خطب ومحاضرات
بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب [2]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله تبارك وتعالى عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيباً، فذكر الحديث إلى أن قال: (إن الله عز وجل أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد) رواه مسلم في صحيحه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال، ولا عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله عز وجل بها عزاً، ولا تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا أيضاً فيه فضيلة التواضع لله عز وجل، فإن التواضع يرفع صاحبه، ولا يظنن الرجل أنه إذا تواضع فإن ذلك ينزل مكانته، ولكنه إذا تواضع لله سبحانه وتعالى رفعه الله.
والله عز وجل امتدح نبيه في أشرف المقامات بصفة العبودية والتذلل والخضوع والتواضع لله عز وجل، فقال سبحانه وتعالى في مقام الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى [الإسراء:1]، وقال في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [الجن:19]، وقال في مقام التحدي: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، فامتدحه الله سبحانه وتعالى بوصف العبودية والتذلل، والخضوع لله عز وجل، والتواضع له في أشرف المقامات، فدل على أن الشرف والعلو والرفعة والعزة إنما يكون في التواضع لله تبارك وتعالى.
وإن كان هذا الرجل يقول في محبوبته:
فلا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
فكيف لا يفخر المؤمن بأنه عبد ذليل متواضع لله تبارك وتعالى؟!
الشاهد: قوله عليه الصلاة والسلام: (وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله)، فهذا حلف عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر الإمام البيهقي رحمه الله تعالى في كتابه: (شعب الإيمان) جملة من النصوص عن السلف الصالح رضي الله عنهم في قصص التواضع، فقد روى بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: يغفلون عن أفضل العبادة وهي التواضع. أي: إن الناس في غفلة عن نوع من العبودية الذي هو أعظم أنواع العبودية، ألا وهو التواضع لله تبارك وتعالى.
وعن عطاء بن السائب أن أبا البحتري وأصحابه كانوا إذا أثني على أحد منهم ووجد عجباً في قلبه وتأثر بهذا الثناء حنا ظهره وقال: خشعت لله.. خشعت لله.
وعن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني منهما شيئاً عذبته) فالكبرياء والعزة لا ينبغي أن تكون إلا لله تبارك وتعالى، وهذه هي الصفات التي لا يليق بالعبد أن يتصف بها من صفات الله التي لا يجوز منازعته تبارك وتعالى بها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يتبختر يمشي في بردة قد أعجبته نفسه -أي لأنه يلبس هذه الحلة وهذا الثياب- إذ خسف الله به في الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، فعجل الله له العقوبة، وخسف به الأرض، فهو في تسفل وفي تجلجل في أعماق الأرض إلى يوم القيامة، فهو منذ أن فعل الله به ذلك ما زال يتجلجل ويعاني إلى هذه اللحظة التي نحن فيها الآن، وفي حديث آخر: (بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل شعره إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)، وعن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتلّ جواظ متكبر) فمدح أهل الجنة بالتواضع، وجعل من صفات أهل النار الاستكبار والفظاظة.
كذلك عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المتكبرون يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل صغار، ثم يؤمر بهم إلى قصر في جهنم يقال له: بولس فيسحبون فيه ويسقون من طينة الخبال من عصارة أهل النار)، فكما أنه كان يتكبر في الدنيا يعاقب في الآخرة بنقيض قصده من هذا التكبر، هو تكبر ليظهر العزة والرفعة، فعاقبه الله تبارك وتعالى بأن يحشر حقيراً ذليلاً في أمثال الذر والهباء الذي يكون في الجو، لكن في صورة البشر، وهم في أمثال الذر كما جاء في رواية أخرى: (يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل الذر في صور الرجال يغشاهم -أو يأتيهم- الذل من كل مكان، يسلكون في نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار).
وأيضاً ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه) يعني: هذه من علامات التواضع، (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته.
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رضي الله عنه دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه، وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فيجاملوه لأجل أنه شيخ أو رجل له فضل، فتكون هذه المجاملة بسبب الدين، فيكون ممن يأكل بدينه، فكانوا يتحرجون من ذلك.
