البيع بالتقسيط


الحلقة مفرغة

التحذير من التوسع في الاستدانة

الحديث طويل، لكن هو من السهل الذي يعني سردناه لأجله، والحمد لله وهو يحمل فوائد عظيمة، والفقرة المقصودة من تلاوة هذا الحديث هي تلك الفقرة التي فيها ذكر ذلك الرجل المشرك الذي هدد بلالاً رضي الله تعالى عنه، وقال له: إنه إذا حل أجل الدين ولم يقض ما عليه فسياخذه بهذا المال الذي عليه، وسيسترقه ويعيده عبداً يرعى الغنم كما كان من قبل رضي الله تعالى عنه، فهذا من شؤم وعيوب الدين، فينبغي للإنسان أن يتحرز منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتعلمون ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) أي: أنه لا يغفر له الدين؛ لأن فيه تعلقاً بحقوق العباد، فيكون الشهيد محبوساً ومرهوناً في البرزخ إذا لم يؤدَّ عنه ذلك الدين.

والبيع بالتقسيط هو -في الحقيقة صورة من صور الدين، وقبل أن نبدأ موضوعنا وهو: البيع بالتقسيط ينبغي أن يستقر هذا المفهوم وهو: أنه لا ينبغي التوسع في أمر الاستدانة؛ لأن الاستدانة في حالة الشراء بالتقسيط فيها زيادة في مقابل الأجل كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى، أضف إلى ذلك أن حجم الدين يجب ألا يتجاوز قدرة المدين على السداد، والدين إذا كان ديناً عاماً كأن تكون الحكومة مثلاً هي المَدْينة، لاسيما إذا كان ديناً عاماً، وطويل الأجل، فإنه شؤم؛ لأنه يحمَّل الأجيال القادمة عبء الجيل الحالي فإنا نورث لأبنائنا ولأجيالنا المقبلة أعباء هذه الديون، وهذا إذا كان ممولاً بأموال الزكاة أو غيرها من الموارد العامة.

وفي مثل هذه الحالة إذا كان الدين ليس في مقدور المدين ولا في طاقته أن يؤديه، فإنه يكون هماً بالليل، ومذلة بالنهار، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولما سئل عن سرّ القَرن بين المغرم والمأثم في الدين، وما علاقة الدين بذلك؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الرجل إذا غرم فإنه يعد فيخلف، فيقع في الإثم، فالدين دائماً -إن لم يكن هناك عذر واضطراراً يجلب كثيراً من هذه المصائب، ولا شك أنه هم بالليل، وذل بالنهار، وكما قال بعض السلف: ما دخل همُّ الدين قلباً إلا خرج من العقل، يعني: من شدة انشغال تفكيره يعني يظل على التفكير، فإنه يعني يؤثر في عقله.

وهو همَّ في أوله، وهرم في آخره، وأما إذا كان الدائن مثل حالة البلدان الأجنبية الدائنة، فمن مخاطر الدين في هذه الحال سيطرة هذه البلدان الدائنة، وتبعية البلدان المدينة لها ما لم يعد يخفى على أحد في عصرنا هذا، وفيها من صور إذلال الأمم والشعوب، وقهرها بأمر الدين، واستعبادها بذلك، كما أراد ذلك المشرك من إذلال بلال تماماً، ولعل هذا المشرك نفسه -وهو حقيق بسوء الظن- إنما دعا بلالاً إلى أن يستدين منه بهذه النية، عسى أن يتعثر السداد، فيسترقه بعد ذلك.

فعلى أي الأحوال: فالاستعباد يكون بصور شتى، ولا يكون بصورة الرق فقط، فمحاولة استعباد المدين محاولة قديمة، وهو يدل على الأخلاق الأيدلوجية الفجة أو الباردة كما هو مشهور عنهم، يقول: لا تقرض أبداً ولا تقترض، فإنك إذا اقترضت من رجل جعلته سيدك، وإذا أقرضت رجلاً جعلته عدوك.

والشاهد من الكلام: أن الأصل الذي نقدمه بين يدي الكلام في موضوع البيع بالتقسيط هو أن الاستدانة غير مرغوب فيها، فهناك مخاطر شديدة في التوسع في أمر الاستدانة، والبيع بالتقسيط هو صورة من صور الاستدانة، فينبغي للإنسان ألا يستدين، وألا يشتري بالتقسيط إلا لعذر قوي في ذلك.

الحديث طويل، لكن هو من السهل الذي يعني سردناه لأجله، والحمد لله وهو يحمل فوائد عظيمة، والفقرة المقصودة من تلاوة هذا الحديث هي تلك الفقرة التي فيها ذكر ذلك الرجل المشرك الذي هدد بلالاً رضي الله تعالى عنه، وقال له: إنه إذا حل أجل الدين ولم يقض ما عليه فسياخذه بهذا المال الذي عليه، وسيسترقه ويعيده عبداً يرعى الغنم كما كان من قبل رضي الله تعالى عنه، فهذا من شؤم وعيوب الدين، فينبغي للإنسان أن يتحرز منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وتعلمون ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين) أي: أنه لا يغفر له الدين؛ لأن فيه تعلقاً بحقوق العباد، فيكون الشهيد محبوساً ومرهوناً في البرزخ إذا لم يؤدَّ عنه ذلك الدين.

