شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الغسل وحكم الجنب - حديث 124-127


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18] .

أيها الإخوة! اليوم نبدأ بحديث علي رضي الله عنه وهو حديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم القرآن ما لم يكن جنباً ) .

تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه

والحديث قال فيه المصنف رحمه الله: إنه رواه الخمسة، وأن اللفظ الذي ساقه للترمذي، وذكر أن الترمذي صححه وأن ابن حبان حسنه.

والحديث رواه أيضاً غير الخمسة: ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، والبزار، والدارقطني وغيرهم، وصححه جمع من أهل العلم، فممن صححه الترمذي، قال: هذا حديث حسن صحيح، كما أشار إليه المصنف. وممن صححه أيضاً الحاكم، فإنه رواه في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وكذلك صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والبغوي في شرح السنة، وابن السكن، وعبد الحق الإشبيلي.

وحسنه آخرون، فممن حسنه ابن حبان، يعني صححه أو حسنه؛ لأنه ساق في صحيحه الصحيح والحسن، والأولى أن نقتصر على ما ذكر المصنف أنه حسنه، وكذلك حسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فإنه قال بعدما ذكر الكلام فيه: والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة.

وكذلك صححه من المعاصرين الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وذكر ابن خزيمة عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس ماله. وهذا يحتمل أن يكون من شعبة توثيقاً أو تصحيحاً لهذا الحديث، ويحتمل غير ذلك، فليس نصاً في تصحيحه.

وبالمقابل ضعفه آخرون، فممن ضعف الحديث الشافعي، فإنه قال: لا يثبت أهل الحديث مثله، أو قال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه. وقد نقل كلمته هذه (لم يكن أهل الحديث يثبتونه) البيهقي في سننه، وبين أن سبب تضعيف الشافعي للحديث: أن مداره على عبد الله بن سلمة بكسر اللام الكوفي، وقد كبر وأُنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وقد حدث بهذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة .

إذاً: البيهقي هو الآخر يوافق الشافعي على تضعيف هذا الحديث.

وممن ضعفه أيضاً النووي، بل نسب النووي تضعيف هذا الحديث للأكثرين، قال: الأكثرون خالفوا الترمذي في تصحيح هذا الحديث، فهو يرى أن أكثر أهل العلم قد ضعفوه. وكذلك ممن ضعفه من المعاصرين الشيخ الألباني .

وحجة من ضعفوا هذا الحديث كما ذكرت: أن في إسناده عبد الله بن سلمة وهو قد كبر وتغير، تغير بأخرة وأصبح ينكر بعض حديثه، وهذا من الأحاديث التي رواها بعدما كبر، يدل على ذلك قول شعبة السابق الذي نقله البيهقي أنه قد حدث بهذا الحديث بعدما كبر.

وكذلك يدل عليه أن راوي هذا الحديث عنه -وهو عمر بن مرة -قال- كما ذكر البخاري -: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، يعني: نعرف بعض الحديث وننكر بعضه. فهذا يبين أنه روى هذا الحديث بعدما كبر، وبذلك يتبين أن الحجة مع من ضعف هذا الحديث، ولم يصب الإمام الشوكاني حين استدرك على من ضعفوه وصححه وقواه.

هذا فيما يتعلق بعلة الحديث.

حكم قراءة القرآن للجنب

أما من حيث الموضوع الفقهي المتعلق بالحديث فهو موضوع: حكم قراءة القرآن للجنب، وموضوع حكم قراءة القرآن للجنب هو مناسبة ذكره في باب الغسل وحكم الجنب.

وهذا الحديث دليل لمن قالوا بتحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأنهم قالوا: إن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن مع حرصه على ذلك، وأنه موكل بتبليغه، دليل على أنه لا يجوز له أن يقرأ وهو جنب. وهذا الاستدلال يمكن أن يناقش من جانبين:

أولاً: ضعف الحديث كما سبق؛ لأننا نقول: أثبت الحجر ثم انقش، وما دام لم يثبت الحديث فلا يثبت الاستدلال به على حكم شرعي.

ثانياً: على فرض ثبوت الحديث فإنه لا يدل على تحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأنه مجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمتنع عن قراءة القرآن بسبب الجنابة، أما كون هذا الأمر محرماً أو مكروهاً فالحديث ليس فيه نص على ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا البخاري : ( أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فلم يرد عليه السلام ).

وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي الجهم أو أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل فسلم عليه رجل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، حتى أتى الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام ) .

وجاء في رواية أنه قال: ( كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهارة )، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك الذكر مطلقاً في هذه الأحاديث لأنه على غير طهارة، لم يأخذ منه أحد من أهل العلم أنه يحرم ذكر الله لغير المتوضئ، بل أجمعوا على أنه يجوز للإنسان أن يذكر الله، بل وأن يقرأ القرآن عن ظهر قلب إذا لم يكن عليه حدث أكبر.

فيمكن أن يقال في حديث علي هذا: إن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن على سبيل الكراهية لذلك لا على سبيل التحريم، وبذلك يتبين أن الاستدلال بهذا الحديث على تحريم قراءة القرآن على الجنب ليس بقوي، لكن لم ينفرد هذا الحديث بهذه الدلالة، بل استدل القائلون بتحريم قراءة القرآن على الجنب وهم جماهير أهل العلم كما سلف في حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كل أحيانه )، في باب نواقض الوضوء، أن هذا رأي الجماهير من أهل العلم أقول: لم ينفرد هذا الحديث بهذه الدلالة، بل استدلوا بأحاديث أخرى غيره تدل على منع الجنب من قراءة القرآن.

من الأدلة حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي رواه الدارقطني وغيره، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : رويناه من وجوه صحاح: ( أن امرأته وجدته مع جاريته فهمت به وذهبت وأتت بالسكين كأنها تريد أن تضربه بها، فقال لها: لا تعجلي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نقرأ القرآن ونحن جنب، وإنني سأقرأ عليكِ شيئاً من القرآن، فقرأ عليها شيئاً من القرآن، هذه رواية، وفي رواية أخرى: أنه قرأ عليها أبياتاً من الشعر:

شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا

فألقت بالسكين وسكتت عنه، فأخبر عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام )، ووجه الدلالة من هذا الحديث:

أولاً: أن الحديث يدل على أن هذا الأمر كان مشتهراً عندهم ومعروف في مجتمعهم، فكان يعرفه هو، وتعرفه زوجته، ويعرفه غيرهم.

وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ولم ينكر عليه، ولم يقل له: لا يجوز لك أن تقرأ القرآن وأنت جنب. وهذا الحديث فيه ضعف وانقطاع.

وهناك أدلة أخرى أيضاً لهم غير حديث عبد الله بن رواحة، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، والحديث رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، فهذا الحديث أيضاً ضعيف.

ومن أدلتهم أيضاً ما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى عن أبي الغريف الهمداني بالغين وآخره الفاء، عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، أما الجنب فلا ولا آية ) يعني: لا يقرأ ولا آية. والحديث كما ذكرت رواه أحمد وأبو يعلى، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون. ولعله والله أعلم حين يقول: موثقون يعني: وثقهم أبو حاتم بن حبان، وابن حبان من المشهورين بالتسامح في التوثيق، فإنه وثق جماعة من المجهولين الذين انفرد هو بتوثيقهم، وأبو الغريف هذا الذي في إسناد الحديث لم يوثقه إلا ابن حبان، وضعفه غيره كـأبي حاتم الرازي، وبناء عليه فالحديث ضعيف.

وقد رواه الدارقطني موقوفاً على علي: (أن علياً رضي الله عنه خرج فقرأ عليهم شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية)، وصحح الدارقطني الموقوف على علي .

فهذه أربعة أدلة تدل على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ شيئاً من القرآن، وإذا نظرنا في هذه الأدلة نلاحظ أنها كلها ضعيفة، وإذا كانت جميع الأدلة ضعيفة فهل يثبت الحكم المبني عليها وهو تحريم قراءة القرآن على الجنب؟ هل يثبت الحكم أو لا يثبت؟

الأحاديث الأربعة كلها اشتركت في الدلالة على أمر، وهو أن الجنب لا يقرأ القرآن على تفاوت في الدلالة، فمثلاً حديث ابن عمر صريح في أنه لا يجوز: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، وكذلك حديث علي الأخير حديث أبي الغريف عن علي، ومثله حديث ابن رواحة، أما حديث الباب فدلالته محتملة كما ذكرت، ليس صريحاً في الدلالة على المنع، فنقول: إن مجموع هذه الأدلة الأربعة يدل على قضية مشتركة وهي منع الجنب من قراءة القرآن، وهذا القدر اتفقت هذه الأدلة عليه، فيمكن أن يقال بثبوته، وإن كان كل دليل على انفراده ضعيفاً إلا أن مجموع هذه الأدلة يثبت هذه القضية، لكن الأمور الأخرى الموجودة في هذه الأحاديث لا تثبت إلا بدليل آخر.