وقد سئل الإمام مالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا. وما بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك.
وقرأ مالك : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق.
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي -الشخص القاضي- أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص، ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه.
وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، يعني: انظروا من أنتم وما أنتم وما يخرج منكم، انظروا سبيل الغائط والبول، فهذا أحد صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى، وبراهين توحيده في خلق الإنسان.
وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، هنا يقول ابن الزبير : وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يعني: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم.
وقال ابن الزبير : ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر.
وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين، هذا يقوله محمد بن أبي الورد ، يقول: إن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله، وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، ما هي؟ قال: الذنوب والتكبر على المؤمنين، فهذا مما يحجب الإنسان عن الفهم.
وتلا قوله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى.
وقال إبراهيم بن أدهم : لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره.
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك، يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك.
وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. نصف دينك وثلثا مروءتك يذهبان لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون -بغض النظر عن التحقيق في المسألة- ذلك وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم لأجل الدين.
بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك.
وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟! فهذه من أكبر الذنوب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني؟! وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من: إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [البقرة:206].
وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل.
هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك، قال: أتدرون ما التواضع؟ أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل.
وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن : لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني. إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع، وحفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في ذلك.
هذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل، يعني: مالي ولهم.
وهذا الإمام الشافعي يقول:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة
وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم.
وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه، نضيف هذه إلى سابقتها، يعني: هذا أيضاً يدور في نفس المعنى، أنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك، في نفسك أن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها جيداً فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك.
أيضاً: خواتيم المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وهذه الكلمة أعني قول بشر : ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه، هل تستطيع أن تقول ذلك حتى في الكافر؟ لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة من هذا الكافر ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام، ومات هو على الكفر، ربما يقلب القلب ويصرف -والعياذ بالله- عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر، فيسلم، فتحسن عاقبته.
إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى.
وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم.
على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.
بعض الآثار الواردة في التواضع
نماذج من تواضع السلف وفضل التواضع
