مقتطفات الدعوة وأهدافها


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى، ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) .

هذا الحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

قوله صلى الله عليه وسلم: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى) المثل المراد به هنا: الصفة العجيبة، وليس المراد به القول السائر.

والهدى: هو الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والمراد بالعلم هنا: معرفة الأدلة الشرعية لا الفروع المذهبية.

فقوله عليه الصلاة والسلام: (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم) الهدى المذكور فيه هو الطريق الذي يدل على المقصود وهو الجنة، والعلم المقصود به علم الوحيين.

وقوله: (كمثل غيث أصاب أرضاً) أي: كمثل مطر أصاب أرضاً (فكان منها طائفة طيبة) فهذه الأرض أنواع منها طائفة طيبة وهي أفضلها (قبلت الماء) أي: قبلت هذا الماء وشربته وارتوت به (وأنبتت الكلأ والعشب الكثير) الكلأ: هو النبت يابساً كان أو رطباً، فإنه يسمى بالكلأ، أما العشب فيختص بالنبت الرطب، فعطف العشب على الكلأ من باب عطف الخاص على العام.

قوله: (وكان منها أجادب) هذا هو القسم الثاني من هذه الأرض و(أجادب) جمع جدباء، وهي الأرض الصلبة التي تمسك الماء فلا تشربه سريعاً، وقيل: هي الأرض التي لا نبات بها. مأخوذة من الجدب وهو القحط.

قال: (وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس) لأنها أمسكت الماء، لكنها لم تنبت شيئاً (فشربوا منها وسقوا وزرعوا) أي: بما أخذوه منها من الماء.

قوله: (وأصاب طائفة أخرى منها) هذا هو القسم الثالث من الأرض، وهو أردؤها، قال صلى الله عليه وسلم: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ) والقيعان: جمع قاع، وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.

قال: (فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم)، وهو القسم الأول الذي علم العلم الشرعي فانتفع بعلم الوحي، ثم علم غيره (ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).

يقول القرطبي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: ضرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت؛ فكذلك علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، شبه من يستمع إلى ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم بهذه الأرض المختلفة حيث ينزل بها الغيث، فمنهم -أي: من هؤلاء الناس- العالم المعلم ، أي أنه يتعلم هذا الوحي ثم يعمل به ثم يعلم غيره، فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها، ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، غير أنه لم يعمل بنوافله، أو لم ينفعه فيما جمع له، لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي لا تنتفع بالماء لكنها تمسكه بغيره.

وإنما جمع في المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، أي أنه ذكر أولاً طائفتين ثم قال: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان) فجمع بين الطائفتين لاجتماعها في صفة الانتفاع بهما.

وذكر الطائفة الثالثة مذمومة لعدم النفع بها فقال عليه الصلاة والسلام: (وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ).

لقد جاءت نصوص كثيرة جداً في الترغيب في التعليم، ودعوة الآخرين إلى طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).

ومنها -أيضاً-: قول صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلت: يا رسول الله! إني جئت أطلب العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: مرحباً بطالب العلم، إن طالب العلم تحفه الملائكة بأجنحتها، ثم يركب بعضهم بعضاً حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب) يعني: من شدة ازدحامهم عليه حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما يطلب.

وقال صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً).

وقال صلى الله عليه وسلم: (معلم الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر)، وقال في الحديث الآخر: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)، على الذين يعلمون الناس الخير.

وإن من وجوه تفضيل العالم على العابد: أن العالم نفعه يتعدى إلى غيره، أما العابد فنفعه قاصر على نفسه، وأصل الحديث رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال (ذكر لرسول صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم) كالفرق في الفضل بين الرسول عليه السلام وبين أقل واحد من الصحابة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكأنه يذكر هذه الأفضلية-: (إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) أي: ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهذه من الأدلة التي بها يستدل على فضل العلم والتعلم ودعوة الآخرين إليه.

يقول الله تبارك وتعالى: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3]، فحكم على كل الناس بالخسران، ثم استثنى هؤلاء: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3]، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وفي الغالب إذا دعا الإنسان غيره إلى الحق فربما قوبل بالأذى، فيطلب منه الصبر على هذا الأذى، فقال تعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3].

الدعوة في اللغة: مأخوذة من الدعاء، وهو النداء لجمع الناس على أمر الله، فإذا كان عندك أناس تجمعهم على أمر الله فقد دعوتهم وحضضتهم على العمل به.

والدعوة مطلقاً يراد بها: الدعوى إلى قضية يراد إثباتها، أي: الدفاع عنها حقاً كانت أو باطلاً، بغض النظر عن هذه القضية، فمن الدعوة إلى الباطل قول الله تبارك وتعالى: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]، فقد كان النسوة يدعونه إلى ما حرم الله تبارك وتعالى، فهذا من استعمال كلمة الدعوة في اللغة في الدعوة إلى الباطل، ومن الدعوة إلى الباطل ما ورد أنه تخاصم رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فأراد كل منهما أن يستنصر بطائفته، فقال المهاجري: يا للمهاجرين. وقال الأنصاري: يا للأنصار. فقال صلى الله عليه وسلم حينما بلغه ذلك: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!) فسماها دعوى الجاهلية.

أما الدعوة الحق فمثل قوله تبارك وتعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد:14]، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى هرقل عظيم الروم: (أدعوك بدعاية الإسلام) أي: بدعوة الإسلام. ومنها قول مؤمن آل فرعون: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41] فهنا وردت كلمة الدعوة بالمعنيين الحق والباطل: وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ [غافر:41] فهذه دعوة حق، وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غافر:41] هذه دعوة باطل.