والبيع بالتقسيط هو -في الحقيقة صورة من صور الدين، وقبل أن نبدأ موضوعنا وهو: البيع بالتقسيط ينبغي أن يستقر هذا المفهوم وهو: أنه لا ينبغي التوسع في أمر الاستدانة؛ لأن الاستدانة في حالة الشراء بالتقسيط فيها زيادة في مقابل الأجل كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى، أضف إلى ذلك أن حجم الدين يجب ألا يتجاوز قدرة المدين على السداد، والدين إذا كان ديناً عاماً كأن تكون الحكومة مثلاً هي المَدْينة، لاسيما إذا كان ديناً عاماً، وطويل الأجل، فإنه شؤم؛ لأنه يحمَّل الأجيال القادمة عبء الجيل الحالي فإنا نورث لأبنائنا ولأجيالنا المقبلة أعباء هذه الديون، وهذا إذا كان ممولاً بأموال الزكاة أو غيرها من الموارد العامة.

وفي مثل هذه الحالة إذا كان الدين ليس في مقدور المدين ولا في طاقته أن يؤديه، فإنه يكون هماً بالليل، ومذلة بالنهار، وقد تعوذ النبي صلى الله عليه وسلم من المغرم والمأثم، ولما سئل عن سرّ القَرن بين المغرم والمأثم في الدين، وما علاقة الدين بذلك؟ فأخبر عليه الصلاة والسلام أن الرجل إذا غرم فإنه يعد فيخلف، فيقع في الإثم، فالدين دائماً -إن لم يكن هناك عذر واضطراراً يجلب كثيراً من هذه المصائب، ولا شك أنه هم بالليل، وذل بالنهار، وكما قال بعض السلف: ما دخل همُّ الدين قلباً إلا خرج من العقل، يعني: من شدة انشغال تفكيره يعني يظل على التفكير، فإنه يعني يؤثر في عقله.

وهو همَّ في أوله، وهرم في آخره، وأما إذا كان الدائن مثل حالة البلدان الأجنبية الدائنة، فمن مخاطر الدين في هذه الحال سيطرة هذه البلدان الدائنة، وتبعية البلدان المدينة لها ما لم يعد يخفى على أحد في عصرنا هذا، وفيها من صور إذلال الأمم والشعوب، وقهرها بأمر الدين، واستعبادها بذلك، كما أراد ذلك المشرك من إذلال بلال تماماً، ولعل هذا المشرك نفسه -وهو حقيق بسوء الظن- إنما دعا بلالاً إلى أن يستدين منه بهذه النية، عسى أن يتعثر السداد، فيسترقه بعد ذلك.

فعلى أي الأحوال: فالاستعباد يكون بصور شتى، ولا يكون بصورة الرق فقط، فمحاولة استعباد المدين محاولة قديمة، وهو يدل على الأخلاق الأيدلوجية الفجة أو الباردة كما هو مشهور عنهم، يقول: لا تقرض أبداً ولا تقترض، فإنك إذا اقترضت من رجل جعلته سيدك، وإذا أقرضت رجلاً جعلته عدوك.

والشاهد من الكلام: أن الأصل الذي نقدمه بين يدي الكلام في موضوع البيع بالتقسيط هو أن الاستدانة غير مرغوب فيها، فهناك مخاطر شديدة في التوسع في أمر الاستدانة، والبيع بالتقسيط هو صورة من صور الاستدانة، فينبغي للإنسان ألا يستدين، وألا يشتري بالتقسيط إلا لعذر قوي في ذلك.

وسنعتمد في تلخيص هذا البحث إن شاء الله تعالى على بعض البحوث أهمها: بحث الدكتور محمد عقلة الإبراهيم : (حكم بيع التقسيط في الشريعة والقانون)، وليس لنا شأن بالقانون، ولا يهمنا منه شيء، والبحث الآخر للدكتور رفيق يونس المصري وهو: (بيع التقسيط تحليل فقهي واقتصادي).

وهناك أيضاً رسالة اسمها (القول الفصل) لفضيلة الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق حفظه الله! وهناك مراجع أخرى تمس هذا الموضوع.

ولا شك أنّ الناس قد عرفوا كثيراً من أنواع البيوع في الماضي، ومنها ما يعرف ببيوع الأجل وسنفصل الكلام فيها، ومعنى بيوع الأجل: أن يكون أحد العوضين إما المال أو السلعة مؤخراً عن مجلس العقد، وبما أن الإسلام هو دين اليسر، ودين السماحة، ورفع الحرج، رأى أن الحاجة تمس إلى وجود استثناء في القاعدة العامة، وصولاً للغاية المثلى، فأجاز الإسلام تأخير المثمن أو الثمن عن مجلس العقد، والثمن هو الذي يقسط ويؤجل، وقد يكون تأخيره دفعة واحدة، وإذا قسَّط فهو المسمى بيع التقسيط.

وقد شاع هذا النوع في زماننا شيوعاً كثيراً، وشمل من حيث السلع دقيقها وجليلها؛ لما في هذا النوع من البيوع من مصالح لكل من البائع والمشتري، ولما كان تأجيل الثمن عن زمان العقد يرافقه زيادة في الثمن تعويضاً للبائع عن تأخير قبضه، وحرمانه من استثماره، فإسهاماً من المشتري في تخفيف هذه الآثار مع ما له من نعمة توفير الحصول على ما يحتاجه من السلعة رغم ضيق يده زاده في الثمن.

ولا يزال هذا النوع من البيع مثار بحث وجدل بين أهل العلم من حيث مشروعيته، نظراً لما فيه من الزيادة في الثمن، فربما اشتبهت على بعض الناس بالربا، وصورة هذا البيع: أن يقول البائع: أبيع لك السلعة عاجلاً بكذا، وآجلاً بزمن كذا، بزيادة مقدارها كذا، فلا شك أن الحاجة تمس إلى ذلك، فهنا نفرد هذه المسألة بمثل هذا البحث، نفصل الكلام فيها؛ حتى نكون على بينة من أمرنا، خاصة وأن الأسئلة قد كثرت جداً حول هذا الموضوع، وكانت الأجوبة المختصرة ما تقنع كثيراً من الإخوة، فنقف هذه الوقفة مع هذه المسألة.