من علامات التواضع: ما ورد في بعض الآثار: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار في الأسواق، واعتقل الشاة فاحتلبها) يعني: يلي شئون نفسه بنفسه فهذا لا يمقته. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرج إلى السوق فيشتري، وكان سالم رحمه الله دهره يشتري في الأسواق، وكان من أفضل أهل زمانه. وهذه المسألة أشار إليها بعض العلماء وهي أن العالم المقتدى به أو الذي له فضل ظاهر في الناس فلا يشتري حاجته بنفسه؛ لأنه إذا كان مشهوراً بين الناس بالفضل والعلم جاملوه في البيع والشراء لأجل دينه، فكان علماء السلف يحتمون أو يخافون أن يكون ذلك من الأكل بالدين، فكانوا يتحرجون من ذلك. وقد سئل الإمام مالك : أتكره الرجل الفاضل أن يخرج إلى السوق فيشتري حوائجه فيحابيه الناس بفضله؟ فقال: لا، ولا بأس بذلك؟ قد كان سالم يفعل ذلك، وقرأ مالك : يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:7] فلأي شيء يمشون في الأسواق؟ وذكر مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمشي في الأسواق. وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: وإنما كره ذلك للقاضي أن يتولى بنفسه خوف المحاباة، وربما أن يميل لأجلها عن الحق، إذا رفع إليه من حاباه مكرمة، يخشى أنه إذا جامله شخص ثم كان هذا الشخص في يوم من الأيام خصماً في قضية فتتأثر نفسه بتلك المجاملة فيحابيه في الحق، فلأجل ذلك كرهوا للقاضي أن يلي شراء حاجاته بنفسه. وعن ابن الزبير قال: في قوله تبارك وتعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] قال: سبيل الغائط والبول، وترون ما أنتم حتى لا تتكبروا ولا تغتروا بصوركم. يعني: هذا من صور التدبر في هذه الآية العظيمة، وإلا فإن وجوه التدبر فيها عظيمة جداً، خاصة في هذا الزمان الذي كشف فيه العلم الحديث آيات الله سبحانه وتعالى وبراهين توحيده في خلق الإنسان. وقال ابن الزبير : ما ينبغي لمن خرج من مخرج البول مرتين أن يفخر. وعن محمد بن أبي الورد قال: دون الفهم أغطية على القلوب، قد حجبت الفهم الذنوب والتكبر عن المؤمنين. أي: أن الإنسان ليفتح عليه في فهم آيات الله وتدبر آيات الله تبارك وتعالى، ومما يحول دون الفهم والبصيرة بآيات الله عز وجل أغطية تحول دون القلب ودون هذا الفهم، وهي الذنوب والتكبر على المؤمنين. وتلا قوله تبارك وتعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] فجعل عقوبة الكبر صرف قلوبهم عن تدبر آيات الله تبارك وتعالى. وقال إبراهيم بن أدهم : لا ينبغي للرجل أن يضع نفسه دون قدره، ولا يرفع نفسه فوق قدره. وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: من التواضع أن تقنع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس لك فضل عليه لدنياك. يعني: تضع نفسك عند الشخص الذي هو أقل منك في الدنيا وتتواضع عنده؛ حتى لا يحسبك متفضلاً عليه، وتشعر في نفسك أنك أفضل منه بسبب ما أوتيت من الدنيا، فعند الفقير تواضع له، يقول: وأن ترفع نفسك عند من هو فوقك في دنياه حتى تعلمه أنه ليس لدنياه فضل عليك. وعن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود قال: من خضع لغني ووضع له نفسه إعظاماً له وطمعاً فيما قبله ذهب ثلثا مروءته، وشطر دينه. أي: أن نصف دينك وثلثي مروءتك يذهبان؛ لأنك تعظم الغني لأجل غناه، حتى إن العلماء الذين أباحوا القيام للقادم قالوا: إذا كان كبير السن كالأبوين مثلاً، أو إذا كان عالماً تقوم له إعظاماً لدينه، وهذه وجهة نظر عند الذين يبيحون ذلك، بغض النظر عن التحقيق في المسألة، وقالوا: لكن لا تقم لغني لأجل غناه؛ لأن هذه دنيا لا ينبغي تعظيمها، وإنما تعظم الشخص لأجل الدين. بل سئل ابن المبارك عن التواضع فقال: التكبر على الأغنياء. وهذا ليس على ظاهره، لكن لا يحمله غنى غيره وفقر نفسه على أن يتذلل ويخضع له بمجرد ذلك. وسئل الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: يخضع للحق وينقاد له، ويقبل الحق من كل من يسمعه منه. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله! فيقول: عليك نفسك أنت تأمرني. وما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هذا الزمان، كقول الرجل: أنا أتقي الله أحسن منك! وغير ذلك من العبارات الفظة التي يتفوه بها بعض الناس، في حين ينبغي للمؤمن أن يتبرأ من حال من إِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ. وعن يونس بن عبيد قال: كنت أذاكر يوماً مع الحسن التواضع قال: فالتفت إلينا الشيخ فقال: أتدرون ما التواضع؟! أن تخرج من بيتك حين تخرج فلا تلقى مسلماً إلا رأيت أن له عليك الفضل. هذا هو التواضع ألا تنظر للمسلمين بعين الازدراء والاحتقار، لكن لا تقع عينك إذا خرجت من بيتك على مسلم إلا وتحسب في نفسك أنه أفضل منك وخير منك. وذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، يعني: الزهد يكون في الملابس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء، الزاهد الذي إذا رأى أحداً من المسلمين قال: هذا أفضل مني، وهذا الكلام ليس متكلفاً في الحقيقة؛ لأنك قطعاً لا تعرف عن هذا الشخص من البلوغ مثل ما تعرفه من نفسك، أنت على يقين من حال نفسك، وتعرف ما اجتنيت من الذنوب والمعاصي والمآثم، ولا تعرف عن غيرك ما تعرفه من نفسك، فينبغي أن تنظر إلى كل مسلم أن هذا عند الله أفضل منك، فهذه هي حقيقة التواضع.