مثلاً تحريم قراءة القرآن على الحائض نقول: نحتاج إلى أدلة أخرى تقوي الحديث الوارد فيه؛ لأنه ضعيف، ولم يأت أدلة أخرى، فيبقى الأصل على عدم المنع منه، لكن بالنسبة للجنب جاءت أدلة كثيرة تدل على المنع، فذهب جماهير أهل العلم إلى ذلك، وهو الذي رجحته حين بحثت هذه المسألة في الموضع الذي سبق أن أشرت إليه في الحديث رقم أربع وثمانين.

فالذي أراه أن قراءة القرآن للجنب محرم، فلا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن؛ لأن هذه الأدلة الأربعة بمجموعها تدل على ثبوت هذا الحكم، وإن كان كل دليل منها على انفراد ضعيفاً، وقد ذكرت هذا في الموضع السابق، ولا نقول: إنها تعتضد؛ لأن الاعتضاد يلزم أن يكون الحديثان يشتركان في كل شيء، يعني: نحن إذا قلنا مثلاً: إن هذا الحديث اعتضد بذاك، معناه: أن كل المسائل الموجودة في الحديث أصبحت مقبولة، يعني: مثلاً لو قلنا: حديث ابن عمر : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) ضعيف بنفسه؛ لكنه حسن لغيره، في الأحاديث الأخرى يعترض علينا بأن حديث ابن عمر انفرد بمسألة، وهي أن الحائض لا تقرأ القرآن، وأنتم رجحتم فيما سبق أنه يجوز لها أن تقرأ، فنحتاج لأن نقول بمنع الحائض من قراءة القرآن لأحاديث أخرى أيضاً تشهد لهم، إنما المسألة المشتركة هي منع الجنب من قراءة القرآن موجودة في الأحاديث الأربعة كلها.

والحديث قال فيه المصنف رحمه الله: إنه رواه الخمسة، وأن اللفظ الذي ساقه للترمذي، وذكر أن الترمذي صححه وأن ابن حبان حسنه.

والحديث رواه أيضاً غير الخمسة: ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، والبزار، والدارقطني وغيرهم، وصححه جمع من أهل العلم، فممن صححه الترمذي، قال: هذا حديث حسن صحيح، كما أشار إليه المصنف. وممن صححه أيضاً الحاكم، فإنه رواه في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وكذلك صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والبغوي في شرح السنة، وابن السكن، وعبد الحق الإشبيلي.

وحسنه آخرون، فممن حسنه ابن حبان، يعني صححه أو حسنه؛ لأنه ساق في صحيحه الصحيح والحسن، والأولى أن نقتصر على ما ذكر المصنف أنه حسنه، وكذلك حسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فإنه قال بعدما ذكر الكلام فيه: والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة.

وكذلك صححه من المعاصرين الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وذكر ابن خزيمة عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس ماله. وهذا يحتمل أن يكون من شعبة توثيقاً أو تصحيحاً لهذا الحديث، ويحتمل غير ذلك، فليس نصاً في تصحيحه.

وبالمقابل ضعفه آخرون، فممن ضعف الحديث الشافعي، فإنه قال: لا يثبت أهل الحديث مثله، أو قال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه. وقد نقل كلمته هذه (لم يكن أهل الحديث يثبتونه) البيهقي في سننه، وبين أن سبب تضعيف الشافعي للحديث: أن مداره على عبد الله بن سلمة بكسر اللام الكوفي، وقد كبر وأُنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وقد حدث بهذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة .

إذاً: البيهقي هو الآخر يوافق الشافعي على تضعيف هذا الحديث.

وممن ضعفه أيضاً النووي، بل نسب النووي تضعيف هذا الحديث للأكثرين، قال: الأكثرون خالفوا الترمذي في تصحيح هذا الحديث، فهو يرى أن أكثر أهل العلم قد ضعفوه. وكذلك ممن ضعفه من المعاصرين الشيخ الألباني .

