بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [2]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً، فذكر الحديث إلى أن قال: (إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد) رواه مسلم في صحيحه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا أيضاً فيه فضيلة التواضع لله عز وجل، فإن التواضع يرفع صاحبه، ولا يظنن الرجل أنه إذا تواضع فإن ذلك ينزل مكانته، ولكنه إذا تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله.

والله عز وجل امتدح نبيه في أشرف المقامات بصفة العبودية والتذلل والخضوع والتواضع لله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وقال في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، فامتدحه الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية والتذلل، والخضوع لله عز وجل، والتواضع له في أشرف المقامات، فدل على أن الشرف والعلو والرفعة والعزة إنما يكون في التواضع لله تبارك وتعالى.

وإن كان هذا الرجل يقول في محبوبته:

فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي

فكيف لا يفخر المؤمن بأنه عبد ذليل متواضع لله تبارك وتعالى؟!

الشاهد: قوله عليه الصلاة والسلام: (وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا حلف عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه: (شعب الإيمان) جملة من النصوص عن السلف الصالح رضي الله عنهم في قصص التواضع، فقد روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: يغفلون عن أفضل العبادة وهي التواضع. أي: إن الناس في غفلة عن نوع من العبودية الذي هو أعظم أنواع العبودية، ألا وهو التواضع لله تبارك وتعالى.

وعن عطاء بن السائب أن أبا البحتري وأصحابه كانوا إذا أثني على أحد منهم ووجد عجباً في قلبه وتأثر بهذا الثناء حنا ظهره وقال: خشعت لله.. خشعت لله.

وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئاً عذبته) فالكبرياء والعزة لا ينبغي أن تكون إلا لله تبارك وتعالى، وهذه هي الصفات التي لا يليق بالعبد أن يتصف بها من صفات الله التي لا يجوز منازعته تبارك وتعالى بها.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يتبختر يمشي في بردة قد أعجبته نفسه -أي لأنه يلبس هذه الحلة وهذا الثياب- إذ خسف الله به في الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، فعجل الله له العقوبة، وخسف به الأرض، فهو في تسفل وفي تجلجل في أعماق الأرض إلى يوم القيامة، فهو منذ أن فعل الله به ذلك ما زال يتجلجل ويعاني إلى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل شعره إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وعن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتلّ جواظ متكبر) فمدح أهل الجنة بالتواضع، وجعل من صفات أهل النار الاستكبار والفظاظة.

كذلك عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتكبرون يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل صغار، ثم يؤمر بهم إلى قصر في جهنم يقال له: بولس فيسحبون فيه ويسقون من طينة الخبال من عصارة أهل النار)، فكما أنه كان يتكبر في الدنيا يعاقب في الآخرة بنقيض قصده من هذا التكبر، هو تكبر ليظهر العزة والرفعة، فعاقبه الله تبارك وتعالى بأن يحشر حقيراً ذليلاً في أمثال الذر والهباء الذي يكون في الجو، لكن في صورة البشر، وهم في أمثال الذر كما جاء في رواية أخرى: (يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل الذر في صور الرجال يغشاهم -أو يأتيهم- الذل من كل مكان، يسلكون في نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار).

وأيضاً ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه) يعني: هذه من علامات التواضع، (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته.

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رضي الله عنه دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه، وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فيجاملوه لأجل أنه شيخ أو رجل له فضل، فتكون هذه المجاملة بسبب الدين، فيكون ممن يأكل بدينه، فكانوا يتحرجون من ذلك.

وقد سئل الإمام مالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا. وما بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك.

وقرأ مالك : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق.

وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي -الشخص القاضي- أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص، ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه.

وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، يعني: انظروا من أنتم وما أنتم وما يخرج منكم، انظروا سبيل الغائط والبول، فهذا أحد صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى، وبراهين توحيده في خلق الإنسان.

وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، هنا يقول ابن الزبير : وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يعني: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم.

وقال ابن الزبير : ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر.

وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين، هذا يقوله محمد بن أبي الورد ، يقول: إن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله، وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، ما هي؟ قال: الذنوب والتكبر على المؤمنين، فهذا مما يحجب الإنسان عن الفهم.

وتلا قوله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى.

وقال إبراهيم بن أدهم : لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره.

وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك، يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك.

وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. نصف دينك وثلثا مروءتك يذهبان لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون -بغض النظر عن التحقيق في المسألة- ذلك وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم لأجل الدين.

بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك.

وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟! فهذه من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟! وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من: إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206].

وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل.

هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك، قال: أتدرون ما التواضع؟ أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل.

وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن : لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني. إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع، وحفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في ذلك.

هذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل، يعني: مالي ولهم.

وهذا الإمام الشافعي يقول:

أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة

وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم.

وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه، نضيف هذه إلى سابقتها، يعني: هذا أيضاً يدور في نفس المعنى، أنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك، في نفسك أن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها جيداً فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك.

أيضاً: خواتيم المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وهذه الكلمة أعني قول بشر : ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه، هل تستطيع أن تقول ذلك حتى في الكافر؟ لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة من هذا الكافر ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام، ومات هو على الكفر، ربما يقلب القلب ويصرف -والعياذ بالله- عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر، فيسلم، فتحسن عاقبته.

إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.

وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم.

على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.