لقد حفلت سيرة السلف بكثير من النماذج في التواضع فهذا أيوب السختياني رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل. يعني: مالي ولهم. وهذا الإمام الشافعي يقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة وهذا مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف، يعني: أف لي أنا لا أستحق أن أدرج فيهم. وقال بشر غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. يعني: نضيف هذه إلى سابقتها، بحيث إنك لا تنظر إلى أحد من المسلمين إلا وحسبت أنه خير منك؛ لأن المعاصي التي ارتكبتها تعرفها أنت جيداً، فإذا نظرت لأحد من المسلمين لا تنظر له بعين الحقارة فربما يكون أفضل عند الله منك. أيضاً خواتيم الأعمال المغيبة لا تدري كيف تكون العاقبة، فيجب أن تخاف أيضاً على عاقبة نفسك، (فإنما الأعمال بالخواتيم)، وقول بشر: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبة منه. فحتى الكافر لا تستطيع أن تقطع وتقول: أنا أحسن عاقبة منه ما لم تقيدها فتقول: إذا أنا مت على الإسلام ومات هو على الكفر؛ لأنه ربما يقلب القلب ويصرف والعياذ بالله عن الإسلام بالردة، وربما يمتن الله سبحانه وتعالى ويتفضل على هذا الكافر فيسلم، فتحسن عاقبته. إذاً: الخواتيم لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى. وعن مالك بن أنس قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تكنه، فإن السيد لا ينظر إلى قوم على أنه سيدهم وكبيرهم وعظيمهم. على أي الأحوال هذه جملة من الفوائد من شعب الإيمان للإمام البيهقي رحمه الله تعالى في فضيلة التواضع.
هذه القضية في الحقيقة لها نوع تعلق بالقضية التي نتناولها، كنا من قبل قد شرعنا في مناقشة قضية الهدي الظاهر وبدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب كما يفعل بعض المعاصرين، وقطعنا شوطاً في هذه القضية، لكن نلخص في مرور عابر ما تكلمنا عليه من قبل.
أقسام من ينادي بتقسيم الدين إلى قشر ولب
هدف أعداء الدين من تقسيم الدين إلى قشر ولباب
موضوع القشور ليس له حد في مفهوم من ابتدعه
لكل قوم قشرتهم
فنحن نقول: نحن بشر لنا أجساد ومقتضى ذلك أن لنا مظهراً مادياً محسوساً، لسنا أرواحاً لطيفة، ولا أطيافاً عابرة، وهذا المظهر كما ذكرنا شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الإسلامية الحنيفية تميز الأمة الإسلامية في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها، بل إن كل أهل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات لا يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم أفكارهم أو ترمز إلى عقيدتهم.
فإن كنا نقول للكفار: لكم دينكم ولنا ديننا، فنقول في هذا الاصطلاح الحادث مع شيء من التنزل: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا؛ لأن الإنسان لابد له من قشرة، فإلم يحمل قشرة وصبغة الله وصبغة المسلمين لابد أن يتغطى بقشرة الكافرين، وهذا أوضح ما يكون، هذا الشعار: لكم قشرتكم ولنا قشرتنا أوضح ما يكون عند عامة اليهود الذين يتميزون بطاقيتهم ولحاهم وأزيائهم الدينية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم، أليس هذا كله تميزاً صادراً عن العقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بها؟ ألا ترى التاجر النصراني -رغم أن الجهر بالصليب أو بالصور التي يعلقونها قد تدفع بعض الزبائن من المسلمين إلى عدم الشراء منهم- يتحدى ويظهر ما يعبر عن عقيدته سواء بالصليب أو الوشم الذي يفعلونه أو الصور التي يعلقونها، أليست هذه كلها تعبيراً عن اعتزازهم بهذه العقيدة وإصرارهم على التمسك بها؟!