وحجة من ضعفوا هذا الحديث كما ذكرت: أن في إسناده عبد الله بن سلمة وهو قد كبر وتغير، تغير بأخرة وأصبح ينكر بعض حديثه، وهذا من الأحاديث التي رواها بعدما كبر، يدل على ذلك قول شعبة السابق الذي نقله البيهقي أنه قد حدث بهذا الحديث بعدما كبر.

وكذلك يدل عليه أن راوي هذا الحديث عنه -وهو عمر بن مرة -قال- كما ذكر البخاري -: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، يعني: نعرف بعض الحديث وننكر بعضه. فهذا يبين أنه روى هذا الحديث بعدما كبر، وبذلك يتبين أن الحجة مع من ضعف هذا الحديث، ولم يصب الإمام الشوكاني حين استدرك على من ضعفوه وصححه وقواه.

هذا فيما يتعلق بعلة الحديث.

أما من حيث الموضوع الفقهي المتعلق بالحديث فهو موضوع: حكم قراءة القرآن للجنب، وموضوع حكم قراءة القرآن للجنب هو مناسبة ذكره في باب الغسل وحكم الجنب.

وهذا الحديث دليل لمن قالوا بتحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأنهم قالوا: إن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن مع حرصه على ذلك، وأنه موكل بتبليغه، دليل على أنه لا يجوز له أن يقرأ وهو جنب. وهذا الاستدلال يمكن أن يناقش من جانبين:

أولاً: ضعف الحديث كما سبق؛ لأننا نقول: أثبت الحجر ثم انقش، وما دام لم يثبت الحديث فلا يثبت الاستدلال به على حكم شرعي.

ثانياً: على فرض ثبوت الحديث فإنه لا يدل على تحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأنه مجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمتنع عن قراءة القرآن بسبب الجنابة، أما كون هذا الأمر محرماً أو مكروهاً فالحديث ليس فيه نص على ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا البخاري : ( أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فلم يرد عليه السلام ).

وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي الجهم أو أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل فسلم عليه رجل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، حتى أتى الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام ) .

وجاء في رواية أنه قال: ( كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهارة )، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك الذكر مطلقاً في هذه الأحاديث لأنه على غير طهارة، لم يأخذ منه أحد من أهل العلم أنه يحرم ذكر الله لغير المتوضئ، بل أجمعوا على أنه يجوز للإنسان أن يذكر الله، بل وأن يقرأ القرآن عن ظهر قلب إذا لم يكن عليه حدث أكبر.

فيمكن أن يقال في حديث علي هذا: إن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن على سبيل الكراهية لذلك لا على سبيل التحريم، وبذلك يتبين أن الاستدلال بهذا الحديث على تحريم قراءة القرآن على الجنب ليس بقوي، لكن لم ينفرد هذا الحديث بهذه الدلالة، بل استدل القائلون بتحريم قراءة القرآن على الجنب وهم جماهير أهل العلم كما سلف في حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كل أحيانه )، في باب نواقض الوضوء، أن هذا رأي الجماهير من أهل العلم أقول: لم ينفرد هذا الحديث بهذه الدلالة، بل استدلوا بأحاديث أخرى غيره تدل على منع الجنب من قراءة القرآن.

من الأدلة حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي رواه الدارقطني وغيره، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : رويناه من وجوه صحاح: ( أن امرأته وجدته مع جاريته فهمت به وذهبت وأتت بالسكين كأنها تريد أن تضربه بها، فقال لها: لا تعجلي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نقرأ القرآن ونحن جنب، وإنني سأقرأ عليكِ شيئاً من القرآن، فقرأ عليها شيئاً من القرآن، هذه رواية، وفي رواية أخرى: أنه قرأ عليها أبياتاً من الشعر:

شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا

وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا

فألقت بالسكين وسكتت عنه، فأخبر عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام )، ووجه الدلالة من هذا الحديث:

أولاً: أن الحديث يدل على أن هذا الأمر كان مشتهراً عندهم ومعروف في مجتمعهم، فكان يعرفه هو، وتعرفه زوجته، ويعرفه غيرهم.

وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ولم ينكر عليه، ولم يقل له: لا يجوز لك أن تقرأ القرآن وأنت جنب. وهذا الحديث فيه ضعف وانقطاع.