ومن معاني كلمة الدعوة: المحاولة القولية أو الفعلية والعملية لإمالة الناس إلى مذهب أو ملة. ومن معانيها: الابتهال والسؤال، تقول: دعوت الله أدعوه أي: أبتهل إليه بالسؤال وأرغب فيما عنده من الخير.

قال الله تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25]، قال في لسان العرب: ودعاء الله خلقه إليها كما يدعو الرجل الناس إلى مدعاة، أي: إلى مأدبة يتخذها وطعام يدعو الناس إليه. فمعنى الدعوة هنا في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] كالدعوة التي يوصلها من يدعو الناس إلى مأدبة أو وليمة، أو شيء من هذا حتى يشرفهم بتناوله.

فدعوة الله عز وجل عباده إلى دار السلام هي دعوته عباده إلى أسباب دخولها وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ [يونس:25] يعني: يأمركم أو يطلب منكم ويدعوكم إلى أن تتخذوا الأسباب التي توصلكم إلى دار السلام، وهي الالتزام بدينه تبارك وتعالى، فمن استجاب صار من حزب الله أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22].

أما المعرضون فهم أتباع الشياطين، يقول الله تعالى حاكياً عن إبليس: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، فبين إبليس المقصود من الشرك الذي وقعوا فيه: إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم:22]، وقد كان الشرك بمجرد أنه دعاهم فاستجابوا له: وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم:22]، فسمى هذه الدعوة والاستجابة له شركاً، أي أنهم أشركوا مع الله تبارك وتعالى.

وقال تعالى عن إبليس: إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فكل طائفة لها دعوة.

وقال عز وجل أيضاً: أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، فعلى كل إنسان أن ينتمي إلى أحد الحزبين: حزب الله أو حزب الشيطان، فكل إنسان يدب على هذه الأرض إما أنه من حزب الله المفلحين، وإما أنه من حزب الشيطان الخاسرين، وكل الأحزاب -سواء أكانت أحزاباً سياسية، أم أحزاباً طائفية، أم أي نوع من الأحزاب- التي تخالف ما عليه الكتاب والسنة، وتخالف منهج الفرقة الناجية ومنهج النبوة هي قطعاً من حزب الشيطان.

والذي لا ينتمي إلى الدعوة إلى الله، ولا ينتمي إلى أي اتجاهات سياسية أو فكرية مخربة أو مدمرة، ويظن أنه بهذا لا له ولا عليه هو منتمٍ في الحقيقة لحزب الشيطان، وإعراضه عن دعوة الله إياه إلى دار السلام يجعله ممن أعرض عن خالقه وبارئه تبارك وتعالى، وإن كان دون غيره في الضلال، لكن النار دركات والجنة درجات.

الدعاة واحدهم داع وداعية، فالهاء تدخل عليها للمبالغة، والداعي -أيضاً- إما داعٍ إلى الحق وإما داعٍ إلى الباطل، فمن استعمال كلمة الداعي إلى الحق قوله تبارك وتعالى في حق رسوله صلى الله عليه وسلم وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:46]، ومنها قوله عن الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31]، ومن الدعوة إلى الحق قوله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه).

أما الداعي إلى الباطل فكما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، يعني: يزينون للناس الأفعال التي تقودهم إلى أبواب جهنم، وهذا أيضاً يكون من أولياء الشيطان في كل زمان ومكان، وأبواب جهنم يتنوع الآتون إليها، فمنهم من يأتي من جانب الأمور الكفرية كالردة والطعن في الإسلام، ومنهم من يأتي من جانب البدعة، ومنهم من يأتي من جانب الشهوات، فأبواب جهنم تتنوع بحسب تنوع هذه الدلالات.

ومن ذلك -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن دعا إلى ضلالة كان عليه آثام من تبعه).

أما منطلقات الدعوة فالمقصود بها المنطلقات التي ينبغي أن ننطلق منها إذا أردنا أن نسلك هذا الطريق الذي يجازي الله تبارك وتعالى من يسلكه بالأجر والمثوبة.

أعمال الدعوة إلى الله عبادة

أول هذه المنطلقات أن أعمال الدعوة عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله عز وجل، فالدعوة مثل أي عبادة أخرى، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر، فالدعوة عبادة، وليست تقصر عن تعريف العبادة، فلا يعملها المسلم لهوى في نفسه، أو لرغبة في العلو في الأرض، فلا يدع إلى الله لأنه يريد العلو في الأرض، أو لأنه يريد أن يشتهر، أو لأنه يريد أن يجتمع الناس حوله، أو لأي شيء من هذه الأغراض؛ فإن هذا يعد انحرافاً عن المنطلقات الصحيحة التي ينبغي أن تنطلق منها الدعوة، بل عليه أن ينتمي إلى هذه الدعوة وينقاد إليها امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى؛ لأنه كما أمره بالصلاة وكما أمره بالزكاة والصيام؛ أمره -أيضاً- بالدعوة إليه ودلالة الخلق عليه تبارك وتعالى.

والله تعالى يثيب الإنسان في البهائم كما في الحديث: (في كل ذات كبد رطبة أجر)، فإذا كنت مأجوراً إذا أحسنت إلى حيوان أو بهيمة فسقيتها أو أنقذتها من الهلكة فما بالك إذا أنقذت إنساناً أو أنقذت مسلماً من الهلكة إن أوشك على الغرق أو الحرق أو التلف فأنقذت روحه؟! وقد قال تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] والحياة هنا حياة البدن، فما بالك بمن يحيي روح هذا الإنسان وقلبه ويدرجه ضمن أولياء الله وعباد الله الصالحين حتى يسلك الطريق إلى دار السلام؟! لا شك أن ثوابه أعظم.