فإذا كانت هذه المظاهر كالصليب وطاقية اليهود وغير ذلك من شعائر الوثنيين هي صبغة الشيطان التي كسى بها أهل ولايته من أهل الضلال والكفران، فكيف لا نستمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا وقال فيها عز وجل: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138] ؟!
فيلفت نظرنا أيضاً إلى أهمية هذا الموضوع، ليس الموضوع بالحجم اليسير الذي يتخيله بعض الناس، وإلا فلماذا هم يقولون: لا تشتغلوا بالمظاهر واشتغلوا بالجوهر.. لا تهتموا بالشكليات والقشور واهتموا باللب والمضامين، نقول: إذاً لماذا أنتم تشغلون أنفسكم بمظهرنا؟ نحن لا ندعوهم، ما نقول لهم: التحوا ولا افعلوا، غاية ما في الأمر مجرد أن يراك بشكلك هذا يثور ويهيج ويقول: المهم الجوهر، وأنت ما قلت له شيئاً ولا دعوته -رغم أنه من حقك أن تدعوه بل ومن واجبك أحياناً- ومع ذلك فهو الذي يهتم بالمظهر في الحقيقة، وهو الذي يعطيه هذا الحجم الكبير، لماذا؟ لماذا تشن الحروب الإستراتيجية على المظاهر الإسلامية؟ مظاهر إسلامية يسيرة كاللحية.. الحجاب.. وغير ذلك من المظاهر، لماذا تشن عليه هذه الحروب المنظمة؟ حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات وتصدر قرارات وتجيش الجيوش وترابط القوات لهذا، ونحن أصحاب البيت كما يقول الشاعر:
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجس
هذه ديارنا وهذا ديننا فمالكم تجزعون هذا الجزع؟ لماذا تهتمون بالمظاهر؟ نحن ما دعوناكم إليها أو افترضوا أننا لم ندعوكم إليها؟ لماذا تجزعون هكذا؟ فمن الذي يهتم بالمظهر؟
اتقوا الله يا غواة قليلاً واخلعوا العار عنكم والشنارا
فهل كل هذا من أجل أنها قشور؟ كلا، بل لأنهم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة عميقة، ويدركون أنها تعبير عن الصمود والثبات على الدين، تصبغ المجتمع بصبغة غير التي ترضي أعداء الله تبارك وتعالى.
فمثل هذا التمسك بالشعائر الإسلامية: الأذان .. صلاة العيد.. صلاة الجماعة.. الزي الإسلامي، كل هذه عبارة عن تعبيرات للتحدي لمحاولات التذويب والتمييع، فهذه هي عبارة عن صفعة توجه لمؤامرة استلاب هوية هذه الأمة كمقدمة لإذلالها ولاستعبادها.
فمن يتخلى عن القشرة الإسلامية سيتغطى ولابد بقشرة دخيلة مغايرة له؛ لأن كل لب لابد له من قشر يصونه ويحميه، فالسؤال الآن: إذا كان لابد لنا من قشر لماذا يرفضون قشرة الإسلام ويرحبون بقشرة غيره؟ لماذا يأكلون مثلاً بالشمال ويحلقون اللحى ويلبسون النساء أزياء من لا خلاق لهن، ويلبس بعضهم في بعض البلاد القبعة وغير ذلك من المظاهر التي يقتبسونها عن أعداء الله تبارك وتعالى؟!
لأنهم تخلوا عن قشرة الإسلام ولابد من لب للقشرة، فاكتسوا بهذه القشرة التي هي صبغة الشيطان.
يقول بعض السلف: دعوا السنة تمضي لا تعرضوا لها بالرأي، يعني: لا تعرضوا لها بالآراء والأهواء، اتركوا لها الطريق سهلاً ميسوراً كي تمر السنة، لا تضعوا أمامها المتاريس والعقبات كي تعوقوها عن المضي، دعوا السنة تمضي لا تتعرضوا لها بالرأي.