لابد من مقدمة تتعلق بأنواع البيوع، فالبيع على ثلاثة أنواع: بيع معجَّل البدلَين، أي: الفلوس والسلعة، وهو البيع المعروف الذي يحصل في الأسواق، فتدفع الفلوس في الحال وتستلم السلعة في الحال، فهذا هو أول نوع من أنواع البيوع.

النوع الثاني: بيع مؤجل البدلين، أي: أن الفلوس والسلعة مؤجلان، وهذا هو بيع الكالئ بالكالئ.

النوع الثالث -وهذا الذي يتعلق ببحثنا اليوم- وهو: بيع يكون فيه أحد البدلين معجلاً والآخر مؤجلاً، وهذا النوع من البيع جائز أباحته الشريعة.

وقولنا: إن أحد البدلين معجّل والآخر مؤجل يحتمل أن يكون الثمن معجلاً والسلعة مؤجلة، وهذا يسمى بيع السلَم أو السلَف.

وهذا البيع مستثنى من القاعدة الأصلية التي جاءت في حديث: (ولا تبع ما ليس عندك) فهو استثناء من عموم هذا الحديث بالنص، وقد ثبت أن أهل المدينة كانوا يُسلفون في بعض هذه السلع.

ويحتمل هذا النوع أن يكون المعجل هو المبيع والمؤجل هو الثمن.

إذاً: فأنواع البيوع ثلاثة: معجل البدلين، ومؤجل البدلين، وهو بيع الكالئ بالكالئ، وهو منهي عنه.

والثالث: أن يكون أحدهما معجل والآخر مؤجل، وهذا على صورتين؛ إما أن يعجل الثمن ويؤجل المبيع، وهو بيع السلَم أو السلف، أو أن يعجل المبيع ويؤجل الثمن، وهو بيع النسيئة،: والنسيء هو التأجيل.

مسألة: هل بيع التقسيط مستحب أم مباح؟

استدل البعض بحديث ضعيف جداً مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة فيهن البركة، ومنها: البيع إلى أجل)، وهذا لم يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، إلّا أن البيع إلى أجل يكون مستحباً إذا قُصد به الإرفاق بالمشتري، فالبائع إذا رأى أن الرجل لا يستطيع أن يدفع المبلغ كله مرة واحدة حالاً فيؤجَّل له السداد كنوع من الإرفاق به، فيؤجل له سداد هذا المبلغ على أقساط إلى أجل أبعد دون أن يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل، فهذا يكون مستحباً، وهو نوع من الإحسان.

وأما إذا كان البيع إلى أجل لا يقصد منه الإرفاق، بل هو مجرد المعاوضة الكاملة، فإذا كان ثمن السلعة مثلاً: مائة حالاً فإنه يزيد في ثمنها إلى أجل عشرة أو عشرين، فيصير سعرها مائة وعشرين مثلاً إلى هذا الأجل، باعتبار أن الأجل له حصة من الثمن، فسنفصل الكلام في هذا فيما بعد.

وفي هذه الحالة يكون هذا العقد عقد معاوضة لا إرفاق، فهذا الرجل يتعامل معاملة مادية، فهو يريد قيمة الزمن الزائد.

فإذا كان البيع إلى أجل بهذه الصورة، أي: أنه لا يقصد به الإرفاق، بل المقصود به المعاوضة الكاملة، حيث يزاد في الثمن لأجل الأجل، أو تطلب كفالة، أو رهن، أو يؤتمن فيه المليء فقط، فهذا البيع يكون بيعاً مباحاً فقط، ويكون مستحباً في صور، منها -كما ذكرنا-: ألّا يزيد عليه في الثمن لأجل الأجل إذا كان محتاجاً، أو فقيراً، ومنها: أن يؤتمن على سداد الثمن دون أن يضيق عليه بطلب رهن أو كفالة مثلاً.

وأما عن آداب بيع التقسيط، فله آداب، منها:

أولاً: أن بعض الناس لا يبيع إلا بالتقسيط، فكل البضاعة التي عنده لا يبيعها إلا بالتقسيط، ولا يخير المشتري بين البيع الآجل والبيع العاجل، والعلماء حينما ناقشوا مسألة بيع العينة وصوره ذكروا أن للعينة صوراً منها:

أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا نسيئة، وقد نص الإمام أحمد على كراهية ذلك، فقال العينة: أن يكون عنده المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة، فإن باع بنسيئة ونقد فلا بأس، أي: أن المكروه هو أن يقتصر فقط على البيع بالنسيئة، وأما إذا باع بنسيئة وبنقد ففي هذه الحالة يقول الإمام أحمد : لا بأس بذلك.

وقال أيضاً: أكره للرجل ألّا يكون له تجارة غير العينة، فلا يبيع بنقد، أي: أنه يمتنع عن البيع بالنقد، ويكون كل بيعه بالأجل.

وقد علل ابن تيمية رحمه الله تعالى ذلك بأنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، ومعنى كلامه: إن أغلب الناس الذين يشترون إلى أجل مع ارتفاع السعر إنما يلجئون إلى هذا النوع لأنهم لا يستطيعون أن يسددوا ذلك المال نقداً، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وكأنه يستغل حاجة هؤلاء الناس.

أما إذا يقول ابن تيمية إنه يدخل في بيع المضطر، فإن غالب من يشتري بنسيئة إنما يكون لتعذر النقد عليه، فإذا كان الرجل لا يبيع إلا بنسيئة كان ربحه على أهل الضرورة والحاجة، وإذا باع بنقد ونسيئة كان تاجراً من التجار.