ومع ذلك نجد أننا في غفلة عن هذا النفع الذي ينتفع به جميع خلق الله تبارك وتعالى لأجل العمل الصالح، فهل أحد منا يشعر أن النملة في حجرها تستغفر لمن يعلم الناس الخير؟! لقد أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وحتى الحيتان في البحر تستغفر لمعلم الناس الخير، فأي فضل فوق هذا؟! فنحن في غفلة عن هذا، وكل ما خلق الله تبارك وتعالى يدعو للداعي إلى الله تعالى كما في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: (إن الله تعالى وملائكته، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون -أي: يستغفرون ويدعون- على معلم الناس الخير)، فأي فضل فوق هذا؟! ومن يزهد في مثل هذا؟!

فالشاهد أن أعمال الدعوة هي عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى كأي عبادة أخرى، وليست دعوة إلى العصبية، أو إلى الحزبية، أو إلى العلو في الأرض والارتفاع على الآخرين، أو استجابة لداعية الهوى، إنما يعملها المسلم انقياداً لأمر وتكليف جاء من الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، ويقول عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

كما أنه يعملها طمعاً في ثواب الله عز وجل الذي أشرنا إليه آنفاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفي رواية: (خير لك مما طلعت عليه الشمس)، خير من أن تقتني كل ما على وجه هذه الأرض، بل كل ما طلعت عليه الشمس. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله).

إذاً: هذا هو المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن ينطلق منه كل داعٍ إلى الله عز وجل.

وإذا أردنا أن تتضح الصورة أكثر فبالضد تعرف الأشياء، فما هي العوامل أو الأشياء التي تقدح في الانطلاق من هذا المنطلق؟ ما هي مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق؟ هي عدة أمور:

أولها: هيجان الرغبات النفسية والشخصية، وقيام حجاب الأنانية، وحب الذات فيمن يسير على هذا الطريق، وهذا علاجه أن يديم الإنسان ذكر الله عز وجل بقلب حاضر، ويكون كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

ومن مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق: تحول هذه العبادة بمرور الزمن إلى مجرد فكرة أو مذهب سطحي يقارع به المذاهب الأخرى، دون أن يعيش في الحقيقة الإسلامية الكلية المتمثلة في قوله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].

ومن مظاهر هذا الانحراف: التناقض بين الفكر والعمل، فبعض الناس يتذاكرون أمور الدعوة إلى الإسلام، وينفقون الساعات الطوال في مناقشة أمور الدعوة وأحوال المسلمين، وينسون في غمار حديثهم أهم الواجبات الدينية، كالقيام إلى الصلاة في أول وقتها، ثم لا يقومون إليها إلا آخر الوقت متثاقلين، أو يصلون بسرعة خاطفة شأن من يريد أن يسرع ليتخلص من عبء يلازمه.

أن بعض الناس يسهرون الليل الطويل في مناقشة الدعوة ومشكلات المسلمين وما حدث لهم، ويظن أحدهم أنه بهذا يعمل في الدعوة للإسلام، فهذا لا بأس به، لكنه قرب الفجر بقليل ينام وقد سهر الليل الطويل ويضيع صلاة الفجر، فهذا -أيضاً- من مظاهر الانحراف، فلا ينبغي أن يناقض الفكر الذي يدعو إليه السلوك العملي الذي ينبغي أن تطبقه في نفسك.

فهذا هو المنطلق الأول، وهو أن أعمال الدعوة تنبعث عبادة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، لا يعملها لهوى في نفسه أو رغبة في العلو في الأرض.

الشعور بالشفقة والرحمة على عباد الله تعالى

المنطلق الثاني:

أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين، فعليك أن تنطلق من هذا المنطلق وأن تشعر أنك رحمة للناس ولست عذاباً ينصب عليهم، وهذه الرحمة هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن المشركين: (لو لعنتهم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً) رواه مسلم .

بل كان صلى الله عليه وسلم يشفق شفقة كبيرة على قومه إذ لم يستجيبوا له وأعرضوا عنه، فكان يشتد به الحزن ويلم به الوجد عليهم، حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، لقد كاد أن يموت ويهلك من الحزن والحسرة عليهم أنهم لم ينجوا من عذاب الله تبارك وتعالى، حتى نزل الوحي يهون عليه أكثر من مرة انفعاله بإعراضهم عنه صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تبارك وتعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أي: لعلك تهلك نفسك أسفاً على هؤلاء إذ لم يؤمنوا بك. وقال تبارك وتعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، وقال عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].

فلهذا ينبغي أن يستقر هذا المعنى في قلوبنا، وهو أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالرحمة لعباد الله تبارك وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها)، فهو يريد أن ينقذ هذه الفراش من النار وهي رغم ذلك تنجذب إلى ناحية الضوء ولا تدري أن في ذلك هلاكها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينجي الناس من أن يقتحموا النار ويهلكوا أنفسهم في النار والحال أنهم تجذبهم الشهوات التي تورد النيران فينجذبون إلى النار وإلى ما يؤدي إلى دخول النار من الشهوات والضلالات، وهو يردهم شفقة وخوفاً عليهم، فيمسك هذا من يده وهذا من جانبه وهذا من قميصه، يريد أن ينجي من استطاع من عذاب النار، لكنهم يقاومونه رغماً عنه ويلقون بأنفسهم في جهنم، والعياذ بالله!