الرد على من يصنعون الشبهات في احتقار الطاعات
التحذير من تهوين المعاصي والاستهزاء بالسنن والواجبات
أوجه التناقض عند أهل القشور واللباب
في الحقيقة نحتاج قبل الاستطراد أن نقلب القضية ونعكس القضية على هؤلاء المفترين الكذابين الذين يدعون إلى تقسيم الدين إلى قشر ولباب وبالذات الملاحدة الزنادقة، لا نقول: أهل الدين، فإن الأمر معهم أسهل وواضح، لكن نقول لهؤلاء الذين يقسمون هذا القسمة بهدف تحطيم الدين كله، بحيث الصلاة تبقى قشوراً وصيام رمضان يبقى قشوراً حتى وصل بعضهم إلى أن قال: إن موضوع العقد والشهود والزواج هذه سخافات بعض النساء المتحررات من عبودية الله قالت: لأن هذه المظاهر الجوفاء التي تقتل الإنسانية وتهدر كرامة المرأة: مهر، وعقد، وشهود، هذه السخافات.. إلى آخر ما لهجت به هذه الخبيثة، فهذا خطر، هذه القسمة الخبيثة كما ذكرنا وينبع خطرها من أنها لا حد محدود لها، لا يوجد تعريف معين للقشور، الموضوع عائم، وكل واحد يمكن أن يعتبر شيئاً قشراً، والآخر يعتبره لباً، فبالتالي يتحطم الدين كله وينهار.
فنقول: ليست هذه القشور، بل هذه هي القشور التي سنتكلم عنها الآن، الدين كله لب، لا قشور فيه، كله معالي، لا سفاسف فيه، صحيح فيه أصول وفروع، فيه أهم ومهم، لكن ما دامت داخلة في إطار الدين فلا يجوز أبداً أن تسميها سفاسف أو قشوراً أو توافه أو سخافات.. إلى غير ذلك.
فالقشور ليست سنة النبي عليه الصلاة والسلام وهديه، إنما القشور ما أحدثه الناس من القيم والأعراف والموازين الشكلية الكاذبة التي صارت تتحكم فيهم وتستعبدهم، وصاروا ينقادون لها كأنها شرع منزل، وإن جهد الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يوجه ليصطاد هذه القشور وهذه الشكليات وهذه العادات الجوفاء.
ومظاهرها كثيرة في مجتمعنا، فهذه هي التي ينبغي أن نسميها قشوراً وأن نركلها.
فمنها مثلاً: ظاهرة التطوس، من الطاوس يعني: الطاوس معروف بخيلائه وكبره الشديد، فهو مجبول على الكبر والخيلاء، دائماً يحب الطاوس أن ينتفش ويظهر بمظهره، وبعض الطيور الأخرى أظنه الديك الرومي دائماً يحب أن يكون على مكان عالٍ مرتفع؛ لما جعل عليه أيضاً من الكبر، فنسميها ظاهرة التطوس، يعني: التشبه بالطاوس في الكبر.
فترى بعض الناس -ومنهم هؤلاء الذين يقولون بالقشور واللباب حتى من داخل الصف الإسلامي- تراه يتأنق ويتزين في مظهره، ويفعل في نفسه أكثر مما تفعله الماشطة بعروسها، (الاستشوار) والزيوت و(الشانبوه) والبلسم والمرآة، وكل هذه الأشياء يتأنق من مظهره بصورة، وينسى آلام وجراح ومذابح المسلمين.
لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين إلا عندما تذكر بسنة النبي عليه الصلاة والسلام؟
لماذا لا تتذكرها عندما تكون أمام المرآة وتكوي ملابسك وتشتري الفاكهة وتعمل الرحلات وتتنزه وتتنعم هذا النعيم؟!
لماذا تسير حياتك كلها بطريقة رتيبة، يعني: في الصباح يخرج للعمل أم لا يخرج؟ قطعاً يخرج للعمل أو للدراسة، ويقضي كل مآربه في الحياة، ولا يتذكر أن المسلمين في حالة نفير عام، وأن النساء تذبح إلا إذا عرض عليه: تعال احضر درس علم، المسلمون يقتلون ويذبحون وأنتم تتكلمون في الفقه، حياتك ما زالت تمشي، حالك ليس حال من نودي فيهم بالنفير العام، حالة دنياك وكل شيء في دنياك يسير على ما يرام، لماذا لا تتذكر مذابح المسلمين وآلام المسلمين إلا عند شرع الله وعند سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!