لكن إذا كان التاجر يقصد من البيع بالنسيئة بيع العينة أو بيع الآجال فهذا نوع من الحيل الربوية، ولا شك في كراهية هذا، بل هو حرام ديناً وقضاءً، لكن إذا كان التاجر يبيع بالأجل دون أن يتخذ هذا ذريعة إلى بيوع الآجال أو بيوع العينة، فهذا مباح؛ حتى ولو لم يبع إلا بالأجل والتقسيط؛ لأن بيع الأجل جائز وبيع العينة حرام كما سنبين إن شاء الله تعالى.

فأفضل أحوال البائع أنه يبيع للناس -إذا كان إلى أجل- بنفس سعر الحال، وهذا يدخل تحت قول النبي عليه الصلاة والسلام: (رحم الله عبداً سمحاً إذا باع! سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى) كما رواه البخاري .

وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (من كان هيناً ليناً قريباً حرمه الله على النار)، إذاً: فمن أراد أن ينال هذا الثواب العظيم، فليبع بالتقسيط وبسعر النقد؛ حتى لا يستثمر حاجة الناس، فهذه هي أكمل الأحوال، وفي نفس الوقت فنحن نحرض المشتري أنه لا يستدين، وأنه يحرص دوماً على أن يشتري نقداً ولا يشغل ذمته بهذه الحقوق وهذه الأموال.

الآن سنتكم عن صلب البحث، وسنذكر مظان مسألة البيع بالتقسيط وأصولها، وقد ذكرنا من قبل: أن مجرد بيع الأجل مباح وليس فيه بأس، ولكن المشكلة تكمن في زيادة سعر السلعة لأجل الأجل. لم يكن اصطلاح البيع بالتقسيط معروفاً عند علماء الشريعة والفقه الإسلامي قبل القرن الحالي، حيث عرف وشاع هذا النوع من البيع، ومن البدهي -والأمر كذلك- ألا يكون للمصطلح هذا وجود في كتب الحديث النبوي وهي مصدر رئيس يستقى منها الفقه وأحكامه، ولما كان الأمر كذلك اقتضى أن نبين المواطن والمظان التي فيها جذور هذه المسألة وأصولها من مصادر الحديث والفقه، فنلخص فيما يلي كلام الدكتور محمد عقلة الإبراهيم في هذا الباب، فيقول: ففي كتب الحديث نجد أصل هذا النوع من البيع قد ورد في مواطن في السنة يمكن من خلالها أن نفهم لفظ الشرع لهذا النوع من البيع، فلم نبحث عنه تحت اسم البيع بالتقسيط لأن هذا المصطلح حادث، فأما الأحاديث التي لها علاقة بمضمون هذا البيع فأولها حديث: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة). النوع الثاني: حديث: (نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة) بألفاظه المختلفة. النوع الثالث: الأحاديث التي تتضمن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرطين في بيع، أو بيع وشرط، أو بيع وسلم، فقد ورد في شروح هذه الأحاديث ما يفيد أن من الصور التي تعنيها هذه الأحاديث أن يبيع الرجل السلعة نقداً بكذا ونسيئة بكذا، أي: مع الزيادة، وهذا المعنى يعتبر أصل مسألة بيع التقسيط. وأما في كتب الفقه الإسلامي فنجد أصل مسألة بيع التقسيط تحت عنوان: البيوع الفاسدة، أو البيوع المنهي عنها، في كتب البيوع، أو باب: بيوع الآجال، فقد تناولت تلك الكتب في عداد حديثها عن البيوع المنهي عنها البيوعَ التي ذكرت آنفاً في كتب الحديث، وبيان الفقهاء لمعاني تلك الأحاديث، والتي تتضمن الصورة التي مرت، وهي أن يقول البائع للمشتري: هذه السلعة حالاً بكذا ومؤجلاً بكذا. ومن ثَم فإن إعطاء المسألة حقها من الوضوح والجلاء يستلزم الخطوات التالية: أولاً: ذكر الأحاديث الشريفة التي تعتبر أهم مظان مسألة بيع التقسيط، مع تخريجها بألفاظها المختلفة، وبيان درجتها من الصحة. ثانياً: إثبات عبارات أمهات كتب الحديث التي تناولت هذه الأحاديث بالبيان والشرح، وهذا هو المنهج العلمي، فلا ينبغي للإنسان أن يأخذ الحديث من كتب الحديث -حتى لو تبين له أن هذا الحديث صحيح -ثم يذهب يفسره على ما يريده، وهذه الآفة موجودة في بعض طلاب العلم في هذا الزمان، فإنه يأخذ الحديث، ثم يفسره بهواه، وإذا سكت الإنسان عن الخوض في المسائل الخلافية التي لا علم له بها قل الخلاف، وصدق من قال: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف بين الناس. ثالثاً: إيراد عبارات الفقهاء في شرحهم لهذه الأحاديث عند كلامهم في البيوع المنهي عنها. رابعاً: نستخلص علة تحريم هذه البيوع؛ لأن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً، أي: أننا نبحث عن علة التحريم، فإذا انتفت العلة رُفع الحرج، وإذا وجدت العلة حرم. وخلاصة الكلام ونتيجته النهائية هو جواز البيع بالتقسيط بشروط معينة، على أساس مقدمات سنذكرها إن شاء الله تعالى.

المطلب الأول: الأحاديث النبوية المتعلقة بهذه المسألة! الحديث الأول: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة)، وهذا الحديث صححه طائفة من العلماء كـالحاكم في المستدرك، وابن حزم في المحلى وغيرهما. الحديث الثاني: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة). الحديث الثالث: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك).

