين في ساحة الدعوة من الأخطاء الصادرة من بعض مسالك الجماعات الأخرى، فنقول: إن شروط إنكار المنكر معروفة، ومن ضمن هذه الشروط: ألا يحصل ضرر متعد إلى من لا يوافقك على هذه الأعمال، فإن ساحة الدعوة مشتركة، وإذا استأثرت جماعة معينة بتصرف فإن آثاره تمتد إلى غيرها، ولا شك أن هذا يخالف الأصول والقواعد الفقهية المعروفة، وهذا سنزيده تفصيلاً إن شاء الله.

فمن أشد الأمور جسامة: الخلط بين أحكام الجهاد وبين أحكام الخروج على الحكام، فصارت كلمة الجهاد الآن تطلق على الخروج على الحكام، في حين أن هذا الباب مستقل تماماً في الفقه عن باب الخروج.

إذا أطلق الجهاد في سبيل الله فإنما ينصرف إلى قتال الكفار لنشر دين الله سبحانه وتعالى، والذب عنه، والمعاونة على ذلك، فهذا هو الجهاد اصطلاحاً، ولا يمكن أن يستعمل استعمالات أخرى، فالجهاد عند الإطلاق ينصرف إلى هذا المعنى، فهذا باب، وموضوع الخروج على الحكام باب آخر، ولا يمكن أبداً أن يذم الجهاد في حال من الأحوال، فالجهاد في سبيل الله عز وجل ممدوح في كل الأحوال، ما دام أنه مستوفٍ للشروط الشرعية.

أما الخروج فهو نوعان:

الأول: خروج على الحاكم الجائر، والثاني: خروج على الحاكم الكافر، والحاكم فيه تفصيل:

أما الحاكم الجائر فقد أجمع العلماء على عدم جواز الخروج عليه، وأما الحاكم الكافر فاتفقوا على جواز ذلك، لكن بشروط دقيقة جداً، فقد يذم هذا الخروج أحياناً، وقد يمدح أحياناً.

أما إطلاق الجهاد مطلقاً عليه، فنشبهه بما يحصل من بعض الجماعات الأخرى في تطويع الحقائق الشرعية لمسميات لا تماثل بينها وبين هذه الحقائق الشرعية، كما تفعل جماعة التبليغ، فهم لم يكتفوا في بيان فضل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالآيات والأحاديث الواردة في فضيلة الدعوة إلى الله عز وجل، وهي تكفي، لكنهم عمدوا أيضاً إلى النصوص الواردة في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى في القرآن والسنة، فحولوها وصرفوها إلى الخروج للدعوة معهم، وكلمة الخروج اصطلاح خاص عند جماعة التبليغ، حتى قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110] يجعلونها للخروج معهم؛ بناء على المنام الذي رآه شيخهم محمد إلياس كما يزعمون!

وكذلك قوله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46] ، فيجعلون الخروج في هذه الآية حسب الاصطلاح الخاص بجماعة التبليغ، وهكذا يعمدون إلى نصوص الجهاد ويطلقونها ويطبقونها على هذا النوع من الخروج، كما فعلت الصوفية حينما صرفت نصوص الجهاد إلى جهاد النفس، ويستدلون بالحديث الموضوع: (رجعت من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر وهو جهاد النفس) .

كذلك فعلت بعض هذه التيارات حين أطلقت مصطلح الجهاد على شيء لا يكون تحت اسم الجهاد، والفرق كما بينا: الجهاد في كل الأحوال ممدوح، كما سنفصل ذلك إن شاء الله، أما الخروج فقد يمدح وقد يذم، بالنظر إلى الشروط والضوابط التي وضعها العلماء.