وهناك أدلة أخرى أيضاً لهم غير حديث عبد الله بن رواحة، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، والحديث رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، فهذا الحديث أيضاً ضعيف.

ومن أدلتهم أيضاً ما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى عن أبي الغريف الهمداني بالغين وآخره الفاء، عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، أما الجنب فلا ولا آية ) يعني: لا يقرأ ولا آية. والحديث كما ذكرت رواه أحمد وأبو يعلى، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون. ولعله والله أعلم حين يقول: موثقون يعني: وثقهم أبو حاتم بن حبان، وابن حبان من المشهورين بالتسامح في التوثيق، فإنه وثق جماعة من المجهولين الذين انفرد هو بتوثيقهم، وأبو الغريف هذا الذي في إسناد الحديث لم يوثقه إلا ابن حبان، وضعفه غيره كـأبي حاتم الرازي، وبناء عليه فالحديث ضعيف.

وقد رواه الدارقطني موقوفاً على علي: (أن علياً رضي الله عنه خرج فقرأ عليهم شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية)، وصحح الدارقطني الموقوف على علي .

فهذه أربعة أدلة تدل على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ شيئاً من القرآن، وإذا نظرنا في هذه الأدلة نلاحظ أنها كلها ضعيفة، وإذا كانت جميع الأدلة ضعيفة فهل يثبت الحكم المبني عليها وهو تحريم قراءة القرآن على الجنب؟ هل يثبت الحكم أو لا يثبت؟

الأحاديث الأربعة كلها اشتركت في الدلالة على أمر، وهو أن الجنب لا يقرأ القرآن على تفاوت في الدلالة، فمثلاً حديث ابن عمر صريح في أنه لا يجوز: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، وكذلك حديث علي الأخير حديث أبي الغريف عن علي، ومثله حديث ابن رواحة، أما حديث الباب فدلالته محتملة كما ذكرت، ليس صريحاً في الدلالة على المنع، فنقول: إن مجموع هذه الأدلة الأربعة يدل على قضية مشتركة وهي منع الجنب من قراءة القرآن، وهذا القدر اتفقت هذه الأدلة عليه، فيمكن أن يقال بثبوته، وإن كان كل دليل على انفراده ضعيفاً إلا أن مجموع هذه الأدلة يثبت هذه القضية، لكن الأمور الأخرى الموجودة في هذه الأحاديث لا تثبت إلا بدليل آخر.

مثلاً تحريم قراءة القرآن على الحائض نقول: نحتاج إلى أدلة أخرى تقوي الحديث الوارد فيه؛ لأنه ضعيف، ولم يأت أدلة أخرى، فيبقى الأصل على عدم المنع منه، لكن بالنسبة للجنب جاءت أدلة كثيرة تدل على المنع، فذهب جماهير أهل العلم إلى ذلك، وهو الذي رجحته حين بحثت هذه المسألة في الموضع الذي سبق أن أشرت إليه في الحديث رقم أربع وثمانين.

فالذي أراه أن قراءة القرآن للجنب محرم، فلا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن؛ لأن هذه الأدلة الأربعة بمجموعها تدل على ثبوت هذا الحكم، وإن كان كل دليل منها على انفراد ضعيفاً، وقد ذكرت هذا في الموضع السابق، ولا نقول: إنها تعتضد؛ لأن الاعتضاد يلزم أن يكون الحديثان يشتركان في كل شيء، يعني: نحن إذا قلنا مثلاً: إن هذا الحديث اعتضد بذاك، معناه: أن كل المسائل الموجودة في الحديث أصبحت مقبولة، يعني: مثلاً لو قلنا: حديث ابن عمر : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) ضعيف بنفسه؛ لكنه حسن لغيره، في الأحاديث الأخرى يعترض علينا بأن حديث ابن عمر انفرد بمسألة، وهي أن الحائض لا تقرأ القرآن، وأنتم رجحتم فيما سبق أنه يجوز لها أن تقرأ، فنحتاج لأن نقول بمنع الحائض من قراءة القرآن لأحاديث أخرى أيضاً تشهد لهم، إنما المسألة المشتركة هي منع الجنب من قراءة القرآن موجودة في الأحاديث الأربعة كلها.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 4784 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 4394 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 4213 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 4095 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 4047 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 4021 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 3974 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 3917 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 3900 استماع
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 3879 استماع