المطلب الثاني: وهو معنى هذه الأحاديث: هذه الأحاديث لها معان عديدة ذكرتها كتب الحديث والفقه، فبما أن الموضوع متعلق بموضوع بيع التقسيط فسنقتصر فقط على المعنى الذي يتعلق بقضيتنا؛ لأننا لو فصلنا في شرح الأحاديث فسنخرج عن موضوعنا، فسنذكر كلام علماء الحديث في شرح هذه الأحاديث: حديث أبي هريرة : (نهى عن بيعتين في بيعة) يقول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (نهى عن بيعتين في بيعة): وقد مثل بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على إحدى البيعتين. أي: دون أن يحدد له أي البيعتين اشترى، فأما إذا فارقه على إحداهما فلا بأس بذلك، فإذا قال لك: أبيع لك هذا نقداً بعشرة، ونسيئة بعشرين، فقلت له: أنا موافق وقبلت، فهذا إيجاب بالقبول، دون أن يبين أي البيعتين اختار، فهذا العقد عند هذا الحد يكون باطلاً وغير صحيح، وهو منهي عنه؛ لأنها وقعت بيعتان في بيعة واحدة. فالمسألة مسألة عرض، فهو يعرض عليه ويساومه، فإذا اختار أحدهما فليس هناك بيعتان في بيعه، فلو قال مثلاً: اشتريه إلى أجل بعشرين، فهذه بيعة واحده، وإذا قال: اشتريه نقداً بعشرة، فهذه بيعة واحدة. إذاً: فلا يدخل في المنهي عنه إذا اختار إحدى البيعتين؛ لأنها بيعة واحدة، وأما إذا عرض عليه البيعتين فقال المشتري قبلت، فهذا العقد يدخل تحت النهي عن بيعتين في بيعة. قال الشافعي : ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فربط بيعة الدار ببيعة الغلام، ومثل أيضاً أن يقول: أبيعك هذه الأرض بكذا على أن تبيعني هذه السيارة بكذا، فهذه بيعتان في بيعة واحدة، فهذه الصورة تدخل تحت معنى الحديث. فإذا وجب الغلام لي وجب لك داري، وهذه صفقة بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه الصفقة. فما يدري كم هو السعر، وهل هو بيع الآجل أم العاجل، فهذا هو الذي أثر في صحة هذا العقد، وبهذا المعنى فسره صاحب (معالم السنن) وهو الخطابي ، وصاحب (بذل المجهود) وهو السهارنفوري ، وصاحب (عون المعبود) وهو شمس الدين آبادي ، وصاحب (نصب الراية) وهو الزيلعي وصاحب (سبل السلام) وهو الصنعاني ، وصاحب (نيل الأوطار) وهو الشوكاني ، وصاحب (فتح العلام) وهو صديق حسن خان . وجاء في (الموطأ) وشرح الباجي عليه: قال مالك لرجل اشترى من غيره سلعة بمائة نقداً أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه بأحد الثمنين: ذلك مكروه لا ينبغي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهذه بيعتان في بيعة، فيمنع لذلك. وقال النسائي : باب بيعتين في بيعة، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقداً، وبمائتي دينار نسيئة. وبمثله فسره البيهقي . فمما تقدم يتبين لنا بجلاء: أن أكثر المعاني شيوعاً لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشتري ثمنين أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه مقداراً، وهذه الصورة هي الأساس لبيع التقسيط، وسنخلص فيما بعد النهي إلى علة هذا الحكم، هذا ما يتعلق بنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة. الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)، وقد جرت عادة البائع والمشتري أنهما يتساومان في عملية البيع والشراء، فإذا توافقا قال الأول: بعتك بكذا، وقال الثاني: قبلت، فإذا تم صافح أحدهما الآخر؛ تعبيراً عن إمضاء الصفقة، فيبسط يده في يد الآخر. فالنهي عن الصفقتين في صفقة المقصود به نفس معنى بيعتين في بيعة، وهذا الكلام الذي ذكرته في هذا الحديث مبني على تفسير سماك قال: الرجل يبيع الشيء فيقول: هو بنساء بكذا وكذا وهو بنقد بكذا وكذا، فهذا مقارب لما سبق. وقال ابن أبي شيبة : أن يقول الرجل: إن كان نقداً فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا. وأما الحديث الثالث فحديث: (نهى عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، وعن بيع وشرط)، فأما الشرطان في بيع، فقد فسرها صاحب (المنتقى شرح الموطأ) وهو الإمام الباجي بقوله: وهو أن يقول: بعتك هذه السلعة نقداً بكذا وبكذا نسيئة، وبمثله فسره النسائي وغيره. أما (سلف وبيع) فهو: أن يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء وهو التأجيل، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليرجعه إليه حيلة. وعلى أي الأحوال: فما أورده العلماء من تفاسير للأحاديث: (نهى عن بيعتين في بيعة) و(صفقتين في صفقة) و(شرطين في بيع) يظهر أنها تتفق في معنى واحد، أن يبيع الرجل سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر. هذا ما يتعلق بالأحاديث، والكلام عليها. وأما كلام علماء الفقه: ففي الفقه الحنفي يقول صاحب (المبسوط): وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، وبمثل هذا المعنى فسره صاحب (تحفة الفقهاء)، وصاحب (الفتاوى البزازية)، والسندي في حاشيته، وصاحب (فتح القدير)، وهذا شائع في كتب الأحناف. وأما في كتب المالكية فقد جاء في (مختصر خليل) : وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقداً أو أكثر لأجل. وفي الفقه الشافعي يقول الشافعي رحمه الله تعالى في معنى بيعتين في بيعة: وهنا وجهان: أحدهما: أن يقول: بعت هذا العبد بألف نقداً أو بألفين نسيئة، فقد وجب لك بأيهما شئتُ أنا أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف. وفي الفقه الحنبلي يقول صاحب (المغني) بعد ما ذكر حديث أبي هريرة (نهى عن بيعتين في بيعة): مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك، فهذا كله لا يصح. قال ابن قدامة : وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقداً أو بخمسة عشر نسيئة، وهو أيضاً باطل. وكذلك باقي العلماء والمذاهب الأخرى، سواء كانوا من علماء السلف كالصحابة والتابعين، أو من غيرهم فقد جاء عنهم ما يفيد أن كل هذه الأحاديث تعني أن تقول: هي نقداً بكذا ونسيئة بكذا، وقد روي هذا عن علي وابن عباس ، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما نُقل عن الأوزاعي وعطاء والثوري والقاسم بن محمد والشعبي وابن سيرين رحمهم الله تعالى أجمعين، وبهذا المعنى فسر أيضاً داود الظاهري . ويظهر مما تقدم من ذكر أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الشريفة الثلاثة أن هذه الأحاديث تفيد معنيين: الأول -وهو أرجحهما وأكثرهما وروداً عند العلماء-: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا وبمؤجل بكذا، وهذا هو أصل بيع التقسيط. الثاني: أن يقول البائع للمشتري: أبيعك كذا على أن تبيعني أو تؤجرني أو تقرضني كذا.