فانظر كيف صور النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفة الرحمة، يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فهو رحمة لجميع الأمم، رحمة للمسلمين الذين آمنوا به، ثم رحمة لليهود، ورحمة للنصارى، ورحمة لكل أنواع الكفرة والمشركين، حتى البهائم والحيوانات، فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرحم حتى هذه العجماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، حتى الحيوان إذا أردت أن تذبحه فلا تعذبه بذلك.

وقال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

إن بعض الناس يتصور أن القوة في الدين إنما تكون بالغلظة والجفاء والقسوة على خلق الله، بل والتكبر عليهم والاستعلاء ومعاملتهم بالقسوة، ولا يدري المسكين أن قلبه بيد ربه يحوله متى شاء، كما قال عز وجل: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، تبينوا فضل الله عليكم، فهو الذي هداكم، فلا تستكبر على خلق الله ولا تتعالَ على عباد الله، فأنت ليس بيدك شيء، وهذا الفضل أعطاك الله إياه وحرم هذا الشخص منه، وهو عز وجل قادر على أن يعكس الأمر فتضل أنت ويهتدي هذا الشخص، فالعبادة فضل من الله ومنة من الله تبارك وتعالى.

وكذلك لا ينظر الإنسان إلى الناس في ذنوبهم كأنه رب يطلع عليهم وسوف يحاسبهم ويعذبهم، فإنما هو مثلهم عبد مذنب خطاء، وخير الخطائين التوابون.

صور من رحمة الأنبياء عليهم السلام بأقوامهم

وإذا نظرنا إلى سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام نرى حقيقة هذا المعنى، معنى الخوف على الناس من عذاب الله والشفقة والرحمة بهؤلاء القوم، فمثلاً: فرعون الذي طغى وتجبر وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فهل هناك ذنب أعظم من أن يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] أن يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]؟! فشر الناس في زمانه كان فرعون لعنه الله، فإذا بالله تبارك وتعالى يبعث إليه رسولين هما موسى وهارون عليهما السلام، ويقول لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فإن القول اللين يكون أقرب إلى قبوله، فباستطاعتك أن تلين قلبه ويستجيب لك، فهل هذا ضعف في الدين؟ هل هذا تنازل من موسى وهارون لفرعون بلين ورفق وحكمة؟ كلا!

إذاً ينبغي أن لا يكون هذا الفكر هو الذي يسيطر على أذهان بعض الناس، وهو أن الأصل في الدعوة الغلظة والشدة والجفاء مع الناس، بل الأصل هو الرفق، كما عليه الصلاة والسلام: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)، وكأن كلمة (يحرم) معناها: الحرمان من شيء عظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).

ولا يعني هذا أن الداعية يقر المنكرات أو يحب أعداء الله، لكننا نخاف على خلق الله من عذاب الله، ونترفق بهم، وننوع أساليبنا في رفق ولين وحكمة حتى يستجيبوا لداعي الله تعالى.

إن الذي يريد أن يروج بضاعته إذا أردت أن تشتري منه يترفق بك، ويلين لك القول، ويبتسم في وجهك، ومن هنا فقد تعجبك السلعة كلما كان البائع ناجحاً في عرض بضاعته وترغيب الناس فيها، وهو يدعو إلى سلعة! فكيف بالذي يدعو إلى الله ويدعو إلى الجنة؟ لا شك أنه ينبغي أن يكون تاجراً حاذقاً ماهراً حتى يوفقه الله تبارك وتعالى.

وفي قصة نوح عليه السلام يقول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]، فهل كان نوح عليه السلام يفعل نوعاً من التكتيك السياسي أو العسكري أو نحوه؟ كلا.

يقول نوح عليه السلام: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]، وهو صادق في هذه الكلمة عليه السلام.

ويقول تبارك وتعالى -أيضاً- حاكياً عن نوح عليه السلام: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:61-63] قال: (لعلكم ترحمون) فهو حريص على أن يرحموا من عذاب الله عز وجل، ولكنهم شتموا نوحاً عليه السلام -كما في سورة نوح- وفعلوا به العجائب، وأعرضوا عنه أشد الإعراض، ولكن انظر إلى نبي الله نوح عليه السلام في جوابه لهم، فهو لم يغضب لنفسه، إنما أجابهم جواباً مصبوغاً بالرحمة والشفقة واللطف، قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:61-63].

وإذا تأملنا في قصة حبيب النجار حينما دعا قومه إلى الله عز وجل سنجد ذلك المعنى، قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:20-25]، فقتلوه بعد هذا الخطاب العظيم، فكان مشفقاً عليهم في حياته وبعد قتله، فبعدما انتقل إلى الجنة قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

أي: لو أن قومي علموا حسن عاقبتي وما لقيت عند ربي من الإكرام والفضل العظيم لما فعلوا معي ذلك، ولما أعرضوا عن دعوة الأنبياء، ولما تركوا الاستجابة لربهم عز وجل، فأشفق على قومه في الحياة الدنيا وبعدما قتلوه.

وأكثر ما يسبب انحراف المنحرفين عن الحق وعن اتباع الحق ما قد يشعرون به في الداعية من التعالي والأنانية وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيكون رد الفعل تعالياً أشد، وأنانية أقوى، واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات.

هذا ما يتعلق بالمنطلق الثاني، وهو أن أعمال الدعوة ينبغي أن تنبعث من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين.