الوسطية في السنن والمباحات
فكما ذكرنا يتأنق في مظهره وملابسه ويغلو في ذلك إلى حد الرعونة، نعم، صح عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) الاستكبار عن الحق والعناد، (وغمط الناس) يعني: عدم إنزالهم منازلهم، يعني: يرى في نفسه أنه أعظم من هذا فيتكبر عليه ويحاول أن يضع من قدره، ويعامله بأقل مما يستحق من المعاملة.
فهذا حد الكبر، (الكبر: بطر الحق وغمط الناس)، الله عز وجل يقول: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الأعراف:85] فنقول: نعم، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق وغمط الناس) أي: دفع الحق.
ونعم صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان له شعر فليكرمه)، وصح عنه أنه قال: (من كان له مال فلير عليه أثره)، (ولما رأى رجلاً شعثاً قد تفرق شعره، قال: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره) (ورأى رجلاً عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ماء يغسل به ثوبه)، لكن ليس الأمر بحيث يكون شغل الإنسان الشاغل هو دهن الشعر والرأس وتسريحه، عاكفاً أمام المرآة، حتى يكون هذا المظهر شغله الشاغل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كما صح عنه وما مضى صح عنه أيضاً: (أنه كان ينهى عن الإرفاه)، الإرفاه: هو كثرة التدهن والتنعم .
يقول عليه الصلاة والسلام أيضاً في الحديث الآخر: (نهى عن الترجل إلا غباً)، يعني: يوم ويوم لا، يومان ويوم.. وهكذا، يعني: لا يواظب عليه كل فترة بحيث تكون شغله الشاغل.
وقال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان: ترف ومخيلة.
وبين عليه الصلاة والسلام أن من علامات الحياء من الله والرغبة في الآخرة الإعراض عن زينة الدنيا، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموتى والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
وندبنا أيضاً إلى التواضع في المظهر، ووعدنا عليه الأجر والكرامة، فعن معاذ بن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك اللباس تواضعاً لله وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها)، يعني: حتى الإنسان لو كان عنده ملابس نفسية وجميلة جداً وغالية جداً، وامتنع عن لبسها أحياناً أو دائماً بنية استحضار هذا الحديث وهذا الثواب تواضعاً لله عز وجل، فإن الله يكافئه بأن يدعوه يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها.
بدعة تقسيم الدين إلى قشر ولب ومن يتنادى بها
فنقول: إن بدعة تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يتنادى بها فريقان من الناس، فريق من الطيبين المسلمين المخلصين الذين يريدون الخير، لكن يخطئون الطريق إليه، أو يضلون الطريق إليه، فهم يريدون تقسيم الدين إلى قشر وإلى لب يعني: جوهر ومظهر، وهدفهم من ذلك أن يهتموا باللب وبالقضايا العظيمة والكبيرة مع إهمال هذا الذي أسموه قشراً، وهذا طبعاً يقتضيه حسن الظن بهؤلاء.
أما الآخرون من الملاحدة وأعداء الدين فهم الذين يقسمون الدين إلى قشر وإلى لب وإلى مظاهر وجواهر ونصوص وأرواح، هؤلاء هدفهم خبيث، هم لا يريدون كما يريد الفريق الأول الاهتمام باللب أو بالقضايا الكبيرة، لكنهم يريدون تحطيم كل شيء، لكنها عملية التدرج واستدراج المسلمين في الانحلال من دينهم رويداً رويداً.