بعض الآثار الواردة في التواضع

من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك. وقد سئل الإمام مالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه. وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم. يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان. وقال ابن الزبير : ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر. وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين. أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين. وتلا قوله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى. وقال إبراهيم بن أدهم : لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك. يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك. وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين. بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ. وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل. هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك. وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.

نماذج من تواضع السلف وفضل التواضع

لقد حفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في التواضع فهذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. يعني: مالي ولهم. وهذا الإمام الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم. وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. يعني: نضيف هذه إلى سابقتها، بحيث إنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك؛ لأن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها أنت جيداً، فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك. أيضاً خواتيم الأعمال المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة، فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وقول بشر: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. فحتى الكافر لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة منه ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام ومات هو على الكفر؛ لأنه ربما يقلب القلب ويصرف والعياذ بالله عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر فيسلم، فتحسن عاقبته. إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم. على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.

من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك. وقد سئل الإمام مالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه. وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم. يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان. وقال ابن الزبير : ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر. وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين. أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين. وتلا قوله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى. وقال إبراهيم بن أدهم : لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك. يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك. وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين. بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ. وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل. هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك. وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.

لقد حفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في التواضع فهذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. يعني: مالي ولهم. وهذا الإمام الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم. وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. يعني: نضيف هذه إلى سابقتها، بحيث إنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك؛ لأن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها أنت جيداً، فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك. أيضاً خواتيم الأعمال المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة، فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وقول بشر: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. فحتى الكافر لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة منه ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام ومات هو على الكفر؛ لأنه ربما يقلب القلب ويصرف والعياذ بالله عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر فيسلم، فتحسن عاقبته. إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم. على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.

هذه القضية في الحقيقة لها نوع تعلق بالقضية التي نتناولها، كنا من قبل قد شرعنا في مناقشة قضية الهدي الظاهر وبدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب كما يفعل بعض المعاصرين، وقطعنا شوطاً في هذه القضية، لكن نلخص في مرور عابر ما تكلمنا عليه من قبل.

أقسام من ينادي بتقسيم الدين إلى قشر ولب

إن بدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يتنادى بها فريقان من الناس، فريق من الطيبين المسلمين المخلصين الذين يريدون الخير، لكن يخطئون الطريق إليه ويضلون الطريق إليه، فهم يريدون تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب، يعني: جوهر ومظهر، وهدفهم من ذلك أن يهتموا باللب وبالقضايا العظيمة والكبيرة مع إهمال هذا الذي أسموه قشراً، وهذا يقتضيه حسن الظن بهؤلاء. أما الآخرون من الملاحدة وأعداء الدين فهم الذين يقسمون الدين إلى قشر وإلى لب وإلى مظاهر وجواهر ونصوص وأرواح، هؤلاء هدفهم خبيث، هم لا يريدون كما يريد الفريق الأول الاهتمام باللب أو بالقضايا الكبيرة، لكنهم يريدون تحطيم كل شيء، لكنها عملية التدرج واستدراج المسلمين في الانحلال من دينهم رويداً رويداً. إن الهدف من هذه العبارات وأمثالها خاصة في هذا الزمان وفي ظل المحنة التي نعيشها هو كما ذكرنا تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك الهدي الذي سولت لهم شياطينهم وطوعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفاً وتزمتاً ورجعية وتعصباً وإرهاباً.. إلى آخره، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] وقال عز وجل: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]. حينما نردد بين الحين والآخر هذا الشعار المقدس في بداية كلامنا، ليس كلاماً نكرره دون أن نتمعن فيه ونتدبره، بل إننا نقصد المعنى العظيم الذي يرمي إليه هذا الشعار المقدس الذي هو: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. هذه ليست كلمة تحفظ بدون معنى، وتقال في بداية بجهل، وما صدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة إلا كي تكون ميزاناً بين يدي كل كلام نقوله، وبين كل حاجة نريد قضاءها، فنحن نستحضر كلما رفعنا عقيدتنا بهذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونعتز بهذا الهدي ونستعلي به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه كائناً من كان ذلك الشخص الذي ينحرف ويحيد عنه. فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تجزئة سواء كان ظاهراً أو باطناً، أصولاً أو فروعاً أو كما سموها قشراً ولباباً أو غير ذلك، فالتمسك بهذا كله ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه عليه الصلاة والسلام من حبه وتعزيره وتوقيره. فما يتنادى به بعض هؤلاء المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث والتحلل من البعض الآخر، أو سوء نية وخبث طوية من هذا البعض الآخر.