القيام بأعباء الدعوة إلى الله من جملة التكاليف الشرعية

المنطلق الثالث:

اليقين بأن القيام بأعباء الدعوة واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله بها المسلمين، بغض النظر عن النتائج والآمال، فأعباء الدعوة من البيان والحكمة والموعظة الحسنة، والتضحية في سبيل هذه الدعوة، كل هذه الأعمال هي واجب من جملة التكاليف التي خاطب الله عز وجل بها المسلمين؛ بغض النظر عن النتائج والآمال، فبعض الناس يحملون أنفسهم ما لم يكلفهم الله تعالى به؛ جلباً للنتائج، وتطلعاً إلى الغايات، وربما قفزوا ووثبوا في ظل تطلعاتهم فوق كثير من الأسباب والوسائل الواجبة عليهم مما يدخل تحت إمكانهم ويخضع لطاقاتهم مما لا نشك أن الله أوجبه علينا.

فبعض الناس يضعون تطلعات وأهدافاً بعيدة هي ليست مستحيلة، لكنها بعيدة بالنسبة لواقع هؤلاء الدعاة، فهم يقفزون فوق هذه الأسباب حتى يصلوا إلى هذه التطلعات، ولأنها بعيدة جداً قد يسقطون في منتصف الطريق، في حين أن هناك واجبات لا يشك ولا يختلف اثنان في وجوبها على كل من ينتظم في سلك هذه الدعوة.

فمن هذه الواجبات: تزكية المرء نفسه، أن يزكي المرء نفسه، وأن يوجه هذه الدعوة قبل كل شيء إلى نفسه قبل أن يخاطب بها الآخرين؛ لأنه لا يستقيم الظل والعود أعوج، وشواهد ذلك كثيرة في الكتاب والسنة، قال تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وقال تعالى: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] وهكذا.

ومن ذلك أيضاً: الالتجاء الشديد إلى الله تبارك وتعالى، وكثرة ذكر الله عز وجل في الخلوات والجلوات، ومراقبة النفس، والسعي إلى تزكيتها بكل الوسائل.

ومن تلك الواجبات التي لن يقوم بها غيرك: مراقبة الدعاة لبيوتهم، والقيام بدقة على إصلاح حال الأهل والأولاد، وإشاعة ذكر الله وعبادته بين أعضاء الأسرة، هذا واجب، فهل تنتظر غيرك ليقوم به؟! كلا! فلا بد من أن يقوم به رب البيت، كما قال عليه الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).

فإذا صدق أهل كل أسرة الإسلام واستقاموا عليه، ثم فعلوا ذلك مع أهليهم ومن يقومون عليهم يكافئهم الله تبارك وتعالى بالتمكين؛ لأن هذا اجتهاد في تغيير النفس، اجتهاد في تحقيق الشرط الذي شرطه الله تعالى فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وقال عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].

وقال أيضاً: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]، فالتمكين في الأرض مكافأة على الاستقامة على طريق الله تبارك وتعالى، قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ) فهي منة من الله تعالى ومكافأة منه عزّ وجل.

الدعوة إلى الإسلام لكونه ديناً لا لبيان أفضليته على النظم الأرضية

ليست طبيعة دعوة الإسلام كغيرها من المذاهب والأنظمة، فأصحاب هذه المذاهب لا يعتمدون إلا على أنفسهم في تطبيقها وإشاعتها في المجتمع؛ لأنها مذاهب وضعية ابتدعوها، وهم المسئولون عنها وعن تطبيقها والتزام المجتمع بها.

وهذا نلمسه كثيراً في الدعوات الأرضية الوضعية، أهلها هم الذين يكونون مسئولين عنها وعن تطبيقها وعن إشاعتها وعن رعايتها، وإذا ضاعوا ضاعت معهم هذه الدعوة، ونجد أنه في المقابل ينجرف كثير من المسلمين الذين يمارسون الدعوة إلى الإسلام إلى السبيل ذاته، ويسعون في الطرق والأساليب نفسها، فتراهم يتنافسون أو يتصارعون هم وأصحاب المذاهب الأخرى على طريق واحدة من الأسلوب والمعالجة والتصور، وينسون في الحقيقة أنهم ليسوا إلا دعاة إلى الله جل وعلا، للقيام بمهمة معينة تدخل في حدود طاقاتهم مقابل ما يمتن الله به عليهم من تحقيق المجتمع الإسلامي المنشود.

وآية ذلك أنك ترى بعضهم في غمار هذا التقليد والنسيان لهويتهم لا يهتمون من الإسلام إلا بما فيه من الواجهة الاجتماعية الطهورية -على سبيل المثال- ليقارعوا به الأنظمة الأخرى.

فمثلاً: هناك أناس يقولون: النظام الاجتماعي في الفكرة الشمولية أحسن نظاماً من الإسلام، ويذكرون محاسنه، فتجد في المقابل الذين ينتمون لهذه الدعوة يقعون في هذه الفخ، ويسلكون نفس الطريق، فيقولون: النظام الاجتماعي في الإسلام أفضل، ويتكلمون في هذا الجانب من خلال نفس هذه الزوايا الضيقة التي يعرضون منها الإسلام لمقارعة المذاهب الأخرى، وعندئذ يسقط الفرق بينهم وبين أولئك الآخرين في ميزان الله تعالى وحكمه؛ إذ لا قيمة لشيء من الأحكام والأنظمة الإسلامية إلا من حيث كونه ديناً يخضع الإنسان من خلاله لسلطان الله وألوهيته، فينبغي أن يدخلوا هذا الدين من باب العبودية لله تبارك وتعالى، لا لأن الإسلام سيحل لهم مشاكلهم الاقتصادية.