هدف هذه العبارات وأمثالها -خاصة في هذا الزمان وفي ظل المحنة التي نعيشها- هو كما ذكرنا تزهيد الناس في التمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذلك الهدي الذي سولت لهم شياطينهم، وطوعت لهم أنفسهم أن يسموه تطرفاً وتزمتاً ورجعية وتعصباً وإرهاباً.. إلى آخره، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21] وقال عز وجل: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف:158]، وقال تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
حينما نردد بين الحين والآخر هذا الشعار المقدس هي ليست كلمة نقولها في بداية كلامنا ككلام نكرره دون أن نتمعن فيه ونتدبره، بل إننا نعنيها ونقصد المعنى العظيم الذي ترمي إليه هذه الكلمة، بل هذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه ليست كلمة تحفظ بدون معنى، وتقال في بداية بجهل، وما صدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الحاجة إلا كي تكون ميزاناً بين يدي كل كلام نقوله، وبين كل حاجة نريد قضاءها، فنحن نستحضر كلما رفعنا عقيدتنا بهذا الشعار المقدس: خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فتعني أننا نعتز بهذا الهدي، وأننا نستعلي به على كل طريقة تخالفه أو تنحرف عنه كائناً من كان ذلك الشخص الذي ينحرف ويحيد عنها.
فالتمسك بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون تجزئة سواء ظاهراً أو باطناً، أصولاً أو فروعاً أو كما سموها قشراً ولباباً أو غير ذلك فالتمسك بهذا كله ما هو إلا مرآة تعكس ما يعمر قلوب متبعيه عليه الصلاة والسلام من حبه وتعزيره وتوقيره.
فما يتنادى به بعض هؤلاء المرجفين لا يعدو أن يكون جهلاً بالشرع، أو ضرباً من العبث والتحلل من البعض الآخر، أو سوء نية وخبث طوية من هذا البعض الآخر.
فموضوع القشر واللب والنص والروح، والجوهر والمظهر، هذه في الحقيقة تقاسيم مبتدعة محدثة لم يعرفها السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، بل هو شعار ومبدأ باطنه فيه الرحمة لبعض الناس وظاهره من قبله العذاب، ومن أجل هذا التمويه وهذا التزييف انخدع به بعض الطيبين الذين ابتلعوا هذا الطعم واستحسنوه، بل صاروا يروجون له دون أن يدركوا أن هذا قناع نفاقي قبيح، وأنه من لحن قول العلمانيين من أعداء الدين الذين يتخذونه قنطرة يهربون عليها من الالتزام بشعائر وشرائع الإسلام دون أن يخدش انتماؤهم إليه، يريدون أن يتحللوا من الدين دون أن يخدش انتماؤهم إلى هذا الدين، فيأتون بمثل هذه الشعارات.
نقول كما ذكرنا من قبل: تتوقف القضية بالفعل عند حسن النية من المسلمين المخلصين عند إهمال ما أسموه قشراً لأجل التركيز على ما دعوه لباً، لكن حزب المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها هي عندهم مجرد مدخل لأجل نبذ اللب والقشر معاً تماماً، كما يرفعون شعار الاهتمام بروح النص وعدم الوقوف والجمود عند منطوقه.
هذا كلام طيب وكلام لا بأس به إذا تعاطاه وطبقه الأسوياء، لكنه خطير غاية الخطورة إذا رفعه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ لأن مقصودهم في الحقيقة ليس مسألة روح ونص، وإنما مسألة إزهاق روح النص واطراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بتحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
هؤلاء يريدون ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة، يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا هم له بالبقاء حياً حتى ولو على هامش الحياة، محبوساً في الأقفاص الصدرية، لا يترك أي بصمة على واقع الناس ومجتمعاتهم، إنهم في الحقيقة يريدون هذا الشعار: أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32] * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
قصتنا مع اليهود | 2627 استماع |
دعوى الجاهلية | 2562 استماع |
شروط الحجاب الشرعي | 2560 استماع |
التجديد في الإسلام | 2514 استماع |
تكفير المعين وتكفير الجنس | 2505 استماع |
محنة فلسطين [2] | 2466 استماع |
انتحار أم استشهاد | 2438 استماع |
تفسير آية الكرسي | 2404 استماع |
وإن عدتم عدنا | 2395 استماع |
الموت خاتمتك أيها الإنسان | 2394 استماع |