المطلب الثالث: ما هي علة التحريم في البيوع المذكورة؟ إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، ونهى عن صفقتين في صفقة، ونهى عن شرطين في بيع أو بيع وسلف، فما علة هذا التحريم؟ إنّ المتتبع لعبارات كتب الحديث النبوي وشروحها العديدة يجد أن تحريم البيعتين في بيعة مردُّه إلى جهالة الثمن الذي تم به البيع، فقول البائع: أبيعه لك معجل بعشرة وإلى أجل بعشرين، فيقول المشتري: أنا موافق على أي البيعتين، بدون أن يبين أي البيعتين قد أمضى، فإلى هذا الحد فالبيع غير صحيح، وهو محرم، وهو داخل في بيعتين في بيعة وصفقتين في صفقة، وشرطين في بيع، والعلة هي جهالة الثمن الذي تم به البيع، وهذه الجهالة هي نوع من الغرر الذي يؤثر في صحة العقد. يقول الإمام الترمذي بعد ما ذكر حديث (بيعتين في بيعة): وفسره بعض أهل العلم أن يقول الرجل: أبيعك هذا الثوب نقداً بعشرة ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على أحد البيعين، يعني: وقد جزم وقطع واختار ولا يفارقه على أحد البيعين، فإذا فارقه على أحدهما فلا بأس إذا كان العقدة على أحدهما. فهذا القول يفيد أن علة النهي هي جهل المتعاقدين بالثمن؛ إذ إنه يقبض السلعة ويفارق البائع دون أن يعين ما إذا كان الثمن الذي تم به البيع هو المعجل أو المؤجل، أما إذا انتفت العلة بأن حدد المشتري أيَّ الثمنين اختار لإتمام العقد به فإن العقد يصح؛ لانتفاء الجهالة المفضية إلى المنازعة، وهذه العلة هي التي نص عليها الخطابي والصنعاني والشوكاني وصاحب (بذل المجهود) وصاحب (فتح العلام). وهذه العلة هي أيضاً عند علماء الحديث، وهي أيضاً نفسها عند الفقهاء، فعند فقهاء الأحناف: يقول السرخسي في شأن علة النهي: وإذا اشترى شيئاً إلى أجلين وتفرقا على ذلك لم يجز، وإن ساومه على ذلك ثم قاطعه على أحدهما وأمضى البيع عليه جاز. وقال في موضع آخر بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: فهو فاسد؛ لأنه لم يقاطعه على ثمن معلوم، فإن كانا يتبايعان بينهما ولم يفترقا حتى قاطعه على ثمن معلوم وأتما العقد عليه فهو جائز؛ لأنهما ما افترقا إلا بعد تمام شروط الصحة. فهذا ظاهر في أن علة النهي عن بيعتين في بيعة وما في معناهما: عدم العلم بالثمن الذي تم عليه العقد، مما يعني أنه إذا انتفت العلة المذكورة وعرف الثمن فإن البيع يصح. وعامة فقهاء الأحناف يقولون نفس هذا الكلام. وكذلك فقهاء المالكية، قال الدسوقي : وهو أن يبيع السلعة بتاً -أي: نقداً- بعشرة، أو أكثر لأجل معين، ويأخذها المشتري على السكوت ولم يعين أحد الأمرين، اختاره بعد أخذها، وإنما منع للجهل بالثمن حال البيع، وهناك عبارات أخرى للمالكية بنفس هذا المعنى لا نطيل بذكرها. والمتتبع لعبارات فقهاء المذهب الشافعي يجد أنها تكاد تُطبِق على اعتبار الجهل بالثمن وإبهامه وعدم استقراره هي علة تحريم الأنواع التي نحن بصددها من البيوع، سواء كان ذلك بطريق الصراحة أو الدلالة، فيقول أبو إسحاق الشيرازي بعد بيان معنى بيعتين في بيعة: والبيع باطل؛ لأنه لم يعقد على ثمن بعينه، وهو باطل، أما لو قال: بعتك بألف نقداً وبألفين نسيئة فيصح العقد، وإلى مثل هذا ذهب الشافعي وابن الرفعة . كذلك الفقه الحنبلي يقول العبدلي في شأن العلة: لا يصح ما لم يتفرقا على أحدهما، أي: الثمن المعجل أو المؤجل، وهو المذهب نص عليه الإمام أحمد ، وعليه جمهور أصحابه، وقطع به كثير منهم. يقول ابن القيم : وليس هاهنا ربا، ولا جهالة، ولا غرر، ولا قمار، ولا شيء من المفاسد. يعني: إذا افترقا وقد بيَّن أي البيعتين اختار. يقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا بأس أن يقول في السلعة: هي بنقد بكذا وبنسيئة بكذا، ولكن لا يفترقان إلا عن رضا، وتحديد أي البيعتين قد أمضى. ويقول الأوزاعي : لا بأس بذلك، يعني: بيعتين في بيعة، ولكن لا يفارقه حتى يُباتّه بأحد الثمنين، أي: حتى يقطع بأحد الثمنين. إذاً: خلاصة الكلام: أن علة عدم جواز البيعتين في بيعة -مع تفاوت عبارات العلماء والمحدثين- لا تخرج عن جهل الثمن الذي تم العقد عليه، أو سد ذريعة الربا كما عند المالكية. وعلى هذا الأساس: إذا ارتفعت هذه العلة من بيع التقسيط بحيث يذكر البائع للمشتري ثمنين: أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه، فيختار المشتري واحداً منهما بعينه قبل التفرق من مجلس العقد؛ فإن هذا النوع يكون جائزاً شرعاً.