ولا شك أن طاعة الله من بركاتها كثرة الخيرات ورفع المحن والآفات، لكن المدخل الذي ينبغي أن يدخل منه الإنسان إلى الإسلام ليس لأن في الإسلام الرفاهية، وليس لأن في الإسلام العدالة الاجتماعية، وليس لأن في الإسلام كذا وكذا من هذه الميزات الضيقة التي تمتاز بها بعض المذاهب الأرضية، فينبغي أن يدعى الناس إلى الإسلام بوصفه ديناً شاملاً لكل حياتهم، يدخلون من باب العبودية لله تبارك وتعالى، أما مقارنة الإسلام بمذهب مثل الشيوعية أو الرأسمالية أو غيرها من المذاهب الأرضية فهذا هو كما يقول الشاعر:

ألم ترى أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

فهل تمدح السيف عندما تقول: إن السيف أمضى من العصا وتقارنه به؟

فلا يقاس دين إلهي ونظام إلهي بهذه النظم الأرضية، ولا يصح أن ندخل من نفس هذه الزاوية الضيقة إلى قلوب الناس، وهذا هو السر في أن كثيراً من الناس لا يفهمون من معنى (الحكم بما أنزل الله) في نطاق الدعوة الإسلامية إلا ما يظهر منه فقط في واجهة المجتمع، ويتكون منه النظام العام، ويتبادر إلى أذهانهم أن الحكم بما أنزل الله في الحدود، وفي إقامة الشريعة، وفي الأحكام الظاهرة في المجتمع، وينسون أن هناك مسئولية واجبة عليهم بجانب الحكم بما أنزل الله في إقامة الحدود وغيرها من المجالات هي الحكم بما أنزل الله في كل ما يخصك من حياتك، وأنَّه ما من حالة تكون أنت فيها إلا ولله سبحانه وتعالى فيها حكم، فالمجلس الذي تجلسه له حكم عند الله، فهو إما واجب أو مستحب حين يكون مجلس علم وذكر، والجلوس أمام الأفلام والتلفزيون حكمه أنه حرام أو مكروه على الأقل، وهكذا كل شيء من الأفعال والتصرفات يدخل تحت حكم من الأحكام، ونومك له حكم من الأحكام، وهو أنه من المباحات، وإن أضفت إليه نية التعبد يصبح عبادة تتقرب بها إلى الله عز وجل.

فالحكم بما أنزل الله يدخل في معاملة الإنسان نفسه وأهل بيته وأسرته وأولاده، ويدخل في علاقاته مع الآخرين، فما أكثر ما يغفل هؤلاء الناس عنه، بل قد يعرضون عنه تماماً، فترى ازدواجية في الشخصية، حيث ترى الشخص الذي يطالب بحكم الله هو الذي يضيع -مثلاً- صلاة الفجر، ولا يكون أميناً في تعاملاته، ولا يحكم بما أنزل الله في نفسه، وهو الشخص الذي لا ينكر على أهله ولا يعاتبهم بالمعروف كما أمر الله تبارك وتعالى.

فالحكم بما أنزل الله أعم من أن يكون في الحدود وفيما يتعلق بالآخرين؛ بل هو عام لكل مسلم في نفسه وفي رعيته.

ومع ذلك نجزئ الإسلام ونخصه بهذه الزاوية الضيقة تقليداً لغيرنا من السياسيين أو الحزبيين أو نحوهم، فالإسلام نظام شامل لكل حياة المسلم، يحكم المسلم في كل أحواله وأموره.

وإذا نظرنا نظرة واحدة إلى مبحث الحكم في أي كتاب من كتب أصول الفقه ندرك عموم كلمة (الحكم) وكيف أنها تشمل كل حياة المسلم الفرد، والمسلمين مجتمعاً ودولة، ولا يخلو المسلم -كما ذكرنا- في شيء من تصرفاته عن حكم من الأحكام الشرعية المعروفة.

أول هذه المنطلقات أن أعمال الدعوة عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله عز وجل، فالدعوة مثل أي عبادة أخرى، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والذكر، فالدعوة عبادة، وليست تقصر عن تعريف العبادة، فلا يعملها المسلم لهوى في نفسه، أو لرغبة في العلو في الأرض، فلا يدع إلى الله لأنه يريد العلو في الأرض، أو لأنه يريد أن يشتهر، أو لأنه يريد أن يجتمع الناس حوله، أو لأي شيء من هذه الأغراض؛ فإن هذا يعد انحرافاً عن المنطلقات الصحيحة التي ينبغي أن تنطلق منها الدعوة، بل عليه أن ينتمي إلى هذه الدعوة وينقاد إليها امتثالاً لأمر الله تبارك وتعالى؛ لأنه كما أمره بالصلاة وكما أمره بالزكاة والصيام؛ أمره -أيضاً- بالدعوة إليه ودلالة الخلق عليه تبارك وتعالى.

والله تعالى يثيب الإنسان في البهائم كما في الحديث: (في كل ذات كبد رطبة أجر)، فإذا كنت مأجوراً إذا أحسنت إلى حيوان أو بهيمة فسقيتها أو أنقذتها من الهلكة فما بالك إذا أنقذت إنساناً أو أنقذت مسلماً من الهلكة إن أوشك على الغرق أو الحرق أو التلف فأنقذت روحه؟! وقد قال تعالى: وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] والحياة هنا حياة البدن، فما بالك بمن يحيي روح هذا الإنسان وقلبه ويدرجه ضمن أولياء الله وعباد الله الصالحين حتى يسلك الطريق إلى دار السلام؟! لا شك أن ثوابه أعظم.