هدف أعداء الدين من تقسيم الدين إلى قشر ولباب

إن موضوع القشر واللب والنص والروح، والجوهر والمظهر، هذه في الحقيقة تقاسيم مبتدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، بل هو شعار ومبدأ باطنه فيه الرحمة لبعض الناس وظاهره من قبله العذاب، ومن أجل هذا التمويه وهذا التزييف انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا هذا الطعم واستحسنوه، بل صاروا يروجون له دون أن يدركوا أن هذا قناع نفاقي قبيح، وأنه من لحن قول العلمانيين من أعداء الدين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشعائر وشرائع الإسلام، يريدون أن يتحللوا من الدين دون أن يخدش انتماؤهم إلى هذا الدين، فيأتون بمثل هذه الشعارات. تتوقف القضية بالفعل عند حسن النية من المسلمين المخلصين عند إهمال ما أسموه قشراً لأجل التركيز على ما ادعوه لباً، لكن حزب المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها هي عندهم مجرد مدخل لأجل نبذ اللب والقشر معاً تماماً، كما يرفعون شعار الاهتمام بروح النص وعدم الوقوف والجمود عند منطوقه، نقول: هذا كلام طيب وكلام لا بأس به إذا تعاطاه وطبقه الأسوياء، لكنه خطير غاية الخطورة إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم في الحقيقة ليس مسألة روح ونص، وإنما مسألة إزهاق روح النص واطراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بتحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة. هؤلاء يريدون ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا هم له بالبقاء حياً، حتى ولو على هامش الحياة، بحيث يكون محبوساً في الأقفاص الصدرية، لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم، إنهم في الحقيقة يريدون هذا الشعار: أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:32-33]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. ذكرنا من قبل أن تفسير قوله تعالى في صدر الرد على هذه البدعة والضلالة وهو قوله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة:208]، قلنا: إن السلم هنا معناه الإسلام، وليس المقصود السلام كما يذهب إليه بعض الناس. يعني: هذا أمر بالتزام جميع شرائع الإسلام بحيث لا يفرق بين شريعة وشريعة وبين حكم وحكم. والمراد هنا بالسلم شعب الإسلام. (وكافة) حال، يعني: ادخلوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في كل شعب الإيمان ولا تخلوا بشيء من أحكام الإسلام والإيمان.

موضوع القشور ليس له حد في مفهوم من ابتدعه

لقد لفتنا حال سلفنا الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم إلى ضرورة التميز في الظاهر والباطن عمن خالفنا في الدين، بل تكلمنا من قبل على قضية القشر هذه، وبينا أن القشر كلام عام ما له حد محدود، واجتهدنا في أن نحاول أن نستخرج لهذا المصطلح الدخيل وهذه القسمة الباطلة حداً معيناً فما وجدنا لها حداً محدوداً. فالقشر مثلاً بعض الناس قد يرى أن العمامة أو القميص من القشور، والبعض الآخر يرى أن القشور هي مثلاً في اللحية والحجاب، والبعض الآخر سيرى الصلاة والصيام والحج قشوراً كما فعل مسيلمة الكذاب ، لما وضع عنهم الصلاة وقال لهم: ليس هناك داع للسجود والركوع وهذه المظاهر، والله لا يصنع بتعفير وجوهكم شيئاً، اذكروا الله في أي حال. فإذاً: موضوع القشور لم يقف عند حد، ولم يقتصر على مجرد الهدي الظاهر، لكن الزنادقة والملاحدة يريدون أن يجعلوا كلمة القشور هذه قنطرة حتى يقضوا بها على كل أحكام الإسلام، بحيث لا يبقى منه غير الجانب الوجداني الذي يحبس في الصدور وفي حنايا القلوب. ذكرنا من قبل أننا حتى لو قبلنا تقسيم الدين إلى قشر ولب، هل القشرة خلقها الله عبثاً أم أن لها فائدة؟ لو تخيلت مثلاً البطيخ بدون القشرة الخارجية، والبرتقال بدون القشرة، وأي شيء من هذه الثمرات الذي جعل الله لها قشرة، هل القشرة خلقت بلا فائدة؟ حتى لو أعملنا القياس الذي ابتدعوه فلا شك أن الله خلق القشرة لحكمة، وهي المحافظة على المضمون، كذلك نفس الشيء إذا سمى الهدي الظاهر قشرة فليس بعبث، وإنما وراءه حكمة عظيمة، وهي المحافظة على ما بداخل هذا القشر وهو المضمون. ومن أجل ذلك نراهم تزين لهم شياطينهم وتسول لهم أنفسهم أن الحجاب هذا قشور، وأن العفة شيء في نفس المرأة ليس له علاقة بالملابس، فإذا خرجت المرأة متبرجة بالمناظر القبيحة المعروفة على الشواطئ وغيرها من الأماكن فلا بأس عندهم؛ لأنهم يقولون: المهم النية مادام أن قلبي طاهر فلا يضرني هذا في شيء، فالقضية أخطر من أن يقفز إلى أذهاننا أن موضوع القشر واللب يقف عند حد، هو يزحف حتى يشمل أمور الدين كلها وشعائر الإسلام والهدي الظاهر، فهذه القشرة التي تحمل وتعبر عن الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله تعالى بالهدي الظاهر، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها. فما يشيع على ألسنة الناس من قولهم: إن العبرة بالجوهر لا بالمظهر، هذا فيه مغالطة جسيمة وخداع كاذب؛ لأن الجوهر لا ينفك عن المظهر، والظواهر هي المعبرة عن المضامين، وأولى بنا بدل أن نستدل بقولهم: العبرة بالجوهر لا بالمظهر، أن نستدل بقولهم: الإناء بما فيه ينضح. فالقضية قضية مبدأ، ليست قضية أمور شكلية أو مظهرية، وقد أكثر العلماء في مصنفاتهم من الكلام على قضية التشبه بالكفار وخطرها على الإيمان والعقيدة، وفي ذلك كتاب رائع نفيس لشيخ الإسلام ابن تيمية وهو: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم).

لكل قوم قشرتهم

فنحن نقول: نحن بشر لنا أجساد ومقتضى ذلك أن لنا مظهراً مادياً محسوساً، لسنا أرواحاً لطيفة، ولا أطيافاً عابرة، وهذا المظهر كما ذكرنا شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها، بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات لا يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم أفكارهم أو ترمز إلى عقيدتهم.