الواجب على من تبايعا بيعتين في بيعة

ما حكم البيعتين في بيعة؟ لنفرض أن رجلاً بالفعل باع بيعتين في بيعة، وحصلت الصورة المنهي عنها، قال له: أبيع لك ثوبي بكذا وبأجل بأكثر منه بكذا، فقال: قبلت، فما حكم هذا البيع؟ ذهب جمهور الفقهاء من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين إلى أن بيع بيعتين في بيعة باطل أو فاسد، ولم يشذ عن القول ببطلانه إلا نفر من الفقهاء كـطاوس والحسن وحماد بن أبي سليمان . وجاء في (الشرح الكبير): كما فسره مالك والثوري وإسحاق ، وهذا قول أكثر أهل العلم؛ لأنه لم يجزم له ببيع واحد، أشبه ما لو قال: بعتك أحد هذين، ولأن الثمن مجهول، فليس يصح كالبيع بالرقم مجهول. أي: قوله: بعتك أحد هذين تشبه أن يقول له: بعتك بأحد الثمنين، ففيه جهالة، فإذا قال لك مثلاً: بعتك أحد هذين: مثلاً جهاز الكاست ومنبّه، وأنت تقول: قبلت، فهذا لا يجوز؛ لأن فيه جهالة، فأنت لا تعرف ماذا اشتريت، فالسلعة مجهولة، وذلك غرر، ومثلها أن أقول لك: بعتك بأحد هذين السعرين إما آجل بكذا أو عاجل بكذا، ومثل أن يقول لك قائل: أبيع لك هذه السلعة بمبلغ ما، فتقول له: قبلت، فهذا لا يصح؛ لجهالة الثمن، فكذلك ما سبق. إنّ ما تكلمنا عليه آنفاً هو حكم البيعتين في بيعة من حيث الحل والحرمة، والصحة والبطلان، وهنا سؤال وهو: إذا كان هذا البيع حراماً باطلاً فماذا يجب؟ والجواب: أنه يجب فسخه، فلا يترتب عليه أثره، وأما لو هلكت السلعة أو استُهلكت، كأن تكون هذه السلعة طعاماً أو نحوه مما يؤكل، أو استُعمل واستهلك فما الحكم الشرعي في هذه الحالة؟ لقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك في حديث نبوي شريف أخرجه أبو داود في سننه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)وهذا الحديث حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (2326). فمن العلماء من أخذ بظاهر هذا الحديث ورتب على هذه الصورة من البيع أثراً، فقد روي عن الأوزاعي أنه سئل عن معنى بيعتين في بيعة وهو أن يقول: نقداً بكذا ونسيئة بكذا، فقال الأوزاعي : لا بأس بذلك، ولكن لا يفارقه حتى يباته بأحد البيعين، أي: لا يفارقه حتى يجزم بأي البيعتين أمضى، فإن قبض السلعة على ذينك الشرطين فهو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين. أي: يكون بأقل الثمنين وهو بيع النقد، إلى أبعد الأجلين وهو بيع الأجل. وبه قال طاوس ، فقد سئل: إذا قال: بكذا إلى كذا وكذا، وبكذا وكذا إلى كذا وكذا فوقع البيع على هذا، قال: هو بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، يعني: أن من وقع في هذه المخالفة الشرعية وحصل منه هذا البيع دون أن يجزم أو يحدد أي البيعتين أمضى فالحل في ذلك أن يكون البيع بأقل الثمنين إلى أبعد الأجلين، وهذا مأخوذ من الحديث: (من باع بيعتين في بيعة) أي: قد حصل هذا البيع فما الحل؟ (له أوكسهما أو الربا)، أي: أقل ما يمكن أن تكون عليه في هذه الحالة وذلك بأن يكون بأبعد أجل، وبأقل ثمن، فهذا معنى: (فله أوكسهما)، وإن لم يفعل ذلك فإنه يقع في الربا. وقد طعن بعض العلماء في صحة هذا الحديث، وقال بعضهم: على فرض صحته فعنه أجوبة: أولاً: يجاب عما قاله الأوزاعي بما قاله الخطابي: لا أعلم أحداً من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين إلا شيء يحكى عن الأوزاعي ، وهو مذهب فاسد؛ وذلك لما تضمنه هذا العقد من الغرر والجهل. فهنا تعارض بين الحديث المتقدم وبين حديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، فظاهر هذا الحديث أن البيع يمضي، لكن بأوكسهما، أي: بأقل الثمنين. وقال بعض العلماء: يحمل على معنى آخر مثل رجل باع شيئاً إلى أجل، وقال للمشتري: سدد لي مبلغ هذه السلعة خلال شهر مثلاً، فيأتي بعد شهر وعليه مائة جنيه مثلاً، فيقول المشتري بعد الشهر: ليس عندي ما أستطيع أن أسددك الآن، فيقول له البائع: أمد لك شهراً آخر ويكون عندك مائة وعشرون؟ قالوا: فهذا هو المقصود بقوله: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا)، قالوا: فإما أن يؤجَّل له المبلغ الأقل وهو مائة جنيه، أو يطلب منه هذه الزيادة فيكون قد وقع في الربا. وهناك تفسير آخر لهذا الحديث، وهو: أن يسلف رجل رجلاً آخر ديناراً في قفيز بر، والقفيز هو نوع من المكاييل، فأسلفه ذلك إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر، قال له: بعني القفيز الذي لك علي بقفيزين إلى شهرين، فهذا بيع ثاني قبل فسخ البيع الأول، فصار بيعتين في بيعة، فيردان إلى أوكسهما أي: أقلهما من الأصل، فإن تبايعا البيع الثاني قبل فسخ البيع الأول كان منهياً عنه؛ لأنه بيع الدين بالدين أو بيع الكالئ بالكالئ منهي عنه لما فيه من الربا، فهذه صورة أخرى في معنى بيعتين في بيعة. وقال بعض العلماء: إن الحديث من باب بيع الدين بالدين، وهذا قاله ابن الأثير في شرح هذا الحديث، قال: أن يقترض الرجل من الرجل مالاً فيعطيه سلعة إلى أجل، فإذا حل الأجل وطالب بالوفاء قال: بعني تلك السلعة إلى أجل آخر وأزيدك، ولا يجري بينهما تقابض، فكأنه أسلفه ديناراً في صاع بر مثلاً إلى شهر، فلما حل الأجل وطالبه بالبر قال له: بعني الصاع بصاعين إلى شهرين، فهذا بيع ثانٍ، وهو بيعتان في بيعة، فهنا يرد إلى أقلهما وهو الصاع، أي: كأنه باعه دين بدين، وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه. وهناك جواب آخر أجاب به بعض العلماء عن هذا الحديث: (من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا) فقال بعض العلماء: ظاهر هذا الحديث مخالف للمذاهب كلها، إلا أن يقال في معناه: إن من باع شيئاً على أنه بخمسة إن كان ناجزاً وبعشرة إن كان نسيئة، ثم افترقا من غير أن يتعين أحدهما، فهذا البيع فاسد؛ لكونهما افترقا قبل تعيين الثمن، ولأنه صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيعتين في بيعة وكان الحكم فيه الفسخ، إلا إذا استهلك المشتري المبيع أو أكله فلا يجب فيه إلا المثل أو القيمة إذا تعذر المثل، وهو أوثق عادة من الثمن المتعين بينهما في البيعتين معاً حاسبين المثل أو القيمة، المثل أو القيمة لا بد أن يكونا أقل من السعر الذي كان متفقاً عليه في البيعة الثانية؛ لأنه لو أخذ الثمن كان إبقاءً لبيع منهي عنه، فإذا أخذ الثمن ولم يفسخ فقد أربى؛ لكونه عقد عقداً فاسداً، والعقود الفاسدة كلها داخلة في حكم الربا. وخلاصة الأمر في حكم بيعتين في بيعة: أنها من البيوع المنهي عنها ونقصد بيعتين في بيعة فالمقصود بها الصورة التي ذكرناها آنفاً، وهي غير بيع التقسيط، وهي من البيوع المحكوم ببطلانها، وتستحق الفسخ إذا وقعت بالصورة التي لا يُعلم فيها الثمن، وهذا رأي عامة الفقهاء. وأما من حيث حكمها: فإذا حدث قبض بموجبها فجمهور الفقهاء يرون أن البيع الباطل لا ينتج أثراً، وأنه لا يصح الأخذ بظاهر حديث أبي داود ؛ لأن العمل بظاهره يفيد أن البيع صحيح، والبيع الصحيح هو الذي ينتج آثاراً، ويرتب حقوقاً، إضافة إلى المطاعن التي ذكرناها في صحته أولاً من جهة، أو في صلاحيته للاحتجاج به على المقصود من جهة أخرى، فقد التمسوا له التأويلات على فرض صحته؛ انسجاماً مع الحقيقة الشرعية التي تأبى أن يترتب على العقد الباطل آثاراً، وتمكين للبائع من الوصول إلى حقه الذي ذهب بتعذر استرداد السلعة التي باعها بموجب عقد البيعتين في بيعة المنهي عنه شرعاً حتى يرد إلى البائع حقه، أي: إذا قلنا لهذا البائع: هذا البيع باطل ولابد أن يفسخ، فإنه سيقول: أرجعوا لي سلعتي التي أخذتموها، ويكون المشتري قد استهلكها، أو أتلفها، أو احترقت عنده، أو غير ذلك فهل يضيع حق البائع؟ لا، بل نُعمِل هذا الحديث كمخرج، (من باع بيعتين في بيعة) أي: واستهلكت السلعة، أو تلفت في يدي المشتري الذي قصّر في حفظها، فما الحل؟ (فله أوكسهما) أي: برد السلعة لصاحبها، أو قيمتها عند تلفها.