ومع ذلك نجد أننا في غفلة عن هذا النفع الذي ينتفع به جميع خلق الله تبارك وتعالى لأجل العمل الصالح، فهل أحد منا يشعر أن النملة في حجرها تستغفر لمن يعلم الناس الخير؟! لقد أخبرنا بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، وحتى الحيتان في البحر تستغفر لمعلم الناس الخير، فأي فضل فوق هذا؟! فنحن في غفلة عن هذا، وكل ما خلق الله تبارك وتعالى يدعو للداعي إلى الله تعالى كما في الحديث الذي ذكرناه آنفاً: (إن الله تعالى وملائكته، حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون -أي: يستغفرون ويدعون- على معلم الناس الخير)، فأي فضل فوق هذا؟! ومن يزهد في مثل هذا؟!

فالشاهد أن أعمال الدعوة هي عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى كأي عبادة أخرى، وليست دعوة إلى العصبية، أو إلى الحزبية، أو إلى العلو في الأرض والارتفاع على الآخرين، أو استجابة لداعية الهوى، إنما يعملها المسلم انقياداً لأمر وتكليف جاء من الله عز وجل في قوله تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، ويقول عز وجل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].

كما أنه يعملها طمعاً في ثواب الله عز وجل الذي أشرنا إليه آنفاً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وفي رواية: (خير لك مما طلعت عليه الشمس)، خير من أن تقتني كل ما على وجه هذه الأرض، بل كل ما طلعت عليه الشمس. وقال صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله).

إذاً: هذا هو المنطلق الصحيح الذي ينبغي أن ينطلق منه كل داعٍ إلى الله عز وجل.

وإذا أردنا أن تتضح الصورة أكثر فبالضد تعرف الأشياء، فما هي العوامل أو الأشياء التي تقدح في الانطلاق من هذا المنطلق؟ ما هي مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق؟ هي عدة أمور:

أولها: هيجان الرغبات النفسية والشخصية، وقيام حجاب الأنانية، وحب الذات فيمن يسير على هذا الطريق، وهذا علاجه أن يديم الإنسان ذكر الله عز وجل بقلب حاضر، ويكون كما قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].

ومن مظاهر الانحراف عن هذا المنطلق: تحول هذه العبادة بمرور الزمن إلى مجرد فكرة أو مذهب سطحي يقارع به المذاهب الأخرى، دون أن يعيش في الحقيقة الإسلامية الكلية المتمثلة في قوله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ [الأنعام:162-163].

ومن مظاهر هذا الانحراف: التناقض بين الفكر والعمل، فبعض الناس يتذاكرون أمور الدعوة إلى الإسلام، وينفقون الساعات الطوال في مناقشة أمور الدعوة وأحوال المسلمين، وينسون في غمار حديثهم أهم الواجبات الدينية، كالقيام إلى الصلاة في أول وقتها، ثم لا يقومون إليها إلا آخر الوقت متثاقلين، أو يصلون بسرعة خاطفة شأن من يريد أن يسرع ليتخلص من عبء يلازمه.

أن بعض الناس يسهرون الليل الطويل في مناقشة الدعوة ومشكلات المسلمين وما حدث لهم، ويظن أحدهم أنه بهذا يعمل في الدعوة للإسلام، فهذا لا بأس به، لكنه قرب الفجر بقليل ينام وقد سهر الليل الطويل ويضيع صلاة الفجر، فهذا -أيضاً- من مظاهر الانحراف، فلا ينبغي أن يناقض الفكر الذي يدعو إليه السلوك العملي الذي ينبغي أن تطبقه في نفسك.

فهذا هو المنطلق الأول، وهو أن أعمال الدعوة تنبعث عبادة يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل، لا يعملها لهوى في نفسه أو رغبة في العلو في الأرض.

المنطلق الثاني:

أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين، فعليك أن تنطلق من هذا المنطلق وأن تشعر أنك رحمة للناس ولست عذاباً ينصب عليهم، وهذه الرحمة هي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وقال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن المشركين: (لو لعنتهم يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً) رواه مسلم .

بل كان صلى الله عليه وسلم يشفق شفقة كبيرة على قومه إذ لم يستجيبوا له وأعرضوا عنه، فكان يشتد به الحزن ويلم به الوجد عليهم، حتى كاد يهلك نفسه عليه الصلاة والسلام، لقد كاد أن يموت ويهلك من الحزن والحسرة عليهم أنهم لم ينجوا من عذاب الله تبارك وتعالى، حتى نزل الوحي يهون عليه أكثر من مرة انفعاله بإعراضهم عنه صلى الله عليه وسلم، مثل قوله تبارك وتعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أي: لعلك تهلك نفسك أسفاً على هؤلاء إذ لم يؤمنوا بك. وقال تبارك وتعالى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، وقال عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8].

فلهذا ينبغي أن يستقر هذا المعنى في قلوبنا، وهو أن تنبعث أعمال الدعوة من شعور غامر بالرحمة لعباد الله تبارك وتعالى، يقول صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد ناراً، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها)، فهو يريد أن ينقذ هذه الفراش من النار وهي رغم ذلك تنجذب إلى ناحية الضوء ولا تدري أن في ذلك هلاكها، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن ينجي الناس من أن يقتحموا النار ويهلكوا أنفسهم في النار والحال أنهم تجذبهم الشهوات التي تورد النيران فينجذبون إلى النار وإلى ما يؤدي إلى دخول النار من الشهوات والضلالات، وهو يردهم شفقة وخوفاً عليهم، فيمسك هذا من يده وهذا من جانبه وهذا من قميصه، يريد أن ينجي من استطاع من عذاب النار، لكنهم يقاومونه رغماً عنه ويلقون بأنفسهم في جهنم، والعياذ بالله!