فإن كنا نقول للكفار: لكم دينكم ولنا ديننا، فنقول في هذا الاصطلاح الحادث مع شيء من التنزل: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا؛ لأن الإنسان لابد له من قشرة، فإلم يحمل قشرة وصبغة الله وصبغة المسلمين لابد أن يتغطى بقشرة الكافرين، وهذا أوضح ما يكون، هذا الشعار: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا أوضح ما يكون عند عامة اليهود الذين يتميزون بطاقيتهم ولحاهم وأزيائهم الدينية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم، أليس هذا كله تميزاً صادراً عن العقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بها؟ ألا ترى التاجر النصراني -رغم أن الجهر بالصليب أو بالصور التي يعلقونها قد تدفع بعض الزبائن من المسلمين إلى عدم الشراء منهم- يتحدى ويظهر ما يعبر عن عقيدته سواء بالصليب أو الوشم الذي يفعلونه أو الصور التي يعلقونها، أليست هذه كلها تعبيراً عن اعتزازهم بهذه العقيدة وإصرارهم على التمسك بها؟!

فإذا كانت هذه المظاهر كالصليب وطاقية اليهود وغير ذلك من شعائر الوثنيين هي صبغة الشيطان التي كسى بها أهل ولايته من أهل الضلال والكفران، فكيف لا نستمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا وقال فيها عز وجل: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138] ؟!

فيلفت نظرنا أيضاً إلى أهمية هذا الموضوع، ليس الموضوع بالحجم اليسير الذي يتخيله بعض الناس، وإلا فلماذا هم يقولون: لا تشتغلوا بالمظاهر واشتغلوا بالجوهر.. لا تهتموا بالشكليات والقشور واهتموا باللب والمضامين، نقول: إذاً لماذا أنتم تشغلون أنفسكم بمظهرنا؟ نحن لا ندعوهم، ما نقول لهم: التحوا ولا افعلوا، غاية ما في الأمر مجرد أن يراك بشكلك هذا يثور ويهيج ويقول: المهم الجوهر، وأنت ما قلت له شيئاً ولا دعوته -رغم أنه من حقك أن تدعوه بل ومن واجبك أحياناً- ومع ذلك فهو الذي يهتم بالمظهر في الحقيقة، وهو الذي يعطيه هذا الحجم الكبير، لماذا؟ لماذا تشن الحروب الإستراتيجية على المظاهر الإسلامية؟ مظاهر إسلامية يسيرة كاللحية.. الحجاب.. وغير ذلك من المظاهر، لماذا تشن عليه هذه الحروب المنظمة؟ حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات وتصدر قرارات وتجيش الجيوش وترابط القوات لهذا، ونحن أصحاب البيت كما يقول الشاعر:

أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس

كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس

هذه ديارنا وهذا ديننا فمالكم تجزعون هذا الجزع؟ لماذا تهتمون بالمظاهر؟ نحن ما دعوناكم إليها أو افترضوا أننا لم ندعوكم إليها؟ لماذا تجزعون هكذا؟ فمن الذي يهتم بالمظهر؟

اتقوا الله يا غواة قليلاً واخلعوا العار عنكم والشنارا

فهل كل هذا من أجل أنها قشور؟ كلا، بل لأنهم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة عميقة، ويدركون أنها تعبير عن الصمود والثبات على الدين، تصبغ المجتمع بصبغة غير التي ترضي أعداء الله تبارك وتعالى.

فمثل هذا التمسك بالشعائر الإسلامية: الأذان .. صلاة العيد.. صلاة الجماعة.. الزي الإسلامي، كل هذه عبارة عن تعبيرات للتحدي لمحاولات التذويب والتمييع، فهذه هي عبارة عن صفعة توجه لمؤامرة استلاب هوية هذه الأمة كمقدمة لإذلالها ولاستعبادها.

فمن يتخلى عن القشرة الإسلامية سيتغطى ولابد بقشرة دخيلة مغايرة له؛ لأن كل لب لابد له من قشر يصونه ويحميه، فالسؤال الآن: إذا كان لابد لنا من قشر لماذا يرفضون قشرة الإسلام ويرحبون بقشرة غيره؟ لماذا يأكلون مثلاً بالشمال ويحلقون اللحى ويلبسون النساء أزياء من لا خلاق لهن، ويلبس بعضهم في بعض البلاد القبعة وغير ذلك من المظاهر التي يقتبسونها عن أعداء الله تبارك وتعالى؟!

لأنهم تخلوا عن قشرة الإسلام ولابد من لب للقشرة، فاكتسوا بهذه القشرة التي هي صبغة الشيطان.

يقول بعض السلف: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي، يعني: لا تعرضوا لها بالآراء والأهواء، اتركوا لها الطريق سهلاً ميسوراً كي تمر السنة، لا تضعوا أمامها المتاريس والعقبات كي تعوقوها عن المضي، دعوا السنة تمضي لا تتعرضوا لها بالرأي.

الرد على من يصنعون الشبهات في احتقار الطاعات

هناك أناس في هذا الزمان يتقنون صناعة الشبهات وضرب الأمثال، فيحلم الكثير من هؤلاء أن يتصدوا لكل من يدعو أو يشتغل بالقضايا العملية، أو الجانب الذي يسمونه جانب القشور والمظاهر، حتى بلغ الاستخفاف من بعضهم أنه استهزأ بأبواب فقهية، ألا تسمعون بين الحين والآخر بالذين يقلدون الخميني أشعل الله قبره عليه ناراً، الخميني الذي كان يسخر من علماء أهل السنة والجماعة ويقول: علماء الحيض والنفاس. كررها بعض الخطباء ممن ينتسبون زوراً لأهل السنة بنفس العبارة، يرددون كالببغاوات ما لا يعون ولا يفهمون، فيسخرون من إخوانهم طلبة العلم والمشايخ فيقولون: علماء الحيض والنفاس، حيث قال بعض هؤلاء المشايخ، وسمعته بنفسي في القاهرة منذ سنوات، قال: متى تخرجون من فقه دورة المياه وفقه المراحيض؟ سخرية واستهزاءً بفقه الطهارة. فموضوع القشر واللب لا يقف عند حد وليس له ضابط، فيؤدي إلى التحلل تماماً من الدين، وكما ترون الذي سماه أبوه أحمد بهاء الدين في يوم من الأيام قال: هؤلاء الأمريكان صعدوا على القمر ونحن ما زلنا نناقش: هل ربا البنوك حلال أم حرام؟ يعني: هؤلاء يهتمون بالقشور في حين صعد هؤلاء إلى القمر. فهذه عبارة خبيثة المقصود منها التهوين من شأن هذه القضايا، وهناك نماذج كثيرة جداً ولا نقصد حصرها، فهم ينكرون على من يتكلم في القضايا العملية أو التي يسمونها قضايا قشرية، سواء جاء كلام هذا الشخص ابتداء، أو جاء كلامه إجابة لسائل يسأل، فيثيرون الدنيا ويقيمونها: هؤلاء يتكلمون في قضايا والمسلمون يذبحون.. والمسلمون كذا.. وكذا.. وكذا، وسيأتي الجواب على هذا كله إن شاء الله تعالى. يقولون: ينبغي أن تتجه همة المسلمين الآن إلى الأمور الخطيرة والأمور الجليلة التي تهدد كيانهم، أما الاشتغال بالفقه وبالعلم وبالعقيدة وبتصحيح المفاهيم، كل هذا اشتغال بما لا يجدي، وهذا تضييع للوقت، هيا نقيم أولاً دولة الإسلام، ثم بعد ذلك ننشغل بالعلم وغيره. إن لم يكن معك علم فماذا تفعل لابد أن تتخذ موقفاً وإلا سترتكز على أساس من الجهل، كما يقول بعض الناس: أنت سلفي، سلفية علم أم سلفية جهل؟ ما الذي يقابل سلفية العلم؟ سلفية الجهل. فالشاهد أن العلم لا يضلك أبداً، بل يهديك ويبين لك الطريق. فهم يقولون شبهات فارغة ساقطة تلبس على الناس أمر دينها، وكما ذكرنا من قبل إن كان الكلام على قضايا يسيرة من أمور الهدي الظاهر وليس له خطام ولا زمام فسوف ينجر الكلام بعد ذلك إلى كل أحكام الشريعة التي لا توافق أهواء الناس، بحيث إذا تواضعنا على هذه المقولة وقبلناها لا يبقى بعد ذلك مجال للدعوة إلى اجتناب الحرام أو تعظيم شعائر الدين، وتصبح الشريعة ألعوبة في يد المنحرفين عن أحكامها. يعظم أحدهم ما يحتقره الآخر ويحتقر الآخر ما يعظمه الأول، فأخطار هذا المنهج وتداعياته قد يمتد زحفها في الطريق حتى يطال قضايا العقيدة والتوحيد، حتى تصبح هي أيضاً من القشور التي تفرق المسلمين، فماذا يبقى إذاً من الإسلام إذا تهاونا إلى هذا الحد؟!