فانظر كيف صور النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفة الرحمة، يقول تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فهو رحمة لجميع الأمم، رحمة للمسلمين الذين آمنوا به، ثم رحمة لليهود، ورحمة للنصارى، ورحمة لكل أنواع الكفرة والمشركين، حتى البهائم والحيوانات، فقد شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرحم حتى هذه العجماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)، حتى الحيوان إذا أردت أن تذبحه فلا تعذبه بذلك.

وقال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

إن بعض الناس يتصور أن القوة في الدين إنما تكون بالغلظة والجفاء والقسوة على خلق الله، بل والتكبر عليهم والاستعلاء ومعاملتهم بالقسوة، ولا يدري المسكين أن قلبه بيد ربه يحوله متى شاء، كما قال عز وجل: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، تبينوا فضل الله عليكم، فهو الذي هداكم، فلا تستكبر على خلق الله ولا تتعالَ على عباد الله، فأنت ليس بيدك شيء، وهذا الفضل أعطاك الله إياه وحرم هذا الشخص منه، وهو عز وجل قادر على أن يعكس الأمر فتضل أنت ويهتدي هذا الشخص، فالعبادة فضل من الله ومنة من الله تبارك وتعالى.

وكذلك لا ينظر الإنسان إلى الناس في ذنوبهم كأنه رب يطلع عليهم وسوف يحاسبهم ويعذبهم، فإنما هو مثلهم عبد مذنب خطاء، وخير الخطائين التوابون.

وإذا نظرنا إلى سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام نرى حقيقة هذا المعنى، معنى الخوف على الناس من عذاب الله والشفقة والرحمة بهؤلاء القوم، فمثلاً: فرعون الذي طغى وتجبر وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقال: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، فهل هناك ذنب أعظم من أن يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] أن يقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]؟! فشر الناس في زمانه كان فرعون لعنه الله، فإذا بالله تبارك وتعالى يبعث إليه رسولين هما موسى وهارون عليهما السلام، ويقول لهما: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فإن القول اللين يكون أقرب إلى قبوله، فباستطاعتك أن تلين قلبه ويستجيب لك، فهل هذا ضعف في الدين؟ هل هذا تنازل من موسى وهارون لفرعون بلين ورفق وحكمة؟ كلا!

إذاً ينبغي أن لا يكون هذا الفكر هو الذي يسيطر على أذهان بعض الناس، وهو أن الأصل في الدعوة الغلظة والشدة والجفاء مع الناس، بل الأصل هو الرفق، كما عليه الصلاة والسلام: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله)، وكأن كلمة (يحرم) معناها: الحرمان من شيء عظيم، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).

ولا يعني هذا أن الداعية يقر المنكرات أو يحب أعداء الله، لكننا نخاف على خلق الله من عذاب الله، ونترفق بهم، وننوع أساليبنا في رفق ولين وحكمة حتى يستجيبوا لداعي الله تعالى.

إن الذي يريد أن يروج بضاعته إذا أردت أن تشتري منه يترفق بك، ويلين لك القول، ويبتسم في وجهك، ومن هنا فقد تعجبك السلعة كلما كان البائع ناجحاً في عرض بضاعته وترغيب الناس فيها، وهو يدعو إلى سلعة! فكيف بالذي يدعو إلى الله ويدعو إلى الجنة؟ لا شك أنه ينبغي أن يكون تاجراً حاذقاً ماهراً حتى يوفقه الله تبارك وتعالى.

وفي قصة نوح عليه السلام يقول الله تبارك وتعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]، فهل كان نوح عليه السلام يفعل نوعاً من التكتيك السياسي أو العسكري أو نحوه؟ كلا.

يقول نوح عليه السلام: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف:59]، وهو صادق في هذه الكلمة عليه السلام.

ويقول تبارك وتعالى -أيضاً- حاكياً عن نوح عليه السلام: يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:61-63] قال: (لعلكم ترحمون) فهو حريص على أن يرحموا من عذاب الله عز وجل، ولكنهم شتموا نوحاً عليه السلام -كما في سورة نوح- وفعلوا به العجائب، وأعرضوا عنه أشد الإعراض، ولكن انظر إلى نبي الله نوح عليه السلام في جوابه لهم، فهو لم يغضب لنفسه، إنما أجابهم جواباً مصبوغاً بالرحمة والشفقة واللطف، قال تعالى: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:61-63].

وإذا تأملنا في قصة حبيب النجار حينما دعا قومه إلى الله عز وجل سنجد ذلك المعنى، قال تعالى: وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ [يس:20-25]، فقتلوه بعد هذا الخطاب العظيم، فكان مشفقاً عليهم في حياته وبعد قتله، فبعدما انتقل إلى الجنة قال: يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس:26-27].

أي: لو أن قومي علموا حسن عاقبتي وما لقيت عند ربي من الإكرام والفضل العظيم لما فعلوا معي ذلك، ولما أعرضوا عن دعوة الأنبياء، ولما تركوا الاستجابة لربهم عز وجل، فأشفق على قومه في الحياة الدنيا وبعدما قتلوه.

وأكثر ما يسبب انحراف المنحرفين عن الحق وعن اتباع الحق ما قد يشعرون به في الداعية من التعالي والأنانية وحب الانتصار للنفس أو للجماعة، فيكون رد الفعل تعالياً أشد، وأنانية أقوى، واندفاعاً أسرع إلى الانتصار للذات.

هذا ما يتعلق بالمنطلق الثاني، وهو أن أعمال الدعوة ينبغي أن تنبعث من شعور غامر بالشفقة والرحمة على عباد الله أجمعين.