التحذير من تهوين المعاصي والاستهزاء بالسنن والواجبات

لقد حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من تهوين المعاصي واحتقارها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد يئس الشيطان أن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروا أيها الناس! إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي . وقال أنس رضي الله عنه: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات) رواه البخاري . وجاء تفسير الموبقات المهلكات في حديث سهل بن سعد مرفوعاً، يقول عليه الصلاة والسلام فيه: (إياكم ومحقرات الذنوب! فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود)، وجاء في بعض الروايات: (فحضر صنيع القوم) صنيع: فعيل بمعنى المفعول، يعني: كيف ينضجون الطعام، هذا يأتي بعود وهذا يأتي ببعرة وهذا يأتي بكذا، فيقول: (فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكته). أخرجه الإمام أحمد بسند حسن كما قال الحافظ. وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب فإن لها من الله طالباً) صححه ابن حبان . وعن عبادة بن قرط رضي الله عنه قال: إنكم لتأتون أشياء هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات، فذكروا قول عبادة بن قرط لـمحمد بن سيرين فصدقه، قال: صدق. وقال ابن سيرين : أرى جر الإزار منه، يعني: من الموبقات؛ لما جاء فيه من الوعيد الشديد، والناس يعدونه من الصغائر لفرط جهلهم وذنوبهم. فهذا أنموذج من نماذج القضايا التي دائماً يضرب بها المثل إذا أرادوا الاستهزاء بمن يستمسك بالهدي الظاهر، ليس عندهم شيء يتذكرونه غير السواك، والثوب القصير، واللحية، وحمل كتب العلم الشرعي، فأصبحت هذه طرفاً ونكتاً وشيئاً يضحكون بها الناس، حتى إن بعض المستهترين قاموا بتمثيل مسرحية يسمونها إسلامية في إحدى الكليات منذ سنوات، وأتوا بشخص يظهر بصورة تسيء للشخص الملتزم، ومع الأسف هم ممن ينتمون إلى العمل الإسلامي، فأتوا بواحد ولبسوه قميصاً قصيراً ومعه السواك والكتاب واللحية والعمامة .. إلى آخره، وأتوا به بصورة شبيهة تماماً بما يفعله الجماعة في الأفلام والمسرحيات في السخرية من المشايخ وأهل الدين، حضر هذا الملتزم بالسواك فأتى وقال: (عنتر شايل سيفه) يعني: يسخر من السواك. فهذا يحصل من الناس الذين ينتسبون إلى الدين وإلى الدعوة الإسلامية؛ لعدم تنبيههم إلى خطورة هذا الأمر، وهذا التنقص والاستهزاء من سنة النبي عليه الصلاة والسلام يخشى على فاعله الكفر والردة والعياذ بالله؛ لأن الاستهزاء والسخرية لا عذر فيه بالجهل؛ لأنه لا يوجد مسلم يجهل تعظيم رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا تعظيم سنته، فمن فعل ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية يخشى عليه الردة والعياذ بالله! وقد جاء عن الشريد رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تبع رجلاً من ثقيف حتى هرول في أثره، حتى أخذ بثوبه فقال: ارفع إزارك قال: فكشف الرجل عن ركبتيه، فقال: يا رسول الله إني أحنف وتصطك ركبتاي) يعني: فيه نوع من الحنف أو الميل في ساقيه، كما يكون عند الأطفال المصابين بالكساح أو لين العظام، فهو يستحي أن يراه الناس على هذا المظهر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل خلق الله عز وجل حسن، قال: ولم ير ذلك الرجل إلا وإزاره إلى أنصاف ساقيه حتى مات). وعن عمرو بن فلان الأنصاري رضي الله عنه قال: (بينما هو يمشي قد أسبل إزاره إذ لحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذ بناصية نفسه وهو يقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك فقال: عمرو فقلت: يا رسول الله! إني رجل حمش الساقين -يعني: دقيق الساقين- فقال: يا عمرو ! إن الله عز وجل قد أحسن كل شيء خلقه، وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع أصابع من كفه اليمنى تحت ركبة عمرو فقال: يا عمرو ! هذا موضع الإزار، ثم رفعها، ثم وضعها تحت الثانية، فقال يا عمرو : هذا موضع الإزار) يعني: إما أربع أصابع أو ثمانية. كذلك من أعجب المواقف في ذلك: موقف أمير المؤمنين عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، وهذا الموقف حصل معه في سياق مصيبة هي من أعظم المصائب التي تمر على الجبلة: والموت أعظم حادث فيما يمر على الجبلة كان عمر في أحرج لحظات حياة أي إنسان، وهي لحظة فيضان الروح وخروجها والانتقال إلى الدار الآخرة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: دخل شاب على عمر بعدما طعن عمر رضي الله عنه فجعل الشاب يثني عليه. لأن السنة أنك إذا حضرت من أيس من حياته وأشرف على الموت أن تثني عليه فتذكره بأعماله الصالحة؛ لأن التخويف والزجر للشخص المحتضر يؤدي به إلى القنوط من رحمة الله، وقد يموت وهو سيئ الظن بالله والعياذ بالله، والله تعالى يقول: (أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء). لكن الآن في هذا الوقت عليك أن تعظم رجاءه، وتذكره بنصوص الرجاء في الكتاب والسنة، وتذكره بأعماله الصالحة، كنت تفعل كذا.. وكنت تفعل كذا.. حتى يقبل على الله وهو حسن الظن به، فجعل الشاب يثني على أمير المؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنه، فلما أراد هذا الشاب الانطلاق رآه عمر يجر إزاره، فـعمر وهو في سياق الموت قال له: يا ابن أخي! ارفع إزارك؛ فإنه أتقى لربك، وأنقى لثوبك، قال: فكان عبد الله يقول: يا عجباً لـعمر ! إن رأى حق الله عليه فلم يمنعه ما هو فيه أن يتكلم به، وفي رواية: فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض قال: ردوا علي الغلام. وفي الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة : (أن رجلاً من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا ديننا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب وأن نعفي اللحية). وعن يحيى بن أبي كثير قال: (أتى رجل من العجم المسجد وقد وفر شاربه وجز لحيته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله أمرني أن أوفر لحيتي وأحفي شاربي). ولما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، وبعث بالكتاب عبد الله بن حذافة رضي الله عنه فدفعه عبد الله إلى عظيم البحرين، ودفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه كسرى مزقه، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمزق كل ممزق، وبعد أن شق كتاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كتب إلى باذان واليه على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين يأتيان به، فبعث باذان قهرمانه وهو بابويه وكان كاتباً حاسباً مع رجل من الفرس، أرسلهما حتى يقبضا على النبي عليه الصلاة والسلام ويحضراه إلى هذا الخبيث كسرى لعنه الله، فجاءا حتى قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما دخلا عليه وقد حلقا لحاهما وأعفيا شواربهما فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم النظر إليهما، التفت وكره أن تقع عينه عليهما، وقال: (ويلكما! من أمركما بهذا؟ قالا: ربنا أمرنا بهذا -يعني: كسرى- فقال عليه الصلاة والسلام: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي وقص شاربي، وقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قتل ربكما الليلة)، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فرجعا حتى قدما على باذان . على كل حال فليستحضر هذا الذي يستهين بالهدي الظاهر أنه بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أمره بشيء من هذه الأشياء التي يسميها القوم قشوراً، هل كان سيتجاسر أن يتقدم بين يديه أو يرفع صوته معترضاً عليه؟ لا شك أن أي مسلم أو مؤمن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً سيقول له: حباً وكرامة وسمعاً وطاعة يا من أفديه بأبي وأمي. فكذلك ينبغي أن يفعل المسلم مع سنته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فهذا واجبنا مع سنته إذا لم ندرك صحبته أن نعظم ما عظم، ونرفع ما رفع صلى الله عليه وآله وسلم.

أوجه التناقض عند أهل القشور واللباب

في الحقيقة نحتاج قبل الاستطراد أن نقلب القضية ونعكس القضية على هؤلاء المفترين الكذابين الذين يدعون إلى تقسيم الدين إلى قشر ولباب وبالذات الملاحدة الزنادقة، لا نقول: أهل الدين، فإن الأمر معهم أسهل وواضح، لكن نقول لهؤلاء الذين يقسمون هذا القسمة بهدف تحطيم الدين كله، بحيث الصلاة تبقى قشوراً وصيام رمضان يبقى قشوراً حتى وصل بعضهم إلى أن قال: إن موضوع العقد والشهود والزواج هذه سخافات بعض النساء المتحررات من عبودية الله قالت: لأن هذه المظاهر الجوفاء التي تقتل الإنسانية وتهدر كرامة المرأة: مهر، وعقد، وشهود، هذه السخافات.. إلى آخر ما لهجت به هذه الخبيثة، فهذا خطر، هذه القسمة الخبيثة كما ذكرنا وينبع خطرها من أنها لا حد محدود لها، لا يوجد تعريف معين للقشور، الموضوع عائم، وكل واحد يمكن أن يعتبر شيئاً قشراً، والآخر يعتبره لباً، فبالتالي يتحطم الدين كله وينهار.

فنقول: ليست هذه القشور، بل هذه هي القشور التي سنتكلم عنها الآن، الدين كله لب، لا قشور فيه، كله معالي، لا سفاسف فيه، صحيح فيه أصول وفروع، فيه أهم ومهم، لكن ما دامت داخلة في إطار الدين فلا يجوز أبداً أن تسميها سفاسف أو قشوراً أو توافه أو سخافات.. إلى غير ذلك.

فالقشور ليست سنة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، إنما القشور ما أحدثه الناس من القيم والأعراف والموازين الشكلية الكاذبة التي صارت تتحكم فيهم وتستعبدهم، وصاروا ينقادون لها كأنها شرع منزل، وإن جهد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يوجه ليصطاد هذه القشور وهذه الشكليات وهذه العادات الجوفاء.

ومظاهرها كثيرة في مجتمعنا، فهذه هي التي ينبغي أن نسميها قشوراً وأن نركلها.

فمنها مثلاً: ظاهرة التطوس، من الطاوس يعني: الطاوس معروف بخيلائه وكبره الشديد، فهو مجبول على الكبر والخيلاء، دائماً يحب الطاوس أن ينتفش ويظهر بمظهره، وبعض الطيور الأخرى أظنه الديك الرومي دائماً يحب أن يكون على مكان عالٍ مرتفع؛ لما جعل عليه أيضاً من الكبر، فنسميها ظاهرة التطوس، يعني: التشبه بالطاوس في الكبر.

فترى بعض الناس -ومنهم هؤلاء الذين يقولون بالقشور واللباب حتى من داخل الصف الإسلامي- تراه يتأنق ويتزين في مظهره، ويفعل في نفسه أكثر مما تفعله الماشطة بعروسها، (الاستشوار) والزيوت و(الشانبوه) والبلسم والمرآة، وكل هذه الأشياء يتأنق من مظهره بصورة، وينسى آلام وجراح ومذابح المسلمين.

لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين إلا عندما تذكر بسنة النبي عليه الصلاة والسلام؟

لماذا لا تتذكرها عندما تكون أمام المرآة وتكوي ملابسك وتشتري الفاكهة وتعمل الرحلات وتتنزه وتتنعم هذا النعيم؟!

لماذا تسير حياتك كلها بطريقة رتيبة، يعني: في الصباح يخرج للعمل أم لا يخرج؟ قطعاً يخرج للعمل أو للدراسة، ويقضي كل مآربه في الحياة، ولا يتذكر أن المسلمين في حالة نفير عام، وأن النساء تذبح إلا إذا عرض عليه: تعال احضر درس علم، المسلمون يقتلون ويذبحون وأنتم تتكلمون في الفقه، حياتك ما زالت تمشي، حالك ليس حال من نودي فيهم بالنفير العام، حالة دنياك وكل شيء في دنياك يسير على ما يرام، لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين وآلام المسلمين إلا عند شرع الله وعند سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

الوسطية في السنن والمباحات

فكما ذكرنا يتأنق في مظهره وملابسه ويغلو في ذلك إلى حد الرعونة، نعم، صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) الاستكبار عن الحق والعناد، (وغمط الناس) يعني: عدم إنزالهم منازلهم، يعني: يرى في نفسه أنه أعظم من هذا فيتكبر عليه ويحاول أن يضع من قدره، ويعامله بأقل مما يستحق من المعاملة.

فهذا حد الكبر، (الكبر: بطر الحق وغمط الناس)، الله عز وجل يقول: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85] فنقول: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) أي: دفع الحق.

ونعم صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له شعر فليكرمه)، وصح عنه أنه قال: (من كان له مال فلير عليه أثره)، (ولما رأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، قال: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره) (ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه)، لكن ليس الأمر بحيث يكون شغل الإنسان الشاغل هو دهن الشعر والرأس وتسريحه، عاكفاً أمام المرآة، حتى يكون هذا المظهر شغله الشاغل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما صح عنه وما مضى صح عنه أيضاً: (أنه كان ينهى عن الإرفاه)، الإرفاه: هو كثرة التدهن والتنعم .

يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الآخر: (نهى عن الترجل إلا غباً)، يعني: يوم ويوم لا، يومان ويوم.. وهكذا، يعني: لا يواظب عليه كل فترة بحيث تكون شغله الشاغل.

وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف ومخيلة.

وبين عليه الصلاة والسلام أن من علامات الحياء من الله والرغبة في الآخرة الإعراض عن زينة الدنيا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموتى والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).

وندبنا أيضاً إلى التواضع في المظهر، ووعدنا عليه الأجر والكرامة، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)، يعني: حتى الإنسان لو كان عنده ملابس نفسية وجميلة جداً وغالية جداً، وامتنع عن لبسها أحياناً أو دائماً بنية استحضار هذا الحديث وهذا الثواب تواضعاً لله عز وجل، فإن الله يكافئه بأن يدعوه يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.

بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولب ومن يتنادى بها

فنقول: إن بدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يتنادى بها فريقان من الناس، فريق من الطيبين المسلمين المخلصين الذين يريدون الخير، لكن يخطئون الطريق إليه، أو يضلون الطريق إليه، فهم يريدون تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يعني: جوهر ومظهر، وهدفهم من ذلك أن يهتموا باللب وبالقضايا العظيمة والكبيرة مع إهمال هذا الذي أسموه قشراً، وهذا طبعاً يقتضيه حسن الظن بهؤلاء.

أما الآخرون من الملاحدة وأعداء الدين فهم الذين يقسمون الدين إلى قشر وإلى لب وإلى مظاهر وجواهر ونصوص وأرواح، هؤلاء هدفهم خبيث، هم لا يريدون كما يريد الفريق الأول الاهتمام باللب أو بالقضايا الكبيرة، لكنهم يريدون تحطيم كل شيء، لكنها عملية التدرج واستدراج المسلمين في الانحلال من دينهم رويداً رويداً.

هدف هذه العبارات وأمثالها -خاصة في هذا الزمان وفي ظل المحنة التي نعيشها- هو كما ذكرنا تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك الهدي الذي سولت لهم شياطينهم، وطوعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفاً وتزمتاً ورجعية وتعصباً وإرهاباً.. إلى آخره، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] وقال عز وجل: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].

حينما نردد بين الحين والآخر هذا الشعار المقدس هي ليست كلمة نقولها في بداية كلامنا ككلام نكرره دون أن نتمعن فيه ونتدبره، بل إننا نعنيها ونقصد المعنى العظيم الذي ترمي إليه هذه الكلمة، بل هذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

هذه ليست كلمة تحفظ بدون معنى، وتقال في بداية بجهل، وما صدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة إلا كي تكون ميزاناً بين يدي كل كلام نقوله، وبين كل حاجة نريد قضاءها، فنحن نستحضر كلما رفعنا عقيدتنا بهذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فتعني أننا نعتز بهذا الهدي، وأننا نستعلي به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه كائناً من كان ذلك الشخص الذي ينحرف ويحيد عنها.

فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تجزئة سواء ظاهراً أو باطناً، أصولاً أو فروعاً أو كما سموها قشراً ولباباً أو غير ذلك فالتمسك بهذا كله ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه عليه الصلاة والسلام من حبه وتعزيره وتوقيره.

فما يتنادى به بعض هؤلاء المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث والتحلل من البعض الآخر، أو سوء نية وخبث طوية من هذا البعض الآخر.

فموضوع القشر واللب والنص والروح، والجوهر والمظهر، هذه في الحقيقة تقاسيم مبتدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، بل هو شعار ومبدأ باطنه فيه الرحمة لبعض الناس وظاهره من قبله العذاب، ومن أجل هذا التمويه وهذا التزييف انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا هذا الطعم واستحسنوه، بل صاروا يروجون له دون أن يدركوا أن هذا قناع نفاقي قبيح، وأنه من لحن قول العلمانيين من أعداء الدين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشعائر وشرائع الإسلام دون أن يخدش انتماؤهم إليه، يريدون أن يتحللوا من الدين دون أن يخدش انتماؤهم إلى هذا الدين، فيأتون بمثل هذه الشعارات.

نقول كما ذكرنا من قبل: تتوقف القضية بالفعل عند حسن النية من المسلمين المخلصين عند إهمال ما أسموه قشراً لأجل التركيز على ما دعوه لباً، لكن حزب المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها هي عندهم مجرد مدخل لأجل نبذ اللب والقشر معاً تماماً، كما يرفعون شعار الاهتمام بروح النص وعدم الوقوف والجمود عند منطوقه.

هذا كلام طيب وكلام لا بأس به إذا تعاطاه وطبقه الأسوياء، لكنه خطير غاية الخطورة إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم في الحقيقة ليس مسألة روح ونص، وإنما مسألة إزهاق روح النص واطراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بتحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.

هؤلاء يريدون ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا هم له بالبقاء حياً حتى ولو على هامش الحياة، محبوساً في الأقفاص الصدرية، لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم، إنهم في الحقيقة يريدون هذا الشعار: أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
قصتنا مع اليهود 2627 استماع
دعوى الجاهلية 2562 استماع
شروط الحجاب الشرعي 2560 استماع
التجديد في الإسلام 2514 استماع
تكفير المعين وتكفير الجنس 2505 استماع
محنة فلسطين [2] 2466 استماع
انتحار أم استشهاد 2438 استماع
تفسير آية الكرسي 2404 استماع
وإن عدتم عدنا 2395 استماع
الموت خاتمتك أيها الإنسان 2394 استماع